كتاب المكاسب - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٤
ISBN: 964-5662-16-8
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٣٣٦

لكن ظاهر الخبرين كراهة مباشرة الشراء من جهة كونه في معرض التهمة ، والمطلوب صحّة الشراء وعدم جواز الاستيفاء.

ثمّ إنّ هذا كلّه إذا كان الطعام المشترى شخصيّاً.

إذا كان ما يشتري لاقرار البيع عليه كلّياً فهل يدخل في محلّ الخلاف أم لا؟

وأمّا إذا وكّله في شراء الكليّ فلا يجري فيه ذلك ؛ لأنّ تشخيص ما باعه سَلَماً في الطعام الكليّ المشترى موقوفٌ على قبضه ثم إقباضه ، وبدون ذلك لا يمكن الإيفاء إلاّ بالحوالة أو التوكيل ، فتدخل المسألة فيما ذكره في الشرائع (١) وغيرها (٢) تبعاً للمبسوط (٣) بل نسب إلى المشهور (٤) ـ : من أنّه لو كان له على غيره طعامٌ من سَلَمٍ وعليه مثل ذلك ، فأمر غريمه أن يكتال لنفسه من الآخر ، فإنّه يكره أو يحرم على الخلاف.

وقد علّل ذلك في الشرائع : بأنّه قبضه عوضاً عن ماله قبل أن يقبضه صاحبه (٥).

وذكر المسألة في القواعد بعنوان الحوالة ، قال : لو أحال من عليه طعامٌ من سَلَمٍ بقبضه على من له عليه مثله من سَلَم ، فالأقوى الكراهة ، وعلى التحريم يبطل ، لأنّه قبضه عوضاً عن ماله قبل أن يقبضه صاحبه (٦).

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٣١.

(٢) مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٤ ، والجواهر ٢٣ : ١٧٠.

(٣) المبسوط ٢ : ١٢٢.

(٤) الحدائق ١٩ : ١٨٠.

(٥) الشرائع ٢ : ٣١.

(٦) القواعد ٢ : ٨٦ ٨٧.

٣٠١

وبنى في الإيضاح جريان الخلاف في المسألة على أنّ الحوالة معاوضةٌ أو استيفاء ، وأنّ المعاوضة على مال السَّلَم قبل القبض حرامٌ أو مكروه (١).

وأنكر جماعةٌ ممّن تأخّر عن العلاّمة (٢) كون هذه المسألة من محلّ الخلاف في بيع ما لم يقبض ؛ بناءً على أنّ الحوالة ليست معاوضةً فضلاً عن كونها بيعاً ، بل هي استيفاء.

توجيه إدراج المسألة في محلّ الخلاف

أقول : ذلك إمّا وكالةٌ وإمّا حوالةٌ ، وعلى كلّ تقديرٍ يمكن تعميم محلّ الخلاف لمطلق المعاوضة ويكون البيع كنايةً عنها ؛ ولذا نسب فيما عرفت من عبارة التذكرة المنع في هذه المسألة إلى أكثر علمائنا وجماعةٍ من العامّة محتجّين بالنبويّ المانع عن بيع ما لم يقبض (٣) ، واستند الشيخ رحمه‌الله أيضاً في المنع إلى الإجماع على عدم جواز بيع ما لم يقبض (٤).

وقد عرفت ما ذكره الشيخ في باب الحوالة (٥). ولعلّه لذا قال الشهيد في الدروس في حكم المسألة : إنّه كالبيع قبل القبض (٦).

__________________

(١) الإيضاح ١ : ٥٠٨.

(٢) مثل المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٣٩٩ ، والشهيد الثاني في المسالك ٣ : ٢٥٠ ، والمحقّق السبزواري في الكفاية : ٩٦ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٣ : ١٧٠.

(٣) راجع الصفحة ٢٩٨.

(٤) المبسوط ٢ : ١٢٢ ، وراجع الصفحة ١١٩ أيضاً.

(٥) راجع الصفحة ٢٩٧.

(٦) الدروس ٣ : ٢١١.

٣٠٢

ما أفاده الشهيد الأوّل في إدراج المسألة في محلّ الخلاف

لكنّه رحمه‌الله تعرّض في بعض تحقيقاته لتوجيه إدراج المسألة في البيع : بأنّ مورد السَّلَم لمّا كان ماهيّةً كلّيةً ثابتةً في الذمّة منطبقةً على أفرادٍ لا نهاية لها ، فأيّ فردٍ عيّنه المسلَم إليه تشخّص بذلك الفرد وانصبّ العقد عليه ، فكأنه لمّا قال الغريم : «اكتل من غريمي فلان» قد جعل عقد السلم معه وارداً على ما في ذمّة المستلف منه (١) ولمّا يقبضه بعدُ ، ولا ريب أنّه مملوكٌ له بالبيع ، فإذا جعل مورداً للسَّلَم الذي هو بيعٌ يكون بيعاً للطعام قبل قبضه ، فيتحقّق الشرطان ويلحق بالباب ، وهذا من لطائف الفقه (٢) ، انتهى.

مناقشة الشهيد الثاني لذلك

واعترضه في المسالك : بأنّ مورد السَّلَم ونظائره (٣) من الحقوق الثابتة في الذمّة لمّا كان أمراً كلّياً كان البيع المتحقّق به هو الأمر الكلّي ، وما يتعيّن لذلك من الأعيان الشخصيّة بالحوالة وغيرها ليس هو نفس المبيع وإن كان الأمر الكليّ إنّما يتحقّق في ضمن الأفراد الخاصّة ، فإنّها ليست عينه ؛ ومن ثَمّ لو ظهر المدفوع مستَحَقّاً أو معيباً يرجع الحقّ إلى الذمّة ، والمبيع المعيّن ليس كذلك ، وحينئذٍ فانصباب العقد على ما قبض وكونه حينئذٍ مبيعاً غير واضح ، فالقول بالتحريم به عند القائل به في غيره غير متوجّه (٤) ، انتهى.

المناقشة في ما أفاده الشهيد قدّس سرّه

أقول : ما ذكره من منع تشخيص المبيع في ضمن الفرد الخاصّ‌

__________________

(١) في «ش» : «المسلف منه».

(٢) نقله عنه الشهيد الثاني في المسالك ٣ : ٢٥٠.

(٣) في «ف» بدل «نظائره» : «غيره».

(٤) المسالك ٣ : ٢٥١.

٣٠٣

المدفوع وإن كان حقّا من حيث عدم انصباب العقد عليه ، إلاّ أنّه يصدق عليه انتقاله إلى المشتري بعقد البيع ، فإذا نهى الشارع عن بيع ما لم يقبض نظيرَ نهيه عن بيع أُمّ الولد وعن بيع ما حلف على ترك بيعه ، فإنّه لا فرق بين إيقاع العقد عليه وبين دفعه عن الكليّ المبيع.

لكن يرد على ما ذكره الشهيد عدم تشخّص الكليّ بالكليّ إلاّ بالحوالة الراجعة إلى الاستيفاء أو المعاوضة ، وهذا لا يسوِّغ إطلاقَ البيع على الكليّ المتشخّص به بحيث يصدق أنّه انتقل إلى المحال بناقل البيع.

نعم ، هذا التوجيه إنّما يستقيم في الفرع المتقدّم (١) عن الدروس وهو : ما إذا أمره بقبض الطعام الشخصيّ الذي اشتراه للمشتري ، فإنّ مجرّد قبضه بإذن البائع مشخِّصٌ للكليّ المبيع في ضمنه ، فيصدق أنّه انتقل بالبيع قبل أن يقبض.

ويمكن أن يقال : إنّ تشخيص الكليّ المبيع في الكليّ المشترى يكفي فيه إذن البائع في قبض بعض أفراد الكليّ المشترى من دون حاجةٍ إلى حوالة ، فإذا وقع فردٌ منه في يد المشتري صدق أنّه انتقل بالبيع قبل القبض.

الأظهر في وجه إدخال المسألة في محلّ الخلاف

وكيف كان ، فالأظهر في وجه إدخال هذه المسألة في محلّ الخلاف تعميم مورد الخلاف لمطلق الاستبدال حتّى المتحقّق بالحوالة وإن لم نقل بكونها بيعاً. والمسألة تحتاج إلى فضل تتبّع ، والله الموفِّق.

واستدلّ في الحدائق (٢) على الجواز بما عن المشايخ الثلاثة بطريقٍ‌

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٩٩.

(٢) الحدائق ١٩ : ١٨١.

٣٠٤

ما استدلّ به الحدائق على الجواز في المسألة والمناقشة فيه

صحيحٍ وموثّق عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلٍ عليه كُرٌّ من طعام ، فاشترى كُرّاً من رجلٍ آخر ، فقال للرجل : انطلق فاستوف كُرّك ، قال : لا بأس به» (١).

وفيه : أنّه لا دلالة لها على محلّ الكلام ؛ لأنّ الكلام فيما إذا كان المالان سَلَمين ، ومورد الرواية إعطاء ما اشترى به قبل قبضه وفاءً عن دَينٍ لم يعلم أنّه سَلَمٌ أو قرضٌ أو غيرهما. وقد استدلّ به في التذكرة على جواز إيفاء القرض بمال السَّلَم (٢) ؛ ولذا قال جامع المقاصد في شرح قوله رحمه‌الله : «ولو أحال من له عليه طعامٌ مِن سَلَمٍ بقبضه على مَن عليه مثله من سَلَم .. إلخ» فإن قلت : لِمَ اعتبر كون المالين معاً سَلَمين؟ قلت : لأنّ المنع إنّما هو من بيع ما لم يقبض ، وإذا كان أحد المالين سَلَماً دون الآخر لم يتعيّن لكونه مبيعاً ؛ لإمكان اعتباره ثمناً ، إذ لا معيّن (٣) لأحدهما (٤) ، انتهى.

ويمكن أن يقال : إنّ ظاهر الحوالة بناءً على كونها معاوضةً كون المحيل مملِّكاً مالَه في ذمّة غريمه بإزاء ما لغريمه عليه ، فمالُه معوّضٌ ومالُ غريمه عوض ، فإذا كان ما لَه على غريمه سَلَماً كفى في المنع عن تمليكه‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٧٩ ، الحديث ٥ ، والفقيه ٣ : ٢٠٦ ، الحديث ٣٧٧٣ ، والتهذيب ٧ : ٣٧ ، الحديث ١٥٦ ، والوسائل ١٢ : ٣٨٧ ، الباب ١٦ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ٢.

(٢) التذكرة ١ : ٥٦٠.

(٣) العبارة في «ف» هكذا : «لاحتمال كونه ثمناً ، إذ لا يتعيّن».

(٤) جامع المقاصد ٤ : ٣٩٩.

٣٠٥

بإزاء ما لغريمه عليه ، لأنّه من بيع ما لم يقبض ، وحينئذٍ فيتمّ الاستدلال بالرواية. نعم ، لو كان ما عليه سَلَماً دون ما لَه أمكن خروجه عن المسألة ؛ لأنّ الظاهر هنا كون المسلَم ثمناً وعوضاً. وإلى هذا ينظر بقوله (١) في القواعد والتحرير تبعاً للشرائع (٢) ـ : ولو كان المالان أو المحال به قرضاً صحّ (٣).

ولا وجه لاعتراض جامع المقاصد عليه : بأنّه لا وجه لتخصيص المحال به بالذكر مع أنّ العكس كذلك ، واستحسان تعبير الدروس بلفظ «أحدهما» (٤). ثمّ قال : وليس له أن يقول : إنّ المحال به شبيهٌ بالمبيع من حيث تخيّل كونه (٥) مقابلاً بالآخر ، إذ ربما يقال : إنّ شبهه بالثمن أظهر ؛ لاقترانه بالباء. وكلّ ذلك ضعيف (٦) ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الباء هنا ليس للعوض ، وظهور الحوالة في كون إنشاء التمليك من المحيل لا ينكر. واحتمال كونه متملِّكاً مال غريمه بمال نفسه كما في المشتري المقدّم لقبوله على الإيجاب بعيد. ويدلّ على هذا أيضاً قولهم : إنّ الحوالة بيع (٧) ، فإنّ ظاهره كون المحيل بائعاً.

__________________

(١) في «ف» : «قوله».

(٢) الشرائع ٢ : ٣٢.

(٣) القواعد ٢ : ٨٧ ، والتحرير ١ : ١٧٦.

(٤) الدروس ٣ : ٢١١.

(٥) في «ف» بدل «من حيث تخيّل كونه» : «من حيث إنّه يجعل».

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٤٠١.

(٧) راجع المبسوط ٢ : ٣١٦ و ٣١٨ ، والتذكرة ١ : ٤٧٥ و ٥٦٠ و ٥٦٣ ، وجامع المقاصد ٥ : ٣٥٩ و ٣٦٧.

٣٠٦

مفروض المسألة

إذا وكّله في القبض ثمّ القبض لنفسه

ثمّ إنّ المفروض في المسألة المذكورة ما لو أذن المحيل للمحال عليه (١) في اكتياله لنفسه ، بأن يأتي بلفظ الإحالة كما في عبارة القواعد (٢) أو يقول له : «اكتل لنفسك» كما في عبارتي المبسوط والشرائع (٣). أمّا لو وكّله في القبض عن الآذن ثمّ القبض لنفسه فيكون قابضاً مقبضاً ، فيبنى (٤) على جواز تولّي طرفي القبض ، والأقرب صحّته ، لعدم المانع.

الرابع

لو دفع إلى من له عليه طعامٌ دراهمَ وقال : «اشتر بها لنفسك طعاماً»

ذكر جماعة (٥) : أنّه لو دفع إلى من له عليه طعامٌ دراهمَ وقال : «اشتر بها لنفسك طعاماً» لم يصحّ ؛ لأنّ مال الغير يمتنع شراء شي‌ءٍ به لنفسه. ووجهه : أنّ قضيّة المعاوضة انتقال كلّ عوضٍ إلى ملك من خرج عن ملكه العوض الآخر ، فلو انتقل إلى غيره لم يكن عوضاً.

ويمكن نقض هذا بالعوض المأخوذ بالمعاطاة على القول بإفادتها للإباحة ، فإنّه يجوز أن يشتري به شيئاً لنفسه ، على ما في المسالك : من‌

__________________

(١) في «ش» : «أذن المحيلُ المحال».

(٢) القواعد ٢ : ٨٦.

(٣) المبسوط ٢ : ١٢١ ، والشرائع ٢ : ٣١.

(٤) في «ش» : «مبنيّ» ، وفي نسخة بدله ما أثبتناه.

(٥) مثل الشيخ في المبسوط ٢ : ١٢١ ، والقاضي في المهذّب ١ : ٣٨٧ ، والمحقّق في الشرائع ٢ : ٣٢ ، وغيرهم ، راجع مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٥.

٣٠٧

جواز جميع التصرّفات بإجماع القائلين بصحّة المعاطاة (١).

وأيضاً فقد ذكر جماعة منهم العلاّمة في المختلف (٢) وقطب الدين والشهيد على ما حكي عنهما (٣) ـ : أنّ مال الغير المنتقل عنه بإزاء ما اشتراه عالماً بكونه مغصوباً باقٍ على ملكه ، ويجوز لبائع ذلك المغصوب التصرّف فيه بأن يشتري به شيئاً لنفسه ويملّكه بمجرّد الشراء.

قال في المختلف بعد ما نقل عن الشيخ في النهاية : أنّه لو غصب مالاً واشترى به جاريةً كان الفرج له حلالاً ، وبعد ما نقل مذهب الشيخ في ذلك في غير النهاية ومذهب الحليّ ـ : إنّ كلام النهاية يحتمل أمرين :

أحدهما : اشتراء الجارية في الذمّة ، كما ذكره في غير النهاية.

الثاني : أن يكون البائع عالماً بغصب المال ، فإنّ المشتري حينئذٍ يستبيح وطء الجارية وعليه وزر المال (٤) ، انتهى.

وقد تقدّم (٥) في فروع بيع الفضولي وفي فروع المعاطاة نقل كلام القطب والشهيد وغيرهما.

ويمكن توجيه ما ذكر في المعاطاة بدخول المال آناً ما قبل‌

__________________

(١) راجع المسالك ٣ : ١٤٩ ، ولم نعثر فيه على الإجماع ، نعم فيه : «من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرّفات».

(٢) ستأتي عبارته.

(٣) حكاه عنهما السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ١٩٢.

(٤) المختلف ٥ : ٢٥٨ ٢٥٩ ، وراجع النهاية : ٤٠٤ ، والمسائل الحائريّات (الرسائل العشر) ٢٨٧ ٢٨٨ ، والسرائر ٢ : ٣٢٩.

(٥) في الجزء الثالث : ٨٩ ، ٣٨٧ و ٤٧٢.

٣٠٨

التصرّف في ملك المتصرّف ، كما يلزمهم القول بذلك في وطء الجارية المأخوذة بالمعاطاة. وتوجيه الثاني : بأنّه في معنى تمليك ماله مجّاناً بغير عوض.

رأي المؤلّف في المسألة

وكيف كان ، فالمعاوضة لا تعقل بدون قيام كلّ عوضٍ مقام معوَّضه ، وإذا ثبت على غير ذلك فلا بدّ من توجيهه ، إمّا بانتقال أحد العوضين إلى غير مالكه قبل المعاوضة ، وإمّا بانتقال العوض الآخر إليه بعدها.

ومن هنا يمكن أن يحمل قوله فيما نحن فيه : «اشتر بدراهمي طعاماً لنفسك» على إرادة كون اللام لمطلق النفع لا للتمليك ، بمعنى : اشتر في ملكي وخذه لنفسك ، كما ورد في مورد بعض الأخبار السابقة : «اشتر لنفسك طعاماً واستوف حقَّك» (١).

ويمكن أن يقال : إنّه إذا اشترى لنفسه بمال الغير وقع البيع فضولاً كما لو باع الغير لنفسه فإذا قبضه فأجاز المالك الشراء والقبض تعيّن له ، وحيث كان استمراره بيد المشتري قبضاً فقد قبض ماله على مالك الطعام ، فافهم.

__________________

(١) تقدّم في صحيحة الحلبي المتقدّمة في الصفحة ٣٠٠.

٣٠٩

مسألة

مطالبة الطعام في غير مكان حدوثه في ذمّته وفيها صور ثلاث :

لو كان له طعامٌ على غيره فطالبه به في غير مكان حدوثه في ذمّته ، فهنا مسائل ثلاث :

أحدها :

١ ـ لو كان المال سلماً فطالبه في غير مكان المعاملة

أن يكون المال سَلَماً‌ بأن أسلفه طعاماً في العراق وطالبه بالمدينة مع عدم اشتراط تسليمه بالمدينة ، فلا إشكال في عدم وجوب أدائه في ذلك البلد. وأولى بعدم الوجوب ما لو طالبه بقيمة ذلك البلد.

ولو طالبه في ذلك البلد بقيمته في بلد وجوب التسليم وتراضيا على ذلك ، قال الشيخ : لم يجز ؛ لأنّه بيع الطعام قبل قبضه (١). وهو حسنٌ بناءً على إرادة بيع ما في ذمّته بالقيمة ، أو إرادة مطلق الاستبدال من البيع المنهيّ عنه. أمّا لو جعلنا النهي (٢) عن خصوص البيع ولم يحتمل التراضي على خصوص كون القيمة ثمناً ، بل احتمل كونه مثمناً والسَّلَم ثمناً ، فلا وجه للتحريم. لكنّ الإنصاف : ظهور عنوان القيمة‌

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٢١.

(٢) في «ش» : «المنهيّ عنه».

٣١٠

خصوصاً إذا كان من النقدين في الثمنيّة ، فيبنى الحكم على انصراف التراضي المذكور إلى البيع أو القول بتحريم مطلق الاستبدال.

وأمّا إذا لم يرض المسلَم إليه ، ففي جواز إجباره على ذلك قولان ، المشهور كما قيل العدم (١) ؛ لأنّ الواجب في ذمّته هو الطعام لا القيمة.

وعن جماعةٍ منهم العلاّمة في التذكرة الجواز (٢) ؛ لأنّ الطعام الذي يلزمه دفعه معدوم ، فكان كما لو عدم الطعام في بلدٍ يلزمه التسليم فيه.

وتوضيحه : أنّ الطعام قد حلّ والتقصير من المسلَم إليه ، حيث إنّه لو كان في ذلك البلد أمكنه أداء الواجب بتسليم المال إلى المشتري إن حضر ، وإلاّ دفعه إلى وليّه ولو الحاكم أو عزله.

وكيف كان فتعذّر البراءة مستندٌ إلى غيبته ، فللغريم مطالبة قيمة بلد الاستحقاق حينئذٍ. وقد يتوهّم أنّه يلزم من ذلك جواز مطالبة الطعام وإن كان أزيد قيمةً ، كما سيجي‌ء القول بذلك في القرض.

ولو كان الطعام في بلد المطالبة مساوياً في القيمة لبلد الاستحقاق ، فالظاهر وجوب الطعام عليه ، لعدم تعذّر الحقّ ، والمفروض عدم سقوط المطالبة بالغيبة عن بلد الاستحقاق ، فيطالبه بنفس الحقّ.

__________________

(١) راجع الحدائق ١٩ : ١٨٦.

(٢) التذكرة ١ : ٥٦١ ، ولم نعثر على غيره ، ونسبه في المسالك (٣ : ٢٥٤) إلى بعض الأصحاب ، ومثله في الحدائق ١٩ : ١٨٦ ، والعبارة فيهما هكذا : «وذهب بعض الأصحاب ومنهم العلاّمة في التذكرة إلى وجوب دفع القيمة» ، نعم يظهر من المحقّق الثاني الميل إليه في جامع المقاصد ٤ : ٤٠٨ ٤٠٩.

٣١١

الثانية :

٢ ـ أن يكون ما عليه قرضاً

أن يكون ما عليه قرضاً ، والظاهر عدم استحقاق المطالبة بالمثل مع اختلاف القيمة ؛ لأنّه (١) إنّما يستحقّها في بلد القرض ، فإلزامه بالدفع في غيره إضرار. خلافاً للمحكّي عن المختلف (٢) وقوّاه جامع المقاصد هنا ، لكنّه جزم بالمختار في باب القرض (٣). وأمّا مطالبته بقيمة بلد الاستحقاق ، فالظاهر جوازها وفاقاً للفاضلين (٤) وحكي عن الشيخ والقاضي (٥) ، وعن غاية المرام : نفي الخلاف (٦) ؛ لما تقدّم (٧) : من أنّ الحقّ هو الطعام على أن يسلم في بلد الاستحقاق ، وقد تعذّر بتعذّر قيده لا بامتناع ذي الحقّ ، فلا وجه لسقوطه.

غاية الأمر الرجوع إلى قيمته لأجل الإضرار ؛ ولذا لو لم تختلف القيمة فالظاهر جواز مطالبته بالمثل ؛ لعدم التضرّر. لكن مقتضى ملاحظة التضرّر إناطة الحكم بعدم الضرر على المقترض أو بمصلحته ولو من غير جهة اختلاف القيمة ، كما فعله العلاّمة في القواعد (٨) وشارحه جامع‌

__________________

(١) في «ش» : «لأنّها».

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٤ : ٧٢٦ ، وراجع المختلف ٥ : ٢٩٠.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٤٠٩ ، و ٥ : ٣٣ ٣٤.

(٤) الشرائع ٢ : ٣٢ ، والقواعد ٢ : ٨٨.

(٥) المبسوط ٢ : ١٢٣ ، وفيه : «اجبر على دفعها» ، والمهذّب ١ : ٣٩٠ ، وفيه أيضاً بعد الحكم بالجواز : «وصحّ أن يجبر على دفعها إليه».

(٦) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٤ : ٧٢٥ ، وراجع غاية المرام (مخطوط) ١ : ٣٠٣.

(٧) تقدّم في الصفحة المتقدّمة.

(٨) القواعد ٢ : ١٠٥.

٣١٢

المقاصد (١). ثمّ إنّه اعترف في المختلف بتعيّن قيمة بلد القرض مع تعذّر المثل في بلد المطالبة (٢). وفيه تأمّل ، فتأمّل.

وظاهر بعضٍ عدم جواز المطالبة لا بالمثل ولا بالقيمة ، وكأنّه يتفرّع على ما عن الشهيد رحمه‌الله في حواشيه (٣) : من عدم جواز مطالبة المقترض المثل في غير بلد القرض حتّى مع عدم تضرّره ، فيلزم من ذلك عدم جواز مطالبته (٤) بالقيمة بطريقٍ أولى. ولعلّه لأنّ مقتضى «اعتبار بلد القرض» : أن ليس للمقرض إلاّ مطالبة تسليم ماله في بلد القرض ، ومجرّد تعذّره في وقتٍ من جهة توقّفه على مضيّ زمانٍ لا يوجب اشتغاله بالقيمة ، كما لو أخّر التسليم اختياراً في بلد القرض ، أو احتاج تسليم المثل إلى مضيّ زمان ، فتأمّل.

الثالثة :

٣ ـ أن يكون الاستقرار من جهة الغصب

أن يكون الاستقرار من جهة الغصب ، فالمحكي عن الشيخ والقاضي : أنّه لا يجوز مطالبته بالمثل في غير بلد الغصب (٥). ولعلّه لظاهر قوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٦) فإنّ ما في ذمّته هو‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ٣٣.

(٢) المختلف ٥ : ٢٩٠.

(٣) لعلّه ينظر إلى ما حكاه في جامع المقاصد ٥ : ٣٤ ، وفيه : «وذهب شيخنا الشهيد في حواشيه إلى اعتبار موضع الشرط والإطلاق في وجوب الدفع والقبول ، سواء كان للممتنع مصلحة أم لا».

(٤) في «ش» : «المطالبة».

(٥) المبسوط ٢ : ١٢٣ ، والمهذّب ١ : ٣٩٠ ، وفيهما : «لم يجبر».

(٦) البقرة : ١٩٤.

٣١٣

الطعام الموصوف بكونه في ذلك البلد ، فإنّ مقدار ماليّة الطعام يختلف باختلاف الأماكن ، فإنّ المالك لمقدارٍ منه في بلدٍ قد يعدّ غنيّاً ، والمالك لأضعافه في غيره يعدّ فقيراً ، فالمماثلة في الصفات موجودةٌ لا في الماليّة.

لكنّه ينتقض بالمغصوب المختلف قيمته باختلاف الأزمان. فإنّ اللازم على هذا عدم جواز مطالبته بالمثل في زمان غلائه.

وحلّه : أنّ المماثلة في الجنس والصفات هي المناط في التماثل العرفي من دون ملاحظة الماليّة ، ولو لا قاعدة «نفي الضرر» وانصراف إطلاق العقد في مسألتي «القرض» و «السَّلَم» لتعيّن ذلك فيهما أيضاً.

ولو تعذّر المثل في بلد المطالبة لزم قيمة ذلك البلد ، لأنّ اللازم عليه حينئذٍ المثل في هذا البلد لو تمكّن ، فإذا تعذّر قامت القيمة مقامه.

وفي المبسوط وعن القاضي : قيمة بلد الغصب (١). وهو حسنٌ بناءً على حكمها في المثل.

والمعتبر قيمة وقت الدفع ؛ لوجوب المثل حينئذٍ ، فتعيّن بدله مع تعذّره. ويحتمل وقت التعذر ، لأنّه وقت الانتقال إلى القيمة.

وفي المسألة أقوالٌ مذكورة في باب الغصب ، ذكرناها مع مبانيها في البيع الفاسد عند ذكر شروط العقد ، فليراجع (٢).

__________________

(١) حكاه عنهما في المختلف ٦ : ١٢٧ ، وراجع المبسوط ٣ : ٧٦ ، والمهذّب ٢ : ٤٤٣.

(٢) راجع الجزء الثالث : ٢٢٦ ، السادس من أحكام المقبوض بالعقد الفاسد.

٣١٤

العناوين العامّة

في الشروط التي يقع عليها العقد............................................... ١١

في حكم الشرط الصحيح..................................................... ٥٩

في حكم الشرط الفاسد....................................................... ٨٩

في أحكام الخيار............................................................ ١٠٩

القول في النقد والنسية...................................................... ١٩٧

القول في القبض........................................................... ٢٤١

٣١٥
٣١٦

فهرس المحتوى

في الشروط التي يقع عليها العقد وشروط صحتها وما يترتب على صحيحها وفاسدها الصفحة :  ٩

الشرط في العرف على معنيين :............................................. ١١

الأوّل : المعنى الحدثي...................................................... ١١

صحّة استعمال الشرط بالمعنى المتقدّم في الالزام الابتدائي........................ ١١

عدم كون هذا الاستعمال مجازا.............................................. ١٢

الثاني : ما يلزم من عدمه العدم.............................................. ١٣

الشرط في اصطلاح النحاة وأهل المعقول...................................... ١٣

ملخّص ما ذكرنا.......................................................... ١٣

المراد بـ «الشرط» في «المؤمنون عند شروطهم»................................ ١٤

المراد بـ «الشرط» في قوله : «الشرط في الحيوان».............................. ١٤

شروط صحّة الشرط :..................................................... ١٥

الأوّل : أن يكون الشرط مقدوراً............................................. ١٥

الاستدلال على الشرط المذكور.............................................. ١٧

أنحاء عدم القدرة على الشرط............................................... ١٨

٣١٧

من أفراد غير المقدور....................................................... ١٩

الثاني : أن يكون الشرط سائغاً في نفسه...................................... ١٩

الثالث : أن يكون فيه غرض معتد به عند العقلاء............................. ٢٠

الرابع : أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة.................................... ٢١

معنى مخالفة الشرط للكتاب والسنّة.......................................... ٢٢

الاخبار الواردة في المقام..................................................... ٢٢

المراد ب‍ «كتاب الله»....................................................... ٢٤

المراد ب‍ «موافقة الكتاب» في بعض الاخبار.................................... ٢٥

المتّصف بمخالفة الكتاب إمّا الملتزم أو نفس الالتزام............................. ٢٥

المراد بحكم الكتاب والسنّة.................................................. ٢٦

انقسام الحكم الشرعي إلى قسمين :......................................... ٢٦

١ ـ ما يثبت للشيء من حيث نفسه......................................... ٢٦

٢ ـ ما يثبت له لا مع تجرّده عن ملاحظة العنوانات الطارئة...................... ٢٧

القسم الأوّل من الشروط ليس مخالفاً للكتاب................................. ٢٧

ظاهر مورد بعض الاخبار من قبيل الاوّل وتوجيهه.............................. ٢٧

الإشكال في تميز مصاديق القسمين في كثير من المقامات........................ ٢٩

ما أفاده الفاضل النراقي في المقام............................................. ٣٢

المناقشة في ما أفاده الفاضل النراقي.......................................... ٣٣

حكومة أدلّة الشروط على القسم الأوّل دون الثاني............................ ٣٣

المراد من تحريم الحلال وتحليل الحرام........................................... ٣٤

٣١٨

الإشكال في استثناء الشرط المحرم للحلال..................................... ٣٥

عدم ورود الاشكال في الشرط المحلّل للحرام................................... ٣٧

توهّم اختصاص الاشكال بما دلّ على الاباحة التكليفيّة........................ ٣٧

دفع التوهم المذكور........................................................ ٣٨

ما أفاده الفاضل النراقي في تفسير الشرط المحرم للحلال......................... ٣٩

المناقشة في ما أفاده الفاضل النراقي.......................................... ٤٠

ما أفاده المحقق القمي في تفسير الشرط المذكور................................ ٤٢

الشرط الخامس : أن لا يكون منا فيا لمقتضى العقد............................ ٤٤

صعوبة تمييز الشروط التي هي من مقتضيات ماهيّة العقد عن التي هي من مقتضيات اطلاقه    ٤٥

موارد ممّا يصعب التمييز فيها بين الموردين..................................... ٤٥

ما أفاده المحقق الثاني عند عدم التمكن من التمييز............................. ٤٨

المناقشة في ما أفاده المحقق الثاني............................................. ٥٠

الشرط السادس : أن لا يكون الشرط مجهولا بما يوجب الغرر................... ٥١

الدليل على اعتبار هذا الشرط.............................................. ٥٢

عدم اعتبار العلم في شرط ما هو تابع........................................ ٥٣

الشرط السابع : أن لا يكون مستلزماً لمحالٍ................................... ٥٣

الشرط الثامن : أن يلتزم به في متن العقد..................................... ٥٤

دعوى الإجماع على عدم لزوم الوفاء بما يشترط قبل العقد....................... ٥٦

٣١٩

توهّم شرط تاسع ، وهو اشتراط تنجيز الشرط................................. ٥٧

دفع هذا التوهم........................................................... ٥٨

مسألة : في حكم الشرط الصحيح

أقسام الشرط :........................................................... ٥٩

١ ـ شرط الوصف......................................................... ٥٩

٢ ـ شرط الفعل........................................................... ٥٩

٣ ـ شرط الغاية........................................................... ٥٩

لا حكم للقسم الأوّل إلّا الخيار............................................. ٥٩

حكم القسم الثالث....................................................... ٥٩

الخلاف والاشكال في القسم الثاني من الشروط............................... ٦١

الكلام يقع في مسائل :....................................................... ٦١

الاُولى : في وجوب الوفاء من حيث التكليف الشرعي............................. ٦٢

المشهور وجوب الوفاء بالشرط............................................... ٦٢

ظاهر الشهيد عدم وجوب الوفاء تكليفاً...................................... ٦٢

ما أفاده الشهيد في بعض تحقيقاته........................................... ٦٣

عدم صحّة ما أفاده في الغنية تأييداً للمشهور.................................. ٦٤

المناقشة في ما أفاده الشهيد قدّس سرّه........................................ ٦٤

الثانية : هل يجوز الاجبار على الوفاء بالشرط أم لا؟.............................. ٦٦

كلمات الفقهاء في المسألة.................................................. ٦٦

كلام العلّامة في التحرير................................................... ٦٦

كلام الشهيد في الدروس................................................... ٦٦

٣٢٠