كتاب المكاسب - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٤
ISBN: 964-5662-16-8
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٣٣٦

القول في وجوب القبض‌

مسألة

وجوب تسليم العوضين

يجب على كلٍّ من المتبايعين تسليم ما استحقّه الآخر بالبيع ؛ لاقتضاء العقد لذلك.

لو قال كلٌّ منهما : لا أدفع حتّى أقبض

فإن قال كلٌّ منهما : لا أدفع حتّى أقبض ، فالأقوى إجبارهما معاً ، وفاقاً للمحكيّ عن السرائر (١) والشرائع (٢) وكتب العلاّمة (٣) والإيضاح (٤) والدروس (٥) وجامع المقاصد (٦) والمسالك (٧) وغيرها (٨) ، وعن ظاهر‌

__________________

(١) السرائر ٢ : ٣٠٦ ، وفيه بعد احتمال القرعة : «والأوّل أقوى».

(٢) الشرائع ٢ : ٢٩.

(٣) القواعد ٢ : ٨٧ ، والمختلف ٥ : ٢٩١ ، والتذكرة ١ : ٤٧٣ ، ٥٦٤ ، والتحرير ١ : ١٧٥.

(٤) لم نعثر على التصريح به ، نعم يظهر الارتضاء به حيث لم يعلّق على كلام القواعد ، راجع الإيضاح ١ : ٥٠٩.

(٥) الدروس ٣ : ٢١٠.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٤٠٣.

(٧) المسالك ٣ : ٢٣٨.

(٨) مثل الروضة ٣ : ٥٢٢ ، ومجمع الفائدة ٨ : ٥٠٤ ، وراجع تفصيل ذلك في مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٩.

٢٦١

التنقيح : الإجماع عليه (١) ؛ لما في التذكرة : من أنّ كلاّ منهما قد وجب له حقٌّ على صاحبه (٢).

وعن الخلاف : أنّه يجبر البائع أوّلاً على تسليم المبيع ، ثمّ يجبر المشتري على تسليم الثمن ، سواء كان الثمن عيناً أو في الذمّة ؛ لأنّ الثمن إنّما يستحقّ على المبيع ، فيجب أوّلاً تسليم المبيع ليستحقّ الثمن (٣).

ولعلّ وجهه دعوى انصراف إطلاق العقد إلى ذلك ؛ ولذا استقرّ العرف على تسمية الثمن عوضاً وقيمةً ، ولذا يقبّحون مطالبة الثمن قبل دفع المبيع ، كما يقبّحون مطالبة الأُجرة قبل العمل أو دفع العين المستأجرة. والأقوى ما عليه الأكثر.

محلّ الخلاف في المسألة

ثمّ إنّ ظاهر جماعةٍ أنّ محلّ الخلاف في هذه المسألة بين الخاصّة والعامّة : ما لو كان كلٌّ منهما باذلاً وتشاحّا في البدأة بالتسليم ، لا ما إذا امتنع أحدهما عن البذل.

قال في المبسوط بعد اختياره أوّلاً إجبارهما معاً على التقابض ثمّ الحكم بأنّ تقديم البائع في الإجبار أولى قال : هذا إذا كان كلٌّ منهما باذلاً. وأمّا إذا كان أحدهما غير باذل أصلاً ، وقال : لا أُسلّم ما عليَّ ، أجبره الحاكم على البذل ، فإذا حصل البذل حصل الخلاف‌

__________________

(١) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٩ ، وراجع التنقيح الرائع ٢ : ٦٤ ٦٥.

(٢) التذكرة ١ : ٤٧٣.

(٣) الخلاف ٣ : ١٥١ ، المسألة ٢٣٩ من كتاب البيوع.

٢٦٢

في أيّهما يدفع. هذا إذا كان موسراً قادراً على إحضار الثمن ، فإن كان معسراً كان للبائع الفسخ والرجوع إلى عين ماله كالمفلّس (١) ، انتهى.

قال في التذكرة : توهّم قومٌ أنّ الخلاف في البدأة بالتسليم خلافٌ في أنّ البائع هل له حقّ الحبس أم لا؟ إن قلنا بوجوب البدأة للبائع فليس له حبس المبيع إلى استيفاء الثمن ، وإلاّ فله ذلك. ونازع أكثر الشافعيّة فيه وقالوا : هذا الخلاف مختصٌّ بما إذا كان نزاعهما في مجرّد البدأة وكان كلٌّ منهما يبذل ما عليه ولا يخاف فوت ما عند صاحبه ، فأمّا إذا لم يبذل البائع المبيع وأراد حبسه خوفاً من تعذّر تحصيل الثمن ، فله ذلك بلا خلاف ، وكذا للمشتري حبس الثمن خوفاً من تعذّر تحصيل المبيع (٢) ، انتهى.

وقد صرّح أيضاً بعدم الخلاف في جواز الحبس لامتناع الآخر من التسليم بعضٌ آخر (٣).

ولعلّ الوجه فيه : أنّ عقد البيع مبنيٌّ على التقابض وكون المعاملة يداً بيد ، فقد التزم كلٌّ منهما بتسليم العين مقارناً لتسليم صاحبه ، لا بدونه (٤) ، فقد ثبت بإطلاق العقد لكلٍّ منهما حقّ الامتناع مع امتناع صاحبه. فلا يرد أنّ وجوب التسليم على كلٍّ منهما ليس مشروطاً‌

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٤٨.

(٢) التذكرة ١ : ٥٦٤.

(٣) صرّح به في مفتاح الكرامة ٤ : ٧٢٠.

(٤) في «ش» بدل «لا بدونه» : «والتزم على صاحبه أن لا يسلّمه مع الامتناع».

٢٦٣

بتحقّقه من الآخر ، فلا يسقط التكليف بأداء مال الغير عن أحدهما بمعصية الآخر ، وأنّ ظلم أحدهما لا يسوّغ ظلمَ الآخر.

لو كان أحد العوضين مؤجّلاً

هذا كلّه مع عدم التأجيل في أحد العوضين ، فلو كان أحدهما [مؤجّلاً (١)] لم يجز حبس الآخر.

قال في التذكرة : ولو لم يتّفق تسليمه حتّى حلّ المؤجّل (٢) لم يكن له الحبس أيضاً (٣).

ولعلّ وجهه : أنّ غير المؤجّل قد التزم بتسليمه من دون تعليقٍ على تسليم المؤجّل أصلاً. وهذا ممّا يؤيّد أنّ حقّ الحبس ليس لمجرّد ثبوت حقٍّ للحابس على الآخر ، فيكون الحبس بإزاء الحبس.

لو قبض الممتنع بدون رضا صاحبه

ثمّ مقتضى ما ذكرنا من عدم وجوب التسليم مع امتناع الآخر وعدم استحقاق الممتنع لقبض ما في يد صاحبه ـ : أنّه لو قبضه الممتنع بدون رضا صاحبه لم يصحّ القبض.

فصحّة القبض بأحد أمرين : إمّا إقباض ما في يده لصاحبه ، فله حينئذٍ قبض ما في يد صاحبه ولو بغير إذنه. وإمّا إذن صاحبه سواء أقبض ما في يده أم لا ، كما صرّح بذلك في المبسوط (٤) والتذكرة (٥) ، وصرّح فيهما : بأنّ له مطالبة القابض بردّ ما قبض بغير إذنه ؛ لأنّ له‌

__________________

(١) لم يرد في «ق».

(٢) في «ش» والمصدر : «حلّ الأجل».

(٣) التذكرة ١ : ٤٧٣.

(٤) راجع المبسوط ٢ : ١٢٠.

(٥) راجع التذكرة ١ : ٤٧٢ و ٥٦٢.

٢٦٤

حقّ الحبس والتوثّق إلى أن يستوفي العوض.

وفي موضعٍ من التذكرة : أنّه لا ينفذ تصرّفه فيه (١). ومراده التصرّف المتوقّف على القبض ، كالبيع أو مطلق الاستبدال.

إذا ابتدأ أحدهما بالتسليم

ثمّ إذا ابتدأ أحدهما بالتسليم إمّا لوجوبه عليه كالبائع على قول الشيخ (٢) ، أو لتبرّعه بذلك اجبر الآخر على التسليم ، ولا يحجر عليه في ما عنده من العوض ولا في مالٍ آخر ؛ لعدم الدليل.

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٧٢.

(٢) تقدّم قول الشيخ في الصفحة ٢٦٢.

٢٦٥

مسألة

وجوب تفريغ المبيع ممّا فيه من الاموال

يجب على البائع تفريغ المبيع من أمواله مطلقاً ومن غيرها في الجملة. وهذا الوجوب ليس شرطيّاً بالنسبة إلى التسليم وإن أوهمه بعض العبارات ، ففي غير واحدٍ من الكتب : أنّه يجب تسليم المبيع مفرّغاً (١). والمراد إرجاع الحكم إلى القيد ، وإلاّ فالتسليم يحصل بدونه ، وقد تقدّم عن التذكرة (٢).

الاستدلال عليه

وكيف كان ، فيدلّ على وجوب التفريغ ما دلّ على وجوب التسليم ، فإنّ إطلاق العقد كما يقتضي أصل التسليم كذلك يقتضي التسليم مفرّغاً ، بل التسليم من دون التفريغ (٣) كالعدم بالنسبة إلى غرض المتعاقدين وإن ترتّب عليه أحكامٌ تعبّديةٌ ، كالدخول في ضمان المشتري ونحوه.

__________________

(١) كما في الشرائع ٢ : ٣٠ ، والمختصر : ١٢٤ ، والقواعد ٢ : ٨٥ ، والإرشاد ١ : ٣٨٢ ، والدروس ٣ : ٢١٣ ، وراجع تفصيل ذلك في مفتاح الكرامة ٤ : ٧٠٦.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٥٣.

(٣) العبارة في «ش» : «فإنّ التسليم بدونه».

٢٦٦

لو مضت مدّة ولم يتمكّن البائع من التفريغ أو لم يفرّغ

فلو كان في الدار متاعٌ وجب نقله فوراً ، فإن تعذّر ففي أوّل أزمنة الإمكان. ولو تراخي زمان الإمكان وكان المشتري جاهلاً كان له الخيار لو تضرر بفوات بعض منافع الدار عليه. وفي ثبوت الأُجرة لو كان لبقائه أُجرةٌ إلى زمان الفراغ وجهٌ. ولو كان تأخير التفريغ بتقصيره فينبغي الجزم بالأُجرة ، كما جزموا بها مع امتناعه من أصل التسليم.

لو كان في الأرض زرعٌ للبائع

ولو كان في الأرض زرعٌ قد أُحصد وجب إزالته ؛ لما ذكرنا. وإن لم يُحصد وجب الصبر إلى بلوغ أوانه ؛ للزوم تضرّر البائع بالقلع ، وأمّا ضرر المشتري فينجبر بالخيار مع الجهل ، كما لو وجدها مستأجرة.

ومن ذلك يُعلم عدم الأُجرة ؛ لأنّه اشترى أرضاً تبيّن أنّها مشغولةٌ ، فلا يثبت أكثر من الخيار. ويحتمل ثبوت الأُجرة ؛ لأنّه اشترى أرضاً لا يستحقّ عليها الاشتغال بالزرع ، والبائع (١) قد ملك الزرع غير مستحقٍّ للبقاء ، فيتخيّر بين إبقائه بالأُجرة وبين قلعه ؛ لتقديم ضرر القلع على ضرر فوات منفعة الأرض بالأُجرة. ويحتمل تخيير المشتري بين إبقائه بالأُجرة وقلعه بالأرش. ويحتمل ملاحظة الأكثر ضرراً.

لو احتاج تفريغ الأرض إلى هدم شي‌ءٍ

ولو احتاج تفريغ الأرض إلى هدم شي‌ءٍ هدمه بإذن المشتري ، وعليه طمّ ما يطمّ برضا المالك وإصلاح ما استهدم أو الأرش ، على اختلاف الموارد ، فإنّ مثل قلع الباب أو قلع ساجةٍ منه إصلاحه إعادته ، بخلاف هدم حائطٍ ، فإنّ الظاهر لحوقه بالقيمي في وجوب الأرش له. والمراد بالأرش نفس قيمة الهدم لا أرش العيب.

__________________

(١) في «ش» بدل «البائع» : «المالك».

٢٦٧

وبالجملة ، فمقتضى العرف إلحاق بعض ما استهدم بالمثلي وبعضه بالقيمي ، ولو الحق مطلقاً بالقيمي كان له وجهٌ.

ويظهر منهم فيما لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك بغير إذن صاحبه أقوال ثلاثة :

الإعادة مطلقاً كما في الشرائع (١) وعن المبسوط (٢).

والأرش كذلك كما عن العلاّمة (٣) والمحقّق والشهيد الثانيين (٤).

والتفصيل بين ما كان مثليّا كحائط البساتين والمزارع وإلاّ فالأرش كما عن الدروس (٥).

والظاهر جريان ذلك في كسر الباب والشبابيك. وفتق الثوب من هذا القبيل.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٢٥.

(٢) المبسوط ٢ : ٣٠٣.

(٣) القواعد ٢ : ١٧٤ ١٧٥.

(٤) جامع المقاصد ٥ : ٤٢٤ ، والمسالك ٤ : ٢٩١.

(٥) الدروس ٣ : ٣٤٥ ، وحكاه عنه الشهيد الثاني في المسالك ٤ : ٤٩١.

٢٦٨

مسألة

إذا امتنع البائع من التسليم

لو امتنع البائع من التسليم ، فإن كان لحقٍّ كما لو امتنع المشتري عن تسليم الثمن فلا إثم.

وهل عليه اجرة مدّة الامتناع؟ احتمله في جامع المقاصد ، إلاّ أنّ منافع الأموال الفائتة بحقٍّ لا دليل على ضمانها ، وعلى المشتري نفقة المبيع. وفي جامع المقاصد : ما أشبه هذه بمثل منع الزوجة نفسها حتّى تقبض المهر ، فإنّ في استحقاقها النفقة تردّداً ، قال : ويحتمل الفرق بين الموسر والمعسر (١) ، انتهى.

ويمكن الفرق بين النفقة في المقامين.

ولو طلب من البائع الانتفاع به في يده ، ففي وجوب إجابته وجهان.

ولو كان امتناعه لا لحقٍّ ، وجب عليه الأُجرة ؛ لأنّه عادٍ ، ومقتضى القاعدة أنّ نفقته على المشتري.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٤١٢.

٢٦٩

الكلام في أحكام القبض

وهي التي تلحقه بعد تحقّقه.

مسألة

انتقال الضمان إلى القابض

من أحكام القبض انتقال الضمان ممّن نقله إلى القابض ، فقبله يكون مضموناً عليه بعوضه إجماعاً مستفيضاً ، بل محقّقاً ، ويسمّى ضمان المعاوضة.

تلف المبيع قبل قبضه على البائع والاستدلال عليه بالنبويّ المشهور

ويدلّ عليه قبل الإجماع النبويّ المشهور : «كلُّ مبيعٍ تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» (١) وظاهره بناءً على جعل «من» للتبعيض ـ : أنّه بعد التلف يصير مالاً للبائع ، لكن إطلاق المال على التالف إنّما هو باعتبار كونه مالاً عند التلف. وبهذا الاعتبار يصحّ أن يقع هو المصالح عنه إذا أتلفه الغير لا قيمته كما صرّح به في باب الصلح من الشرائع (٢)

__________________

(١) المستدرك ١٣ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، وفيه حديث واحد.

(٢) الشرائع ٢ : ١٢٢.

٢٧٠

مرجع النبويّ إلى انفساخ العقد قبل التلف آناً ما

والتحرير (١) وحينئذٍ فلا بدّ من أن يكون المراد بالنبوي : أنّ المبيع يكون تالفاً من مال البائع ، ومرجع هذا إلى انفساخ العقد قُبيل التلف آناً ما ، ليكون التالف مالاً للبائع.

والحاصل : أنّ ظاهر الرواية صيرورة المبيع مالاً للبائع بعد التلف ، لكن لمّا لم يتعقّل ذلك تعيّن إرادة وقوع التلف على مال البائع ، ومرجعه إلى ما ذكره في التذكرة (٢) وتبعه من تأخّر عنه (٣) ـ : من أنّه يتجدّد انتقال الملك إلى البائع قبل الهلاك بجزءٍ لا يتجزّأ من الزمان.

وربّما يقال تبعاً للمسالك ـ : إنّ ظاهر «كون المبيع التالف قبل القبض من مال البائع» يوهم خلاف هذا المعنى (٤). ولعلّه لدعوى : أنّ ظاهر كونه من ماله كون تلفه من ماله ، بمعنى كون دركه عليه ، فيوهم ضمانه بالمثل والقيمة.

الضمان في المسألة ضمان المعاوضة لا ضمان اليد

وممّا ذكرنا من أنّ معنى الضمان هنا يرجع إلى انفساخ العقد بالتلف وتلف المبيع في ملك البائع ويسمّى «ضمان المعاوضة» لا ضمانه عليه مع تلفه من المشتري ، كما في المغصوب والمستام وغيرهما ويسمّى‌

__________________

(١) التحرير ١ : ٢٣٠.

(٢) التذكرة ١ : ٥٦٢ ، وفيه : «ويتجدّد انتقال الملك إلى البائع قبل الهلاك بجزءٍ لا يتجزّى من الزمان».

(٣) مثل المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٤٠٣ ، والشهيد الثاني في المسالك ٣ : ٢١٦ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ١٩ : ٧٦ ، والسيّد الطباطبائي في الرياض ٨ : ٢٠٨.

(٤) قاله السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٩٦.

٢٧١

الضمان فيما نحن فيه حكمٌ شرعيٌّ لا حقٌّ مالي

«ضمان اليد» يعلم أنّ الضمان فيما نحن فيه حكمٌ شرعيٌّ لا حقٌّ مالي ، فلا يقبل الإسقاط ؛ ولذا لو أبرأه المشتري من الضمان لم يسقط ، كما نصّ عليه في التذكرة (١) والدروس (٢). وليس الوجه في ذلك : أنّه «إسقاط ما لم يجب» ، كما قد يتخيّل.

الاستدلال على ضمان البائع قبل القبض برواية عقبة أيضاً

ويدلّ على الحكم المذكور أيضاً رواية عُقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجلٍ اشترى متاعاً من رجلٍ وأوجبه ، غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، فسرق المتاع ، من مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع [الذي هو في بيته حتّى يقبض المتاع (٣)] ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامنٌ لحقّه حتّى يردّ إليه ماله» (٤) ولعلّ الرواية أظهر دلالةً على الانفساخ قبل التلف من النبوي.

عدم الخلاف في المسألة

وكيف كان ، فلا خلاف في المسألة ، أعني بطلان البيع عند التلف لا من أصله ؛ لأنّ تقدير ماليّة البائع قبل التلف مخالفٌ لأصالة بقاء العقد ، وإنّما احتيج إليه لتصحيح ما في النصّ : من الحكم بكون التالف من مال البائع ، فيرتكب بقدر الضرورة.

نماء المبيع قبل التلف للمشتري

ويترتّب على ذلك كون النماء قبل التلف للمشتري.

وفي معناه الركاز الذي يجده العبد ، وما وهب منه فقبل (٥) ، أو‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٧٣.

(٢) الدروس ٣ : ٢١٢.

(٣) لم يرد في «ق».

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٥٨ ، الباب ١٠ من أبواب الخيار ، وفيه حديث واحد.

(٥) في «ش» : «فقبله وقبضه».

٢٧٢

اوصي له به فقبل (١) ، كما صرّح به في المبسوط والتذكرة (٢). وصرّح العلاّمة : بأن مئونة تجهيزه لو كان مملوكاً على البائع (٣) ، وهو مبنيٌّ على ثبوت الملك التحقيقي قبل التلف ، لا مجرّد تقدير الملك الذي لا بدّ فيه من الاقتصار على الحكم الثابت المحوج إلى ذلك التقدير ، دون ما عداه من باقي آثار المقدّر [إلاّ أن يقال : بأنّ التلف من البائع يدلّ التزاماً على الفسخ الحقيقي (٤)].

تعذّر الوصول بحكم التلف

ثمّ إنّه يلحق بالتلف تعذّر الوصول إليه عادةً ، مثل سرقته على وجهٍ لا يرجى عوده ، وعليه تحمل رواية عقبة المتقدّمة (٥).

قال في التذكرة : ووقوع الدرّة في البحر قبل القبض كالتلف ، وكذا انفلات الطير والصيد المتوحّش. ولو غرق البحر الأرض المبيعة أو وقع عليها صخورٌ عظيمةٌ من جبلٍ أو كساها رملٌ ، فهي بمثابة التلف ، أو يثبت به الخيار؟ للشافعية وجهان : أقواهما الثاني. ولو أبق العبد قبل القبض أو ضاع في انتهاب العسكر لم ينفسخ البيع ، لبقاء الماليّة ورجاء العود (٦) ، انتهى.

وفي التذكرة أيضاً : لو هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسرٌ‌

__________________

(١) في «ش» : «فقبله».

(٢) المبسوط ٢ : ١٢٤ ، والتذكرة ١ : ٥٦٢.

(٣) التذكرة ١ : ٤٧٤.

(٤) لم يرد في «ق».

(٥) في الصفحة ٢٧٢.

(٦) التذكرة ١ : ٥٦٢ ، وفيه : «أقربهما الثاني».

٢٧٣

مع عدم الإقباض احتمل أن يملك البائع الفسخ في الحال لتعذّر استيفاء الثمن ، والصبر ثلاثة أيّام للرواية. والأوّل أقوى ؛ لورودها في الباذل. وإن كان موسراً أثبت البائع ذلك عند الحاكم ، ثمّ إن وجد له مالاً قضاه وإلاّ باع المبيع وقضى منه ، والفاضل للمشتري والمعوز عليه (١) ، انتهى.

لو كان القبض غير واجدٍ لشرائط الصحّة

وفي غير موضعٍ ممّا ذكره تأمّل.

ثمّ إنّ ظاهر كثيرٍ من الأصحاب : أنّه لا يعتبر في القبض المسقط لضمان البائع (٢) وقوعه صحيحاً جامعاً لما يعتبر فيه ، فلو وقع بغير إذن ذي اليد كفى في رفع الضمان ، كما صرّح به في التذكرة (٣) والدروس (٤) وغيرهما (٥). ولو لم يتحقّق الكيل والوزن بناءً على اعتبارهما في قبض المكيل ، ففي سقوط الضمان بمجرّد نقل المشتري قولان.

قال في التذكرة في باب بيع الثمار ـ : إنّه لو اشترى [طعاماً (٦) مكايلةً فقبض جزافاً فهلك في يده ، فهو من ضمان المشتري [لحصول القبض] (٧) وإن جعلنا الكيل شرطاً فيه فالأقرب أنّه من ضمان البائع (٨) ، انتهى.

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٧٣.

(٢) في «ش» بدل «لضمان البائع» : «للضمان».

(٣) التذكرة ١ : ٥٦٢.

(٤) الدروس ٣ : ٢١٤.

(٥) مثل مجمع الفائدة ٨ : ٥١٣ ٥١٤ ، والجواهر ٢٣ : ١٥٢.

(٦) من «ش» والمصدر.

(٧) من «ش» والمصدر.

(٨) التذكرة ١ : ٥٠٨.

٢٧٤

وقد تقدّم عن جامع المقاصد سقوط الضمان هنا بناءً على اشتراط الكيل في القبض (١). ولا يخلو عن قوّة.

هل يكتفى بالتخلية في سقوط الضمان؟

وهل يكتفى بالتخلية على القول بعدم كونها قبضاً في سقوط الضمان؟ قولان : لا يخلو السقوط من قوّة [وإن لم نجعله قبضاً (٢)].

وكذا الكلام فيما لو وضع المشتري يده عليه ولم ينقله بناءً على اعتبار النقل في القبض.

هذا كلّه حكم التلف السماوي.

حكم الاتلاف :

وأمّا الإتلاف : فإمّا أن يكون من المشتري ، وإمّا أن يكون من البائع ، وإمّا أن يكون من الأجنبي.

لو كان التلف هو المشتري

فإن كان من المشتري ، فالظاهر عدم الخلاف في كونه بمنزلة القبض في سقوط الضمان ؛ لأنّه قد ضمن ماله بإتلافه. وحجّته الإجماع لو تمّ ، وإلاّ فانصراف النصّ إلى غير هذا التلف ، فيبقى تحت القاعدة.

قال في التذكرة : هذا إذا كان المشتري عالماً ، وإن كان جاهلاً ، بأن قدّم البائع الطعام المبيع إلى المشتري فأكله ، فهل يجعل قابضاً؟ الأقرب أنّه لا يصير قابضاً ، ويكون بمنزلة إتلاف البائع (٣). ثمّ مثّل له بما إذا قدّم المغصوب إلى المالك فأكله.

أقول : هذا مع غرور البائع لا بأس به ، أمّا مع عدم الغرور ففي كونه كالتلف السماوي وجهان.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٥٥ ٢٥٦.

(٢) شُطب عليه في «ق».

(٣) التذكرة ١ : ٥٦٢.

٢٧٥

ولو صال العبد على المشتري فقتله دفعاً ، ففي التذكرة : أنّ الأصحّ أنّه لا يستقرّ عليه الثمن. وحكي عن بعض الشافعيّة : الاستقرار ؛ لأنّه قتله في غرض نفسه (١).

لو كان التلف هو البائع

ولو أتلفه البائع ، ففي انفساخ البيع ، كما عن المبسوط والشرائع والتحرير (٢) ؛ لعموم التلف في النصّ لما كان بإتلاف حيوانٍ أو إنسانٍ أو كان بآفة.

أو ضمان البائع للقيمة ؛ لخروجه عن منصرف دليل الانفساخ فيدخل تحت قاعدة «إتلاف مال الغير».

أو التخيير بين مطالبته بالقيمة أو بالثمن ، إمّا لتحقّق سبب الانفساخ وسبب الضمان فيتخيّر المالك في العمل بأحدهما ، وإمّا لأنّ التلف على هذا الوجه إذا خرج عن منصرف دليل الانفساخ لحقه حكم تعذّر تسليم المبيع ، فيثبت الخيار للمشتري ، لجريان دليل تعذّر التسليم هنا.

وهذا هو الأقوى ، واختاره في التذكرة (٣) والدروس (٤) وجامع المقاصد (٥) والمسالك (٦) وغيرها (٧) ، وعن حواشي الشهيد نسبته إلى‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥٦٢.

(٢) المبسوط ٢ : ١١٧ ، والشرائع ٢ : ٥٣ ، والتحرير ١ : ١٧٥ ، وحكاه عنهم في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٩٧.

(٣) راجع التذكرة ١ : ٥٠٨.

(٤) الدروس ٣ : ٢١٢.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٤٠٤.

(٦) المسالك ٣ : ٢١٧ و ٣٦١.

(٧) مثل مجمع الفائدة ٨ : ٤١٩ ، والحدائق ١٩ : ٧٦.

٢٧٦

أصحابنا العراقيّين (١).

فإن اختار المشتري القيمة ، فهل للبائع حبس القيمة على الثمن؟ وجهان (٢) ، أقواهما العدم.

ولو قبض المشتري بغير إذن البائع حيث يكون له الاسترداد فأتلفه البائع في يد المشتري ، ففي كونه كإتلافه قبل القبض فيكون في حكم الاسترداد ، كما أنّ إتلاف المشتري في يد البائع بمنزلة القبض ، أو كونه إتلافاً له بعد القبض موجباً للقيمة ؛ لدخول المبيع في ضمان المشتري بالقبض وإن كان ظالماً فيه ، وجهان. اختار أوّلهما في التذكرة (٣).

لو كان التلف الأجنبي

ولو أتلفه أجنبيٌّ جاء الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، إلاّ أنّ المتعيّن منها هو التخيير ؛ لما تقدّم ، ولو لا شبهة الإجماع على عدم تعيّن القيمة تعيّن الرجوع إليها بعد فرض انصراف دليل الانفساخ إلى غير ذلك.

__________________

(١) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٩٧.

(٢) في «ش» زيادة ما يلي : «من أنّها بدل عن العين ، ومن أنّ دليل الحبس وهو الانفهام من العقد يختصّ بالمبدل».

(٣) التذكرة ١ : ٥٦٢.

٢٧٧

مسألة

تلف الثمن كتلف المبيع

تلف الثمن المعيّن قبل القبض كتلف المبيع المعيّن في جميع ما ذكر ، كما صرّح به في التذكرة (١) ، وهو ظاهر عبارة الدروس ، حيث ذكر : أنّ بالقبض ينتقل الضمان إلى القابض (٢) ، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه. قال في المبسوط : لو اشترى عبداً بثوبٍ وقبض العبد ولم يسلّم الثوب ، فباع العبدَ صحّ بيعه ، وإذا باعه وسلّمه ثمّ تلف الثوب انفسخ البيع ولزمه قيمة العبد لبائعه ؛ لأنّه لا يقدر على ردّه (٣) ، انتهى.

وفي باب الصرف من السرائر نظير ذلك (٤). وقد ذكر هذه المسألة أيضاً في الشرائع (٥) وكتب العلاّمة (٦) والدروس (٧) وجامع‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٧٤.

(٢) الدروس ٣ : ٢١٠ ٢١١.

(٣) المبسوط ٢ : ١٢٤.

(٤) راجع السرائر ٢ : ٢٦٨.

(٥) الشرائع ٢ : ٣٢.

(٦) مثل القواعد ٢ : ٨٧ ، والتحرير ١ : ١٧٦ ، والتذكرة ١ : ٤٧٤ و ٥٦١ ، والإرشاد ١ : ٣٨١.

(٧) الدروس ٣ : ٢١١.

٢٧٨

المقاصد (١) والمسالك (٢) وغيرها (٣) أعني مسألة من باع شيئاً معيّناً بشي‌ءٍ معيّن ثمّ بيع أحدهما ثمّ تلف الآخر وحكموا بانفساخ البيع الأوّل ، وقد صرّحوا بنظير ذلك في باب الشفعة أيضاً (٤).

وبالجملة ، فالظاهر عدم الخلاف في المسألة.

استظهار الحكم من رواية عقبة والنبوي المشهور

ويمكن أن يستظهر من رواية عقبة المتقدّمة (٥) حيث ذكر في آخرها : «أنّ المبتاع ضامنٌ لحقّه حتّى يردّ إليه ماله» بناءً على عود ضمير ال «حق» إلى «البائع» بل ظاهر بعضهم شمول النبويّ له بناءً على صدق المبيع على الثمن.

قال في التذكرة : لو أكلت الشاة ثمنها المعيّن قبل القبض ، فإن كانت في يد المشتري فكإتلافه ، وإن كانت في يد البائع فكإتلافه ، وإن كانت في يد أجنبيٍّ فكإتلافه ، وإن لم تكن في يد أحد انفسخ البيع ، لأنّ المبيع هلك قبل القبض بأمرٍ لا ينسب إلى آدمي فكان كالسماويّة (٦) ، انتهى.

ثمّ إنّه هل يلحق العوضان في غير البيع من المعاوضات به في‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٤٠٢.

(٢) المسالك ٣ : ٢٥٧.

(٣) مثل الحدائق ١٩ : ١٨٩ ، والجواهر ٢٣ : ١٨٢ ، وراجع مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٨.

(٤) انظر مفتاح الكرامة ٤ : ٧١٩ و ٦ : ٣٩١ ، والقواعد ٢ : ٢٥٦.

(٥) تقدّمت في الصفحة ٢٧٢.

(٦) التذكرة ١ : ٤٧٤.

٢٧٩

هذا الحكم؟ لم أجد أحداً صرّح بذلك نفياً أو إثباتاً. نعم ، ذكروا في الإجارة (١) والصداق (٢) وعوض الخلع (٣) ضمانها لو تلف قبل القبض ، لكن ثبوت الحكم عموماً مسكوتٌ عنه في كلماتهم.

هل يلحق العوضان في سائر المعاوضات بالبيع؟

إلاّ أنّه يظهر من بعض مواضع التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجهٍ يظهر كونه من المسلّمات. قال في مسألة البيع قبل القبض وجواز بيع ما انتقل بغير البيع ، قال (٤) : والمال المضمون في يد الغير بالقيمة كالعارية المضمونة أو بالتفريط ويسمّى ضمان اليد يجوز بيعه قبل قبضه ؛ لتمام الملك فيه إلى أن قال ـ : أمّا ما هو مضمونٌ في يد الغير بعوضٍ في عقد معاوضةٍ ، فالوجه جواز بيعه قبل قبضه ك‍ : مال الصلح ، والأُجرة المعيّنة (٥). وقال الشافعي : لا يصحّ ، لتوهّم الانفساخ بتلفه كالبيع (٦) ، انتهى.

وظاهر هذا الكلام كونه مسلّماً بين الخاصّة والعامّة.

__________________

(١) راجع المبسوط ٣ : ٢٢٢ ٢٢٣ وغيرهما من الصفحات ، والشرائع ٢ : ١٨٣ ، وراجع تفصيل ذلك في مفتاح الكرامة ٧ : ٩١.

(٢) المبسوط ٤ : ٢٧٦ ، والشرائع ٢ : ٣٢٥ ، والمسالك ٨ : ١٨٧ ، والجواهر ٣١ : ٣٩.

(٣) المبسوط ٤ : ٣٥٥ ، والشرائع ٣ : ٥١ ، والمسالك ٩ : ٣٩٨ ، والجواهر ٣٣ : ٣١.

(٤) العبارة في «ش» هكذا : «قال في مسألة جواز بيع ما انتقل بغير البيع قبل القبض : والمال ..».

(٥) في «ش» والمصدر زيادة : «لما تقدّم».

(٦) التذكرة ١ : ٤٧٥.

٢٨٠