كتاب المكاسب - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

كتاب المكاسب - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ٤
ISBN: 964-5662-15-X
ISBN الدورة:
964-5662-17-6

الصفحات: ٤٤٨

الاستدلال بـ «لا ضرر ولا ضرار»

وأقوى ما استدلّ به على ذلك في التذكرة (١) وغيرها (٢) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٣) ، وكأنّ وجه الاستدلال : أنّ لزوم مثل هذا البيع وعدم تسلّط المغبون على فسخه ضررٌ عليه وإضرارٌ به فيكون منفيّاً ، فحاصل الرواية : أنّ الشارع لم يحكم بحكمٍ يكون فيه الضرر ولم يسوّغ إضرارَ المسلمين بعضِهم بعضاً ، ولم يمضِ لهم من التصرّفات ما فيه ضررٌ على الممضى عليه.

ومنه يظهر صحّة التمسّك لتزلزل كلِّ عقدٍ يكون لزومه ضرراً على الممضى عليه ، سواءً كان من جهة الغبن أم لا ، وسواءً كان في البيع أم في غيره ، كالصلح الغير المبني على المسامحة والإجارة وغيرها من المعاوضات.

المناقشة في الاستدلال المذكور

هذا ، ولكن يمكن الخدشة في ذلك : بأنّ انتفاء اللزوم وثبوت التزلزل في العقد لا يستلزم ثبوت الخيار للمغبون بين الردّ والإمضاء بكلِّ الثمن ؛ إذ يحتمل أن يتخيّر بين إمضاء العقد بكلِّ الثمن وردِّه في المقدار الزائد ، غاية الأمر ثبوت الخيار للغابن ؛ لتبعّض المال عليه ، فيكون حال المغبون حال المريض إذا اشترى بأزيد من ثمن المثل ، وحاله بعد العلم بالقيمة حال الوارث إذا مات ذلك المريض المشتري ، في أنّ له استرداد الزيادة من دون ردّ جزءٍ من العوض ، كما عليه الأكثر في معاوضات المريض المشتملة على المحاباة (٤) وإن اعترض عليهم العلاّمة بما حاصله : أنّ‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥٢٢.

(٢) كما استدلّ به في الغنية : ٢٢٤ ، والتنقيح الرائع ٢ : ٤٧ ، والرياض ٨ : ١٩٠ وغيرها.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٧٦ ، الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، الحديث ١٠.

(٤) راجع جامع المقاصد ١١ : ١٤١ ، والجواهر ٢٨ : ٤٧٣ ٤٧٤.

١٦١

استرداد بعض أحد العوضين من دون ردّ بعضَ الآخر ينافي مقتضى المعاوضة (١).

ويحتمل أيضاً أن يكون نفي اللزوم بتسلّط المغبون على إلزام الغابن بأحد الأمرين : من الفسخ في الكلّ ، ومن تدارك ما فات على المغبون بردّ القدر الزائد أو بدله ، ومرجعه إلى أنّ للمغبون الفسخ إذا لم يبذل الغابن التفاوت ، فالمبذول غرامةٌ لما فات على المغبون على تقدير إمضاء البيع ، لا هبةٌ مستقلّةٌ كما في الإيضاح وجامع المقاصد ، حيث انتصرا للمشهور القائلين بعدم سقوط الخيار ببذل الغابن للتفاوت ـ : بأنّ الهبة المستقلّة لا تُخرِج المعاملةَ عن الغبن الموجب للخيار (٢) ، وسيجي‌ء ذلك (٣).

وما ذكرنا نظير ما اختاره العلاّمة في التذكرة واحتمله في القواعد : من أنّه إذا ظهر كذب البائع مرابحةً في إخباره برأس المال فبذل المقدار الزائد مع ربحه ، فلا خيار للمشتري (٤) ، فإنّ مرجع هذا إلى تخيير البائع بين ردّ التفاوت وبين الالتزام بفسخ المشتري.

سقوط الخيار مع بذل الغابن التفاوت للمغبون

وحاصل الاحتمالين : عدم الخيار للمغبون مع بذل الغابن للتفاوت ، فالمتيقّن من ثبوت الخيار له صورة امتناع الغابن من البذل. ولعلّ هذا‌

__________________

(١) راجع القواعد ٢ : ٥٣٦ ، والمختلف ٦ : ٤٢٧.

(٢) الإيضاح ١ : ٤٨٥ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٩٤.

(٣) سيجي‌ء في الصفحة الآتية.

(٤) التذكرة ١ : ٥٤٤ ، ولم نعثر عليه في القواعد ، راجع مبحث المرابحة في القواعد ٢ : ٥٦.

١٦٢

هو الوجه في استشكال العلاّمة في التذكرة في ثبوت الخيار مع البذل (١) ، بل قول بعضٍ بعدمه (٢) كما يظهر من الرياض (٣).

المبذول ليس هبةً مستقلّةً

ثمّ إنّ المبذول ليس هبةً مستقلّةً حتّى يقال : إنّها لا تُخرِج المعاملة المشتملة على الغبن عن كونها مشتملةً عليه ، ولا جزءً من أحد العوضين حتّى يكون استرداده مع العوض الآخر جمعاً بين جزء العوض وتمام المعوّض (٤) منافياً لمقتضى المعاوضة ، بل هي غرامةٌ لما أتلفه الغابن عليه من الزيادة بالمعاملة الغبنيّة ، فلا يعتبر كونه من عين الثمن ، نظير الأرش في المعيب.

ما استُدلّ به على عدم سقوط الخيار مع البذل والمناقشة فيه

ومن هنا ظهر الخدشة فيما في الإيضاح والجامع ، من الاستدلال على عدم السقوط مع البذل بعد الاستصحاب ـ : بأنّ بذل التفاوت لا يُخرِج المعاملة عن كونها غبنيّةً ؛ لأنّها هبةٌ مستقلّة ، حتّى أنّه لو دفعه على وجه الاستحقاق لم يحلّ أخذه ؛ إذ لا ريب [في (٥)] أنّ من قَبِلَ هبة الغابن لا يسقط خياره (٦) ، انتهى بمعناه.

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥٢٣ ، وفيه : «ولو دفع الغابن التفاوت احتمل سقوط خيار المغبون» ، نعم في القواعد (٢ : ٦٧) : «ولو دفع الغابن التفاوت فلا خيار على إشكال».

(٢) قال المحقّق النراقي في المستند (١٤ : ٣٩١) بعد نسبته ذلك إلى «قيل» وأنّه احتمله بعض المتأخّرين ـ : «وهو الأقوى».

(٣) راجع الرياض ١ : ٥٢٥.

(٤) كذا في «ق» ، وفي «ش» : «جزء المعوّض وتمام العوض».

(٥) لم يرد في «ق».

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٥ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٩٤ ٢٩٥.

١٦٣

وجه الخدشة : ما تقدّم (١) ، من احتمال كون المبذول غرامةً لما أتلفه الغابن على المغبون قد دلّ عليه نفي الضرر.

وأمّا الاستصحاب ، ففيه : أنّ الشكّ في اندفاع الخيار بالبذل لا في ارتفاعه به ؛ إذ (٢) المحتمل ثبوت الخيار على الممتنع دون الباذل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ تدارك ضرر المغبون بأحد الاحتمالين المذكورين أولى من إثبات الخيار له ؛ لأنّ إلزام الغابن بالفسخ ضررٌ ؛ لتعلّق غرض الناس بما ينتقل إليهم من أعواض أموالهم خصوصاً النقود ، ونقض الغرض ضررٌ وإن لم يبلغ حدّ المعارضة لضرر المغبون ، إلاّ أنّه يصلح مرجِّحاً لأحد الاحتمالين المذكورين على ما اشتهر من تخييره بين الردّ والإمضاء بكلّ الثمن ، إلاّ أن يعارض ذلك بأنّ غرض المغبون قد يتعلّق بتملّك عينٍ ذات قيمةٍ ؛ لكون المقصود اقتناءها للتجمّل ، وقد يستنكف عن اقتناء ذات القيمة اليسيرة للتجمّل ، فتأمّل.

الاستدلال على خيار الغبن بالأخبار الواردة في حكم الغبن

وقد يستدلّ على الخيار بأخبارٍ واردةٍ في حكم الغبن :

فعن الكافي بسنده إلى إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «غبن المسترسل سحتٌ» (٣). وعن ميسّر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «غبن المؤمن حرامٌ» (٤) ، وفي روايةٍ أُخرى : «لا تغبن المسترسل ،

__________________

(١) تقدّم آنفاً.

(٢) في «ش» زيادة : «من».

(٣) الكافي ٥ : ١٥٣ ، الحديث ١٤ ، وعنه في الوسائل ١٢ : ٣٦٣ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث الأوّل.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٣ ، الحديث ١٥ ، والوسائل ١٢ : ٣٦٤ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٢.

١٦٤

فإنّ غبنه لا يحلّ» (١).

وعن مجمع البحرين : أنّ الاسترسال الاستئناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدّثه ، واصلة السكون والثبات ، ومنه الحديث : «أيّما مسلمٍ استرسل إلى مسلم فغبنه فهو كذا» ، ومنه : «غبن المسترسل سحتٌ» (٢) ، انتهى. ويظهر منه أنّ ما ذكره أوّلاً حديثٌ رابعٌ.

عدم دلالة الاخبار المذكورة على المدّعى

والإنصاف : عدم دلالتها على المدّعى ؛ فإنّ ما عدا الرواية الأُولى ظاهرةٌ في حرمة الخيانة في المشاورة ، فيحتمل كون الغبن بفتح الباء.

وأمّا الرواية الأُولى ، فهي وإن كانت ظاهرةً فيما يتعلّق بالأموال ، لكن يحتمل حينئذٍ أن يراد كون الغابن بمنزلة آكل السحت في استحقاق العقاب على أصل العمل والخديعة في أخذ المال. ويحتمل أن يراد كون المقدار الذي يأخذه زائداً على ما يستحقّه بمنزلة السحت في الحرمة والضمان. ويحتمل إرادة كون مجموع العوض المشتمل على الزيادة بمنزلة السحت في تحريم الأكل في صورةٍ خاصّةٍ ، وهي اطّلاع المغبون وردّه للمعاملة المغبون فيها. ولا ريب أنّ الحمل على أحد الأوّلين أولى ، ولا أقلّ من المساواة للثالث ، فلا دلالة.

العمدة في المسألة الإجماع

فالعمدة في المسألة الإجماع المحكيّ المعتضد بالشهرة المحقّقة ، وحديث نفي الضرر بالنسبة إلى خصوص الممتنع عن بذل التفاوت.

ثمّ إنّ تنقيح هذا المطلب يتمّ برسم مسائل :

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٨٥ ، الباب ٢ من أبواب الخيار ، الحديث ٧.

(٢) مجمع البحرين ٥ : ٣٨٣ ، مادّة «رسل».

١٦٥

مسألة

شرائط خيار الغبن

يشترط في هذا الخيار أمران :

الأوّل : جهل المغبون بالقيمة

الأوّل : عدم علم المغبون بالقيمة ، فلو علم بالقيمة فلا خيار ، بل لا غبن كما عرفت بلا خلافٍ ولا إشكالٍ ؛ لأنّه أقدم على الضرر.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق بين كونه غافلاً من القيمة بالمرّة أو ملتفتاً إليها ، ولا بين كونه مسبوقاً بالعلم وعدمه ، ولا بين الجهل المركّب والبسيط مع الظنّ بعدم الزيادة والنقيصة أو الظنّ بهما أو الشكّ.

ويشكل في الأخيرين إذا أقدم على المعاملة بانياً على المسامحة على تقدير الزيادة أو (١) النقيصة فهو كالعالم ، بل الشاكّ في الشي‌ء إذا أقدم عليه بانياً على تحمّله فهو في حكم العالم من حيث استحقاق المدح عليه أو الذمّ ، ومن حيث عدم معذوريّته لو كان ذلك الشي‌ء ممّا يعذر الغافل فيه ، والحاصل : أنّ الشاكّ الملتفت إلى الضرر مُقدِمٌ عليه.

ومن أنّ مقتضى عموم نفي الضرر وإطلاق الإجماع المحكي ثبوته بمجرّد تحقّق الضرر ، خرج المقدِم عليه عن علمٍ ، بل مطلق الشاكّ ليس‌

__________________

(١) في «ش» : «و».

١٦٦

مُقدِماً على الضرر ، بل قد يُقدِم برجاء عدمه ، ومساواته للعالم في الآثار ممنوعةٌ حتّى في استحقاق المدح والذمّ لو كان المشكوك ممّا يترتّب عليه ذلك عند الإقدام عليه ، ولذا قد يحصل للشاكّ بعد اطّلاعه على الغبن حالةٌ اخرى لو حصلت له قبل العقد لم يُقدم عليه. نعم ، لو صرّح في العقد بالالتزام به ولو على تقدير ظهور الغبن كان ذلك راجعاً إلى إسقاط الغبن.

ثبوت الخيار للجاهل وإن كان قادراً على السؤال

وممّا ذكرنا يظهر ثبوت الخيار للجاهل وإن كان قادراً على السؤال ، كما صرّح به في التحرير والتذكرة (١).

ولو أقدم عالماً على غبنٍ يتسامح به فبان أزيد بما لا يتسامح بالمجموع منه ومن المعلوم ، فلا يبعد الخيار. ولو أقدم على ما لا يتسامح فبان أزيد بما يتسامح به منفرداً أو بما لا يتسامح ، ففي الخيار وجهٌ.

المعتبر القيمة حال العقد

ثمّ إنّ المعتبر القيمة حال العقد ، فلو زادت بعده ولو قبل اطّلاع المغبون على النقصان حين العقد لم ينفع ؛ لأنّ الزيادة إنّما حصلت في ملكه والمعاملة وقعت على الغبن. ويحتمل عدم الخيار حينئذٍ ؛ لأنّ التدارك حصل قبل الردّ ، فلا يثبت الردّ المشروع لتدارك الضرر ، كما لو برئ المعيوب قبل الاطّلاع على عيبه ، بل في التذكرة : أنّه مهما زال العيب قبل العلم أو بعده قبل الردّ سقط حقّ الردّ (٢).

وأشكل منه ما لو توقّف الملك على القبض فارتفع الغبن قبله ؛ لأنّ الملك قد انتقل إليه حينئذٍ من دون نقصٍ في قيمته.

__________________

(١) التحرير ١ : ١٦٦ ، والتذكرة ١ : ٥٢٣.

(٢) التذكرة ١ : ٥٤١.

١٦٧

نعم ، لو قلنا بوجوب التقابض بمجرّد العقد كما صرّح به العلاّمة في الصرف (١) يثبت الخيار ؛ لثبوت الضرر بوجوب إقباض الزائد في مقابلة الناقص. لكن ظاهر المشهور عدم وجوب التقابض.

ولو ثبت الزيادة أو النقيصة بعد العقد ، فإنّه لا عبرة بهما إجماعاً كما في التذكرة (٢).

عدم العبرة بعلم الوكيل في مجرّد الصيغة

ثمّ إنّه لا عبرة بعلم الوكيل في مجرّد العقد ، بل العبرة بعلم الموكّل وجهله. نعم ، لو كان وكيلاً في المعاملة والمساومة ، فمع علمه وفرض صحّة المعاملة حينئذٍ لا خيار للموكِّل ، ومع جهله يثبت الخيار للموكِّل ، إلاّ أن يكون عالماً بالقيمة وبأنّ موكِّله (٣) يعقد على أزيد منها ويقرّره له. وإذا ثبت الخيار في عقد الوكيل فهو للموكِّل خاصّةً ، إلاّ أن يكون وكيلاً مطلقاً بحيث يشمل مثل الفسخ ، فإنّه كالوليّ حينئذٍ (٤).

ثمّ إنّ الجهل إنّما يثبت باعتراف الغابن ، وبالبيّنة إن تحقّقت ، وبقول مدّعيه مع اليمين ؛ لأصالة عدم العلم الحاكمة على أصالة اللزوم ، مع أنّه قد يتعسّر إقامة البيّنة على الجهل ، ولا يمكن للغابن الحلف على علمه ، لجهله بالحال ، فتأمّل.

هذا كلّه إذا لم يكن المغبون من أهل الخبرة بحيث لا يخفى عليه القيمة إلاّ لعارضٍ من غفلةٍ أو غيرها ، وإلاّ فلا يقبل قوله كما في‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥١٠ ، والتحرير ١ : ١٧١.

(٢) التذكرة ١ : ٥٢٣.

(٣) في «ش» : «وكيله».

(٤) في «ش» زيادة : «وقد مرّ ذلك مشروحاً في خيار المجلس».

١٦٨

الجامع (١) والمسالك (٢).

وقد يشكل بأنّ هذا إنّما يوجب عدم قبول قوله من حيث تقديم الظاهر على الأصل ، فغاية الأمر أن يصير مدّعياً من جهة مخالفة قوله للظاهر ، لكن المدّعى لمّا تعسّر إقامة البيّنة عليه ولا يُعرف إلاّ من قِبَله يُقبل قوله مع اليمين ، فليكن هذا من هذا القبيل.

إلاّ أن يقال : إنّ معنى (٣) تقديم الظاهر جعل مدّعيه مقبول القول بيمينه ، لا جعل مخالفه مدّعياً يجري عليه جميع أحكام المدّعى حتّى في قبول قوله إذا تعسّر عليه إقامة البيّنة ، ألا ترى أنّهم لم يحكموا بقبول قول مدّعي فساد العقد إذا تعسّر عليه إقامة البيّنة على سبب الفساد؟

مع أنّ عموم تلك القاعدة ثمّ اندراج المسألة فيها محلّ تأمّلٍ.

لو اختلفا في القيمة وقت العقد

ولو اختلفا في القيمة وقت العقد أو في القيمة بعده مع تعذّر الاستعلام ، فالقول قول منكر سبب الغبن ؛ لأصالة عدم التغيّر ، وأصالة اللزوم.

ومنه يظهر حكم ما لو اتّفقا على التغيّر واختلفا في تأريخ العقد. ولو عُلم تأريخ التغيّر فالأصل وإن اقتضى تأخّر العقد الواقع على الزائد عن القيمة ، إلاّ أنّه لا يثبت به وقوع العقد على الزائد حتّى يثبت الغبن.

الشرط الثاني : كون التفاوت فاحشاً

الشرط الثاني (٤) : كون التفاوت فاحشاً ، فالواحد بل الاثنان في‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٩٤.

(٢) المسالك ٣ : ٢٠٤.

(٣) في «ش» : «إنّ مقتضى».

(٤) في «ش» : «الأمر الثاني».

١٦٩

العشرين لا يوجب الغبن.

حد التفاوت الفاحش

وحدّه عندنا كما في التذكرة ـ : ما لا يتغابن الناس بمثله.

وحكى فيها عن مالك : أنّ التفاوت بالثلث لا يوجب الخيار وإن كان بأكثر من الثلث أوجبه. وردّه : بأنّه تخمينٌ لم يشهد له أصل في الشرع (١) ، انتهى.

والظاهر أنّه لا إشكال في كون التفاوت بالثلث بل الربع فاحشاً. نعم ، الإشكال في الخمس ، ولا يبعد دعوى عدم مسامحة الناس فيه ، كما سيجي‌ء التصريح به من المحقّق القمّي في تصويره لغبن كلا المتبايعين (٢).

ما هو المناط في الضرر الموجب للخيار

ثمّ الظاهر أنّ المرجع عند الشكّ في ذلك هو أصالة ثبوت الخيار ؛ لأنّه ضررٌ لم يُعلم تسامح الناس فيه. ويحتمل الرجوع إلى أصالة اللزوم ؛ لأنّ الخارج هو الضرر الذي يُناقش فيه ، لا مطلق الضرر.

بقي هنا شي‌ءٌ ، وهو : أنّ ظاهر الأصحاب وغيرهم أنّ المناط في الضرر الموجب للخيار كون المعاملة ضرريّةً مع قطع النظر عن ملاحظة حال أشخاص المتبايعين ؛ ولذا حدّوه بما لا يتغابن به الناس أو بالزائد على الثلث ، كما عرفت عن بعض العامّة (٣).

وظاهر حديث نفي الضرر (٤) ملاحظة الضرر بالنسبة إلى شخص الواقعة ؛ ولذا استدلّوا به على عدم وجوب شراء ماء الوضوء بمبلغٍ كثيرٍ‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٥٢٣.

(٢) سيجي‌ء في الصفحة ١٧٣.

(٣) وهو مالك ، كما تقدم عن التذكرة آنفاً ، ولكنّ المحكي عنه في المغني (٣ : ٥٨٤) : التحديد بالثلث.

(٤) في «ش» زيادة : «المستدلّ عليه في أبواب الفقه».

١٧٠

إذا أضرّ بالمكلّف ووجوب شرائه بذلك المبلغ على من لا يضرّ به ذلك (١) ، مع أنّ أصل شراء الماء بأضعاف قيمته معاملةٌ ضرريّةٌ في حقّ الكلّ.

والحاصل : أنّ العبرة إن كان بالضرر المالي لم يجب شراء ماء الوضوء بأضعاف قيمته ، وإن كانت بالضرر الحالي تعيّن التفصيل في خيار الغبن بين ما يضرّ بحال المغبون وغيره.

الأظهر اعتبار الضرر المالي

والأظهر اعتبار الضرر المالي ؛ لأنّه ضررٌ في نفسه من غير مدخليّةٍ لحال الشخص. وتحمّله في بعض المقامات كالتيمّم (٢) إنّما خرج بالنصّ ؛ ولذا أجاب في المعتبر عن الشافعي المنكر لوجوب الوضوء في الفرض المذكور ـ : بأنّ الضرر لا يعتبر مع معارضة النصّ (٣).

ويمكن أيضاً أن يلتزم الضرر المالي في مقام التكليف ، لا لتخصيص عموم نفي الضرر بالنصّ ، بل لعدم كونه ضرراً بملاحظة ما بإزائه من الأجر ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام بعد شرائه صلوات الله عليه ماء وضوئه بأضعاف قيمته : «إنّ ما يشترى به مالٌ كثيرٌ» (٤).

نعم ، لو كان الضرر مجحفاً بالمكلّف انتفى بأدلة نفي الحرج ، لا دليل‌

__________________

(١) كما استدلّ به الفاضل المقداد في التنقيح ١ : ١٣٢ ، والسيّد الطباطبائي في الرياض ٢ : ٢٩٣.

(٢) لا يخفى ما في المثال ، ولذا أسقطه مصحّح «ش».

(٣) المعتبر ١ : ٣٦٩ ٣٧٠.

(٤) التهذيب ١ : ٤٠٦ ، الحديث ١٢٧٦ ، وعنه في الوسائل ٢ : ٩٩٨ ، الباب ٢٦ من أبواب التيمّم ، ذيل الحديث الأوّل.

١٧١

نفي الضرر ، فنفي (١) الضرر المالي في التكاليف لا يتحقّق (٢) إلاّ إذا كان تحمّله حرجاً.

تصوير الغبن من الطرفين والإشكال فيه

إشكال :

ذكر في الروضة والمسالك تبعاً لجامع المقاصد في أقسام الغبن : أنّ المغبون إمّا أن يكون هو البائع أو المشتري أو هما (٣) ، انتهى.

فيقع الإشكال في تصوّر غبن كلٍّ من المتبايعين معاً. والمحكيّ عن بعض (٤) الفضلاء في تعليقه على الروضة ما حاصله استحالة ذلك ، حيث قال : قد عرفت أنّ الغبن في طرف البائع إنّما هو إذا باع بأقلّ من القيمة السوقيّة ، وفي طرف المشتري إذا اشترى بأزيد منها ، ولا يتفاوت الحال بكون الثمن والمثمن من الأثمان أو العروض أو مختلفين ، وحينئذٍ فلا يعقل كونهما معاً مغبونين ، وإلاّ لزم كون الثمن أقلّ من القيمة السوقيّة وأكثر ، وهو محالٌ ، فتأمّل ، انتهى.

الوجوه المذكورة في تصوير ذلك :

١ ـ ما ذكره المحقّق القمّي

وقد تعرّض غير واحدٍ ممّن قارب عصرنا لتصوير ذلك في بعض الفروض :

منها : ما ذكره المحقّق القمّي صاحب القوانين‌ في جواب من سأله‌

__________________

(١) في «ق» بدل «فنفي» : «فيبقى» ، لكنّه لا يلائم السياق.

(٢) في «ش» بدل «لا يتحقّق» : «لا يكون».

(٣) الروضة ٣ : ٤٦٧ ، والمسالك ٣ : ٢٠٥ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٩٥.

(٤) وهو المولى أحمد بن محمّد التوني أخو المولى عبد الله التوني صاحب الوافية ، ذكره في تعليقه على الروضة ذيل قول الشارح : «والمغبون إمّا البائع أو المشتري» ، راجع الروضة البهيّة (الطبعة الحجريّة) ١ : ٣٧٨.

١٧٢

عن هذه العبارة من الروضة قال : إنّها تفرض فيما إذا باع متاعه بأربعة توامين من الفلوس على أن يعطيه عنها ثمانية دنانير معتقداً أنّها تسوي أربعة توامين ، ثمّ تبيّن أنّ المتاع يسوي خمسة توامين وأنّ الدنانير تسوي خمسة توامين إلاّ خُمساً ، فصار البائع مغبوناً من كون الثمن أقلّ من القيمة السوقيّة بخُمس تومان ، والمشتري مغبوناً من جهة زيادة الدنانير على أربعة توامين ، فالبائع مغبونٌ في أصل البيع ، والمشتري مغبونٌ فيما التزمه من إعطاء الدنانير عن الثمن وإن لم يكن مغبوناً في أصل البيع (١) ، انتهى.

المناقشة في ما ذكره المحقّق القمّي

أقول : الظاهر أنّ مثل هذا البيع المشروط بهذا الشرط يلاحظ فيه حاصل ما يصل إلى البائع بسبب مجموع العقد والشرط ، كما لو باع شيئاً يسوى خمسة دراهم بدرهمين على أن يخيط له ثوباً مع فرض كون أُجرة الخياطة ثلاثة دراهم ، ومن هنا يقال : إنّ للشروط قسطاً من العوض. وإن أبيت إلاّ عن أنّ الشرط معاملةٌ مستقلّةٌ فلا (٢) مدخل له في زيادة الثمن ، خرج ذلك عن فرض غبن كلٍّ من المتبايعين في معاملةٍ واحدةٍ. لكن الحقّ ما ذكرنا : من وحدة المعاملة وكون الغبن من طرفٍ واحدٍ.

٢ ـ ما ذكره بعض المعاصرين والمناقشة فيه

ومنها : ما ذكره بعض المعاصرين ، من فرض المسألة فيما إذا باع شيئين في عقدٍ واحدٍ بثمنين ، فغبن البائع في أحدهما والمشتري في الآخر (٣).

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٥٩ ٦٠ ، المسألة ٤٨.

(٢) في «ش» : «ولا».

(٣) ذكره صاحب الجواهر في الجواهر ٢٣ : ٤٤.

١٧٣

وهذا الجواب قريبٌ من سابقه في الضعف ؛ لأنّه إن جاز التفكيك بينهما عند فرض ثبوت الغبن لأحدهما خاصّةً حتّى يجوز له الفسخ في العين المغبون فيها خاصّةً ، فهما معاملتان مستقلّتان كان الغبن في كلّ واحدةٍ منهما (١) لأحدهما خاصّةً ، فلا وجه لجعل هذا قسماً ثالثاً لقسمي غبن البائع خاصّةً والمشتري خاصّةً. وإن لم يجز التفكيك بينهما لم يكن غبنٌ أصلاً مع تساوي الزيادة في أحدهما للنقيصة في الآخر ، ومع عدم المساواة فالغبن من طرفٍ واحدٍ.

٣ ـ أن يراد بالغبن معناه الأعمّ والمناقشة فيه

ومنها : أن يراد بالغبن في المقسم معناه الأعمّ‌ الشامل لصورة خروج العين المشاهدة سابقاً على خلاف ما شاهده أو خروج ما أخبر البائع بوزنه على خلاف خبره ، وقد أطلق الغبن على هذا المعنى الأعمّ العلاّمة في القواعد (٢) والشهيد في اللمعة (٣) ، وعلى هذا المعنى الأعمّ تحقّق الغبن في كلٍّ منهما.

وهذا حسنٌ ، لكن ظاهر عبارة الشهيد (٤) والمحقّق (٥) الثانيين إرادة ما عنون به هذا الخيار وهو الغبن بالمعنى الأخصّ على ما فسّروه به.

٤ ـ ما ذكره بعض والمناقشة فيه

ومنها : ما ذكره بعضٌ : من أنّه يحصل بفرض المتبايعين وقت العقد في مكانين ، كما إذا حصر العسكر البلد وفُرض قيمة الطعام خارج البلد‌

__________________

(١) في «ش» : «منها».

(٢) القواعد ٢ : ٢٢.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ١١٣.

(٤) المسالك ٣ : ٢٠٣.

(٥) جامع المقاصد ٤ : ٢٩٤.

١٧٤

ضعف قيمته في البلد ، فاشترى بعض أهل البلد من وراء سور البلد طعاماً من العسكر بثمنٍ متوسّطٍ بين القيمتين ، فالمشتري مغبونٌ لزيادة الثمن على قيمة الطعام في مكانه ، والبائع مغبونٌ لنقصانه عن القيمة في مكانه (١).

ويمكن ردّه بأنّ المبيع بعد العقد باقٍ على قيمته حين العقد ، ولا غبن فيه للمشتري ما دام في محلّ العقد ، وإنّما نزلت قيمته بقبض المشتري ونقله إيّاه إلى مكان الرخص. وبالجملة ، الطعام عند العقد لا يكون إلاّ في محلٍّ واحدٍ له قيمةٌ واحدةٌ.

٥ ـ ما ذكره في مفتاح الكرامة والمناقشة فيه

ومنها : ما ذكره في مفتاح الكرامة : من فرضه فيما إذا ادّعى كلٌّ من المتبايعين الغبن ، كما إذا بيع ثوبٌ بفرسٍ بظنّ المساواة ، ثمّ ادّعى كلٌّ منهما نقص ما في يده عمّا في يد الآخر ، ولم يوجد المقوِّم ليرجع إليه ، فتحالفا ، فيثبت الغبن لكلٍّ منهما في ما وصل إليه ، قال : ويتصوّر غبنهما في أحد العوضين ، كما لو تبايعا شيئاً بمائة درهم ، ثمّ ادّعى البائع كونه يسوي بمأتين والمشتري كونه لا يسوى إلاّ بخمسين ، ولا مقوِّم يرجع إليه فتحالفا ، ويثبت الفسخ لكلٍّ منهما (٢) ، انتهى.

وفيه : أنّ الظاهر أنّ لازم التحالف عدم الغبن لأحدهما (٣) ، مع أنّ الكلام في الغبن الواقعي دون الظاهري.

الأولى الوجه الثالث

والأولى من هذه الوجوه هو الوجه الثالث ، والله العالم.

__________________

(١) لم نعثر على هذا البعض.

(٢) مفتاح الكرامة ٤ : ٥٧٤.

(٣) في «ش» بدل «لأحدهما» : «في المعاملة أصلاً».

١٧٥

مسألة

هل ظهور الغبن شرطٌ شرعيٌّ أو كاشف عقلي؟

ظهور الغبن شرطٌ شرعيٌّ لحدوث الخيار ، أو كاشفٌ عقليٌّ عن ثبوته حين العقد؟

وجهان ، منشؤهما اختلاف كلمات العلماء في فتاويهم ومعاقد إجماعهم واستدلالاتهم.

فظاهر عبارة المبسوط والغنية والشرائع (١) وغيرها هو الأوّل ، وفي الغنية : الإجماع على أنّ ظهور الغبن سببٌ للخيار.

وظاهر كلمات آخرين (٢) الثاني. وفي التذكرة : أنّ الغبن سببٌ لثبوت الخيار عند علمائنا (٣). وقولهم : «لا يسقط هذا الخيار بالتصرّف» (٤) فإنّ المراد التصرّف قبل العلم بالغبن ، وعدم السقوط (٥) ظاهرٌ في ثبوته.

__________________

(١) راجع المبسوط ٢ : ٨٧ ، والغنية : ٢٢٤ ، والشرائع ٢ : ٢٢.

(٢) مثل ظاهر المختصر ١ : ١٢١ ، والرياض ٨ : ١٩٠.

(٣) التذكرة ١ : ٥٢٢.

(٤) كما في الشرائع ٢ : ٢٢ ، والإرشاد ١ : ٣٧٤ ، والقواعد ٢ : ٦٧ ، وغاية المراد ٢ : ٩٩ ، وراجع مفتاح الكرامة ٤ : ٥٧٢.

(٥) في «ش» : «عدم سقوطه».

١٧٦

ما يؤيّد كونه شرطاً شرعيّاً

وممّا يؤيّد الأوّل : أنّهم اختلفوا (١) في صحّة التصرّفات الناقلة في زمان الخيار ولم يحكموا ببطلان التصرّفات الواقعة من الغابن حين جهل المغبون ، بل صرّح بعضهم (٢) بنفوذها وانتقال المغبون بعد ظهور غبنه إلى البدل.

ويؤيّده أيضاً : الاستدلال في التذكرة (٣) والغنية (٤) على هذا الخيار بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث تلقّي الركبان : «إنّهم بالخيار إذا دخلوا السوق» (٥) فإنّ ظاهره حدوث الخيار بعد الدخول الموجب لظهور الغبن.

إمكان إرجاع الكلمات إلى أحد الوجهين

هذا ، ولكن لا يخفى إمكان إرجاع الكلمات إلى أحد الوجهين بتوجيه ما كان منها ظاهراً في المعنى الآخر.

وتوضيح ذلك (٦) : أنّه إن أُريد بالخيار السلطنة الفعليّة التي يقتدر بها على الفسخ والإمضاء قولاً أو فعلاً ، فلا يحدث إلاّ بعد ظهور الغبن.

وإن أُريد به ثبوت حقٍّ للمغبون لو علم به لقام بمقتضاه ، فهو ثابتٌ قبل العلم ، وإنّما يتوقّف على العلم إعمال هذا الحقّ ، فيكون حال‌

__________________

(١) راجع تفصيل الأقوال في جامع المقاصد ٤ : ٢٩٥ ، والروضة ٣ : ٤٦٦ ، والرياض ١ : ٥٢٥ ، ومفتاح الكرامة ٤ : ٥٧٢.

(٢) لم نعثر على من صرّح بذلك ، نعم صرّح في المسالك ٣ : ٢٠٦ و ٢٠٧ ، والجواهر ٢٣ : ٥٠ ، وغيرهما : بعدم سقوط خيار المغبون بتصرف الغابن ، بل يفسخ ويرجع إلى المثل أو القيمة.

(٣) التذكرة ١ : ٥٢٢ ، ولكن لم يذكر فيه لفظ الحديث.

(٤) الغنية : ٢٢٤.

(٥) راجع السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ٣٤٨ ، باب النهي عن تلقّي السلع.

(٦) شُطب في «ف» على هذه العبارة ، وكتب بدلها في الهامش : «فالأولى أن يقال».

١٧٧

الجاهل بموضوع الغبن كالجاهل بحكمه أو بحكم خياري المجلس أو الحيوان أو غيرهما (١).

ثمرة الوجهين

ثمّ إنّ الآثار المجعولة للخيار :

بين ما يترتّب على (٢) السلطنة الفعليّة ، كالسقوط بالتصرّف ، فإنّه لا يكون إلاّ بعد ظهور الغبن ، فلا يسقط قبله كما سيجي‌ء ، ومنه التلف ؛ فإنّ الظاهر أنّه قبل ظهور الغبن من المغبون اتّفاقاً ولو قلنا بعموم قاعدة «كون التلف في زمان الخيار ممّن لا خيار له» لمثل خيار الغبن ، كما جزم به بعضٌ (٣) وتردّد فيه آخر (٤).

وبين ما يترتّب على المعنى الثاني كإسقاطه بعد العقد قبل ظهوره.

وبين ما يتردّد بين الأمرين كالتصرّفات الناقلة ، فإنّ تعليلهم المنع عنها بكونها مفوِّتةً لحقّ ذي الخيار من الغبن ظاهرٌ في ترتّب المنع على وجود نفس الحقّ وإن لم يعلم به.

وحُكمُ بعضِ (٥) من منع من التصرّف في زمان الخيار بمضيّ التصرّفات الواقعة من الغابن قبل علم المغبون ، يظهر منه أنّ المنع لأجل التسلّط الفعلي.

والمتّبع دليل كلِّ واحدٍ من تلك الآثار ، فقد يظهر منه ترتّب الأثر‌

__________________

(١) كذا في «ش» ، وفي «ق» : «غيرها».

(٢) في «ش» زيادة : «تلك».

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) تردّد فيه المحقّق الثاني في جامع المقاصد ٤ : ٢٩٧ و ٣١٨.

(٥) لم نقف عليه.

١٧٨

على نفس الحقّ الواقعي ولو كان مجهولاً لصاحبه ، وقد يظهر منه ترتّبه على السلطنة الفعليّة.

ثمرة اُخرى

وتظهر ثمرة الوجهين أيضاً فيما لو فسخ المغبون الجاهل اقتراحاً أو بظنّ وجود سببٍ معدومٍ في الواقع فصادف الغبن.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في الغبن من الوجهين جارٍ في العيب.

الوجهان المذكوران في الغبن جاريان في العيب

وقد يستظهر من عبارة القواعد في باب التدليس الوجهُ الأوّل ، قال : وكذا يعني لا ردّ لو تعيّبت الأمة المدلّسة [عنده (١)] قبل علمه بالتدليس (٢) (انتهى) ، فإنّه ذكر في جامع المقاصد : أنّه لا فرق بين تعيّبها قبل العلم وبعده ؛ لأنّ العيب مضمون على المشتري. ثمّ قال : إلاّ أن يقال : إنّ العيب بعد العلم غير مضمونٍ على المشتري لثبوت الخيار (٣).

وظاهره عدم ثبوت الخيار قبل العلم بالعيب ؛ لكون العيب في زمان الخيار مضموناً على من لا خيار له. لكن الاستظهار المذكور مبنيٌّ على شمول قاعدة التلف ممّن لا خيار له لخيار العيب ، وسيجي‌ء عدم العموم (٤) إن شاء الله تعالى.

حكم خيار الرؤية

وأمّا خيار الرؤية : فسيأتي أنّ ظاهر التذكرة حدوثه بالرؤية ، فلا يجوز إسقاطه قبلها (٥).

__________________

(١) عنده» من «ش» والمصدر.

(٢) القواعد ٢ : ٧٧.

(٣) راجع جامع المقاصد ٤ : ٣٥٤.

(٤) انظر الجزء السادس ، الصفحة ١٧٩ ١٨١.

(٥) انظر الصفحة ٢٥٨.

١٧٩

مسألة

مسقطات خيار الغبن :

١ ـ إسقاطه بعد العقد

يسقط هذا الخيار بأُمور :

أحدها : إسقاطه بعد العقد ، وهو قد يكون بعد العلم بالغبن ، ولا (١) إشكال في صحّة إسقاطه بلا عوضٍ مع العلم بمرتبة الغبن ، ولا (٢) مع الجهل بها إذا أسقط الغبن المسبَّب عن أيّ مرتبةٍ كان ، فاحشاً كان أو أفحش.

ولو أسقطه بزعم كون التفاوت عشرةً فظهر مائةً ، ففي السقوط إشكالٌ (٣) : من عدم طيب نفسه بسقوط هذا المقدار من الحقّ ، كما لو أسقط حقّ عِرضٍ بزعم أنّه شتمٌ لا يبلغ القذف ، فتبيّن كونه قذفاً. ومن أنّ الخيار أمرٌ واحدٌ مسبَّبٌ عن مطلق التفاوت الذي لا يتسامح به ولا تعدّد فيه ، فيسقط بمجرّد الإسقاط ، والقذف وما دونه من الشتم حقّان مختلفان.

__________________

(١) في «ش» : «فلا».

(٢) في «ن» شطب على «لا».

(٣) في «ش» : «وجهان».

١٨٠