الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

الشيخ محمد مهدي الآصفي

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ محمد مهدي الآصفي


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

٤ ـ الدعاء بخلاف صلاح الإنسان :

ومما لا ينبغي للإنسان أن يدعو له هو الدعاء بخلاف مصلحته. ولما كان الانسان يجهل ما ينفعه وما يضره ، والله تعالىٰ يعلم ذلك ، فقد يبدّل الله استجابة الدعاء بنعمة اخرىٰ أو بدفع بلاء ، أو يؤخر الله الاستجابة الىٰ حين تنفعه الاستجابة. وقد ورد في دعاء الافتتاح « اسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً مدلّاً عليك فيما قصدت فيه اليك ، فإن ابطأ عني عتبت بجهلي عليك ، ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي ، لعملك بعاقبة الأمور. فلم ار مولىٰ كريماً اصبر علىٰ عبد لئيم منك عليّ يا رب ».

وعلىٰ الإنسان في مثل هذه الاحوال في الدعاء أن يدعو الله تعالىٰ ويوكل الامر إليه ، وينيطه بما يراه من المصلحة ، وإذا ابطأ عليه تعالىٰ في الإجابة أو لم يستجب له لا يعتب علىٰ الله تعالىٰ. ولكن الانسان لجهله قد يطلب من الله ما يضره ، وقد يطلب الشر ، كما لو كان يطلب الخير ، ويستعجل ما يضره الاستعجال فيه.

يقول الله تعالىٰ : ( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) (١).

وكان من خطاب صالح عليه‌السلام لثمود :

( قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) (٢).

٥ ـ الاستعاذة من الفتنة :

ولا يصح الاستعاذة من الفتنة ، فإن زوج الانسان واولاده وماله من الفتنة.

__________________

(١) الاسراء : ١١.

(٢) النمل : ٤٦.

١٦١
 &

ولا يصح أن يعوذ الانسان بالله من أهله وماله ، ولكن يصح أن يعوذ بالله من مضلات الفتن.

عن أمير المؤمنين : « لا يقولن أحدكم : اللّهم إنّي اعوذ بك من الفتنة ؛ لأنه ليس من أحد إلّا وهو مشتمل علىٰ فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن ؛ فإن الله يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١).

وعن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام : عن آبائه عليهم‌السلام قال : « سمع أمير المؤمنين رجلاً يقول : اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة. قال عليه‌السلام : اراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالىٰ : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ولكن قل : اللّهم إنّي أعوذ بك من مضلات الفتن » (٢).

٦ ـ ومما لا ينبغي من الدعاء ، الدعاء علىٰ المؤمنين :

إن من مهام الدعاء وغاياته تحكيم العلاقة داخل الاسرة المسلمة ، وازالة ما في النفوس من التراكمات التي تحدث عادة في زحمة الحياة الدنيا. والدعاء بظهر الغيب من عوامل تلطيف هذه العلاقة التي قد تتعكر في ساحة الحياة ؛ وأمّا الحالات العكسيّة التي تثبّت الحالة السلبيّة في العلاقات فما لا يحب الله فيه الدعاء.

فالله تعالىٰ يحب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بظهر الغيب ، وفي حضورهم ، وايثار الآخرين بالدعاء ، وتقديم حاجاتهم واسمائهم علیٰ حاجة الداعي نفسه.

ولا يحب في الدعاء أن يتمنىٰ الانسان زوال النعمة من أخيه كما وجدنا قبل قليل.

ولا يحب في الدعاء أن يدعو الانسان علىٰ أخيه المؤمن ، وان كان قد مسّه

__________________

(١) نهج البلاغة ، القسم الثاني : ١٦٢.

(٢) امالي الطوسي ٢ : ١٩٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٥.

١٦٢
 &

منه اذیً أو ظلم (إذا كان اخوه في الايمان ، ولم يخرج بالظلم عن دائرة الاخوة الايمانية) ، ولا يحب الله تعالىٰ لعباده أن يذكر بعضهم بعضاً بسوء بين يديه.

في دعوات الراوندي في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد : « إنك متىٰ ظُلمت تدعوني علىٰ عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك. فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته. فإن شئت اجبتك واجبته منك ، وإن شئت اخرتكما الىٰ يوم القيامة » (١).

عن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام : قال : « إذا ظلم الرجل فظلّ يدعو علىٰ صاحبه ، قال الله عزّوجلّ : إن ها هنا آخر يدعو عليك يزعم أنك ظلمته ، فإن شئت اجبتك واجبت عليك ، وإن شئت اخرتكما ، فيوسعكما عفوي » (٢).

عن هشام بن سالم ، قال : « سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : إن العبد ليكون مظلوماً فلا يزال يدعو حتىٰ يكون ظالماً » (٣).

وعن علي بن الحسين عليهما‌السلام في حديث :

« إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له : بئس الأخ أنت لأخيك. كفّ أيها المستّر علىٰ ذنوبه وعورته ، وأربع علىٰ نفسك ، واحمد الله الّذي ستر عليك ، واعلم أن الله عزّوجلّ اعلم بعبده منك » (٤).

إن الله تعالىٰ هو السلام ، وإليه يعود السلام ، ومنه السلام ، ومحضره محضر السلام ، فإذا وقفنا بين يدي الله تعالىٰ بقلوب عامرة بالسلام ، يدعو بعضنا لبعض ، ويسأل الله تعالىٰ بعضنا الرّحمة للبعض ، ويؤثر بعضنا بعضاً برحمة الله تعالىٰ ... استنزلنا رحمة الله ، وشملتنا جميعاً ، فإن رحمة الله تنزل علىٰ مواضع الحب والسلام ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٧ ، ح ٨٩٧٢ ، امالي الصدوق : ١٩١.

(٣) أصول الكافي : ٤٣٨ ، عقاب الأعمال : ٤١ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٦٤ ، ح ٨٩٢٦.

(٤) أصول الكافي : ٥٣٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٦٤ ، ح ٨٩٢٧.

١٦٣
 &

وعلىٰ القلوب المتحابّة والمتسالمة من المؤمنين ، وصعدت اعمالنا وصلاتنا ودعاؤنا وقلوبنا الىٰ الله تعالىٰ ، فإن الكلم الطيب والقلوب العامرة بالكلم الطيب تصعد الىٰ الله ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ).

وإذا وقفنا بين يدي الله بقلوب متخالفة ، فيها الضغينة والحقد ، وليس فيها الحب والسلام ، واخذنا الىٰ الله خلافاتنا ومشاكلنا وشكاوانا (نحن المؤمنين بعضنا علىٰ بعض) ، واستعدىٰ الله تعالىٰ بعضنا علىٰ بعض ... انقطعت عنا جميعاً رحمة الله ، ولم تنزل علينا هذه الرحمة التي وسعت كل شيء في الكون ، ولم تصعد الىٰ الله تعالىٰ أعمالنا وصلاتنا ودعاؤنا وقلوبنا.

فإن القلوب المتحابّة والعامرة بالحب تستنزل رحمة الله تعالىٰ وتدفع البلاء والعقوبة عن المؤمنين ، وبالعكس ، القلوب المتخالفة والمتعادية (من المؤمنين) تحجب رحمة الله عنهم ، وتجلب البلاء والعقوبة لهم.

عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن الله تبارك وتعالىٰ إذا رأىٰ أهل قرية قد اسرفوا في المعاصي وفيهم ثلاثة نفر من المؤمنين ، ناداهم جلّ جلاله : يا أهل معصيتي ، لو لا فيكم من المؤمنين المتحابين بجلالي العامرين بصلاتهم ارضي ومساجدي المستغفرين بالاسحار خوفاً مني لأنزلت بكم العذاب (١).

وعن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام قال : « من فضل الرجل عند الله محبته لإخوانه ، ومن عرّفه الله محبة اخوانه أحبّه الله ومن احبه الله أوفاه اجره يوم القيامة » (٢).

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تزال اُمتي بخير ما تحابوا ، وادوا الامانة ، وآتو

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٠.

(٢) ثواب الأعمال : ٤٨ ، بحار الأنوار ٧٤ : ٣٩٧.

١٦٤
 &

الزكاة ، وسيأتي علىٰ اُمتي زمان تخبث فيه سرائرهم ، وتحسن فيه علانيتهم ان يعمهم الله ببلاء فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجاب لهم » (١).

القلوب المتحابّة تستنزل رحمة الله :

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا انزل الله تعالىٰ الرّحمة عليهما ، فكانت تسعة وتسعين لأشدهما حباً لصاحبه ، فإذا تواقفا غمرتها الرّحمة ، وإذا قعدا يتحدثان قالت الحفظة بعضها لبعض : اعتزلوا بنا فلعل لهما سرّاً ، وقد ستر الله عليهما ».

وعن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام :

« إن المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرّحمة ، فإذا التزما لا يريدان عرضاً من اعراض الدنيا قيل لهما : مغفور لكما فاستأنفا ؛ فإذا اقبلا علىٰ المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحّوا عنهما ؛ فإن لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما.

قال اسحاق : فقلت : جعلت فداك ، ويكتب عليهما لفظهما وقد قال الله تعالیٰ : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ؟ قال : فتنفس أبو عبدالله عليه‌السلام الصعداء ، ثم بكى وقال : يا إسحاق ، إن الله تعالىٰ إنما أمر الملائكة أن تعتزل المؤمنين إذا التقيا إجلالاً لهما ، وإنه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ، ولا تعرف كلامهما ، فإنه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر واخفیٰ » (٢).

اضمار الغش للمؤمنين يستنزل غضب الله :

وممّا يتعلق بهذا الموضوع ويحجب الدعاء وصاحبه عن الله هو اضمار الغش

__________________

(١) عدة الداعي : ١٣٥ ، بحار الأنوار ٧٤ : ٤٠٠.

(٢) معالم الزلفیٰ للمحدث البحراني : ٣٤.

١٦٥
 &

للمؤمنين.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من بات وفي قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط الله ، وأصبح كذلك وهو في سخط الله حتىٰ يتوب ويرجع ، وإن مات كذلك مات علیٰ غير دين الاسلام ».

اضمار السوء للمؤمنين يحجب العمل عن الله :

كما أن اضمار السوء يحجب العمل عن الله تعالىٰ.

عن الصادق عليه‌السلام : « لا يقبل الله من مؤمن عملاً وهو مضمر علیٰ أخيه المؤمن سوءاً ».

والله تعالىٰ لا ينظر الىٰ الذين يبغضون المؤمنين :

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« شرار الناس من يبغض المؤمنين وتبغضه قلوبهم ، المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، اولئك لا ينظر الله اليهم ، ولا يزكيهم يوم القيامة » (١).

العلاقة بالله :

( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (٢).

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٠٤.

(٢) التوبة : ٢٤.

١٦٦
 &

تتكون العلاقة بالله تعالىٰ في صورتها الصحيحة من مجموعة من العناصر المتناسقة والمتآلفة ، هذه العناصر مجتمعةً تكوّن الاسلوب الصحيح للعلاقة بالله تعالیٰ.

وترفض النصوص الإسلامية العلاقة بالله تعالىٰ علىٰ أساس العنصر الواحد ، كالخوف ، أو الرجاء ، أو الحب ، أو الخشوع ، وتعتبر العلاقة بالله التي تعتمد العنصر الواحد فاقدة لحالة التوازن والتناسق.

والعناصر التي تشكل العلاقة بالله تعالىٰ مجموعة واسعة ، ورد ذكرها بتفصيل في نصوص الآيات والروايات والأدعية مثل : الرجاء ، والخوف ، والتضرّع ، والخشوع ، والتذلل ، والوجل ، والحب ، والشوق ، والأنس ، والإنابة ، والتبتّل ، والاستغفار ، والاستعاذة ، والاسترحام ، والانقطاع ، والتمجيد ، والحمد ، والرغبة ، والرهبة ، والطاعة ، والعبودية ، والذكر ، والفقر ، والاعتصام.

وقد ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام : « اللّهم إني أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك وخشية منك ، وتصديقاً لك ، وإيماناً بك ، وفرَقاً منك ، وشوقاً إليك » (١).

ومن هذه العناصر المتعددة يتألّف طيف زاهٍ ومتناسق للعلاقة بالله تعالىٰ ، وكل عنصر من هذه العناصر يعتبر مفتاحاً لباب من أبواب رحمة الله ومعرفته.

فالاسترحام مفتاح لرحمة الله تعالىٰ ، والاستغفار مفتاح للمغفرة.

كما أن كل عنصر من هذه العناصر يعتبر بحدّ ذاته طريقاً للحركة والسلوك إلىٰ الله. فالشوق والحب والاُنس بالله طريق إلىٰ الله ، والخوف ، والرهبة طريق آخر إلىٰ الله تعالىٰ ، والخشوع طريق ثالث إلىٰ الله ، والرجاء والدعاء والتمنّي طريق

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٩٢.

١٦٧
 &

آخر إلىٰ الله.

وعلىٰ الإنسان أن يسلك ويتحرك إلىٰ الله تعالىٰ من مسالك وطرق مختلفة ، ولا يقتصر علىٰ سلوك الطريق الواحد ، فإنّ لكل سلوك نكهة وذوقاً وكمالاً وثمرة في حركة الإنسان إلىٰ الله لا توجد في السلوك الآخر.

ويطرح الاسلام علىٰ هذا الاساس مبدأ تعدّدية عناصر العلاقة بالله تعالىٰ.

وهذا بحث واسع وباب رحب من العلم لا نريد أن ندخله الآن.

حب الله تعالىٰ :

وحب الله تعالىٰ من أفضل هذه العناصر ، وأقواها ، وأبلغها في شدّ الإنسان بالله تعالىٰ ، وتحكيم علاقته به عز شأنه.

ولا يوجد في ألوان العلاقة بالله لون أقوىٰ وأبلغ من « الحب » في توثيق علاقة العبد بالله.

وقد ورد ذكر هذه المقارنة بين عناصر العلاقة بالله تعالىٰ في مجموعة من النصوص الإسلامية ، ونذكر بعضها :

روي أنّ الله تعالىٰ أوحىٰ إلىٰ داود : « يا داود ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وحبّي للمشتاقين ، وأنا خاصة للمحبّين » (١).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « الحبّ أفضل من الخوف » (٢).

ورویٰ محمّد بن يعقوب الكليني عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق عليه‌السلام : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّوجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالىٰ طلب الثواب ، فتلك عبادة التّجار ، وقوم عبدوا الله عزّوجلّ حبّاً ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٢) بحار الانوار ٧٨ : ٢٢٦.

١٦٨
 &

فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (١).

ورویٰ الكليني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه ، وباشرها بجسده ، وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي علىٰ ما أصبح من الدنيا علیٰ عسر أم يسر » (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « نجوىٰ العارفين تدور علىٰ ثلاثة اُصول : الخوف ، والرجاء ، والحب. فالخوف فرع العلم ، والرجاء فرع اليقين ، والحب فرع المعرفة. فدليل الخوف الهرب ، ودليل الرجاء الطلب ، ودليل الحب إيثار المحبوب علىٰ ما سواه. فاذا تحقّق العلم في الصدر خاف ، وإذا صحّ الخوف هرب ، وإذا هرب نجا وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل ، وإذا تمكّن من رؤية الفضل رجا ، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب ، وإذا وُفّق الطلب وجد. وإذا تجلّىٰ ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبّة ، وإذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب ، وآثر المحبوب علىٰ ما سواه ، وباشر أوامره. ومثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة ، فمن دخل الحرم أمن من الخلق ، ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في المعصية ، ومن دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله » (٣).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بكیٰ شعيب عليه‌السلام من حب الله عزّوجلّ حتّیٰ عمي ... أوحیٰ الله إليه : يا شعيب ، إن يكن هذا خوفاً من النار ، فقد أجرتك ، وإن يكن شوقاً إلىٰ الجنة فقد أبحتك. فقال : إلهي وسيّدي ، أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك ، ولا شوقاً إلىٰ جنّتك ، ولكن عقد حبك علىٰ قلبي ، فلست أصبر أو أراك ، فأوحىٰ الله جلّ جلاله إليه : أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدمك كليمي

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٨٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٨٣.

(٣) مصباح الشريعة : ٢ ، ٣.

١٦٩
 &

موسیٰ بن عمران » (١).

وفي صحيفة إدريس عليه‌السلام : « طوبیٰ لقومٍ عبدوني حبّاً ، واتخذوني إلهاً وربّاً ، سهروا الليل ، ودأبوا النهار طلباً لوجهي من غير رهبة ولا رغبة ، ولا لنار ، ولا جنّة ، بل للمحبة الصحيحة ، والإرادة الصريحة والانقطاع عن الكلّ إليّ » (٢).

وفي الدعاء عن الإمام الحسين عليه‌السلام : « عميتْ عين لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً » (٣).

الايمان والحبّ :

وقد رُوي في النصوص الإسلاميّة أنّ الايمان حب.

فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « الإيمان حب وبغض » (٤).

وعن الفضيل بن يسار قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الحب والبغض ، أمِن الإيمان هو ؟ فقال : « وهل الإيمان إلّا الحب والبغض ؟ » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام : « هل الدين إلّا الحب ؟ إنّ الله عزّوجلّ يقول : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ) (٦).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « الدين هو الحب والحب هو الدين » (٧).

__________________

(١) بحار الانوار ١٢ : ٣٨٠.

(٢) بحار الأنوار ٩٥ : ٤٦٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٤) بحار الأنوار ٧٨ : ١٧٥.

(٥) اُصول الكافي ٢ : ١٢٥.

(٦) بحار الأنوار ٦٩ : ٢٣٧.

(٧) نور الثقلين ٥ : ٢٨٥.

١٧٠
 &

لذّة الحبّ :

والعبادة إن كانت عن حبّ وشوق ولهفةٍ فلا تفوقها لذة وحلاوة.

يقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام وهو ممّن ذاق حلاوة حبّ الله وذكره : « إلهي ما أطيب طعم حبّك وما أعذب شربَ قُربك » (١).

وهي حلاوة ولذة مستقرّةٌ في قلوب أولياء الله ، وليست لذّة عارضةً تعرض حيناً ، وترتفع حيناً. وإذا استقرّت لذة حب الله في قلب العبد فذلك قلب عامر بحب الله ، ولن يعذّب الله قلب عبد عَمَرَ بحبّه ، واستقرّت فيه لذّة حبه.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إلهي وعزَّتِكَ وجلالِكَ لقد أحببتُكَ محبةً استقرَّتْ حلاوتُها في قلبي ، وما تنعقدُ ضمائُر موحِّديكَ علىٰ أنّكَ تبغضُ مُحبّيكَ » (٢).

وعن هذه الحالة المستقرّة والثابتة من الحبّ الإلهي يقول الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « فوعزّتك يا سيدي لو انتهرتني ما برحت من بابك ، ولا كففت عن تملّقك ، لما انتهىٰ إليّ من المعرفة بجودك وكرمك » (٣).

وهو من أبلغ التعبير في عمق الحب واستقراره في القلب ، فلا يزول ولا يتغيّر في قلب العبد حتىٰ لو نهره مولاه ، وأبعده من جنابه ، وحاشاه أن يفعل ذلك بعبدٍ استقرّ حبه في قلبه.

وإذا عرف الإنسان طعم حبّ الله ولذّة الاُنس به فلا يؤْثر عليه شيئاً. يقول زين العابدين وإمام المحبّين : « من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام عنك بدلاً ، ومن ذا الذي أنِسَ بقربك فابتغىٰ عنك حِوَلاً » (٤).

وإنّما يتوزّع الناس علىٰ المسالك والمذاهب لأنّهم حُرِموا لذّة حب الله. وأمّا

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦.

(٢) مناجاة أهل البيت : ٩٦ ـ ٩٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٥.

(٤) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٨.

١٧١
 &

الذين عرفوا لذة حبّ الله فلا يبحثون بعد ذلك عن شيء آخر في حياتهم.

يقول الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام : « ماذا وجد من فقدك ؟! وما الذي فقد من وجدك ؟! » (١).

ويستغفر عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام من كلّ لذةٍ غير لذّة حب الله ، ومن كل شغلٍ غير الاشتغال بذكر الله ، ومن كلِّ سرورٍ بغير قرب الله ، لا لأنّ الله تعالىٰ حرّم علىٰ عباده ذلك ، ولكن لأنّ ذلك من انصراف القلب عن الله واشتغاله بغير الله ، ولو زمناً قصيراً ، ولا ينصرف قلبٌ عرف لذّة حب الله ، عن الله.

وكل شيء وكل جهد في حياة أولياء الله يأتي في امتداد حبّ الله ، وذكر الله ، وطاعة الله ، وكلّ شيء عدا ذلك فهو انصراف عن الله ، ويستغفر الله منه. يقول عليه‌السلام : « وأستغفرك من كلّ لّذةٍ بغير ذكرك ، ومن كلِّ راحةٍ بغير اُنسك ، ومن كلّ سرورٍ بغير قربك ، ومن كلّ شغلٍ بغير طاعتك » (٢).

الحبّ يجبر عجز العمل :

والحب لا ينفصل عن العمل ، فمن أحبّ كانت أمارة حبّه العمل والحركة والجهد. ولكنّ الحب يجبر عجز العمل ، ويشفع لصاحبه كلّما قصر عمله ، وهو شفيعٌ مُشفَّعٌ عند الله تعالىٰ.

يقول علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في دعاء الأسحار الذي يرويه عنه أبو حمزة الثمالي وهو من جلائل الأدعية : « معرفتي يا مولاي دليلي عليك ، وحُبّي لك شفيعي إليك ، وأنا واثق من دليلي بدلالتك ، ومن شفيعي إلىٰ شفاعتك » (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٥١.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٢.

١٧٢
 &

ونعم الدليل والشفيع المعرفة والحب ، فلا يضيع عبد دليلُه إلىٰ الله « المعرفة » ، ولا يقصر عبد عن الوصول والبلوغ إذا كان شفيعه إلىٰ الله « الحب ».

يقول الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي إنّك تعلم أني وإن لم تَدُمْ الطاعة منّي فعلاً جزماً ، فقد دامت محبّةً وعزماً ».

وهو إشارة رقيقة من رقائق كلمات الإمام ، فإنّ الطاعة قد تقصر بالإنسان ، ولا يتمكّن أن يثق بطاعته لله ، ولكن ما لا سبيل إلىٰ الشك فيه للمحبّين هو اليقين والجزم بحبّهم لله تعالىٰ ، وعزمهم علىٰ المضيّ في الحب والطاعة ، وهذا ممّا لا يرتاب فيه عبد وجد حب الله في قلبه ، فقد يقصِّر العبد في طاعة ، وقد يرتكب ما يكرهه الله ولا يحبه من معصية ، ولكن ما لا يمكن أن يكون ـ وهو يقصّر في الطاعة ويرتكب المعصية ـ أن يكره الطاعة ويحبّ المعصية.

فإنّ الجوارح قد تنزلق إلىٰ المعاصي ، ويستدرجها الشيطان والهوىٰ إليها ، وقد تقصّر الجوارح في طاعة الله ، ولكن قلوب الصالحين من عباد الله لا يدخلها غير حبّ الله وحب طاعته وكراهية معصيته.

وفي الدعاء : « إلهي اُحبُّ طاعتَكَ وإنْ قَصرْتُ عنها ، وأَكرهُ معصيتَكَ وإن ركبْتُها ، فتفضَّلْ عليَّ بالجنةِ » (١).

وهذه هي الفاصلة بين الجوارح والجوانح ، فإن الجوارح قد تقصّر عن اللحوق بالجوانح ، وقد تخلص الجوانح وتخضع لسلطان حب الله بشكل كامل ، وتقصّر عنها الجوارح ، إلّا أن القلب إذا خلص وطاب فلابدّ أن تنقاد له الجوارح وتطيعه. ولابدّ أن تنفّذ الجوارح ما تطلبه وتريده الجوانح ، وتنعدم عند ذلك هذه الفاصلة بين الجوارح والجوانح بسبب إخلاص القلب.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ١٠١.

١٧٣
 &

الحب يجير الانسان من العذاب :

وإذا كانت الذنوب تسقط الإنسان في عين الله ، وتعرّضه لعقاب الله وعذابه فإن « الحب » يجير الإنسان من عذاب الله وعقابه.

ففي المناجاة عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي إنّ ذنوبي قد أَخافتْني ، ومحبَّتي لكَ قد أَجارَتني » (١).

درجات الحبّ وأطواره :

وللحب في قلوب العباد درجات ومراحل.

فمن الحب حب ضحل ضئيل ، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.

ومن الحب ما يملأ قلب العبد ، ولا يترك في قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس ويشغلهم عن ذكر الله.

ومن الحبّ ما لا يرتوي معه العبد من ذكر الله ومناجاته والوقوف بين يديه ، ولا يُبدَّد ظمأُ فؤادِه من الذكر ، والدعاء ، والصلاة ، والعمل في سبيل الله ، مهما طال وقوفه ، وعمله ، وصلاته بين يدي الله.

وفي الدعاء عن الامام الصادق عليه‌السلام : « سيّدي أنا من حبّك جائع لا أشبع ، وأنا من حبّك ظمآن لا أرویٰ ، واشوقاه إلىٰ من يراني ولا أراه ».

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في المناجاة : « وغُلّتي لا يُبردها إلّا وَصلُك ، ولوعَتي لا يطفئها إلّا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يَبُلُّه إلّا النظرُ إليك » (٢).

ومن حب الله (الوله) و (الهيام) ، ففي (زيارة أمين الله) : « اللّهم إنّ قلوب

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٤ : ٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٩.

١٧٤
 &

المخبتين إليك والهة » (١).

وفي دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : « إلهي بك هامت القلوب الوالهة .. فلا تطمئنّ القلوب إلّا بذكراك ، ولا تسكن النفوس إلّا عند رؤياك » (٢).

وهذه خاصّة القلوب الوالهة والهائمة لا تسكن ولا تطمئن إلّا بذكر الله.

ومن أروع الحب وأبلغه ما تجده في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي رحمه‌الله والمعروف بدعاء كميل :

« فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت علىٰ عذابك فكيف أصبر علىٰ فراقك ؛ وهبني صبرتُ علىٰ حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلىٰ كرامتك ، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك ؟! » (٣).

وهو من أروع لفتات الحب وأصدقها. فهب أنّ العبد يصبر علىٰ عذاب نار مولاه ، فكيف يصبر علیٰ هجره وفراقه وغضبه ؟!

والمحب قد يتحمّل عقوبة مولاه ، ولكن لا يتحمّل غضبه ومقته له ، وقد يتحمّل النار وهي من أقسىٰ العقوبات ولكن لا يتحمّل هجر مولاه وفراقه.

وكيف يسكن العبد في نار جهنم وهو يرجو أن يعطف عليه مولاه وينقذه منها ؟

وهذان (الحب) و (الرجاء) اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ وهو يصلىٰ في نار جهنم بغضب من الله تعالىٰ ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.

فقد يحبّ العبد مولاه ، وهو ينعم بنعمته وفضله ، وهو بالتأكيد من الحب ،

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٥١.

(٣) مفاتيح الجنان.

١٧٥
 &

ولكن الحب الذي لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب والرجاء قلب العبد وهو يصلىٰ بنار عذاب مولاه.

يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبي حمزة الثمالي رحمه‌الله : « فوعزّتك لو انتهرتني ما برحت من بابك ولا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبي من المعرفة بكرمك وسعة رحمتك. إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ مولاه ؟! وإلىٰ من يلتجئ المخلوق إلّا إلىٰ خالقه ؟! إلهي لو قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ، ودللت علىٰ فضائحي عيون العباد ، وأمرت بي إلیٰ النار ، وحلت بيني وبين الأبرار ما قطعت رجائي منك ، وما صرفت تأميلي للعفو عنك ، ولا خرج حبّك من قلبي » (١).

وهذا هو أصدق الحب ، والرجاء ، والأمل ، وأنقاه وأصفاه ، لا يكاد يخرج من قلب العبد حتىٰ لو قرنه مولاه بالأصفاد ، ومنعه سيبه من بين الأشهاد ، ودلّ علىٰ فضائحه عيون العباد.

ولنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب والرجاء التي يرسمها الامام علي عليه‌السلام في الدعاء الجليل « دعاء كميل » : « فبعزّتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينك اين كنت يا وليّ المؤمنين ؛ يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، ويا إله العالمين. أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته ، وحبس بين اطباقها بجرمه وجريرته ، وهو يضجّ إليك ضجيج مؤملٍ لرحمتك ، ويناديك بلسان أهل

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.

١٧٦
 &

توحيدك ، ويتوسل إليك بربوبيتك يا مولاي فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ، أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ، أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ، ام كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ، أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ، أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها. هيهات ، ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كان لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » (١).

يقول أحدهم : إن خصلة البطولة والشجاعة خصلة أصيلة في علي عليه‌السلام ، لا تفارقه حتىٰ في الدعاء بين يدي رب العالمين. فها هو في الدعاء الذي علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب ، وأحاطت به من كل جانب ، فلا يسكت ولا يسكن ولا يستسلم للعذاب والعقوبة ، كما هو مقتضىٰ الحال فيمن أطبق عليه العذاب واحتوشه زبانية النار ، وإنما يضج ويبكي ويصرخ ويهتف وينادي.

ألا تراه كيف يعبر عن هذه الحالة في دعاء الله ؟

« فبعزتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينّك اين كنت يا ولي المؤمنين ».

قلت : لمْ تصب في تذوق كلام علي عليه‌السلام ، ولو كان عليه‌السلام بهذا الصدد لم يقل في مقدمة هذا الخطاب « لو تركتني ناطقاً ». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلي عليه‌السلام في

__________________

(١) مفاتيح الجنان ، دعاء كميل.

١٧٧
 &

هذه الكلمات بين يدي الله تعالىٰ حالة الطفل الصغير الذي لم يعرف في دنياه غير عطف اُمه ، ورحمتها ، وحبها ملجأً وملاذاً. فكلما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلىٰ اُمه ، واستغاث بها واستنجدها ، فإذا ارتكب مخالفة وتعرض لعقوبة من اُمه ، وأراد أن يلجأ إلىٰ طرف يحميه من عقوبتها لم يجد ملاذاً وملجأً غيرها ، فيحتمي بها ويستنجدها ويستغيث ويلوذ بها ، كما كان يفعل عندما يصيبه الأذىٰ من غيرها.

وهذا هو حال علي عليه‌السلام في هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير ، واُفقه الواسع الرحب أن يلجأ إلىٰ الله ، ويستغيث به ، ويلوذ به ، ولا يعرف غيره ملجأً ولا ملاذاً.

فهو سبحانه وتعالىٰ ، ملجأُه وملاذه الوحيد الذي لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أن الله تعالىٰ قد أحاطه بعذابه وعقوبته (١) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلىٰ الله ، ويلوذ به ، ويستنجد به ، ويستغيث به كما كان يفعل كل مرة.

أو ليس هو سبحانه ملاذه وملجأه الوحيد ؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد ويستغيث به ؟!

يقول زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام في تصوير هذا المعنیٰ في المناجاة :

« فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ ؛ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ. إلهي هل يرجع العبد الابق إلّا إلىٰ مولاه ؛ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه » (٢).

ويقول عليه‌السلام في الدعاء الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي : « وأنا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك إليك » (٣).

ويقول علي بن الحسين عليه‌السلام في نفس الدعاء : « إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ

__________________

(١) نحن نستعير هنا كلمات علي عليه‌السلام نفسه ، ولو أنه لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه وبين الله تعالىٰ بهذه الطريقة.

(٢) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٢.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٤.

١٧٨
 &

مولاه : وإلىٰ من يذهب المخلوق إلّا إلىٰ خالقه » (١).

والهروب من الله إلىٰ الله من رقائق المعاني والأفكار في علاقة العبد بالله ، وهذه المشاعر التي يصورها علي عليه‌السلام في علاقة العبد بالله هي من أرقّ مشاعر (الحب) و (الرجاء) ، وأصدقها في نفوس المحبين.

وعلي عليه‌السلام لا يذهب مذهب الشعراء في هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال في إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء ، وإنما هو صادق كل الصدق في التعبير عن إحساسه وشعوره هذا بين يدي الله.

ولذلك فهو يعقب هذه اللوحة من (استغاثة العبد بربه) بلوحة اُخرىٰ في نجدة الله لعبده.

فليس يمكن فيما نعرف من رحمة الله وفضله أن الله تعالىٰ يخيب هذا الإحساس الصادق والصافي والنقي من العبد في الحب والرجاء ، فيردّ حبه ويخيّب رجاءه ، يقول عليه‌السلام : « فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ؛ أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ؛ أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ؛ أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ؛ أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ؛ أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ».

فهل يمكن أن تقوده الزبانية إلىٰ النار وتزجره فيها ، وهو ينادي الله ، ويهتف به ، ويلوذ به بلسان أهل توحيده ؟

إنّ ما سبق من حلمه وفضله في حياتنا ينفي ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. والإمام يستدلّ بحلم الله علىٰ حلمه وفضله علىٰ فضله : « وهو يرجو ما سلف من حلمك ».

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ : ٨٨.

١٧٩
 &

والإمام عليه‌السلام قاطع في هذا الجانب من القضية « الخط النازل » في علاقة الله بعبده كما كان قاطعاً وصريحاً في الطرف الآخر من القضية « الخط الصاعد » في علاقة العبد بالله.

فكما كان قاطعاً وصريحاً أنه حتىٰ في النار لا يفارقه حبه ورجاؤه ، ولن يستبدل بالله تعالىٰ ملجأً وملاذاً. كذلك هو قاطع وصريح أن الله تعالىٰ لا يخيّب مثل هذا الحب والرجاء الصادقين في قلب العبد.

تأمّلوا في هذا الجزم والقطع والصراحة في كلام علي عليه‌السلام : « هيهات ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشابه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » (١).

وهذا الجزم والقطع في علاقة العبد الذي أحب مولاه « الصاعدة » وعلاقة المولىٰ بعبده (النازلة) نجده في مواضع اُخرىٰ من كليات علي عليه‌السلام. فها هو يخاطب الله تعالىٰ في مناجاته المشهورة : « إلهي وعزتك وجلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها في قلبي ، وما تنعقد ضمائر موحديك علىٰ أنك تبغض محبيك » (٢).

وفي مناجاة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « إلهي نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك ؛ وضمير انعقد علىٰ مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك » (٣).

ويقول عليه‌السلام أيضاً في دعاء الأسحار من شهر رمضان الذي علّمه لأبي حمزة

__________________

(١) مفاتيح الجنان : دعاء كميل.

(٢) مناجاة أهل البيت ٦٨ ، ٦٩.

(٣) بحار الأنوار ٩٤ : ١٤٣.

١٨٠