الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

الشيخ محمد مهدي الآصفي

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ محمد مهدي الآصفي


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بهذا الملاك الجديد الذي يطرحه الاسلام.

فيبقیٰ حبّ الانسان الطبيعي في مواضعه ، ولكن ضمن تنظيم جديد يكرّس حبّ العبد لله تعالىٰ بدل أن يضعفه ويشوّش عليه.

ولهذا السبب فقد ورد تأكيد بليغ في النصوص الاسلامية في قيمة « الحب لله وفي الله ». فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « المحبّة لله أقرب نسب » (١).

وعنه عليه‌السلام أيضاً : « المحبّة في الله آكد من وشيج الرحم » (٢).

والتعبير دقيق ويعتمد علىٰ أصل فكري مهم ، فإن للناس في حياتهم أنساباً ووشائج من العلاقات. ومن أوثق هذه الوشائج وشيجة الرحم. والعلاقة بالله تعالیٰ آكد من وشيجة الرحم. وإذا ربط الانسان حبّه وتعلّقه بهذه الوشيجة ، وأحبّ من خلالها ، وأبغض من خلالها ، كان أكمل النسب وآكد الوشائج.

وإنّما يكون آكد الوشائج لأن الحبّ إذا كان لغير الله فقد يتغيّر وقد يختلّ ، وقد يتأثّر بالمؤثّرات التي تغيّر وجه الناس بعضهم لبعض. أما إذا كان حبّ الانسان لأخيه لله فإنّه آكد وأقوىٰ ، وأكثر ثباتاً تجاه المؤثّرات والعوامل المضادّة المختلفة.

وليس فقط إخلاص الحبّ لله لا ينفي التعلّقات الطبيعية في نفس الانسان ، وإنّما يؤكّدها أيضاً ويرسّخها بعد أن ينظّمها من خلال القناة الكبرىٰ ، التي تنظّم كلّ حبّ الصّديقين وأولياء الله. فيكون أفضل الناس عند الله أكثرهم حبّاً لأخيه المؤمن في الله. عن الصادق عليه‌السلام : « ما التقیٰ مؤمنان قطّ إلّا كان أفضلهما أشدّهما حبّاً لأخيه » (٣).

وروي عنه عليه‌السلام أيضاً : « إن المتحابّين في الله يوم القيامة علىٰ منابر من نور ،

__________________

(١) ميزان الحکمة ٢ : ٢٣٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٨.

٢٢١
 &

قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كل شيء حتىٰ يعرفوا به ، فيقال : هؤلاء المتحابّون في الله » (١).

وروي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ بن عمران عليه‌السلام : « هل عملت لي عملاً ؟ قال : صلّيت لك وصمت ، وتصدّقت وذكرت لك ، فقال الله تبارك وتعالىٰ : أما الصلاة فلك برهان ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذكر نور ، فأي عمل عملت لي ؟ قال موسىٰ عليه‌السلام : دلّني علىٰ العمل الذي هو لك. قال : يا موسىٰ ، هل واليت لي وليّاً وهل عاديت لي عدوّاً قط ؟ فعلم موسىٰ أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله » (٢).

والحديث دقيق ، فإن الصلاة يمكن أن يقدم عليها الانسان لحبّه لله ، ويمكن أن يقدم عليها لتكون برهاناً له في الجنّة. والصوم يمكن أن يقدم عليه الانسان حبّاً لله ، ويمكن أن يقوم به ليكون جُنّة له من النار. أمّا حبّ أولياء الله وبغض أعدائه فلا يكون إلّا حبّاً لله.

المصدر الاول للحب :

من أين نستقي حبّ الله ؟ هذا سؤال مهم في بحثنا هذا. فما دمنا قد عرفنا قيمة حب الله ، فلابدّ أن نعرف من أين نأخذ هذا الحب. وما هو مصدره ؟

وإجمال الجواب أن الله تعالىٰ هو مصدر الحبّ ومبدؤه وغايته. ولابدّ لهذا الإجمال من تفصيل ، وإليك هذا التفصيل :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٣.

٢٢٢
 &

١ ـ يحبّ الله عباده :

إن الله تعالیٰ يحبّ عباده ، ويرزقهم ، ويستر عليهم ، ويهبهم من المواهب والنعم ما لا يحصيه أحد ، ويعفو عنهم ، ويتوب عليهم ، ويسدّدهم ، ويرزقهم التوفيق ، ويهديهم صراطه المستقيم ، ويتولّاهم برعايته وفضله ، ويدفع عنهم السوء والشرّ ، وهذه جميعاً أمارات الحبّ.

٢ ـ ويمنحهم حبّه وودّه :

ومن حبّ الله تعالىٰ لعباده أنه يحبّهم ، ويرزقهم حبّه. وأمر هذا الحبّ غريب ، فإن الله تعالىٰ هو واهب الحبّ ، وهو الذي يتلقّیٰ الحبّ من عباده. يهبهم الجذبة بعد الجذبة ، ثم يجذبهم إليه بتلك الجذبة.

ونحن نجد في نصوص الأحاديث والأدعية إشارات متكررة إلىٰ هذا المعنىٰ. ففي المناجاة الثانية عشرة للامام زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي ، فاجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم ». وقد شرحنا هذا النص من قبل.

وفي المناجاة الرابعة عشرة : « أسألك أن تجعل علينا واقية تنجينا من الهلكات ، وتجنّبنا من الآفات ، وتكنّنا من دواهي المصيبات ، وأن تنزل علينا من سكينتك ، وأن تغشي وجوهنا بأنوار محبّتك ، وأن تؤوينا إلىٰ شديد ركنك ، وأن تحوينا في أكناف عصمتك ، برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين ».

وفي المناجاة الخامسة عشرة (مناجاة الزاهدين) : « إلهي ، فزهّدنا فيها ، وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك ، وانزع عنّا جلابيب مخالفتك ، وتولّ اُمورنا بحسن كفايتك ، وأجمل صلاتنا من فيض مواهبك ، واغرس في أفئدتنا أشجار محبّتك ، وأتمم لنا أنوار معرفتك ، وأذقنا حلاوة عفوك ولذّة مغفرتك ، وأقرر أعيننا يوم

٢٢٣
 &

لقائك برؤيتك ، وأخرج حبّ الدنيا من قلوبنا كما فعلت بالصالحين من صفوتك ، والأبرار من خاصّتك ، برحمتك يا أرحم الراحمين ».

وفي التكملة التي يذكرها السيد بن طاووس لدعاء الامام الحسين عليه‌السلام في عرفة : « كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتىٰ يكون هو المظهر لك ؟ متىٰ غبت حتىٰ تحتاج إلىٰ دليل يدلّ عليك ؟ ومتىٰ بعدت حتىٰ تكون الآثار هي التي توصل إليك ؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقه عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً ... فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدق العبودية بين يديك ... وصنّي بسرّك المصون ... واسلك بي مسلك أهل الجذب ، إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري ، وباختيارك عن اختياري ، وأوقفني عن مراكز اضطراري ... أنت الذي أشرقت الانوار في قلوب أوليائك حتىٰ عرفوك ووحّدوك. وأنت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبّائك حتىٰ لم يحبّوا سواك ، ولم يلجأوا إلىٰ غيرك ، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدك ؟ وما الذي فقد من وجدك ؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً ، ولقد خسر من بغىٰ عنك متحولاً ، كيف يُرجىٰ سواك وأنت ما قطعت الاحسان ؟ وكيف يُطلب من غيرك وأنت ما بدّلت عادة الامتنان ؟ يا من أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين ، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين ... إلهي اطلبني برحمتك حتىٰ أصل إليك ، واجذبني بمنّك حتىٰ اُقبل عليك » (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

٢٢٤
 &

٣ ـ ويتحبّب إليهم :

والله تعالىٰ يتحبّب إلىٰ عباده ، فيغدق عليهم النعم ليحبّوه ، وإن النعم في القلوب الواعية والمدركة تحبّب الله تعالىٰ إلىٰ الذين ينعم عليهم.

في دعاء علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في الاسحار : « تتحبّب إلينا بالنعم ، ونعارضك بالذنوب ، خيرك إلينا نازل ، وشرّنا إليك صاعد ، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا في كل يوم بعمل قبيح ، فلا يمنعك ما يأتي منّا من ذلك أن تحوطنا برحمتك ، وتتفضّل علينا بآلائك ، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مُبدئاً ومُعيداً » (١).

والمقارنة بين ما هو النازل من لدن الله إلىٰ العبد من نعمٍ وفضلٍ وإحسانٍ وجميلٍ وعفوٍ وسترٍ ، وبين ما هو الصاعد من قبل العبد إلىٰ الله من قبيحٍ وشرٍ يُشعر العبد بالخجل من مولاه ، فهو يقابل هذا الحبّ والتحبّب من جانب الله تعالىٰ بالإعراض والتبغّض إليه.

وما أكثر بؤس الانسان وشقاءه إذا كان يقابل حبّ الله تعالىٰ له وتحبّبه إليه بالإعراض والتبغض.

تأمّلوا في هذه الكلمات من دعاء الافتتاح للامام الحجة عليه‌السلام : « إنّك تدعوني فاُولّي عنك ، وتتحبّب إليّ فأتبغّض إليك ، وتتودّد إليّ فلا أقبل منك ، كأنّ لي التطوّل عليك ، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي ، والاحسان إليّ والتفضّل عليّ » (٢).

« خيرك إلينا نازل ، وشرّنا إليك صاعد » (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٥.

(٢) مفاتيح الجنان : دعاء الافتتاح.

(٣) بحار الأنوار ١٨ : ٨٥.

٢٢٥
 &

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي

٢٢٦
 &

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي

٢٢٧
 &

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام ـ الشيخ محمّد مهدي الآصفي

٢٢٨
 &



توحيد الحبّ :

عندما نستعرض النصوص الاسلامية في الحب الإلهي من الكتاب والسنّة ... نجد أن هذه النصوص تحدّد لنا ضوابط ثلاثة في مسألة الحب :

أولاً : تفضيل حبّ الله :

لابدّ أن يكون الانسان أشدّ حباً لله من كل أحد ، ومن كل شيء ، وأن يكون حبّ الله تعالىٰ هو أمكن شيء في نفسه ، يقول تعالىٰ : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (١).

فلا ينهىٰ الله تعالىٰ عن حبّ الآباء والابناء والاخوان والازواج والعشائر ، ما لم يعادوا الله ورسوله ، ولا ينهىٰ عن حبّ المال والتجارة والمساكن ، ما لم تكن من حرام ... وإنّما ينهىٰ أن يكون حبّ هذه الاُمور أقوىٰ وأشدّ عند المؤمن من حبّ الله ورسوله وجهاد في سبيله ، ويقول تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ) (٢).

والآية الثانية تكمل دلالة الآية الأولىٰ ، فلا ينبغي أن يكون في الكون شيء أحبّ إلىٰ قلب المؤمن من الله ، وعليه أن يجعل لحبّ الله المنزلة العليا في نفسه ، وأن

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

(٢) البقرة : ١٦٥.

٢٢٩
 &

يمكِّن حبّ الله من نفسه أكثر من أي شيء آخر ، مهما كان ذلك الشيء ، وما لم يكن لحبّ الله علىٰ قلب المؤمن مثل هذه الهيمنة القوية والفاعلة لا يكون الانسان كامل الايمان.

فإن الله تعالىٰ يقول : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) (١).

وليس علىٰ المؤمن بأس أن يحبّ كل ذلك ما لم يحرّمه الله ... إذا كان حبّه لله أشد وأقوىٰ حتىٰ من حبّه لنفسه. فيكون الحبّ الإلهي أقوىٰ وأنفذ في نفس المؤمن من أي حبّ آخر وعلاقة اُخرىٰ. وقد روي عن الصادق عليه‌السلام : « لا يمحض رجلٌ الايمانَ باللهِ حتىٰ يكونَ اللهُ أحبَّ إليهِ من نفسِهِ وأبيهِ واُمِّهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ ومِن الناسِ كلِّهم » (٢).

وليست هيمنة الحبّ الإلهي علىٰ قلب المؤمن مسألة نظرية معزولة عن حياته وحبّه وعلاقاته ، وتحرّكه.

فللحبّ متطلّبات ومستلزمات وتبعات ، وما لم يقترن الحبّ بها لن يكون من الحبّ الصادق ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٣).

وعندما يتعارض حبّ وحبّ آخر في قلب المؤمن ، وتتعارض أحكام ومتطلبات كل واحد منها ، يكون حبّ الله أقوىٰ في نفسه ، وأكثر نفوذاً وفاعلية ، ويكون استجابته لحبّ الله دون غيره ، هو علامة صدقه في الحبّ.

وقد ورد هذا المعنىٰ في الكثير من النصوص الاسلامية في الادعية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي عنه من الدعاء : « اللّهم إني أسألك حبَّك وحبَّ من

__________________

(١) آل عمران : ١٤.

(٢) بحار الأنوار ٧٠ : ٥.

(٣) آل عمران : ٣١.

٢٣٠
 &

يحبّك ، والعملَ الذي يبلّغني حبَّك ، اللّهم اجعل حبَّك أحبَّ اليَّ من نفسي وأهلي » (١). وورد مثله عن داود عليه‌السلام (٢).

وورد أيضاً عن رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم اجعل حبّك أحبّ الاشياء اليّ ، واجعل خشيتك أخوف الاشياء عندي ، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلىٰ لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرِر عيني من عبادتك » (٣).

ثانياً : تحكيم حبّ الله :

تحكيم الحبّ الإلهي علىٰ كل علاقاته وصِلاته وميوله القلبية ، فيكون حبّ الله تعالىٰ حاكماً علىٰ قلبه ، ومتصرّفاً في مشاعره وعواطفه وأحاسيسه ، فيلغي من قلب المؤمن ما لا ينسجم معه من الحبّ والكره ، ويُثبّت في قلبه ما يتطلّبه حبّ الله من حبّ وكره ، ويطرد من قلبه ما لا يرتضيه الله تعالیٰ من حبّ وكره.

فليس محظوراً علىٰ الانسان المسلم أن يحبّ ويكره ، ولكن عليه أن يضع الحبّ والبغض والرضا والغضب حيث يريد الله ، وحيث يقرّه علىٰ ذلك. فما كان من الحبّ في امتداد حبّ الله تعالىٰ فإن الله يأمر به ، وما كان من الحبّ لا ينهىٰ عنه الله تعالىٰ فإن الإسلام يقرّه ، وما كان من الكره لأعداء الله فإن الله يأمر به ، وما كان منه ممّا لا ينهىٰ عنه الله فإن الاسلام يقرّه. هذا هو الأمر الاول.

وما كان من الحبّ يعارض حبّ الله فان الاسلام يلغيه من حياة المؤمن ، وهذا هو الأمر الثاني.

يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ

__________________

(١) كنز العمال للمتقي ٢ : ٢٠٩ ، ح ٣٧٩٤.

(٢) كنز العمال للمتقي ٢ : ١٩٥ ، ح ٣٧١٨.

(٣) كنز العمال للمتقي ٢ : ١٨٢ ، ح ٣٦٤٨.

٢٣١
 &

اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١).

فلم يكن المؤمنون الذين خاطبهم الله بهذه الآية يحبّون آباءهم وإخوانهم أشدّ من حبّهم لله ، ولكنهم كانوا يحبّونهم رغم كفرهم ، ويضمرون لهم المودّة والحبّ والولاء ، فنهاهم الله عن ذلك ، وعدّ حبّهم والولاء لهم من الظلم.

وهذه الآية نزلت في « حاطب بن أبي بلتعة » (٢) الذي أرسل إلىٰ قومه من المشركين يخبرهم بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا نشكّ في أن « حاطب بن أبي بلتعة » كان مؤمناً ، ولم يكن حبّه لأهله بأشدّ من حبّه لله ، إلّا أنه كان يحبّ اهله وقومه ، رغم عدائهم لله ولرسوله.

ولا يتّسع قلب لحبّين يتعارضان في وقت واحد ، حبّ الله وحبّ أعداء الله ، فإذا أخلص قلبه لله في الحبّ والبغض وحكّم حبّ الله تعالىٰ في كل متعلّقاته النفسية ، فليس عليه من بأس بعد ذلك أن يحبّ أو يكره ، كلّما توفّرت الضوابط العقائدية للحبّ والكره لديه.

وليس للمؤمن أن يرسل عواطفه ، كما يشاء واين يشاء ، ولا أن يمدّ صِلاته وعلاقاته كما يريد ، وإنما يجب عليه أن يحكّم حبّه لله في صِلاته ، وعلاقاته ، وميوله النفسية ، بشكل دقيق ، إن كان صادقاً في حبّه لله.

ولقد كان المسلمون الاوائل يقتلون آباءهم ، وإخوانهم ، وأعمامهم من المشركين ، فلا يتردّدون في شيء من ذلك ، ولا يتزلزل لهم قدم ، ولن يكون الولاء والحبّ لله صادقاً إلّا عندما يمكّن صاحبه من التخلّي عن كل حبّه وبغضه وميوله النفسية وعلاقاته لله بشكل مطلق ، ويتحرّر من كل الوشائج النفسية التي تربطه بهذا أو ذاك بشكلٍ كامل. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « ولقد كنا مع

__________________

(١) التوبة : ٢٣.

(٢) تفسير نور الثقلين ٢ : ١٩٥.

٢٣٢
 &

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقتل آباءنا ، وأبناءنا ، وإخواننا ، وأعمامنا ... ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ، ومضيّاً علىٰ اللقم (١) ، وصبراً علىٰ مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدو ـ ثم يقول عليه‌السلام ـ : فلما رأىٰ الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر حتىٰ استقر الاسلام » (٢).

وتستوقفنا في هذا الحديث فقرتان :

اولاهما : « ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً » ، وهذه الفقرة تحكي عن سنّة من سنن الله تعالىٰ هي سنّة (العلاقة بين العطاء وبين الايمان والحب) ، وهذه سنة لا يعيها إلّا قلّة من الناس.

والناس عادة يتصوّرون الأمر بالعكس ، فيتصوّرون أن المعاناة وتحمّل الابتلاء يستنفد صبر الانسان ومقاومته ، وما وراء هذا الصبر والمقاومة من إيمان وحبّ يبعثان علىٰ الصبر والمقاومة ... بينما الأمر بالعكس تماماً ، فإن المعاناة وتحمّل الآلام والابتلاء ، وقتل الآباء والابناء في الله يزيد في قدرة الانسان المؤمن علىٰ تحمّل الابتلاء والمعاناة ، وعلىٰ الصمود والصبر ، ويزيد في إيمان الانسان وحبه لله تعالىٰ.

والفقرة الثانية : التي تستوقفنا في هذا الحديث للتأمّل هذه العلاقة الوشيجة بين الصدق في الحبّ والولاء وبين النصر. « فلما رأىٰ الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت » ؛ فإن النصر لا ينزل إلّا حيث يكون الصدق في الولاء والموقف ، ولا تنفصل الساحة العسكرية في نتائجها عما يستقرّ في القلوب من الصدق في الحبّ والولاء.

فلن يكون المؤمن ـ إذن ـ صادقاً في حبّه وولائه لله إلّا إذا كان قادراً علىٰ

__________________

(١) اللَّقم : معظم الطريق أو وسطه وواضحه ، المنجد ، مادة لقم.

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح ١ : ٩١ ـ ٩٢ ، خ ٥٢.

٢٣٣
 &

أن يحكّم ولاءه لله في كل علاقاته وصِلاته.

خارطة الحبّ والبغض :

إن حبّ الله تعالىٰ يرسم للمؤمن خارطة دقيقة جداً لعلاقاته الاجتماعية وصلاته وأعدائه وأصدقائه ... ومن خلال هذه الخارطة يستطيع المؤمن أن يشخّص بدقة كاملة أعداءه عن أصدقائه ... ومن خلال هذه الخارطة يستطيع المؤمن أن يشخّص بدقة كاملة أعداءه عن أصدقائه ، وأهله عن الغرباء.

وإن أمر هذه الخارطة لعجيب ، تقرّب البعيد ، وتبعّد القريب ، وتدخل الخارج ، وتُخرج الداخل.

يخرج ابن نوح عليه‌السلام من أهل نوح ، فيكون غريباً عنه ، وينهىٰ الله تعالىٰ نبيه نوحاً عليه‌السلام أن يسأله عن ابنه ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١).

ويدخل سلمان الفارسي في زمرة آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيتحول من سلمان الفارسي إلىٰ سلمان المحمدي ، فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سلمان منا أهل البيت » (٢).

يقول الشيخ المفيد في الاختصاص : « جریٰ ذكر سلمان وذكر جعفر الطيار بين يدي جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وهو متكئ ففضّل بعضهم جعفراً عليه ، وهناك أبو بصير ، فقال بعضهم : إن سلمان كان مجوسيّا ثم أسلم ، فاستوىٰ أبو عبدالله عليه‌السلام جالساً مغضباً ، وقال : يا أبا بصير ، جعله الله علويّاً بعد أن كان مجوسيّاً ، وقرشيّاً بعد أن كان فارسيّاً ، فصلوات الله علىٰ سلمان ، وإن لجعفر شأناً عند الله يطير مع

__________________

(١) هود : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا : ٢٢٤.

٢٣٤
 &

الملائكة في الجنة ... » (١).

إن هذه الخارطة يختلف أمرها عمّا يألفه الناس من خرائط الحب والبغض والاعداء والاصدقاء ، وإنها لتصنف الناس إلىٰ جبهتين اثنتين ، جبهة أولياء الله وأنصاره وأحبائه وجبهة أعداء الله ومناوئيه ، علىٰ اختلاف درجات الناس في هاتين الجبهتين في حبّ الله تعالىٰ وعداء الله.

الحبّ في الله والبغض في الله :

وليس للمؤمن الخيار المطلق في هواه وحبّه ، وإنما عليه أن يتبع في حبّه وهواه وميوله وعلاقاته النقاط الحمراء ، والنقاط الخضراء من هذه الخارطة بشكل دقيق.

فيضع ولاءه وحبّه حيث يأمره الله ، وحيث يحبّ الله ، ويتبرّأ عمن يتبرّأ الله تعالىٰ منه ، ولن يصدق في إيمانه ، ولن يبلغ محض الايمان من دون هذا الولاء والحبّ لأحبّاء الله والبراءة والعداء لأعداء الله ، والمواقف الإيجابية الثابتة حيث يحبّ الله ، والمواقف السلبية حيث يأمر الله. فيحبّ بحبّ الله كل من احبّ الله. ويبغض كل من يبغضه الله. حتىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّه بحبّ الله ، وبحبّه لله ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبّوني لحبِّ اللهِ عزّوجلّ ، وأحبّوا أهلَ بيتي لحبّي » (٢).

وهكذا يتسلسل الحبّ في الله علىٰ هذا الامتداد ، ويشمل كل أولياء الله

__________________

(١) الاختصاص للمفيد : ٣٤١.

(٢) بحار الأنوار ٧ : ١٤. ويقول العلامة الشيخ عبدالحسين الاميني رحمه‌الله في كتابه سيرتنا وسنّتنا في تخريج هذا الحديث : أخرجه جمع من الحفّاظ وأئمة الحديث بأسانيد صحيحة رجالها كلهم ثقات. راجع صحيح الترمذي ١٣ : ٢٠١ ، الجزء الاول والثالث من المعجم الكبير للطبراني ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩ ، تاريخ بغداد ٤ : ١٦٠ ومصادر اُخریٰ تناهز ثلاثين مصدراً.

٢٣٥
 &

وعباده الصالحين ، كما يتسلسل الكره والعداء والبغضاء في الخط الآخر المعادي لله ولرسوله.

وعندما نمعن النظر في النصوص الاسلامية الواردة في الحبّ والبغض في الله نجد أنها تقسم الساحة إلىٰ شطرين اساسيين وجبهتين متقابلتين : جبهة أولياء الله وأحبائه علىٰ اختلاف درجاتهم في حبّ الله ، وجبهة أعداء الله علىٰ اختلاف درجاتهم في العداء والحبّ.

وليس للمؤمن خيار في هذه الساحة ، وإنما عليه أن يحدد مواقفه وتحرّكاته وميوله النفسية ضمن ضوابط الحبّ في الله والبغض في الله.

ولن يكون للمؤمن عمل من الأعمال الصالحة رغم كثرتها ، يرفعه إلىٰ الله أفضل من أن يحبّ في الله ويبغض في الله.

وإليك هذه الباقة من الروايات :

١ ـ روىٰ البرقي في (المحاسن) عن أبي بصير قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إنَّ المتحابّينَ في اللهِ يوم القيامة علىٰ منابر من نور ، قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلَّ شيء ، حتىٰ يُعرفوا به فيقال : هؤلاءِ المتحابّونَ في اللهِ » (١).

٢ ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبعض أصحابه ذات يوم : « يا عبد الله ، أحببْ في الله ، وأبغض في الله ، ووالِ في الله ، وعادِ في الله ، فإنه لا تُنالُ ولايةُ الله إلّا بذلك ، ولا يجد رجلٌ طعمَ الايمان وإن كثرت صلاتهُ وصيامهُ حتیٰ يكون كذلك ... » (٢).

٣ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « مِن أوثق عرىٰ الايمان أن تحبّ في الله ، وتبغض في الله ، وتعطي في الله ، وتمنع في الله عزّوجلّ » (٣).

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٣٩٩ ، عن المحاسن ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٢) أمالي الصدوق : ١١.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٤٥ ، طبعة حجرية.

٢٣٦
 &

فلا ينال أحد ولاية الله ـ إذن ـ إلّا إذا أخلص قلبه لله ، فكان في الله حبّه وبغضه وقربه وبعده وولايته وبراءته ... ولن يكون بين عریٰ الايمان ـ وهي كثيرة ـ عروة أوثق من الحبّ والبغض في الله.

٤ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « من أحبّ كافراً فقد أبغض الله ، ومن أبغض كافراً فقد أحبّ الله ، ثم قال عليه‌السلام : صديقُ عدوِّ اللهِ عدوٌّ للهِ » (١).

٥ ـ وعن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : « أوحىٰ الله إلىٰ بعض الانبياء : أما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة ، وأما انقطاعك إليّ فتعززك بي ، ولكن هل عاديت لي عدواً أو واليت لي ولياً » (٢).

٦ ـ وعن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « من أحبَّ للهِ ، وأبغض للهِ ، وأعطىٰ للهِ ، ومنع للهِ ، فهو ممّن كمل إيمانه » (٣).

٧ ـ وعن أبي جعفر عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ودُّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الايمان ، ألا ومن أحبَّ في الله ، وأبغض في الله ، وأعطىٰ في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء الله » (٤).

٨ ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : أيُّ عُرىٰ الايمانِ أوثق ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم. وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام ، وقال بعضهم : الحج والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلٍّ مما قلتم فضلٌ ، وليس به ولكن أوثق عُرىٰ الايمان الحبُّ في اللهِ ، والبغضُ في اللهِ ، وتوالي أولياءِ اللهِ ، والتبريّ من أعداءِ

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٦٠ ، طبعة حجرية.

(٢) تحف العقول : ٤٧٩.

(٣) المحاسن : ٢٦٣.

(٤) اُصول الكافي ٤ : ١٢٥.

٢٣٧
 &

الله » (١).

٩ ـ وعن علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، قال : « إذا جمع الله عزّوجلّ الأولين والآخرين ، قام منادٍ فنادىٰ يُسمعُ الناس ، فيقول : أين المتحابّون في الله ؟ فيقوم عنق من الناس ، فيقال لهم : اذهبوا إلىٰ الجنة بغير حساب.

قال : وتلقّاهم الملائكة ، فيقولون : إلىٰ أين ؟ فيقولون : إلىٰ الجنة بغير حساب.

قال : فيقولون : فأيُّ ضرب أنتم من الناس ؟

فيقولون : نحن المتحابّون في الله.

قال : فيقولون : وأي شيء كانت أعمالكم ؟

قالوا : كنا نحبّ في الله ونبغض في الله.

قال : فيقولون : نعم أجر العاملين » (٢).

١٠ ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام : « إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلىٰ قلبك ، فإن كان يحب أهل طاعة الله ، ويبغض أهل معصيته ، ففيك خير ، والله يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ، ويحب أهل معصيته ، فليس فيك خير ، والله يبغضك ، والمرء مع من أحبّ » (٣).

١١ ـ وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : « كل من لم يحبّ علىٰ الدين ، ولم يبغض علیٰ الدين ، فلا دين له » (٤).

١٢ ـ وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو أن عبدين تحابّا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله بينهما يوم القيامة ».

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١٢٥.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٢٦.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٢٦.

(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٢٧.

٢٣٨
 &

١٣ ـ وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله ».

١٤ ـ وعن أنس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحبّ في الله فريضة ، والبغض في الله فريضة » (١).

١٥ ـ وروي أن الله تعالىٰ قال لموسىٰ عليه‌السلام : « هل عملت لي عملاً ؟ قال : صلّيتُ لك ، وصمت وتصدَّقتُ ، وذكرت لك ، قال الله تبارك وتعالىٰ : أمّا الصلاة فلك برهان (٢) ، والصوم جُنّة ، والصدقة ظلّ ، والذكر نور. فأي عمل عملت لي ؟

قال موسىٰ عليه‌السلام : دلّني علىٰ العمل الذي هو لك ، قال : يا موسىٰ ، هل واليت لي ولياً ، وهل عاديت لي عدوّاً قط ؟

فعلم موسىٰ أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله » (٣).

خارطة الولاء والبراءة في النفس والمجتمع :

هذه باقة من النصوص الاسلامية تحدّد بشكل دقيق علاقات الانسان المؤمن الاجتماعية والاسرية ، وميوله ورغباته النفسية ، وترسم له خارطة دقيقة لساحة المجتمع الانساني بكل جبهاته المتضاربة والتواءاته السياسية والعقائدية ، وما بين هذه الجبهات والفئات من قرب ومن بعد ، وما بها من هدىً وضلال ، واستقامة واعوجاج ، وما لديها من انقياد للحق ، وعناد ، وتمرّد عليه ، وما عليها من بصيرة وهدىً ، أو ضلال وعمىً ... إن هذه الساحة المليئة بالمتناقضات والحروب والصراعات والتحالفات واللقاءات هي ساحة عملنا وتحركنا.

ومن دون وجود دليل خبير بمسالك هذه الساحة ومداخلها ، والمناطق

__________________

(١) جامع الاخبار : ١٤٩.

(٢) أي برهان ودليل علىٰ إسلامك.

(٣) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٢٣٩
 &

المحظورة ، والمناطق المجازة فيها لا نستطيع أن نتحرك في هذه الساحة ، ولا نستطيع أن نميز فيها بين أعدائنا وأصدقائنا ؛ وإن الحبّ في الله يرسم لنا في هذه الساحة خارطة دقيقة نستطيع أن نميز فيها بدقة الاصدقاء عن الاعداء ، ونعرف أين نضع ثقتنا ومن أين نسحب الثقة ، وإلىٰ من نركن وممّن نحذر ، وإلىٰ من نمدّ أيدينا ، وعمّن نسحب أيدينا ، ومع من نتعامل بثقة ، ومع من نتعامل بحذر.

فلقد شطّت هذه الامة بعيداً ، والتبس عليها الأمر طويلاً ، وركنت كثيراً إلىٰ الذين نهىٰ الله عن الركون إليهم ، وأقامت علاقات وثيقة مع الذين نهىٰ الله عن مودّتهم ، ووصلت حبلها بحبل أعداء الله ، وقطعت حبلها عن حبل أولياء الله ، ومالت إلىٰ أقصىٰ اليمين طوراً ، وإلىٰ أقصىٰ اليسار طوراً ، وصفّقت لاعداء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومالت مع كل ريح ... كل ذلك في غياب الضوابط والمعايير الاسلامية في الحبّ والبغض والتقارب والتباعد.

وإن ضوابط الولاء و (الحبّ في الله) تعطينا خطوطاً دقيقة جداً للعلاقات والصلات والوشائج ، وترسم لنا الخارطة السياسية للساحة البشرية عموماً ، وتميز لنا فيها اصدقاءنا من أعدائنا.

كما أنها ترسم لنفوسنا الحدود الدقيقة لميولها وتعلّقاتها ، ورغباتها ، وحبّها وبغضها.

إن هذه الخارطة تقسّم الساحة البشرية إلىٰ جزأين متمايزين (الولاء) و (البراءة). ولكل من الولاء والبراءة مساحة خاصة به ، ولكل من هاتين المساحتين احكامه الخاصة به ، وإن ضوابط الولاء والحبّ في الله تحدد بصورة دقيقة مساحة كل من الولاء والبراءة ، والاحكام الخاصة بكل منهما.

وضابطة الولاء والبراءة واضحة ... إنها الحبّ في الله والبغض في الله.

إن اولياءنا وأصدقاءنا في هذه الساحة هم المؤمنون. وإن أعداءنا الذين

٢٤٠