كتاب المكاسب - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٤
ISBN: 964-5662-15-X
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٤٨

مسألة

المسقط الثاني إسقاط هذا الخيار بعد العقد

ومن المسقطات : إسقاط هذا الخيار بعد العقد ، بل هذا هو المسقط الحقيقي. ولا خلاف ظاهراً في سقوطه بالإسقاط ، ويدلّ عليه بعد الإجماع فحوى ما سيجي‌ء (١) : من النصّ الدالّ على سقوط الخيار بالتصرّف ، معلّلاً بأنّه رضي بالبيع ؛ مضافاً إلى القاعدة المسلّمة : من أنّ لكلّ ذي حقٍّ إسقاط حقّه ، ولعلّه لفحوى تسلّط الناس على أموالهم ، فهم أولى بالتسلّط على حقوقهم المتعلّقة بالأموال ، ولا معنى لتسلّطهم على مثل هذه الحقوق الغير القابلة للنقل ، إلاّ نفوذ تصرّفهم فيها بما يشمل الإسقاط.

ويمكن الاستدلال له بدليل الشرط لو فرض شموله للالتزام الابتدائي.

سقوط الخيار بكلّ لفظٍ يدلّ عليه

ثمّ إنّ الظاهر سقوط الخيار بكلّ لفظٍ يدلّ عليه بإحدى الدلالات العرفيّة ، للفحوى المتقدّمة (٢) ، وفحوى ما دلّ على كفاية بعض الأفعال‌

__________________

(١) يجي‌ء في الصفحة ٨٢ و ٩٧.

(٢) يعني : ما ذكره آنفاً من فحوى سقوط الخيار بالتصرّف.

٦١

في إجازة عقد الفضولي (١) ، وصدق «الإسقاط» النافذ بمقتضى ما تقدّم من التسلّط على إسقاط الحقوق ؛ وعلى هذا فلو قال أحدهما : «أسقطت الخيار من الطرفين» فرضي الآخر سقط خيار الراضي أيضاً ، لكون رضاه بإسقاط الآخر خيارَه إسقاطاً أيضاً.

__________________

(١) مثل : ما دلّ على أنّ سكوت البكر إجازة لنكاحها الفضولي ، وسكوت المولى إجازة لنكاح العبد ، راجع الوسائل ١٤ : ٢٠٦ ، الباب ٥ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، و ٥٢٥ ، الباب ٢٦ من أبواب نكاح العبيد والإماء.

٦٢

مسألة

لو قال أحدهما لصاحبه : «اختر»

لو قال أحدهما لصاحبه : «اختر» ، فإن اختار المأمور الفسخ ، فلا إشكال في انفساخ العقد.

وإن اختار الإمضاء ، ففي سقوط خيار الآمر أيضاً مطلقاً كما عن ظاهر الأكثر (١) ، بل عن الخلاف : الإجماع عليه (٢) أو بشرط إرادته تمليك الخيار لصاحبه ، وإلاّ فهو باقٍ مطلقاً (٣) كما هو ظاهر التذكرة (٤) أو مع قيد إرادة الاستكشاف دون التفويض ويكون حكم التفويض كالتمليك ، أقوال.

ولو سكت ، فخيار الساكت باقٍ إجماعاً ، ووجهه واضح. وأمّا‌

__________________

(١) لم نقف على من نسبه إلى ظاهر الأكثر ، نعم قال في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٤٤ : «كما في المبسوط والخلاف والغنية والتحرير والتذكرة والدروس وغيرها ، وفي الغنية وظاهر الخلاف الإجماع عليه».

(٢) حكاه السيّد العاملي عن ظاهر الخلاف ، وهو الحقّ ؛ لأنّ عبارته ليست صريحةً في دعوى الإجماع ، انظر الخلاف ٣ : ٢١ ، المسألة ٢٧ من كتاب البيوع.

(٣) كتب في «ق» فوق «مطلقاً» : «على الإطلاق».

(٤) التذكرة ١ : ٥١٨.

٦٣

خيار الآمر ، ففي بقائه مطلقاً ، أو بشرط عدم إرادته (١) تمليك الخيار كما هو ظاهر التذكرة (٢) ، أو سقوط خياره مطلقاً كما عن الشيخ (٣)؟ أقوالٌ.

والأولى أن يقال : إنّ كلمة «اختر» بحسب وضعه لطلب اختيار المخاطب أحد طرفي العقد من الفسخ والإمضاء ، وليس فيه دلالةٌ على ما ذكروه : من تمليك الخيار أو تفويض الأمر أو استكشاف الحال.

نعم ، الظاهر عرفاً من حال الآمر أنّ داعيه استكشاف حال المخاطب ، وكأنّه في العرف السابق كان ظاهراً في تمليك المخاطب أمر الشي‌ء ، كما يظهر من باب الطلاق (٤) ، فإن تمّ دلالته حينئذٍ على إسقاط الآمر خياره بذلك ، وإلاّ فلا مزيل لخياره. وعليه يحمل على تقدير الصحّة ما ورد في ذيل بعض أخبار خيار المجلس : «أنّهما بالخيار ما لم يفترقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : [اختر (٥)(٦).

__________________

(١) في «ش» : «إرادة».

(٢) التذكرة ١ : ٥١٨.

(٣) قال السيّد العاملي قدس‌سره في هذا المقام : «ومن الغريب! أنّ المحقّق الثاني والشهيد الثاني نسبا هذا القول إلى الشيخ وتبعهما شيخنا صاحب الرياض ، وهو خلاف ما صرّح به في المبسوط والخلاف وخلاف ما حكي عنهما في المختلف والإيضاح» مفتاح الكرامة ٤ : ٥٤٤. ومثله قال المحقّق التستري في المقابس : ٢٤٣ ، راجع المبسوط ٢ : ٨٢ ٨٣ ، والخلاف ٣ : ٢١ ، المسألة ٢٧ من كتاب البيوع ، وانظر جامع المقاصد ٤ : ٢٨٥ ، والمسالك ٣ : ١٩٧.

(٤) انظر الوسائل ١٥ : ٣٣٥ ، الباب ٤١ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(٥) لم يرد في «ق».

(٦) المستدرك ١٣ : ٢٩٩ ، الباب ٢ من أبواب الخيار ، الحديث ٣.

٦٤

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّ إسقاط أحدهما خياره لا يوجب سقوط خيار الآخر. ومنه يظهر : أنّه لو أجاز أحدهما وفسخ الآخر انفسخ العقد ؛ لأنّه مقتضى ثبوت الخيار ، فكان العقد بعد إجازة أحدهما جائزاً من طرف الفاسخ دون المجيز ، كما لو جعل الخيار من أوّل الأمر لأحدهما. وهذا ليس تعارضاً بين الإجازة والفسخ وترجيحاً له عليها.

نعم ، لو اقتضت الإجازة لزوم العقد من الطرفين كما لو فرض ثبوت الخيار من طرف أحد المتعاقدين أو من طرفهما لمتعدّدٍ (كالأصيل والوكيل) فأجاز أحدهما وفسخ الآخر دفعةً واحدة ، أو تصرّف ذو الخيار في العوضين دفعةً واحدة (كما لو باع عبداً بجاريةٍ ، ثمّ أعتقهما جميعاً ، حيث إنّ إعتاق العبد فسخٌ ، وإعتاق الجارية إجازةٌ) أو اختلف الورثة في الفسخ والإجازة تحقّق التعارض. وظاهر العلاّمة في جميع هذه الصور تقديم الفسخ (١) ولم يظهر له وجهٌ تامّ ؛ وسيجي‌ء الإشارة إلى ذلك في موضعه (٢).

__________________

(١) انظر التذكرة ١ : ٥١٨.

(٢) انظر الجزء السادس ، الصفحة ١١٧ وما بعدها.

٦٥

مسألة

المسقط الثالث افتراق المتبايعين

من جملة مسقطات الخيار افتراق المتبايعين ، ولا إشكال في سقوط الخيار به ، ولا في عدم اعتبار ظهوره في رضاهما بالبيع ، وإن كان ظاهر بعض الأخبار ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : «فإذا افترقا فلا خيار لهما بعد الرضا» (١).

معنى الافتراق المسقط

ومعنى حدوث افتراقهما المسقط مع كونهما متفرّقين حين العقد : افتراقهما بالنسبة إلى الهيئة الاجتماعيّة الحاصلة لهما حين العقد ، فإذا حصل الافتراق الإضافي ولو بمسمّاه ارتفع الخيار ، فلا يعتبر الخطوة ؛ ولذا حكي عن جماعةٍ التعبير بأدنى الانتقال (٢).

والظاهر : أنّ ذكره في بعض العبارات لبيان أقلّ الأفراد ، خصوصاً مثل قول الشيخ في الخلاف : «أقلّ ما ينقطع به خيار المجلس خطوة» (٣) ،

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٤٦ ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث ٣.

(٢) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة (٤ : ٥٤٣) عن التحرير وجامع المقاصد والمسالك ، راجع التحرير ١ : ١٦٥ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٨٤ ، والمسالك ٣ : ١٩٦. لكن ليس في الأخيرين تصريح بذلك ، نعم فيهما ما يفيده.

(٣) الخلاف ٣ : ٢١ ، المسألة ٢٦ من كتاب البيوع.

٦٦

مبنيٌّ على الغالب في الخارج أو في التمثيل لأقلّ الافتراق ؛ فلو تبايعا في سفينتين متلاصقتين كفى مجرّد افتراقهما.

ويظهر من بعضٍ (١) : اعتبار الخطوة ، اغتراراً بتمثيل كثيرٍ من الأصحاب. وعن صريح آخر (٢) : التأمّل في كفاية الخطوة ؛ لانصراف الإطلاق إلى أزيد منها (٣) ، فيستصحب الخيار. ويؤيّده قوله عليه‌السلام في بعض الروايات : «فلمّا استوجبتها قمت فمشيت خُطىً ليجب البيع حين افترقنا» (٤) ، وفيه : منع الانصراف ودلالة الرواية.

ما يحصل به الافتراق

ثمّ اعلم أنّ الافتراق على ما عرفت من معناه يحصل بحركة أحدهما وبقاء الآخر في مكانه ، فلا يعتبر الحركة من الطرفين في صدق افتراقهما ، فالحركة من أحدهما لا يسمّى افتراقاً حتّى يحصل عدم المصاحبة من الآخر ، فذات الافتراق الخارجي (٥) من المتحرّك ، واتّصافها بكونها افتراقاً من الساكن. ولو تحرّك كلٌّ منهما كان حركة كلٍّ منهما افتراقاً بملاحظة عدم مصاحبة الآخر.

وكيف كان ، فلا يعتبر في الافتراق المسقط حركةُ كلٍّ منهما إلى غير جانب الآخر ، كما تدلّ عليه الروايات الحاكية لشراء الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) ولعلّ المراد به السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٤٢ ٥٤٣.

(٢) وهو السيّد الطباطبائي في الرياض كما في الجواهر ٢٣ : ١٣ ، وراجع الرياض ٨ : ١٨٠.

(٣) في «ق» : «منه».

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٤٨ ، الباب ٢ من أبواب خيار المجلس ، الحديث ٢.

(٥) لم ترد «الخارجي» في «ش» ، وشُطب عليها في «ف».

٦٧

أرضاً وأنّه عليه‌السلام قال : «فلمّا استوجبتها قمت فمشيت خُطىً ليجب البيع حين افترقنا» (١) ، فأثبت افتراق الطرفين بمشيه عليه‌السلام فقط.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة السابقة.

٦٨

مسألة

الافتراق عن إكراه

المعروف أنّه لا اعتبار بالافتراق عن إكراه‌ إذا منع من التخاير أيضاً ، سواء بلغ حدّ سلب الاختيار أم لا ، لأصالة بقاء الخيار بعد تبادر الاختيار من الفعل المسند إلى الفاعل المختار ، مضافاً إلى حديث «رُفع ما استكرهوا عليه» (١) ، وقد تقدّم في مسألة اشتراط الاختيار في المتبايعين (٢) ما يظهر منه عموم الرفع للحكم الوضعي المحمول على المكلّف ، فلا يختصّ برفع التكليف.

هذا ، ولكن يمكن منع التبادر ، فإنّ المتبادر هو الاختياري في مقابل الاضطراري الذي لم يعدّ فعلاً حقيقيّا قائماً بنفس الفاعل ، بل يكون صورة فعلٍ قائمةً بجسم المضطرّ ، لا في مقابل المكرَه الفاعل بالاختيار لدفع الضرر المتوعَّد على تركه ، فإنّ التبادر ممنوعٌ ، فإذا دخل‌

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٩٦ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣ ، و ١٦ : ١٤٤ ، الباب ١٦ من أبواب الأيمان ، الحديث ٣ و ٥ ، وفيها : «وضع» بدل «رفع».

(٢) راجع الجزء الثالث : ٣٠٨ و ٣٣١.

٦٩

الاختياري المكرَه عليه دخل الاضطراري لعدم القول بالفصل ؛ مع أنّ المعروف بين الأصحاب : أنّ الافتراق ولو اضطراراً مسقطٌ للخيار إذا كان الشخص متمكّناً من الفسخ والإمضاء ، مستدلّين عليه بحصول التفرّق المسقط للخيار.

قال في المبسوط في تعليل الحكم المذكور : لأنّه إذا كان متمكّناً من الإمضاء والفسخ فلم يفعل حتّى وقع التفرّق ، كان ذلك دليلاً على الرضا والإمضاء (١) ، انتهى.

وفي جامع المقاصد تعليل الحكم المذكور بقوله : لتحقّق الافتراق مع التمكّن من الاختيار (٢) ، انتهى.

ومنه يظهر : أنّه لا وجه للاستدلال بحديث «رفع الحكم عن المكره» ؛ للاعتراف بدخول المكره والمضطرّ إذا تمكّنا من التخاير.

والحاصل : أنّ فتوى الأصحاب هي : أنّ التفرّق عن إكراهٍ عليه وعلى ترك التخاير غير مسقطٍ للخيار ، وأنّه لو حصل أحدهما باختياره سقط خياره ، وهذه لا يصحّ الاستدلال عليها (٣) باختصاص الأدلّة بالتفرّق الاختياري ، ولا بأنّ مقتضى حديث الرفع جعل التفرّق المكره عليه كلا تفرّق ؛ لأنّ المفروض أنّ التفرّق الاضطراري أيضاً مسقطٌ مع وقوعه في حال التمكّن من التخاير.

الاستدلال على كون المسقط هو الافتراق عن رضا

فالأولى الاستدلال عليه مضافاً إلى الشهرة المحقّقة الجابرة‌

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٨٤.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٢٨٣.

(٣) في «ش» : «وهذا لا يصحّ الاستدلال عليه».

٧٠

للإجماع المحكيّ (١) ، وإلى أنّ المتبادر من التفرّق ما كان عن رضا بالعقد ، سواء وقع اختياراً أو اضطراراً بقوله عليه‌السلام في صحيحة الفضيل : «فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما» (٢).

دلّ على أنّ الشرط في السقوط الافتراق والرضا منهما ، ولا ريب أنّ الرضا المعتبر ليس إلاّ المتّصل بالتفرّق بحيث يكون التفرّق عنه ؛ إذ لا يعتبر الرضا في زمانٍ آخر إجماعاً.

أو يقال : إنّ قوله : «بعد الرضا» إشارةٌ إلى إناطة السقوط بالرضا بالعقد المستكشَف عن افتراقهما (٣) فيكون الافتراق مسقطاً ، لكونه كاشفاً نوعاً عن رضاهما بالعقد وإعراضهما عن الفسخ.

وعلى كلّ تقديرٍ ، فيدلّ على أنّ المتفرّقين ولو اضطراراً إذا كانا متمكّنين من الفسخ ولم يفسخا كشف ذلك نوعاً عن رضاهما بالعقد فسقط (٤) خيارهما. وهذا هو الذي استفاده الشيخ قدس‌سره كما صرّح به في عبارة المبسوط المتقدّمة (٥).

__________________

(١) كما في الغنية : ٢١٧ ، وحكاه السيّد بحر العلوم في المصابيح عنه وعن تعليق الشرائع ، انظر المصابيح (مخطوط) : ١٢١.

(٢) الوسائل ١٢ : ٣٤٦ ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث ٣.

(٣) كذا في «ق» ، وفي «ش» : «المستكشف عنه عن افتراقهما». والأولى في العبارة : المستكشف عنه بافتراقهما.

(٤) كذا في ظاهر «ق» أيضاً ، والمناسب : «فيسقط».

(٥) تقدّمت في الصفحة المتقدّمة.

٧١

مسألة

لو أُكره أحدهما خاصّةً على التفرّق

لو أُكره أحدهما على التفرّق ومنع عن التخاير وبقي الآخر في المجلس ، فإن منع من المصاحبة والتخاير لم يسقط خيار أحدهما ؛ لأنّهما مكرَهان على الافتراق وترك التخاير ، فدخل في المسألة السابقة. وإن لم يمنع من المصاحبة ، ففيه أقوال.

وتوضيح ذلك : أنّ افتراقهما المستند إلى اختيارهما كما عرفت يحصل بحركة أحدهما اختياراً وعدم مصاحبة الآخر [له (١)] كذلك ، وأنّ الإكراه على التفرّق لا يسقط حكمه ما لم ينضمّ معه الإكراه على ترك التخاير.

فحينئذٍ نقول : تحقّق الإكراه المسقط في أحدهما دون الآخر يحصل تارةً بإكراه أحدهما على التفرّق وترك التخاير وبقاء الآخر في المجلس مختاراً في المصاحبة أو التخاير. وأُخرى بالعكس بإبقاء أحدهما في المجلس كرهاً مع المنع عن التخاير وذهاب الآخر اختياراً.

محل الكلام ما لو أكره أحدهما المعين على الافتراق

ومحلّ الكلام هو الأوّل ، وسيتّضح به [حكم (٢)] الثاني. والأقوال‌

__________________

(١) الزيادة اقتضاها السياق.

(٢) لم يرد في «ق» ، وكتب في «ف» في الهامش.

٧٢

فيه أربعة :

الأقوال في المسألة

سقوط خيارهما ، كما عن ظاهر المحقّق والعلاّمة وولده السعيد والسيّد العميد وشيخنا الشهيد (١) قدّس الله أسرارهم.

وثبوته لهما ، كما عن ظاهر المبسوط والمحقّق والشهيد الثانيين ومحتمل الإرشاد (٢).

وسقوطه في حقّ المختار خاصّة.

وفصّل في التحرير بين بقاء المختار في المجلس فالثبوت لهما ، وبين مفارقته فالسقوط عنهما (٣).

مبنى الأقوال

ومبنى الأقوال على أنّ افتراقهما المجعول غايةً لخيارهما هل يتوقّف على حصوله عن اختيارهما ، أو يكفي فيه حصوله عن اختيار أحدهما؟

وعلى الأوّل ، هل يكون اختيار كلٍّ منهما مسقطاً لخياره ، أو يتوقّف سقوط خيار كلِّ واحدٍ على مجموع اختيارهما؟ فعلى الأوّل‌

__________________

(١) حكاه المحقّق التستري في المقابس (٢٤٢) عن العلاّمة وولده والسيّد عميد الدين وعن ظاهر المحقّق والشهيد ، انظر الشرائع ٢ : ٢١ ، والقواعد ٢ : ٦٥ ، وإيضاح الفوائد ١ : ٤٨٣ ، وكنز الفوائد ١ : ٤٤٧ ، والدروس ٣ : ٢٦٦ ، وحكى عنهم ذلك في المصابيح (مخطوط) : ١٢٢ ، ومفتاح الكرامة ٤ : ٥٥١ ، أيضاً.

(٢) حكى عنهم ذلك في المصابيح (مخطوط) : ١٢٢ ، ومفتاح الكرامة ٤ : ٥٥١ ، والمقابس : ٢٤٢ ، مع تفاوت في النسبة من حيث التصريح في بعض والظهور في آخر ، انظر المبسوط ٢ : ٨٤ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٨٩ ، والروضة ٣ : ٤٤٩ ، والمسالك ٣ : ١٩٦ ، والإرشاد ١ : ٣٧٤.

(٣) التحرير ١ : ١٦٦.

٧٣

يسقط خيار المختار خاصّةً ، كما عن الخلاف (١) وجواهر القاضي (٢). وعلى الثاني يثبت الخياران ، كما عن ظاهر المبسوط والمحقّق والشهيد الثانيين (٣).

وعلى الثاني : فهل يعتبر في المسقط لخيارهما كونه فعلاً وجوديّاً وحركةً صادرةً باختيار أحدهما ، أو يكفي كونه تركاً اختياريّاً ، كالبقاء في مجلس العقد مختاراً؟

فعلى الأوّل : يتوجّه التفصيل المصرَّح به في التحرير بين بقاء الآخر في مجلس العقد وذهابه (٤).

وعلى الثاني : يسقط الخياران ، كما عن ظاهر المحقّق والعلاّمة وولده السعيد والسيّد العميد وشيخنا الشهيد (٥).

واعلم أنّ ظاهر الإيضاح : أنّ قول التحرير ليس قولاً مغايراً للثبوت لهما ، وأنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يفارق الآخر المجلس اختياراً ، وإلاّ سقط خيارهما اتّفاقاً ، حيث قال في شرح قول والده قدس‌سره : «لو حمل أحدهما ومنع من التخاير لم يسقط خياره على إشكال. وأمّا الثابت ، فإن مُنع من المصاحبة والتخاير لم يسقط خياره ، وإلاّ فالأقرب سقوطه ، فيسقط خيار الأوّل» (٦) انتهى ، قال : إنّ هذا مبنيٌّ على بقاء‌

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٦ ، المسألة ٣٥ من كتاب البيوع.

(٢) جواهر الفقه : ٥٥ ، المسألة ١٩٧ ، وحكاه عن ظاهره وظاهر قبله السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٥١ ، والتستري في المقابس : ٢٤٢.

(٣) تقدّم عنهم في الصفحة المتقدّمة.

(٤) تقدّم عنه في الصفحة المتقدّمة.

(٥) تقدّم عنهم في الصفحة المتقدّمة.

(٦) القواعد ٢ : ٦٥.

٧٤

الأكوان وعدمه وافتقار الباقي إلى المؤثّر وعدمه وأنّ الافتراق ثبوتيٌّ أو عدميٌّ ، فعلى عدم البقاء أو افتقار الباقي إلى المؤثّر يسقط ؛ لأنّه فَعَل المفارقة ، وعلى القول ببقائها واستغناء الباقي عن المؤثّر وثبوتيّة الافتراق لم يسقط خياره ؛ لأنّه لم يفعل شيئاً. وإن قلنا بعدميّة الافتراق والعدم ليس بمعلّل فكذلك. وإن قلنا : إنّه يعلّل سقط أيضاً. والأقرب عندي السقوط ؛ لأنّه مختارٌ في المفارقة (١) ، انتهى.

وهذا الكلام وإن نوقش فيه بمنع بناء الأحكام على هذه التدقيقات ، إلاّ أنّه على كلّ حالٍ صريحٌ في أنّ الباقي لو ذهب اختياراً فلا خلاف في سقوط خياره ؛ وظاهره كظاهر عبارة القواعد ـ : أنّ سقوط خياره لا ينفكّ عن سقوط خيار الآخر ، فينتفي القول المحكيّ عن الخلاف والجواهر. لكنّ العبارة المحكيّة عن الخلاف ظاهرةٌ في هذا القول ، قال : «لو أُكرها أو أحدهما على التفرّق بالأبدان على وجهٍ يتمكّنان من الفسخ والتخاير فلم يفعلا بطل خيارهما أو خيار من تمكّن من ذلك» (٢) ونحوه المحكيّ عن القاضي (٣) ؛ فإنّه لولا جواز التفكيك بين الخيارين لاقتصر على قوله : «بطل خيارهما» فتأمّل.

بل حكي هذا القول عن ظاهر التذكرة أو صريحها (٤). وفيه تأمّل.

الأظهر في المسألة

وكيف كان ، فالأظهر في بادئ النظر ثبوت الخيارين ، للأصل‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٢ ٤٨٣.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٦ ، المسألة ٣٥ من كتاب البيوع.

(٣) جواهر الفقه : ٥٥ ، المسألة ١٩٧.

(٤) حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٥٥١ ، وراجع التذكرة ١ : ٥١٨.

٧٥

وما تقدّم : من تبادر تفرّقهما عن رضا منهما ، فإنّ التفرّق وإن لم يعتبر كونه اختياريّاً من الطرفين ولا من أحدهما ، إلاّ أنّ المتبادر رضاهما بالبيع حين التفرّق ، فرضا أحدهما في المقام وهو الماكث لا دليل على كفايته في سقوط خيارهما ، ولا في سقوط خيار خصوص الراضي ؛ إذ الغاية غايةٌ للخيارين ، فإن تحقّقت سقطا وإلاّ ثبتا. ويدلّ عليه ما تقدّم من صحيحة الفضيل (١) المصرّحة بإناطة سقوط الخيار بالرضا منهما المنفيّ بانتفاء رضا أحدهما.

ولكن يمكن التفصّي عن الأصل بصدق تفرّقهما ، وتبادر تقيّده بكونه عن رضا كليهما ممنوعٌ ، بل المتيقّن اعتبار رضا أحدهما.

وظاهر الصحيحة وإن كان اعتبار ذلك ، إلاّ أنّه معارضٌ بإطلاق ما يستفاد من الرواية السابقة الحاكية لفعل الإمام عليه‌السلام وأنّه قال : «فمشيت خُطىً ليجب البيع حين افترقنا» (٢) ، جَعَل مجرّد مشيه عليه‌السلام سبباً لصدق الافتراق المجعول غايةً للخيار ، وجَعَل وجوب البيع علّةً غائيةً له من دون اعتبار رضا الآخر أو شعوره بمشي الإمام عليه‌السلام. ودعوى : انصرافه إلى صورة شعور الآخر وتركه المصاحبة اختياراً ، ممنوعة.

وظاهر الصحيحة وإن كان أخصّ ، إلاّ أنّ ظهور الرواية في عدم مدخليّة شي‌ءٍ آخر زائداً على مفارقة أحدهما صاحبه مؤيَّدٌ بالتزام مقتضاه في غير واحدٍ من المقامات ، مثل ما إذا مات أحدهما وفارق‌

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٧١.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٦٧.

٧٦

الآخرُ اختياراً ، فإنّ الظاهر منهم عدم الخلاف في سقوط الخيارين ، وقد قطع به في جامع المقاصد مستدلاً بأنّه قد تحقّق الافتراق ، فسقط الخياران (١) مع أنّ المنسوب إليه ثبوت الخيار لهما فيما نحن فيه (٢).

وكذا لو فارق أحدهما في حال نوم الآخر أو غفلته عن مفارقة صاحبه مع تأيّد ذلك بنقل الإجماع عن السيّد عميد الدين (٣).

وظاهر المبنى المتقدّم عن الإيضاح (٤) أيضاً ـ : عدم الخلاف في عدم اعتبار الرضا من الطرفين ، وإنّما الخلاف في أنّ البقاء اختياراً مفارقةٌ اختياريّةٌ أم لا. بل ظاهر القواعد (٥) أيضاً ـ : أنّ سقوط خيار المكره متفرّعٌ على سقوط خيار الماكث ، من غير إشارةٍ إلى وجود خلافٍ في هذا التفريع ، وهو الذي ينبغي ؛ لأنّ الغاية إن حصلت سقط الخياران ، وإلاّ بقيا ، فتأمّل.

وعبارة الخلاف المتقدّمة (٦) وإن كانت ظاهرةً في التفكيك بين المتبايعين في الخيار ، إلاّ أنّها ليست بتلك الظهور ، لاحتمال إرادة سقوط خيار المتمكّن من التخاير من حيث تمكّنه مع قطع النظر عن حال‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٨٨.

(٢) كما تقدّم في الصفحة ٧٣.

(٣) نقله في المقابس : ٢٤٢ عن ظاهره ، وراجع كنز الفوائد ١ : ٤٤٧ ، وفيه : اتفاقاً.

(٤) تقدّم في الصفحة ٧٤ ٧٥.

(٥) تقدّمت عبارته في الصفحة ٧٤.

(٦) تقدّمت في الصفحة ٧٥.

٧٧

الآخر ، فلا ينافي سقوط خيار الآخر ؛ [لأجل التلازم بين الخيارين من حيث اتّحادهما في الغاية (١)] ، مع أنّ شمول عبارته لبعض الصور التي لا يختصّ بطلان الخيار فيها بالمتمكّن ممّا لا بدّ منه ، كما لا يخفى على المتأمّل. وحملها على ما ذكرنا : من إرادة المتمكّن لا بشرطٍ ، لا إرادة خصوصه فقط ، أولى من تخصيصها ببعض الصور. ولعلّ نظر الشيخ والقاضي (٢) إلى أنّ الافتراق المستند إلى اختيارهما جعل غايةً لسقوط خيار كلٍّ منهما ، فالمستند إلى اختيار أحدهما مسقطٌ لخياره خاصّةً. وهو استنباطٌ حسنٌ. لكن لا يساعد عليه ظاهر النصّ (٣).

إذا أكره أحدهما على البقاء

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا حكم عكس المسألة وهي ما إذا أُكره أحدهما على البقاء ممنوعاً من التخاير وفارق الآخر اختياراً فإنّ مقتضى ما تقدّم من الإيضاح من مبنى الخلاف (٤) عدم الخلاف في سقوط الخيارين هنا ، ومقتضى ما ذكرنا من مبنى الأقوال (٥) جريان الخلاف هنا أيضاً.

الأقوى سقوط الخيار عنهما

وكيف كان ، فالحكم بسقوط الخيار ، عليهما (٦) هنا أقوى كما لا يخفى.

__________________

(١) لم يرد ما بين المعقوفتين في «ق» ، نعم ورد في هامش «ف».

(٢) وهو سقوط خيار المختار خاصّة ، راجع الصفحة ٧٤.

(٣) يعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البيّعان بالخيار حتّى يفترقا».

(٤) تقدّم في الصفحة ٧٤ ٧٥.

(٥) تقدّم ذكره في الصفحة ٧٣.

(٦) كذا في «ق» ، وفي «ش» : «عنهما».

٧٨

مسألة

لو زال الإكراه

لو زال الإكراه ، فالمحكيّ عن الشيخ وجماعةٍ : امتداد الخيار بامتداد مجلس الزوال (١). ولعلّه لأنّ الافتراق الحاصل بينهما في حال الإكراه كالمعدوم ، فكأنهما بعدُ مجتمعان في مجلس العقد ، فالخيار باقٍ.

وفيه : أنّ الهيئة الاجتماعية الحاصلة حين العقد قد ارتفعت حسّا ، غاية الأمر عدم ارتفاع حكمها وهو الخيار بسبب الإكراه ، ولم يجعل مجلس زوال الإكراه بمنزلة مجلس العقد.

والحاصل : أنّ الباقي بحكم الشرع هو الخيار ، لا مجلس العقد ، فالنصّ ساكتٌ عن غاية هذا الخيار ، فلا بدّ إمّا من القول بالفور كما عن التذكرة (٢) ولعلّه لأنّه المقدار الثابت يقيناً لاستدراك حقّ المتبايعين ـ

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٨٤ ، ونسبه المحقّق التستري قدس‌سره إلى ظاهر ابن زهرة والفاضلين في الشرائع والإرشاد وفتوى الأخير في التحرير والشهيد الثاني في الروضة ، انظر المقابس : ٢٤٣.

(٢) حكاه عنها المحقّق التستري في المقابس : ٢٤٣ ، والموجود في التذكرة هكذا : «وإذا وجد التمكّن ، هل هو على الفور؟ فيه ما سبق من الخلاف» ، انظر التذكرة ١ : ٥١٨.

٧٩

وإمّا من القول بالتراخي إلى أن يحصل المسقطات ، لاستصحاب الخيار. والوجهان جاريان في كلّ خيارٍ لم يظهر حاله من الأدلّة.

٨٠