كتاب المكاسب - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٤
ISBN: 964-5662-16-8
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٣٣٦

صحيحٍ به حُمل عليه.

ومن هنا اختار في التذكرة صحّة اشتراط : أن لا يأكل إلاّ الهريسة ، ولا يلبس إلاّ الخزّ (١).

ولو اشترط كون العبد كافراً ففي صحّته أو لغويّته قولان للشيخ (٢) والحليّ (٣) :

من تعلّق الغرض المعتدّ به ؛ لجواز بيعه على المسلم والكافر ؛ ولاستغراق أوقاته بالخدمة.

ومن أنّ «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (٤) والأغراض الدنيويّة لا تعارض الأُخرويّة.

وجزم بذلك في الدروس (٥) وبما قبله العلاّمة قدس‌سره (٦).

الرابع : أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنّة

الرابع : أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنّة ، فلو اشترط رقّية حرٍّ أو توريث أجنبيٍّ كان فاسداً ؛ لأنّ مخالفة الكتاب والسنّة لا يسوّغهما شي‌ءٌ.

نعم ، قد يقوم احتمال تخصيص عموم الكتاب والسنّة بأدلّة الوفاء ،

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٩٣.

(٢) المبسوط ٢ : ١٣٠ ، والخلاف ٣ : ١١٢ ، المسألة ١٨٥ من كتاب البيوع.

(٣) السرائر ٢ : ٣٥٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٧٦ ، الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١١.

(٥) الدروس ٣ : ٢١٥.

(٦) المختلف ٥ : ١٨٩.

٢١

بل قد جوّز بعضٌ (١) تخصيص عموم ما دلّ على عدم جواز الشرط المخالف للكتاب والسنّة. لكنّه ممّا لا يرتاب في ضعفه.

معنى مخالفة الشرط للكتاب والسنّة

وتفصيل الكلام في هذا المقام وبيان معنى مخالفة الشرط للكتاب [والسنّة (٢)] موقوفٌ على ذكر الأخبار الواردة في هذا الشرط ، ثمّ التعرّض لمعناها ، فنقول :

إنّ الأخبار في هذا المعنى مستفيضةٌ ، بل متواترةٌ معنىً :

الأخبار الواردة في المقام

ففي النبويّ المرويّ صحيحاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من اشترط شرطاً سوى كتاب الله عزّ وجلّ ، فلا يجوز ذلك له ولا عليه» (٣).

والمذكور في كلام الشيخ والعلاّمة (٤) رحمه‌الله المرويّ من طريق العامّة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكاية بريرة لمّا اشترتها عائشة وشرط مواليها عليها ولاءها : «ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله عزّ وجلّ فهو باطلٌ ، قضاء الله أحقّ ، وشرطه أوثق ، والولاء لمن أعتق» (٥).

وفي المرويّ موثّقاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من شرط لامرأته شرطاً فليفِ لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً‌

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) لم يرد في «ق».

(٣) الوسائل ١٥ : ٤٧ ، الباب ٣٨ من أبواب المهور ، الحديث ٢.

(٤) راجع الخلاف ٣ : ١٥٧ ١٥٨ ، ذيل المسألة ٢٤٩ من كتاب البيوع ، والمختلف ٥ : ٢٩٨ ٢٩٩ ، والتذكرة ١ : ٤٩٣.

(٥) السنن الكبرى للبيهقي ١٠ : ٢٩٥ ، وكنز العمّال ١٠ : ٣٢٢ ، الحديث ٢٩٦١٥.

٢٢

أو أحلّ حراماً» (١).

وفي صحيحة الحلبي : «كلّ شرطٍ خالف كتاب الله فهو ردٌّ» (٢).

وفي صحيحة ابن سنان : «مَن اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله عزّ وجلّ ، فلا يجوز [له ، ولا يجوز (٣)] على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب الله» (٤).

وفي صحيحته الأُخرى : «المؤمنون عند شروطهم إلاّ كلّ شرطٍ خالف كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز» (٥).

وفي رواية محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام فيمن تزوّج امرأةً (٦) واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق؟ قال : «خالفت السنّة ووليت حقّا ليست أهلاً له. فقضى أنّ عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق ، وذلك السنّة» (٧) ، وفي معناها مرسلة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ومرسلة مروان بن مسلم ، إلاّ أنّ فيهما عدم جواز هذا النكاح (٨).

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٥٠ ، الباب ٤٠ من أبواب المهور ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١٣ : ٤٤ ، الباب ١٥ من أبواب بيع الحيوان ، الحديث الأوّل.

(٣) من «ش» والكافي والوسائل ، وفي التهذيب زيادة «له» فقط.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١٢ : ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ٢ ، ولكن فيه بدل «المؤمنون» : «المسلمون».

(٦) في «ش» زيادة : «وأصدقها».

(٧) الوسائل ١٥ : ٤٠ ٤١ ، الباب ٢٩ من أبواب المهور ، وفيه حديث واحد.

(٨) الوسائل ١٥ : ٣٤٠ ، الباب ٤٢ من أبواب مقدّمات الطلاق ، وفيه حديث واحد ، و ٣٣٧ ، الباب ٤١ من الأبواب ، الحديث ٥ ، إلاّ أنّ الحكم بعدم جواز النكاح موجود في مرسلة مروان فقط.

٢٣

وفي رواية إبراهيم بن محرز ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجلٌ قال لامرأته : أمركِ بيدكِ ، فقال عليه‌السلام : أنّى يكون هذا! وقد قال الله تعالى (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ)» (١).

وعن تفسير العيّاشي ، عن ابن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة تزوّجها رجلٌ ، وشرط عليها وعلى أهلها : إن تزوّج عليها أو هجرها أو أتى عليها سريّةً فهي طالق ، فقال عليه‌السلام : شرط الله قبل شرطكم ، إن شاء وفى بشرطه وإن شاء أمسك امرأته وتزوّج عليها وتسرّى وهجرها إن أتت بسبب ذلك ، قال الله تعالى (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ) (٢) ، (٣) (أُحِلَّ لَكُمْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ) (٤) ، (وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ..) (٥) الآية» (٦).

المراد ب «كتاب الله»

ثمّ الظاهر أنّ المراد ب «كتاب الله» هو ما كتب الله على عباده من أحكام الدين وإن بيّنه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاشتراط ولاء المملوك لبائعه إنّما جعل في النبويّ مخالفاً لكتاب الله بهذا المعنى. لكن‌

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٣٧ ، الباب ٤١ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٦ ، والآية في سورة النساء : ٣٤.

(٢) النساء : ٣.

(٣) في «ش» زيادة : «وقال».

(٤) النساء : ٣ ، والآية في المصحف الكريم هكذا (.. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

(٥) النساء : ٣٤.

(٦) تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٠ ، الحديث ١٢١ ، وعنه في الوسائل ١٥ : ٣١ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الحديث ٦.

٢٤

ظاهر النبوي وإحدى صحيحتي ابن سنان اشتراط موافقة كتاب الله في صحّة الشرط ، وأنّ ما ليس فيه أو لا يوافقه فهو باطلٌ.

المراد بـ «موافقة الكتاب» في بعض الاخبار

ولا يبعد أن يراد بالموافقة عدم المخالفة ؛ نظراً إلى موافقة ما لم يخالف كتاب الله بالخصوص لعموماته المرخّصة للتصرّفات الغير المحرّمة في النفس والمال ، فخياطة ثوب البائع مثلاً موافقٌ للكتاب بهذا المعنى.

المتّصف بمخالفة الكتاب إمّا الملتزم أو نفس الالتزام

ثمّ إنّ المتّصف بمخالفة الكتاب إمّا نفس المشروط والملتزَم ككون الأجنبيّ وارثاً وعكسه ، وكون الحرّ أو ولده رقّاً ، وثبوت الولاء لغير المعتِق ، ونحو ذلك وإمّا أن يكون التزامه ، مثلاً مجرّد عدم التسرّي والتزويج (١) على المرأة ليس مخالفاً للكتاب ، وإنّما المخالف الالتزام به ، فإنّه مخالفٌ لإباحة التسرّي والتزويج الثابتة بالكتاب.

وقد يقال : إنّ التزام ترك المباح لا ينافي إباحته ، فاشتراط ترك التزويج والتسرّي لا ينافي الكتاب ، فينحصر المراد في المعنى الأوّل.

وفيه : أنّ ما ذكر لا يوجب الانحصار ، فإنّ التزام ترك المباح وإن لم يخالف الكتاب المبيح له ، إلاّ أنّ التزام فعل الحرام يخالف الكتاب المحرِّم له ، فيكفي هذا مصداقاً لهذا المعنى ، مع أنّ الرواية المتقدّمة (٢) الدالّة على كون اشتراط ترك التزويج والتسرّي مخالفاً للكتاب مستشهداً عليه بما دلّ من الكتاب على إباحتهما كالصريحة في هذا المعنى ، وما سيجي‌ء (٣) من تأويل الرواية بعيدٌ ، مع أنّ قوله عليه‌السلام في‌

__________________

(١) في «ش» : «التزوّج» ، وهكذا فيما يأتي.

(٢) راجع الصفحة المتقدّمة.

(٣) انظر الصفحة ٢٧ ٢٨.

٢٥

رواية إسحاق بن عمّار : «المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (١) ظاهرٌ بل صريحٌ في فعل الشارط ؛ فإنّه الذي يرخّص باشتراطه الحرام الشرعي ، ويمنع باشتراطه عن المباح الشرعي ؛ إذ المراد من التحريم والإحلال ما هو من فعل الشارط لا الشارع. وأصرح من ذلك كلّه المرسل المرويّ في الغنية : «الشرط جائزٌ بين المسلمين ما لم يمنع منه كتابٌ أو سنّة» (٢).

المراد بحكم الكتاب والسنّة

انقسام الحکم الشرع إلى قسمن

ثمّ إنّ المراد بحكم الكتاب والسنّة الذي يعتبر عدم مخالفة المشروط أو نفس الاشتراط له هو ما ثبت على وجهٍ لا يقبل تغيّره بالشرط لأجل تغيّر موضوعه بسبب الاشتراط.

١ ـ ما يثبت للشيء من حيث نفسه

توضيح ذلك : أنّ حكم الموضوع قد يثبت له من حيث نفسه ومجرّداً عن ملاحظة عنوانٍ آخر طارٍ عليه ، ولازم ذلك عدم التنافي بين ثبوت هذا الحكم وبين ثبوت حكمٍ آخر له إذا فرض عروض عنوانٍ آخر لذلك الموضوع. ومثال ذلك أغلب المباحات والمستحبّات والمكروهات بل جميعها ؛ حيث إنّ تجوّز (٣) الفعل والترك إنّما هو من حيث ذات الفعل ، فلا ينافي طروّ عنوانٍ يوجب المنع عن الفعل أو الترك ، كأكل اللحم ؛ فإنّ الشرع قد دلّ على إباحته في نفسه ، بحيث لا ينافي عروض التحريم له إذا حلف على تركه أو أمر الوالد بتركه ، أو عروض الوجوب له إذا صار مقدّمةً لواجبٍ أو نَذَرَ فعله مع انعقاده.

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٢.

(٢) الغنية : ٣١٥.

(٣) كذا في «ق» ، وفي «ش» : «تجويز» ، والأصحّ : «جواز».

٢٦

٢ ـ ما يثبت له لا مع تجرّده عن ملاحظة العنوانات الطارئة

وقد يثبت له لا مع تجرّده عن ملاحظة العنوانات الخارجة الطارية عليه ، ولازم ذلك حصول التنافي بين ثبوت هذا الحكم وبين ثبوت حكمٍ آخر له ، وهذا نظير أغلب المحرّمات والواجبات ، فإنّ الحكم بالمنع عن الفعل أو الترك مطلقٌ لا مقيّدٌ بحيثيّة تجرّد الموضوع ، إلاّ عن بعض العنوانات كالضرر والحرج ، فإذا فرض ورود حكمٍ آخر من غير جهة الحرج والضرر فلا بدّ من وقوع التعارض بين دليلي الحكمين ، فيعمل بالراجح بنفسه أو بالخارج.

القسم الأوّل من الشروط ليس مخالفاً للكتاب

إذا عرفت هذا فنقول : الشرط إذا ورد على ما كان من قبيل الأوّل لم يكن الالتزام بذلك مخالفاً للكتاب ؛ إذ المفروض أنّه لا تنافي بين حكم ذلك الشي‌ء في الكتاب والسنّة وبين دليل الالتزام بالشرط ووجوب الوفاء به.

وإذا ورد على ما كان من قبيل الثاني كان التزامه مخالفاً للكتاب والسنّة.

ظاهر مورد بعض الأخبار المتقدّمة من قبيل الأوّل وتوجيهه

ولكن ظاهر مورد بعض الأخبار المتقدّمة من قبيل الأوّل ، كترك التزويج (١) وترك التسرّي ، فإنّهما مباحان من حيث أنفسهما ، فلا ينافي ذلك لزومهما بواسطة العنوانات الخارجة ، كالحلف والشرط وأمر السيّد والوالد.

وحينئذٍ فيجب إمّا جعل ذلك الخبر كاشفاً عن كون ترك الفعلين في نظر الشارع من الجائز الذي لا يقبل اللزوم بالشرط وإن كان في أنظارنا نظير ترك أكل اللحم والتمر وغيرهما من المباحات القابلة لطروّ‌

__________________

(١) في «ش» : «التزوّج».

٢٧

عنوان التحريم (١).

وإمّا الحمل على أنّ هذه الأفعال ممّا لا يجوز تعلّق وقوع الطلاق عليها وأنّها لا توجب الطلاق كما فعله الشارط ، فالمخالف للكتاب هو ترتّب طلاق المرأة ؛ إذ الكتاب دالّ على إباحتها وأنّه (٢) ممّا لا يترتّب عليه حرجٌ ولو من حيث خروج المرأة بها عن زوجيّة الرجل.

ويشهد لهذا الحمل وإن بَعُد بعضُ الأخبار الظاهرة في وجوب الوفاء بمثل هذا الالتزام ، مثل رواية منصور بن يونس ، قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّ شريكاً لي كان تحته امرأة فطلّقها فبانت منه فأراد مراجعتها ، فقالت له المرأة : لا والله لا أتزوّجك أبداً حتّى يجعل الله لي عليك أن لا تطلّقني ولا تتزوّج عليَّ ، قال : وقد فعل؟ قلت : نعم ، جعلني الله فداك! قال : بئس ما صنع! ما كان يدري ما يقع في قلبه بالليل والنهار. ثمّ قال : أمّا الآن فقل له : فليتمّ للمرأة شرطها ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : المسلمون عند شروطهم» (٣) ، فيمكن حمل رواية محمّد بن قيس (٤) على إرادة عدم سببيّته للطلاق بحكم الشرط ، فتأمّل.

__________________

(١) في «ش» زيادة : «لكن يبعّده استشهاد الإمام عليه‌السلام لبطلان تلك الشروط بإباحة ذلك في القرآن ، وهو في معنى إعطاء الضابطة لبطلان الشروط».

(٢) كذا في «ق» ، وفي «ش» : «وأنّها».

(٣) الكافي ٥ : ٤٠٤ ، الحديث ٨ ، وعنه في الوسائل ١٥ : ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ذيل الحديث ٤ ، وفي المصادر : «منصور بن بزرج» وهو متّحد مع «منصور بن يونس» ، وفي رجال النجاشي : «منصور بن يونس بُزُرْج». انظر رجال النجاشي : ٤١٣ ، الترجمة رقم ١١٠.

(٤) تقدّمت في الصفحة ٢٣.

٢٨

ثمّ إنّه لا إشكال فيما ذكرنا : من انقسام الحكم الشرعي إلى القسمين المذكورين وأنّ المخالف للكتاب هو الشرط الوارد على القسم الثاني لا الأوّل.

الإشكال في تميّز مصاديق القسمين في كثير من المقامات

وإنّما الإشكال في تميّز مصداق أحدهما عن الآخر في كثيرٍ من المقامات :

منها : كون مَن أحدُ أبويه حرٌّ رقّاً ، فإنّ ما دلّ على أنّه لا يُملَك ولدُ حرٍّ (١) قابلٌ لأن يراد به عدم رقّية ولد الحرّ بنفسه ، بمعنى أنّ الولد ينعقد لو خلي وطبعه تابعاً لأشرف الأبوين ، فلا ينافي جعله رِقّاً بالشرط في ضمن عقدٍ. وأن يراد به أنّ ولد الحرّ لا يمكن أن يصير في الشريعة رِقّاً ، فاشتراطه اشتراطٌ لما هو مخالفٌ للكتاب والسنّة الدالّين على هذا الحكم.

ومنها : إرث المتمتَّع بها ، هل هو قابلٌ للاشتراط في ضمن عقد المتعة أو عقدٍ آخر ، أم لا؟ فإنّ الظاهر الاتّفاق على عدم مشروعيّة اشتراطه في ضمن عقدٍ آخر ، وعدم مشروعيّة اشتراط إرث أجنبيٍّ آخر في ضمن عقدٍ مطلقاً. فيشكل الفرق حينئذٍ بين أفراد غير الوارث وبين أفراد العقود ، وجعل ما حكموا بجوازه (٢) مطابقاً للكتاب وما منعوا عنه مخالفاً. إلاّ أن يدّعى أنّ هذا الاشتراط مخالفٌ للكتاب إلاّ في هذا المورد ، أو أنّ الشرط المخالف للكتاب ممنوعٌ إلاّ في هذا المورد. ولكن‌

__________________

(١) راجع الوسائل ١٤ : ٥٧٨ و ٥٧٩ ، الباب ٦٧ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٢ و ٥.

(٢) في «ش» زيادة : «مطلقاً».

٢٩

عرفت وَهْن الثاني ، والأوّل يحتاج إلى تأمّل.

ومنها : أنّهم اتّفقوا على جواز اشتراط الضمان في العارية واشتهر عدم جوازه في عقد الإجارة ، فيشكل أنّ مقتضى أدلّة عدم ضمان الأمين (١) عدم ضمانه في نفسه من غير إقدامٍ عليه ، بحيث لا ينافي إقدامه على الضمان من أوّل الأمر ، أو عدم مشروعيّة ضمانه وتضمينه ولو بالأسباب ، كالشرط في ضمن ذلك العقد الأمانة (٢) أو غير ذلك.

ومنها : اشتراط أن لا يخرج بالزوجة إلى بلدٍ آخر ، فإنّهم اختلفوا في جوازه ، والأشهر على الجواز (٣) ، وجماعةٌ على المنع (٤) من جهة مخالفته للشرع من حيث وجوب إطاعة الزوج وكون مسكن الزوجة ومنزلها باختياره ، وأورد عليهم بعض المجوّزين (٥) : بأنّ هذا جارٍ في جميع‌

__________________

(١) منها في الوسائل ١٣ : ٢٢٧ ، الباب ٤ من أحكام الوديعة ، و ٢٣٥ ، الباب الأوّل من كتاب العارية.

(٢) في «ش» : «في ضمن عقد تلك الأمانة».

(٣) كما في نهاية المرام ١ : ٤٠٦ ، وذهب إليه الشيخ في النهاية : ٤٧٤ ، والقاضي في المهذّب ٢ : ٢١٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٢٩٧ ، والمحقّق في المختصر النافع : ١٩٠ ، والعلاّمة في المختلف ٧ : ١٥٣ ، والفاضل الأصفهاني في كشف اللثام (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٨٢ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ٢٤ : ٥٣٧.

(٤) منهم الشيخ في المبسوط ٤ : ٣٠٣ ، والخلاف ٤ : ٣٨٨ ، المسألة ٣٢ من كتاب الصداق ، والحلّي في السرائر ٢ : ٥٩٠ ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ١٣ : ٣٩٩.

(٥) وهو السيّد العاملي في نهاية المرام ١ : ٤٠٧ ، والسيّد الطباطبائي في الرياض (الطبعة الحجريّة) ٢ : ١٤٧.

٣٠

الشروط السائغة ، من حيث إنّ الشرط ملزمٌ لما ليس بلازمٍ فعلاً أو تركاً.

موارد الإشكال كثيرة

وبالجملة ، فموارد الإشكال في تميّز الحكم الشرعي القابل لتغيّره بالشرط بسبب تغيّر عنوانه عن غير القابل كثيرةٌ يظهر للمتتبّع ، فينبغي للمجتهد ملاحظة الكتاب والسنّة الدالّين على الحكم الذي يراد تغيّره بالشرط والتأمّل فيه حتّى يحصل له التميّز ويعرف أنّ المشروط من قبيل ثبوت الولاء لغير المعتق المنافي لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولاء لمن أعتق» (١) أو من قبيل ثبوت الخيار للمتبايعين الغير المنافي لقوله عليه‌السلام : «إذا افترقا وجب البيع» (٢) أو عدمه لهما في المجلس مع قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٣) إلى غير ذلك من الموارد المتشابهة صورةً المخالفة حكماً.

الأصل عدم المخالفة عند عدم التميّز

فإن لم يحصل له بنى على أصالة عدم المخالفة ، فيرجع إلى عموم : «المؤمنون عند شروطهم» (٤) والخارج عن هذا العموم وإن كان هو المخالف واقعاً للكتاب والسنّة ، لا ما علم مخالفته ، إلاّ أنّ البناء على أصالة عدم المخالفة يكفي في إحراز عدمها واقعاً ، كما في سائر مجاري الأُصول ، ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم ثبوت هذا الحكم على وجهٍ لا يقبل تغيّره بالشرط.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٤٠ ، الباب ٣٧ من كتاب العتق ، الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٤٦ ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ١٢ : ٣٤٦ ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث ٣.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ذيل الحديث ٤.

٣١

مثلاً نقول : إنّ الأصل عدم ثبوت الحكم بتسلّط الزوج على الزوجة من حيث المسكن إلاّ (١) من حيث هو لو خلي وطبعه ، ولم يثبت في صورة إلزام الزوج على نفسه بعض خصوصيّات المسكن.

لكن هذا الأصل إنّما ينفع بعد عدم ظهور الدليل الدالّ على الحكم في إطلاقه بحيث يشمل صورة الاشتراط ، كما في أكثر الأدلّة المتضمّنة للأحكام المتضمّنة للرخصة والتسليط ، فإنّ الظاهر سوقها في مقام بيان حكم الشي‌ء من حيث هو ، الذي لا ينافي طروّ خلافه لملزمٍ شرعيٍّ ، كالنذر وشبهه من حقوق الله ، والشرط وشبهه من حقوق الناس. أمّا ما كان ظاهره العموم ، كقوله : «لا يُملك ولدُ حرٍّ» (٢) فلا مجرى فيه لهذا الأصل.

ثمّ إنّ بعض مشايخنا المعاصرين (٣) بعد ما خصّ الشرط المخالف للكتاب ، الممنوع عنه في الأخبار بما كان الحكم المشروط مخالفاً للكتاب ، وأنّ التزام فعل المباح أو الحرام أو ترك المباح أو الواجب خارجٌ عن مدلول تلك الأخبار ذكر : أنّ المتعيّن في هذه الموارد ملاحظة التعارض بين ما دلّ على حكم ذلك الفعل وما دلّ على وجوب الوفاء بالشرط ، ويُرجع إلى المرجّحات ، وذكر : أنّ [المرجّح] (٤) في مثل اشتراط شرب الخمر هو الإجماع ، قال : وما لم يكن فيه مرجّحٌ‌

__________________

(١) في «ش» : «لا».

(٢) الوسائل ١٤ : ٥٧٩ ، الباب ٦٧ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث ٥.

(٣) في «ق» زيادة : «ذكر».

(٤) لم يرد في «ق».

٣٢

يُعمل فيه بالقواعد والأُصول (١).

المناقشة في ما أفاده الفاضل النراقي

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، مع أنّ اللازم على ذلك الحكم بعدم لزوم الشرط بل عدم صحّته في جميع موارد عدم الترجيح ؛ لأنّ الشرط إن كان فعلاً لما يجوز (٢) تركه كان اللازم مع تعارض أدلّة وجوب الوفاء بالشرط وأدلّة جواز ترك ذلك الفعل مع فقد المرجّح الرجوع إلى أصالة عدم وجوب الوفاء بالشرط ، فلا يلزم ، بل لا يصحّ. وإن كان فعلَ محرّمٍ أو تركَ واجبٍ ، لزم الرجوع إلى أصالة بقاء الوجوب والتحريم الثابتين قبل الاشتراط.

فالتحقيق ما ذكرنا : من أنّ من الأحكام المذكورة في الكتاب والسنّة ما يقبل التغيير بالشرط لتغيير عنوانه ، كأكثر ما رُخّص في فعله وتركه ، ومنها ما لا يقبله ، كالتحريم وكثيرٍ من موارد الوجوب.

حكومة أدلّة الشروط على القسم الأوّل دون الثاني

وأدلّة الشروط حاكمةٌ على القسم الأوّل دون الثاني ، فإنّ اشتراطه مخالفٌ لكتاب الله ، كما عرفت وعرفت حكم صورة الشكّ.

وقد تفطّن قدس‌سره لما ذكرنا في حكم القسم الثاني وأنّ الشرط فيه مخالفٌ للكتاب بعض التفطّن ، بحيث كاد أن يرجع عمّا ذكره أوّلاً من التعارض بين أدلّة وجوب الوفاء بالشرط وأدلّة حرمة شرب الخمر ، فقال : ولو جعل هذا الشرط من أقسام الشرط المخالف للكتاب والسنّة كما يطلق عليه عرفاً لم يكن بعيداً ، انتهى (٣).

__________________

(١) ذكره المحقّق النراقي في العوائد : ١٥١.

(٢) لم ترد «لما» في «ش».

(٣) عوائد الأيّام : ١٥١.

٣٣

المراد من تحريم الحلال وتحليل الحرام

وممّا ذكرنا : من انقسام الأحكام الشرعيّة المدلول عليها في الكتاب والسنّة على قسمين ، يظهر لك معنى قوله عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ـ : «المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (١) ، فإنّ المراد ب «الحلال» و «الحرام» فيها ما كان كذلك بظاهر دليله حتّى مع الاشتراط ، نظير شرب الخمر وعمل الخشب صنماً أو صورة حيوانٍ ، ونظير مجامعة الزوج التي دلّ بعض الأخبار السابقة (٢) على عدم ارتفاع حكمها أعني الإباحة متى أراد الزوج باشتراط كونها بيد المرأة ، ونظير التزويج (٣) والتسرّي والهجر ، حيث دلّ بعض تلك الأخبار (٤) على عدم ارتفاع إباحتها باشتراط تركها معلّلاً بورود الكتاب العزيز بإباحتها.

أمّا ما كان حلالاً لو خُلي وطبعه بحيث لا ينافي حرمته أو وجوبه بملاحظة طروّ عنوانٍ خارجيٍّ عليه ، أو كان حراماً كذلك ، فلا يلزم من اشتراط فعله أو تركه إلاّ تغيّر عنوان الحلال والحرام الموجب لتغيّر الحلّ والحرمة ، فلا يكون حينئذٍ تحريم حلالٍ ولا تحليل حرامٍ.

ألا ترى أنّه لو نهى السيّد عبده أو الوالد ولده عن فعلٍ مباح ، أعني : مطالبة غريمٍ (٥) ما لَه في ذمّة غريمه ، أو حلف المكلّف على تركه ،

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٢٢.

(٢) مثل رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في الصفحة ٢٣.

(٣) في «ش» : «التزوّج».

(٤) وهو خبر ابن مسلم المنقول عن تفسير العيّاشي المتقدّم في الصفحة ٢٤.

(٥) لم ترد «غريم» في «ش».

٣٤

لم يكن الحكم بحرمته شرعاً من حيث طروّ عنوان «معصية السيّد والوالد» وعنوان «حنث اليمين» عليه تحريماً لحلالٍ ، فكذلك ترك ذلك الفعل في ضمن عقدٍ يجب الوفاء به.

وكذلك امتناع الزوجة عن الخروج مع زوجها إلى بلدٍ آخر محرّمٌ في نفسه ، وكذلك امتناعها عن المجامعة ، ولا ينافي ذلك حلّيتها باشتراط عدم إخراجها عن بلدها ، أو باشتراط عدم مجامعتها ، كما في بعض النصوص (١).

وبالجملة ، فتحريم الحلال وتحليل الحرام إنّما يلزم مع معارضة أدلّة الوفاء بالشرط لأدلّة أصل الحكم حتّى يستلزم وجوب الوفاء مخالفة ذلك وطرح دليله. أمّا إذا كان دليل الحكم لا يفيد إلاّ ثبوته لو خُلي الموضوع وطبعه ، فإنّه لا يعارضه ما دلّ على ثبوت ضدّ ذلك الحكم إذا طرأ على الموضوع عنوانٌ (٢) لم يثبت ذلك الحكم له إلاّ مجرّداً عن ذلك العنوان.

الاشكال في استثناء الشرط المحرّم للحلال

ثمّ إنّه يشكل الأمر في استثناء الشرط المحرِّم للحلال ، على ما ذكرنا في معنى الرواية : بأنّ أدلّة حلّية أغلب المحلَّلات بل كلّها إنّما تدلّ على حلّيتها في أنفسها لو خُلّيت وأنفسها ، فلا تنافي حرمتها من أجل الشرط ، كما قد تُحرَّم من أجل النذر وأخويه ، ومن جهة إطاعة الوالد والسيّد ، ومن جهة صيرورتها علّةً للمحرَّم ، وغير ذلك من‌

__________________

(١) راجع الوسائل ١٥ : ٤٩ ، الباب ٤٠ من أبواب المهور ، الحديث ١ و ٣ ، والصفحة ٤٥ ، الباب ٣٦ من أبواب المهور ، الحديث الأوّل.

(٢) في «ش» زيادة : «آخر».

٣٥

العناوين الطارئة لها.

نعم ، لو دلّ دليل حِلّ شي‌ءٍ على حِلّه المطلق (١) نظير دلالة أدلّة المحرَّمات ، بحيث لا يقبل لطروّ (٢) عنوانٍ مغيِّرٍ عليه أصلاً ، أو خصوص الشرط من بين العناوين ، أو دلّ (٣) من الخارج على كون ذلك الحلال كذلك كما دلّ بعض الأخبار بالنسبة إلى بعض الأفعال كالتزويج والتسرّي (٤) وترك الجماع من دون إرادة الزوجة (٥) كان مقتضاه فساد اشتراط خلافه. لكن دلالة نفس دليل الحلّية على ذلك لم توجد في موردٍ ، والوقوف مع الدليل الخارجي (٦) الدالّ على فساد الاشتراط يُخرج الرواية عن سوقها لبيان ضابطة الشروط عند الشكّ ؛ إذ مورد الشكّ حينئذٍ محكومٌ بصحّة الاشتراط.

ومورد ورود الدليل على عدم تغيّر حِلّ الفعل باشتراط تركه مستغنٍ عن الضابطة ، مع أنّ الإمام علّل فساد الشرط في هذه الموارد بكونه محرِّماً للحلال ، كما عرفت في الرواية التي تقدّمت في عدم صحّة اشتراط عدم التزويج (٧) والتسرّي ، معلّلاً بكونه مخالفاً للكتاب الدالّ على‌

__________________

(١) في «ش» : «الحلّية المطلقة».

(٢) في «ش» : «طروّ».

(٣) في «ش» زيادة : «الدليل».

(٤) في «ش» : «كالتسرّي والتزوّج».

(٥) راجع للتزويج والتسري الخبر المتقدّم في الصفحة ٢٤ عن تفسير العياشي ، وراجع لترك الجماع رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في الصفحة ٢٣.

(٦) في «ش» : «الخارج».

(٧) في «ش» : «التزوّج».

٣٦

إباحتها (١).

عدم ورود الاشكال في الشرط المحلّل للحرام

نعم ، لا يرد هذا الإشكال في طرف تحليل الحرام ؛ لأنّ أدلّة المحرّمات قد عُلم دلالتها على التحريم على وجهٍ لا تتغيّر (٢) بعنوان الشرط والنذر وشبههما ، بل نفس استثناء الشرط المحلِّل للحرام عمّا يجب الوفاء به دليلٌ على إرادة الحرام في نفسه لولا الشرط.

وليس كذلك في طرف المحرِّم للحلال ، فإنّا قد علمنا أن ليس المراد الحلال لولا الشرط ؛ لأنّ تحريم «المباحات لولا الشرط» لأجل الشرط فوق حدّ الإحصاء ، بل اشتراط كلِّ شرطٍ عدا فعل الواجبات وترك المحرّمات مستلزمٌ لتحريم الحلال فعلاً أو تركاً.

توهّم اختصاص الاشكال بما دلّ على الاباحة التكليفيّة

وربما يتخيّل : أنّ هذا الإشكال مختصٌّ بما دلّ على الإباحة التكليفيّة ، كقوله : «تحلّ كذا وتباح كذا» أمّا الحلّية التي تضمّنها الأحكام الوضعيّة كالحكم بثبوت الزوجيّة أو الملكيّة أو الرقّية ، أو أضدادها فهي أحكامٌ (٣) لا تتغيّر لعنوانٍ أصلاً ، فإنّ الانتفاع بالملك في الجملة والاستمتاع بالزوجة والنظر إلى أُمّها وبنتها من المباحات التي لا تقبل التغيير ؛ ولذا ذكر في مثال الصلح المحرِّم للحلال : أن لا ينتفع بماله أو لا يطأ جاريته.

وبعبارةٍ اخرى : ترتّب آثار الملكيّة على الملك في الجملة وآثار الزوجيّة على الزوج كذلك ، من المباحات التي لا تتغيّر عن إباحتها ،

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٢٤.

(٢) في «ش» : «لا يتغيّر».

(٣) في «ق» : «حكم».

٣٧

وإن كان ترتّب بعض الآثار قابلاً لتغيّر حكمه إلى التحريم ، كالسكنى فيما (١) اشترط إسكان البائع فيه مدّةً ، وإسكان الزوجة في بلدٍ اشترط أن لا يخرج إليه ، أو وطأها مع اشتراط عدم وطئها أصلاً ، كما هو المنصوص (٢).

دفع التوهّم المذكور

ولكنّ الإنصاف : أنّه كلامٌ غير منضبط ؛ فإنّه كما جاز تغيّر إباحة بعض الانتفاعات كالوطء في النكاح ، والسكنى في البيع إلى التحريم لأجل الشرط ، كذلك يجوز تغيّر إباحة سائرها إلى الحرمة. فليس الحكم بعدم (٣) إباحة مطلق التصرّف في الملك والاستمتاع بالزوجة لأجل الشرط إلاّ لإجماعٍ (٤) أو لمجرّد الاستبعاد ، والثاني غير معتدٍّ به ، والأوّل يوجب ما تقدّم : من عدم الفائدة في بيان هذه الضابطة ، مع أنّ هذا العنوان أعني تحريم الحلال وتحليل الحرام إنّما وقع مستثنى في أدلّة انعقاد اليمين ، وورد : أنّه لا يمين في تحليل الحرام وتحريم الحلال (٥) ، وقد ورد بطلان الحلف على ترك شرب العصير المباح دائماً ، معلّلاً : بأنّه ليس لك أن تحرّم ما أحلّ الله (٦). ومن المعلوم أنّ إباحة العصير لم تثبت من الأحكام الوضعيّة ، بل هي من الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة.

__________________

(١) في «ش» زيادة : «لو».

(٢) تقدّم تخريجه في الصفحة ٣٥.

(٣) في «ش» زيادة : «تغيّر».

(٤) في «ش» : «للإجماع».

(٥) راجع الوسائل ١٦ : ١٣٠ ، الباب ١١ من أبواب الأيمان ، الحديث ٦ و ٧.

(٦) راجع الوسائل ١٦ : ١٤٨ ، الباب ١٩ من أبواب الأيمان ، الحديث ٢.

٣٨

وبالجملة ، فالفرق بين التزويج (١) والتسرّي اللذين ورد عدم جواز اشتراط تركهما معلّلاً : بأنّه خلاف الكتاب الدالّ على إباحتهما ، وبين ترك الوطء الذي ورد جواز اشتراطه ، وكذا بين ترك شرب العصير المباح الذي ورد عدم جواز الحلف عليه معلّلاً : بأنّه من تحريم الحلال ، وبين ترك بعض المباحات المتّفق على جواز الحلف عليه ، في غاية الإشكال.

ما أفاده الفاضل النراقي في تفسير الشرط المحرّم للحلال

وربما قيل (٢) في توجيه الرواية وتوضيح معناها : إنّ معنى قوله : «إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» إمّا أن يكون : «إلاّ شرطاً حرّم وجوبُ الوفاء به الحلالَ» ، وإمّا أن يكون : «إلاّ شرطاً حرّم ذلك الشرط الحلالَ» ، والأوّل مخالفٌ لظاهر العبارة ، مع مناقضته لما استشهد به الإمام عليه‌السلام في رواية منصور بن يونس المتقدّمة (٣) الدالّة على وجوب الوفاء بالتزام عدم الطلاق والتزويج (٤) بل يلزم كون الكلّ لغواً ؛ إذ ينحصر مورد «المسلمون عند شروطهم» باشتراط الواجبات واجتناب المحرّمات ، فيبقى الثاني ، وهو ظاهر الكلام ، فيكون معناه : «إلاّ شرطاً حرّم ذلك الشرطُ الحلالَ» ، بأن يكون المشروط هو حرمة الحلال.

ثمّ قال : فإن قيل : إذا شرط عدم فعله (٥) فيجعله حراماً عليه. قلنا : لا نريد أنّ معنى الحرمة طلب الترك من المشترط بل جعله‌

__________________

(١) في «ش» : «التزوّج».

(٢) قاله النراقي في العوائد : ١٤٨ ١٥٠.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٢٨.

(٤) في «ش» : «التزوّج».

(٥) في «ش» زيادة : «فلا يرضى بفعله».

٣٩

حراماً واقعاً (١) أي مطلوب الترك شرعاً ، ولا شكّ أنّ شرط عدم فعلٍ بل نهيَ شخصٍ عن فعلٍ لا يجعله حراماً شرعيّاً.

ثمّ قال : فإن قيل : الشرط من حيث هو مع قطع النظر عن إيجاب الشارع الوفاء لا يوجب تحليلاً وتحريماً شرعاً فلا يحرّم ولا يحلّل.

قلنا : إن أُريد أنّه لا يوجب تحليلاً ولا تحريماً شرعيّين واقعاً فهو كذلك ، وإن أُريد أنّه لا يوجب تحليلاً ولا تحريماً شرعيّاً بحكم الشرط فهو ليس كذلك ، بل حكم الشرط ذلك ، وهذا معنى تحريم الشرط وتحليله. وعلى هذا فلا إجمال في الحديث ولا تخصيص ، ويكون [الشرط (٢)] في ذلك كالنذر والعهد واليمين ، فإنّ من نذر أن لا يأكل المال المشتبه ينعقد ، ولو نذر أن يكون المال المشتبه حراماً عليه شرعاً أو يحرّم ذلك على نفسه شرعاً لم ينعقد (٣) ، انتهى.

المناقشة في ما أفاده الفاضل النراقي

أقول : لا أفهم معنىً محصّلاً لاشتراط حرمة الشي‌ء أو حلّيته شرعاً ، فإنّ هذا أمرٌ غير مقدورٍ للمشترط ولا يدخل تحت الجعل ، فهو داخلٌ في غير المقدور. ولا معنى لاستثنائه عمّا يجب الوفاء به ؛ لأنّ هذا لا يمكن عقلاً الوفاء به ، إذ ليس فعلاً خصوصاً للمشترط ، وكذلك الكلام في النذر وشبهه.

والعجب منه قدس‌سره! حيث لاحظ ظهور الكلام في كون المحرِّم والمحلِّل نفس الشرط ، ولم يلاحظ كون الاستثناء من الأفعال التي يعقل‌

__________________

(١) في «ش» بدل «واقعاً» : «ذاتيّاً».

(٢) أثبتناه من المصدر.

(٣) انتهى ما قاله المحقّق النراقي.

٤٠