الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

الشيخ محمد مهدي الآصفي

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ محمد مهدي الآصفي


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

لانقطاع كل وسيلة وسبب للنجاة والنجدة إلّا من عند الله.

٦ ـ ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ) (١).

*       *      *

والاجابة من جانب الله تعالىٰ تأتي علىٰ قدر وعي الانسان لفقره واضطراره الىٰ الله ، وعلىٰ قدر الحاجة في السؤال والدعاء ، يقول تعالىٰ : ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّـهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ).

وقرب رحمة الله تعالىٰ من العبد يتناسب طرداً مع ما في نفس العبد من الخوف من عذاب الله والطمع في احسان الله.

وكلما كان الخوف في نفس العبد أشد كان اللجوء الىٰ الله تعالىٰ في نفسه اقوىٰ ، وكان دعاؤه لله تعالىٰ اقرب الىٰ الاستجابة.

وكلما كان طمعه في ما عند الله من الرزق الحسن والثواب اكثر كان دعاؤه لله اقرب الىٰ الاستجابة.

القانون الثالث : في العلاقة بين الدعاء والاستجابة ، وهي من اوضح القوانين التي يدركها الانسان بفطرته ، وعليه تنص الآية الكريمة : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

فإن لكل دعوة اجابة ، وهو معنىٰ قوله تعالىٰ : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وهذا قانون فطري وواضح ، يتقبله الانسان بفطرته ، وهو قانون عام إلّا أن يمنع عن الاجابة عائق.

__________________

(١) السجدة : ١٦.

٤١
 &

والعوائق التي تمنع عن الاجابة علىٰ نوعين : فمنها ما يرجع الىٰ المسؤول ، ومنها ما يرجع الىٰ السائل.

والذي يرجع الىٰ المسؤول إما أن يكون من قبيل العجز عن الاجابة ، أو من قبيل البخل والشح بالإجابة.

وقد يرجع الىٰ السائل نفسه ، كما لو كانت الاجابة ليست في صالحه وهو يجهل ذلك ، والله تعالىٰ يعلم به.

أما النوع الاول من العوائق فلا وجود له في ساحة سلطان الله ، فإن سلطانه سبحانه وتعالىٰ سلطان مطلق ، لا يعجز عن شيء ولا يفوته شيء ، ولا يخرج عن سلطانه وقدرته شيء ، ولا حد لجوده وكرمه ، ولا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً.

إذن فلا يمكن أن نتصور عائقاً عن الاجابة من النوع الاول.

واما العوائق اتي ترجع الىٰ السائل فهي أمر ممكن ، ويتفق كثيراً أن الله تعالىٰ يؤخر اجابة دعاء عباده لا لبخل وشح في ساحته ، ولا لعجز ، ولكن لعلمه بأن التأخير الصلح لحالهم ، ويتفق كثيرا أن الاجابة تضر بالعبد ، فلا يستجيب الله تعالىٰ لدعوة عبده ، ولكن يعوضه عن الاجابة بخير واسع في الدنيا ، ومغفرة للذنوب أو درجات رفيعة في الآخرة ، أو كل ذلك جميعاً.

ونحن هنا نتحدث عن النوع الاول من العوائق اولاً ، ثم نتحدث عن النوع الثاني من العوائق ثانياً ، ثم نتحدث عن العلاقة بين الدعاء والاجابة ثالثاً.

١ ـ النوع الاول من العوائق :

اما العوائق من النوع الاول فلا وجود لها ، كما ذكرنا في ساحة سلطان الله تعالىٰ وجوده ؛ فإن سلطان الله سلطان مطلق لا يعجز عن شيء ، ولا يفوته شيء ، ولا حد لسلطانه وقدرته ، وكل شيء في الكون خاضع لسلطانه وقدرته ، لا يمتنع

٤٢
 &

عن ارادته وامره شيء إذا قال له : كن.

( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١).

( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢).

( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٣).

وليس في الكون شيء يخرج عن قبضة سلطانه وقدرته.

( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٤).

( إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٥).

وامره سبحانه وتعالىٰ نافذ لا يوقفه شيء ، ولا يعلقه شيء ، ولا يعيقه شيء.

( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٦).

ذلك من حيث سعة سلطانه وقدرته ونفوذ حكمه وامره.

ولا وجود كذلك لشح أو بخل في ساحته ، فهو سبحانه وتعالىٰ الجواد الذي لا حدّ لجوده وكرمه.

( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا ) (٧).

( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (٨).

وعطاؤه سبحانه عطاء ممدود غير مجذوذ.

__________________

(١) البقرة : ١١٧.

(٢) النحل : ٤٠.

(٣) يس : ٨٢.

(٤) الزمر : ٦٧.

(٥) آل عمران : ١٦٥.

(٦) النحل : ٧٧.

(٧) غافر : ٧.

(٨) الانعام : ١٤٧.

٤٣
 &

( كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) (١).

( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ .. عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٢).

وإذا اراد الله ارسال رحمة فلا ممسكَ لها ( مَّا يَفْتَحِ اللَّـهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ) (٣).

ولا نفاد لخزائن رحمته ، ( وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٤).

( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (٥).

ولا تنقضي خزائن رحمته بما يهب عباده من رزق ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً.

في دعاء الافتتاح

وفي دعاء الافتتاح : « الحمدلله الفاشي في الخلق امره وحمده ... الباسط بالجود يده ، الذي لا تنقص خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً ».

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام برواية الشريف الرضي : « اعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والارض قد اذن لك في الدعاء ، وتكفل لك بالاجابة ، وامرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، ولم يمنعك إن اسأت من التوبة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يفضحك حيث الفضيحة ، ولم يشدد عليك في قبول الانابة ، ولم يناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة ، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة ،

__________________

(١) الاسراء : ٢٠.

(٢) هود : ١٠٨.

(٣) فاطر : ٢.

(٤) المنافقون : ٧.

(٥) الحجر : ٢١.

٤٤
 &

وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشراً ، وفتح لك باب المتاب وباب الاستعتاب.

فإذا ناديته سمع نداءك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته علىٰ اُمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر علىٰ اعطائها غيره ، من زيادة الاعمار وصحة الابدان ، وسعة الارزاق.

ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته ، فمتىٰ شئت استفتحت بالدعاء ابواب النعمة ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطنك ابطاء اجابته ، فان العطية علىٰ قدر النّية » (١).

وفي الحديث القدسي : « يا عبادي ، كلكم ضال إلّا من هديته ، فاسألوني الهدىٰ اهدكم ؛ وكلكم فقير إلّا من اغنيته ، فاسألوني الغنىٰ ارزقكم ؛ وكلكم مذنب إلّا من عافيته ، فاسألوني المغفرة اغفر لكم ... ولو أن اولكم وآخركم وحيكم وميتكم اجتمعوا فيتمنىٰ كل واحد ما بلغت اُمنيته ، فأعطيته لم يتبين ذلك في ملكي ... فإذا اردت شيئاً فإنّما اقول له كن فيكون » (٢).

٢ ـ النوع الثاني من العوائق :

وأمّا العوائق التي تعيق اجابة الدعاء من النوع الثاني فهي كثيرة.

فقد تضر السائل اجابة الدعاء وهو يجهل ذلك ، والله تعالىٰ أعلم بحاله وصلاحه وفساده منه.

وقد يضره الاستعجال باجابة الدعاء ، والله تعالىٰ يعلم أن التأخير في الاستجابة اصلح لحاله وانفع له ، فيؤخر الله تعالىٰ الاجابة دون أن يلغيها أو

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الرسائل والكتب ، كتاب رقم : ٣١.

(٢) تفسير الامام : ١٩ ـ ٢٠ ، بحار الانوار ٩٣ : ٢٩٣.

٤٥
 &

ينفيها.

وفي دعاء الافتتاح : « فصرت ادعوك آمناً ، وأسالك مستأنساً ، لا خائفاً ولا وجلاً ، مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك ، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك ، ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور ».

وقد يؤخر الله تعالىٰ اجابة دعاء عبده ، كي يطول قيامه وتضرعه بين يديه تعالىٰ ، والله تعالىٰ يحب أن يطول وقوف عبده وتضرعه بين يديه ؛ ففي الحديث القدسي : « يا موسىٰ ، إني لست بغافل عن خلفي ، ولكني اُحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إن العبد ليدعو فيقول الله عزّوجلّ للملكين : قد استجبت له ، ولكن احبسوه بحاجته ، فإني اُحب أن اسمع صوته ، وإن العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالىٰ : عجلوا له حاجته فإني اُبغض صوته » (٢).

ولكن حتىٰ لو كانت الاجابة تضره فإن الله تعالىٰ لا يلغي الاجابة بشكل مطلق ، وإنما (يبدله) إلىٰ كفارة لذنوبه ، وغفران لها ، أوالىٰ رزق يرزقه اياه في الدنيا عاجلاً ، أو درجات رفيعة له في الجنة.

وفيما يلي نذكر ثلاثة احاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام في هذين (التبديل) و (التأجيل).

(التأجيل) و (التبديل) في الاجابة :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مسلم دعا الله سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا اثم ، إلّا اعطاه الله احدىٰ خصال ثلاثة : إما أن يعجل دعوته ، وإما أن

__________________

(١) عدة الداعي.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢١ ، ح ٣.

٤٦
 &

يؤخر له ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها. قالوا يا رسول الله ، اذن نكثر. قال : اكثروا » (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب له ، إمّا أن يعجل له في الدنيا ، أو يؤجل له في الآخرة ، وإما أن يكفر من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم » (٢).

ويقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام كما في رواية الشريف الرضي : « فلا يقنطنك ابطاء اجابته ؛ فإن العطية علىٰ قدر النية ، وربما اُخّرت عنك الاجابة ؛ ليكون ذلك اعظم لاجر السائل ، واجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه ، واُوتيت خيراً منه ، عاجلاً أو آجلاً ، أو صرف عنك لما هو خير لك. فلرب امر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته ؛ فلتكن مسألتك فما يبقیٰ لك جماله وينفیٰ عنك وباله ، والمال لا يبقیٰ لك ولا تبقیٰ له » (٣).

وإذا جمعنا بين هذه النصوص نلتقي خمس حالات في الاجابة :

١ ـ (التعجيل) في الاجابة للحاجة التي يدعو الله تعالىٰ بها العبد.

٢ ـ (التأجيل) في الاجابة للحاجة التي يسألها العبد من ربه.

٣ ـ (التبديل) في الاجابة وذلك بدفع السوء عن الداعي ، إذا كانت اجابة الداعي إلىٰ حاجته ليست في صالحه.

٤ ـ (التبديل) في الاجابة بما يرزق الله تعالىٰ عبده من الدرجات والنعم والمنح في الآخرة ، إذا كانت اجابة الداعي إلى طلبه ليست في صالحه.

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « والله مصيّر دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٧.

(٢) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ١٥ ، و ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٨.

(٣) نهج البلاغة ، قسم الرسائل والكتب ، كتاب رقم : ٣١.

٤٧
 &

عملاً يزيدهم في الجنة » (١).

وفي حديث آخر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « والله ما أخّر الله عزّوجلّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا ، خير لهم عما عجّل لهم منها » (٢).

٥ ـ (التبديل) في الاجابة بما يكفر الله تعالىٰ من ذنوبه وسيئاته ، إذا كانت اجابة الداعي ليست في صالحه (٣).

وقد لا يكون التبديل والتأجيل لمصلحة الداعي فقط في حالتي تأجيل الاجابة والغائها ، وإنّما قد يكون ذلك لمصلحة النظام الذي يشمل السائل وغيره ، فيكون في اجابة الدعاء أو التعجيل في الاجابة إخلال بمصلحة النظام الذي اقره الله تعالىٰ للانسان خاصة ، أو الكون عامة.

عندما ينقلب (الدعاء) إلى (عمل) :

إن (الدعاء) و (العمل) مقولتان مختلفتان ، وكل منهما من منازل رحمة الله ، فإن العمل يستنزل رحمة الله تعالىٰ كما يستنزل الدعاء رحمة الله ، يقول تعالىٰ :

( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) (٤).

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٥).

وكذلك الدعاء من مفاتيح الرحمة ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

ولكن ليس كل ما يسأله الانسان ممكناً في حساب النظام الكوني العام ، فقد يدعو الانسان الله تعالىٰ بما لا يمكن في حساب النظام العام (القضاء والقدر) ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦١٥.

(٢) قرب الاسناد : ١٧١ ، واصول الكافي : ٥٢٦.

(٣) الثلاثة الاخيرة تختص فقط بحالة الغاء دعوة العبد ، فقد يرزق الله تعالىٰ عبده مع استجابة دعائه كفارة ذنوبه ودفع السوء عنه ودرجات رفيعة في الآخرة.

(٤) التوبة : ١٠٥.

(٥) الزلزلة : ٧.

٤٨
 &

فلا يستجاب الدعاء.

وقد لا تكون الاجابة أو الاستعجال بها في صالح صاحب الدعاء ، فماذا يكون مآل هذا الجهد الذي يبذله الانسان في الدعاء ؟ والجواب : أن الدعاء بنفسه يتحول الى (عمل) وعباده تستنزل رحمة الله عليه.

فلا يكون اذن (القضاء والقدر) من مثبطات الدعاء ، فإن الله تعالىٰ إن لم يستجب لدعاء عبده ، حوله إلى عمل وعبادة يجزيه بها في الدنيا والآخرة.

والنصوص الاسلامية تشير إلىٰ هذا المعنىٰ الدقيق في انقلاب (الدعاء) إلىٰ (العمل).

روى حماد بن عيسىٰ عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : ادع ، ولا تقل قد فرغ من الامر (١) ، فإن الدعاء هو العبادة » (٢).

وفي حديث آخر عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « ادعه ، ولا تقل قد فرغ من الأمر ، فإن الدعاء هو العبادة ؛ إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) » (٣).

٣ ـ العلاقة بين الدعاء والاجابة :

عرفنا ان العوائق من النوع الاول منتفية من ساحه الله تعالىٰ بشكل مطلق.

ولكن العوائق من النوع الثاني حقيقة قائمة وموجودة في حياه العباد وادعيتهم ، ولذلك فان الله تعالىٰ قد يؤجل الاستجابة ، وقد يبدل الاجابة.

وفي غير هاتين الحالتين (حالة التأجيل وحالة التبديل) لابد من الاجابة.

__________________

(١) يعني هذا الامر من قضاء الله وقدره الذي لا يمكن تجاوزه واختراقه بالدعاء.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٢ ، ح ٨٦٤٣ واصول الكافي : ٥١٦.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٢ ، ح ٨٦٤٥ واصول الكافي : الفروع ١ : ٩٤.

٤٩
 &

وهذه الحتمية نابعة من حكم الفطرة القطعي ، إذا كان السائل محتاجاً وفقيراً ومضطر إلى المسؤول ، والمسؤول قادر علىٰ اجابة طلبه ، ولا بخل ولا شح مع خلقه.

والقرآن الكريم يؤكد هذه العلاقة الحتمية (١) يقول تعالىٰ :

١ ـ ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (٢).

فلا يحتاج المضطر في الاجابة لاضطراره ، وكشف السوء عنه إلّا إلىٰ الدعاء ( إِذَا دَعَاهُ ) ، فإذا دعاه سبحانه استجاب لدعائه ، وكشف عنه السوء.

٢ ـ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٣).

والآية الكريمة واضحة وصريحة في الربط بين الدعاء والاستجابة ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).

٣ ـ ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (٤).

والعلاقة القطعية بين الدعاء والاجابة واضحة وصريحة في هذه الطائفة من آيات كتاب الله ، وهي تدفع كل شك وريب من النفس في قطعية الاجابة من الله لكل دعاء ، ما لم تكن الاجابة مضرة بالداعي ، أو بالنظام العام الذي يعتبر الداعي جزءاً منه ، والاستجابة في هذه الآيات غير مشروطة ولا معلّقة بشيء.

وأمّا الشروط التي سوف نتحدث عنها فهي في الحقيقة ترجع إلى تحقيق الدعاء وتثبيته ، أو مصلحة الداعي نفسه ، ومن دونها يضعف الدعاء أو ينتفي.

__________________

(١) ليس معنىٰ القول بحتمية هذه العلاقة فرض امر علىٰ الله تعالىٰ ، فهو سبحانه قد كتب علىٰ نفسه الرحمة ( فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الانعام : ٥٤).

(٢) النمل : ٦٢.

(٣) غافر : ٦٠.

(٤) البقرة : ١٨٦.

٥٠
 &

اذن فإن العلاقة بين الدعاء والاستجابة علاقة حتمية لا يمكن أن تتخلف ، وعلاقة مطلقة لا يمكن ان تتعلق ، إلّا أن يكون الشرط مما يؤكد ويثبت حالة الدعاء ، نحو قوله تعالىٰ : ( إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )

وفي النصوص الاسلامية في احاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ما يؤكد ويعمق هذه العلاقة بين الدعاء والاجابة.

ففي الحديث القدسي : « يا عيسیٰ ، إني اسمع السامعين ، استجيب للداعين إذا دعوني » (١).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من عبد يسلك وادياً فيبسط كفيه ، فيذكر الله ويدعو إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات ، فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر » (٢).

وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام في حديث : « لو أنّ عبداً سدّ فاه ، ولم يسأل لم يعط شيئاً ، فسل تعط » (٣).

وعن ميسر بن عبدالعزيز عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « يا ميسر ، إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه » (٤).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « متىٰ تكثر قرع الباب يفتح لك » (٥).

وفي وصايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « يا علي ، اوصيك بالدعاء فإن معه الاجابة » (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا اُلهِم احدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا ان البلاء

__________________

(١) اصول الكافي.

(٢) ثواب الاعمال : ١٣٧.

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٤ ، ح ٨٦٠٦.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٥ ، ح ٨٦١١.

(٥) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٥ ، ح ٨٦١٣.

(٦) وسائل الشيعة ، کتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ، ح ١٨.

٥١
 &

قصير » (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : « لا والله لا يلح عبد علىٰ الله عزّوجلّ إلّا استجاب الله له » (٢).

والنصوص الاسلامية تؤكد هذه الحتمية والاطلاق في العلاقة بين الدعاء والاجابة ، وتبين بشكل واضح وصريح أنّ الله تعالىٰ يستحيي أن يرد دعاء عبده إذا دعاه.

في الحديث القدسي : « ما انصفني عبدي ، يدعوني فأستحيي أن ارده ، ويعصيني ولا يستحيي مني » (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما أبرز عبد يده إلىٰ الله العزيز الجبار إلا استحيىٰ الله عزّوجلّ أن يردها » (٤).

وفي الحديث القدسي : « من احدث وتوضأ وصلّىٰ ودعاني فلم اُجبه فيما يسأل عن امر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست برب جافٍ » (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما كان الله ليفتح باب الدعاء ، ويغلق عليه باب الاجابة » (٦).

وعن امير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً : « من اُعطي الدعاء لم يحرم الاجابة » (٧).

وفي النصين الاخيرين التفاتة ذات مغزیً ونكهة علوية ؛ فإن الله تعالىٰ كريم ووفي ، فإذا فتح باب الدعاء فلا يمكن أن يغلق علىٰ العبد باب الاجابة ، وإذا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٢) اصول الكافي ، كتاب الدعاء ، باب الالحاح في الدعاء ، ح ٥.

(٣) ارشاد القلوب للديلمي.

(٤) عدة الداعي ، وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٤ ، ح ١.

(٥) ارشاد القلوب للديلمي.

(٦) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ، ح ١٢ ، و ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٧) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الدعاء ، باب ٢ ـ و ٤ : ١٠٨٦ ، ح ٨٦٢٢.

٥٢
 &

رزق العبد توفيق الدعاء فلا يمكن أن يحرمه الاجابة.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما فتح لاحد باب دعاء إلا فتح الله له فيه باب اجابة ، فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجهد فإن الله لا يمل » (١).

وهذا هو المنزل الثالث من منازل رحمة الله. اللّهم سمعنا وشهدنا وآمنا.

المنازل الثلاثة للرحمة :

في قصة هاجر واسماعيل عليهما‌السلام ، وفي قصة ابي الانبياء ابراهيم عليه‌السلام نلتقي مشهداً فريداً أو نادراً من نوعه ، في اجتماع المنازل الثلاثة للرحمة في موضع واحد ، وفي قصة واحدة ، وذلك عندما أودع ابو الانبياء ابراهيم عليه‌السلام زوجته هاجر في وادياً غير ذي زرع وترك معها ابنهما اسماعيل عليه‌السلام وهو يومئذ طفل رضيع ، وقال : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (٢).

وذهب ابراهيم خليل الله بعد ذلك إلىٰ شأنه كما امره الله تعالىٰ ، وترك هذه المرأة والطفل الرضيع وحدهما في هذا الوادي القفر بامر الله تعالىٰ ، فنفد ما كان لديهما من الماء ، وعطش الطفل وغلب عليه الظمأ وبحثت المرأة عن الماء فلم تجد له اثراً ، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه ، والاُم تهرول هنا وهناك ، فتصعد علىٰ الصفا تارة ، تنظر إلى الاُفق البعيد بحثاً عن الماء ، ثم تهبط وتهرول باحثة عن الماء إلىٰ جانب جبل المروة ، وتدعو الله تعالىٰ أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر ، والطفل يصرخ ويبكي ويضرب بيديه ورجليه عند البيت الحرام.

ففجر الله تعالىٰ الارض بالماء تحت قدمي الطفل ، فأسرعت الاُم إلىٰ الماء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١٠٨٧ ، ح ٨٦٢٤.

(٢) ابراهيم : ٣٧.

٥٣
 &

لتروي طفلها الرضيع ، ولتلملم الماء لئلا يذهب هدراً ، فتقول للماء وهي تصنع له حوضاً يجمعه : « زم ... زم ... ».

إن هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة الله تعالىٰ ، ففجر الله تعالىٰ زمزم في واد غير ذي زرع ، وجعلها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات علیٰ هذه الارض المباركة.

وجعل الله تعالىٰ هذا المشهد جزءاً من أعمال الحج ، وثبته الله تعالىٰ في واحد من اشرف فرائضه.

فما هو السر الكامن في هذا المشهد ؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين ، وتثبيته في الحج ؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله تعالىٰ بقوة في هذا المشهد ، وجعلها مبدأً لبركات كثيرة في تاريخ اجيال الموحدين ؟

فلابد أن يكون هذا المشهد ينطوي علىٰ سرّ خاص استدعىٰ نزول رحمة الله تعالىٰ في ذاك الوادي القفر ، واستدعىٰ دوام هذه الرحمة وثباتها ، وجعل منها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات ، واستدعىٰ أن يثبتها الله تعالىٰ في حج اجيال الموحدين عند بيته الحرام.

إنني اعتقد ، والله تعالىٰ اعلم باسرار هذا المشهد ، أن هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة الله تعالىٰ ، كل منها يستنزل رحمة الله.

واول هذه المنازل الحاجة التي كان يمثلها الظمأ الذي اضر بالطفل الرضيع ، والحاجة والفقر إلىٰ الله من منازل رحمة الله.

وكلّما اضر الفقر بصاحبه أكثر كان أقرب إلىٰ رحمة الله ، ولذلك نرىٰ أن الاطفال الرضع إذا اضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ ، كانوا أقرب إلىٰ رحمة الله من الكبار الّذين يطيقون ذلك.

٥٤
 &

وذلك لان الحاجة تضرّ بهم أكثر من غيرهم.

وقد ورد في الدعاء « اللّهم أعطني لفقري » والفقر إلى الله وحده يستنزل رحمة الله تعالىٰ ، وكلما كان الفقر إلىٰ الله اعظم كان أدعىٰ لنزول رحمة الله.

فإن الفقر إلىٰ الله يجعل الانسان عند رحمة الله ، ويقرب الانسان منه ، سواء كان الانسان يعي فقره إلی الله ام لا يعي ، وإن كان وعي الفقر إلى الله يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمة الله تعالىٰ ، كما ذكرنا.

ولكن بشرط إلّا يحرّف الانسان الفقر عن موضعه ، فيتصوّر أنّه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا ، أو إلىٰ بعض عباد الله بدل أن يعيه علىٰ واقعه من الفقر إلىٰ الله.

وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر. والّذي يستنزل رحمة الله تعالىٰ هو الفقر إلىٰ الله ، فإذا حرف الانسان هذا الفقر من الفقر إلىٰ الله إلىٰ الفقر إلىٰ عباد الله ، فقد الفقر قيمته في استنزال رحمة الله تعالىٰ ، واكثر فقر الناس من هذا النوع.

وفي هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة الله تعالىٰ.

وليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى الله مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمة الله تعالىٰ ، اكثر من مشهد طفل يتلظىٰ من العطش ، ولا تجد له اُمّه إلىٰ الماء سبيلاً.

والمنزل الثاني لرحمة الله في هذا المشهد هو (السعي) ، وهو شرط للرزق ، ولا رزق من دون سعي ، وقد جعل الله تعالىٰ السعي والحركة في حياة الانسان مفتاحاً للرزق.

وإذا كان عامل الفقر يتطلب من الانسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة ، فإنّ عامل السعي يتطلب من الانسان العزم والقوّة والارادة ، والحركة والنشاط ، وعلىٰ قدر حركة الانسان وسعيه وعزمه يرزقه الله تعالىٰ من رحمته.

٥٥
 &

وقد تحركت اُم اسماعيل عند ما نفد عندهما الماء ، وغلب الظمأ علىٰ اسماعيل تحركت للبحث عن الماء وسعت في طلبه ، تصعد إلىٰ الصفا مرة ، تنظر في الافق البعيد باحثة عن الماء ، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة تارة اخرىٰ لتصعد عليه وتنظر إلى الافق البعيد تبحث عن الماء ، ورغم أنها استعرضت في هذه الحركة كل الاُفق من علىٰ الصفا والمروة فلم تجد ماءً ، لم تيأس وكررت هذه الحركة والصعود والنزول والهرولة من الصفا إلىٰ المروة وبالعكس سبع مرات.

ولو لا هذا الامل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الاول ، ولكن الامل والرجاء اللذين كانا يعمران قلبها العامر كانا يدعوانها كل مرة إلىٰ إعادة السعي مرة اخرىٰ ، حتىٰ فرج الله عنهما وفجر زمزم تحت قدمي اسماعيل ، ولكن الامل هنا في الله وليس في الماء ، ولو كان املها في الماء لانقطع املها في المرة الاُولىٰ أو الثانية.

وقد جعل الله تعالىٰ هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق ، ولا تزول رحمته علىٰ الانسان ، والله تعالىٰ يرزق عباده ، وينزل عليهم رحمته ، ولكن الله تعالىٰ شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.

والمنزل الثالث لرحمة الله تعالىٰ في هذا المشهد هو دعاء ام اسماعيل ، وانقطاعها إلىٰ الله واضطرارها إليه عزّ شأنه في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي الزرع.

وكلّما انقطع الانسان في دعائه الىٰ الله اكثر كان اقرب الىٰ رحمة الله.

ولست ادري في أية حالة من حالات الانقطاع إلىٰ الله كانت هذه المرأة الصالحة ، في تلك اللحظات في ذلك الوادي ، وليس من انسان أو حيوان حولها ، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً ، ويكاد أن يلفظ آخر انفاسه.

لقد انقطعت هذه المرأة إلى الله في تلك اللحظه انقطاعاً ضجّت له ملائكة الله

٥٦
 &

بالدعاء ، وضموا اصواتهم الى صوتها ، ودعاءهم إلى دعائها.

ولو أن الناس كلهم انقطعوا إلىٰ الله بمثل هذا الانقطاع ( لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) وعمتّهم رحمة الله تعالىٰ. عليكِ سلام الله يا اُمنا ام اسماعيل من ابنائك الّذين آتاهم الله النور والهدىٰ ، والايمان والنبوة ومن المهتدين بهداهم ونورهم ، فلو لا الانفراد في ذلك الوادي القفر غير ذي الزرع في هجير الحجاز ، ولو لا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى الله عزّوجلّ بمثل هذا الانقطاع في ذلك الموقف العسير علىٰ جبلي الصفا والمروة ، ولو لا ذلك الانقطاع إلىٰ الله ، لم تنزل رحمة الله تعالىٰ عليكما ، ولو لا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك الىٰ الله وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر الله في الحج.

( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) (١).

لقد ثبّت الله تعالىٰ يا اُمنا انقطاعك إليه في ذلك الهجير ، وسعيك إلى الماء وصراخ صغيرك اسماعيل في ذاكرة التاريخ ، ليعرف الاجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة الله ، وكيف يتعرضون لرحمة الله.

إن رحمة الله تعالىٰ واسعة لا شح فيها ولا نقص ، ولا عجز ، ولكن الناس لا يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها ، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.

ومنك تعلمنا يا اُمنا كيف نطلب منازل رحمة الله وكيف نتعرض لرحمة الله ، ومنك يا اُمنا اخذنا مفاتيح الرحمة.

وعذراً يا اُمنا إذا كنّا نحن ابناءك لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلمتِها إلىٰ اسماعيل من بعدك ، وتوارثها ابناء اسماعيل من اسماعيل وتوارثناها نحن من ابنك

__________________

(١) البقرة : ١٥٨.

٥٧
 &

محمد المصطفیٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضيعناها فيما ضيعنا من ثرات الانبياء ومواريثهم.

لقد تعلمنا من أبينا ابراهيم كيف نوحّد الله ، وتعلمنا من اُمنا هاجر كيف نسأل الله.

وفي متاهات الهوىٰ والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.

فأعنا اللّهم علىٰ تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا واُمنا ابراهيم وهاجر عليهما‌السلام ، واجعلنا من اُسرتهم ، ولا تطردنا ربنا من هذا البيت من آل ابراهيم وآل عمران.

( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١).

( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٢).

لقد اخذت اُمنا (ام اسماعيل) يومذاك في ذلك الوادي القفر ، وفي رمضاء ذلك الهجير بأسباب الخير كلّها ، وذلك هو السعي والدعاء والفقر.

لقد كانت امنا تسعىٰ إلى الماء وتشرف علىٰ الوادي تارة من علىٰ الصفا ، واخرىٰ من علىٰ المروة باحثة عن الماء ، والله تعالىٰ يحب من عباده الحركة والسعي والعمل ، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق.

ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلىٰ الله ، وتدعوه تعالىٰ وتسأله في حالة من الانقطاع ، يقلّ نظيرها في تاريخ الانسان.

فلا السعي والتحرك ، كان يحجبها عن الله ، ويقطعها عنه تعالىٰ ، ولا الانقطاع الىٰ الله كان يعطل فيها حالة الحركة والسعي ، السعي الىٰ الماء بأقصىٰ ما

__________________

(١) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) البقرة : ١٢٨.

٥٨
 &

تستطيعه امرأة في ذلك الوادي ، وفي ذلك الهجير ، في اشواط سبعة من الصفا الى المروة ومن المروة الىٰ الصفا.

واننا اليوم في شعائر حجنا ، نسعىٰ في هذه الاشواط بين هذين الجبلين ، من غير معاناة ولا عذاب ، ولا هم ، ولا قلق فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.

وقد قامت امنا هاجر بهذا السعي كله في ذلك الوادي القفر وفي رمضاء ذلك الهجير ، وهي ظمأىٰ قد استنفد العطش كل حولها وقوتها ، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر انفاسه ، ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي الىٰ الماء بقوة وهمّة وعزم وارادة.

ومع ذلك لم يقطعها هذا السعي ولو لحظةً واحدة عن الانقطاع الىٰ الله ، ولم يحجبها ولو لحظةً واحدة عن الله. لقد كانت في هذا السعي المرير كله علىٰ اتصال بالله وانقطاع الىٰ الله ، لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذلك عن هذا ، فقرنت السعي الىٰ الدنيا بالانقطاع الىٰ الله ، وقرنت الانقطاع الىٰ الله بالسعي الىٰ الدنيا ، ومن منا يقدر علىٰ ذلك ؟

والملائكة يومئذ ينظرون اليها ويتعجبون منها ، كيف استطاعت أن تنقطع الىٰ الله هذا الانقطاع ؟ وكيف تمكنت أن تسعىٰ الىٰ الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي ؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع الىٰ الله بمثل هذا الجمع ؟

فيضجون الىٰ الله تعالىٰ أن يستجيب لدعائها وسعيها ، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمة الله تعالىٰ ، وتستقرب رحمة الله حتىٰ تكاد أن تنطبق السماء علىٰ الارض.

لقد صعد يومئذ عمود من الدعاء والعمل الصالح من الارض الىٰ السماء ، ونزل عمود من الرحمة من السماء الىٰ الارض ، واتصلت الارض بالسماء والسماء

٥٩
 &

بالارض ، وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريد ، ويضجون الىٰ الله تعالىٰ ويتضرعون ، فيحدث ما ليس بالبال ولا بالخيال ، وتتفجر الارض تحت اقدام الرضيع ماءً بارداً زلالاً شفافاً هنيئاً.

وسبحان الله والحمد لله ، لقد استجاب الله لسعيها ودعائها ، ولكن لا حيث سعت وإنّما تحت اقدام الرضيع الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك ، ليعلمها الله أنه تعالىٰ هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب في هذه الرمضاء وذلك الهجير ، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها ، وإن كان لابد لها أن تسعىٰ وتتحرك ليرزقها الله تعالىٰ زمزم.

ففجر الله (زمزم) تحت اقدام الرضيع ، واقام الله تعالىٰ في ذلك الوادي بيته المحرم ، وبارك في زمزم وجعل منها سقاية الحاج مدىٰ الاجيال ، وثبّت الله هذا السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج ، يحذو فيها حشود الحجاج كل عام حذوها ، ويحيّون فيها من بُعد امهم هاجر وأبويهم ابراهيم واسماعيل.

لقد اجتمع في هذا الوادي يومذاك ثلاثة اسباب من اسباب نزول رحمة الله تعالىٰ : الفقر ، والسعي ، والدعاء ؛ فقر في اقصىٰ درجات الضعف والفاقة ، وسعي في قوة وحزم وعزم ، ودعاء في تضرع وانقطاع واضطرار.

وفي الحج نحيي نحن كل عام هذا المشهد لنتعلم من اُمّنا ام اسماعيل عليهما‌السلام كيف نطلب رحمة الله تعالیٰ ، وكيف نستنزل فضله ورحمته ، وكيف نغرف من رحمته ونتعرض لها.

٦٠