الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

الشيخ محمد مهدي الآصفي

الدعاء عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ محمد مهدي الآصفي


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الدعاء للجميع ، ولا يعزل الداعي نفسه عن المدعو لهم ، كما في النحو الثاني من الدعاء ، وإنما ينوب عنهم ، ويدعو لهم ، ويحشر نفسه ضمن الجميع الذين يدعو لهم ، وهو من اقرب الدعاء الىٰ الاستجابة.

فإن الله تعالىٰ إما أن يردها جميعاً ، أو يستجيب لبعض دون بعض أو يتقبلها للجميع.

والله تعالىٰ اكرم من أن يردها جميعاً ؛ وليس من شأن الكريم التبعيض في الاستجابة.

فعليه يتعين الفرض الثالث ، وهو الاستجابة للدعاء في حق الجميع.

وأجمل ما في هذا النحو من الدعاء أن الفرد هنا يكون رسولاً عن الجميع الىٰ الله ، ويمثل الجميع ويخاطب الله تعالىٰ باسم الجميع ، ويقول : (ربنا) ، وينوب عن الجميع ويكون رسول الجميع الىٰ الله.

وأجمل من ذلك أن كل واحد منا يمنح لنفسه الحق أن يكون رسولاً عن الآخرين الىٰ الله ، فكلّ منا رسول الناس الىٰ الله تعالىٰ في الدعاء ، وكما أن لله تعالىٰ رسولاً الىٰ الناس كذلك للناس رسل يرفعون تضرعهم وحاجتهم الىٰ بارئهم.

والكل هنا رسول عن الكل ، وينوب عن الكل.

ومن العجب أننا عندما نعيش في هذه الدنيا في السوق والشارع نضع بيننا الحواجز والسدود ، ونفصل بعضنا عن بعض ، ويكون لكل واحد منا حدوده وحقوقه التي لا يتراجع ولا يتنازل عنها ، ولا يمثل احدنا إلّا نفسه ، ولا ينوب عن غيره إلّا بتصريح وإذن ، فإذا صعدنا الىٰ الله بالصلاة والدعاء ، كسرنا هذه الحواجز جميعاً ، ولم يكن احدنا يفصل نفسه عن غيره ، وكان كل واحد منا يمثل الكل. وهذا التمثيل من اروع التمثيل وأجمله (تمثيل الجميع للجميع ، ونيابة الجميع عن الجميع في النطق والنداء والدعاء بين يدي ربّ العالمين).

١٤١
 &

واجمل من ذلك كله أن الله تعالىٰ يقبل هذا التمثيل والنيابة والرسالة عن الجميع من الجميع ، ولا يرده ولا يرفضه ، ويعطي لدعوة الداعي في هذه الحالة قوّة تمثيل الجميع والنيابة عنهم ، فإذا قال احدنا في صلاته : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فكأنّما رفع الجميع الدعاء للجميع يطلب الهداية من الله.

وناهيك بذلك قيمة للدعاء في هذه الحالة.

فإن كل دعاء لكل واحد منا في كل صلاة يحمل قوّة دعاء الجميع للجميع. والدعاء في مثل هذه الحالة يحمل كفاءة وقوة علىٰ درجة عالية جداً في الاسترحام بين يدي الله.

وأجمل من ذلك كله أن في هذه الادعية ما يجب أن يرفعها كل مسلم الىٰ الله تعالىٰ في كل يوم مرات عديدة من نحو قوله تعالىٰ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ).

فإن الجميع يمثّل الجميع في الدعاء للجميع ، وهو من عجائب الدعاء في حساب الرياضيات ، فإنه يعود الىٰ تمثيل الكل للكل في الدعاء للكل ، ولنتأمل مرة اخرىٰ في قيمة هذا الدعاء.

إن الدعاء للكل ذو قيمة كبيرة باعتبار أن المدعو له هو عموم المؤمنين. وهذا العموم في المدعو له يعطي قيمة كبيرة للدعاء عند الله.

والداعي لا يرفع نداءه الىٰ الله بصفته الشخصية ، وإنما يرفع الىٰ الله ايدي الجميع ، ونداءهم وهتافهم ، وينوب هو عن الجميع ، ويمثلهم بين يدي الله ، والله تعالىٰ يقبل من عبده هذا التمثيل والنيابة عن الآخرين.

والمؤمنون يقبلون تمثيل بعضهم لبعض بين يدي الله ، فالتمثيل هنا ليس ادعاء من قبل الفرد بين يدي الله تعالىٰ ، وانما هو تمثيل حقيقي يقبله الله تعالىٰ ، ويقبله الذين ينوب عنهم الفرد في الدعاء بين يدي الله ، فهو تمثيل شرعي مقبول.

وكل دعاء في هذه الحالة يحمل قوة دعاء الجميع. فإذا دعا منا فرد بين يدي

١٤٢
 &

الله وقال : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فكأنما رفع الجميع هذا الدعاء الىٰ الله ، وهذا الدعاء بهذه الدرجة من القوة والكفاءة ، يرفعه في كل يوم كل مسلم يقف بين يدي الله تعالىٰ للصلاة ، ويدعو للجميع بالنيابة عن الجميع.

وفي كل يوم يضج الناس الىٰ الله تعالىٰ بهذه الصرخة غير المتناهية في القدرة علىٰ الاسترحام والاستعطاف عشر مرات الىٰ الله تعالىٰ.

وأجمل من ذلك كله أن الله تعالىٰ هو الذي دعانا الىٰ أن نضج إليه كل يوم بهذه الصرخة عشر مرات ، وهو الذي علمنا أن نستهديه ونطلب منه الهداية للجميع ، وهو الذي علمنا أن ننوب عن الجميع في هذا الدعاء ، وهو الذي يقبل منا هذه النيابة والتمثيل ..

فهل يمكن أن لا يستجيب بعد ذلك كله لدعائنا ؟ حاشا.

ب ـ التخصيص في الدعاء للمؤمنين :

وكما ورد في النصوص الاسلامية (التعميم في الدعاء للمؤمنين) كذلك ورد التخصيص في الدعاء للمؤمنين ، وتسميتهم بالدعاء وتشخيصهم وتعيينهم بأسمائهم.

وإن لهذا اللون من الدعاء نكهة اخرىٰ واثراً آخر في نفس صاحب الدعاء ، غير النكهة والأثر اللذين كانا للتعميم ، فإن هذا اللون من الدعاء يزيل ما قد يتراكم علىٰ العلاقات الثنائية والفئوية بين الافراد حيناً ، وبين مجاميع المؤمنين وطوائفهم حيناً آخر من السلبيات. فإن المؤمن إذا سأل الله تعالىٰ الرحمة والمغفرة لإخوانه الذين يسميهم ويعرّفهم ، وإذا سأله تعالىٰ قضاء حاجاتهم وتيسير أمورهم ، وكفاية مهامهم في الدعاء ، أحبّهم وزال ما كان يجد في نفسه تجاههم من الحسد والكره والحساسية والنفور أحياناً.

١٤٣
 &

فيكون للدعاء في هذه الحالة ثلاثة ابعاد ؟

البعد الأول منها يربط صاحب الدعاء بالله تعالىٰ.

والبعد الثاني يربطه بالمساحة الواسعة للاُمة المسلمة علىٰ وجه الارض وفي اعماق التاريخ.

والبعد الثالث يربطه بإخوانه ومعارفه وارحامه ، وتلك مساحة واسعة من حياته.

وفي النصوص الاسلامية نجد اهتماماً بليغاً بهذا اللون من التخصيص والتسمية في الدعاء.

وفيما يلي نذكر طوائف من هذه النصوص بعناوينها الواردة في المجاميع الحديثية.

أ ـ الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب :

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدر الرزق ، ويدفع المكروه » (١).

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « أوشك دعوة وأسرع إجابة دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب » (٢).

وعن أبي خالد القمّاط قال : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : أسرع الدعاء نجحاً للاجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب. يبدأ بالدعاء لأخيه فيقول له ملك موكّل به : آمين ولك مثلاه » (٣).

__________________

(١) أصول الكافي : ٤٣٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٥ ، ح ٨٨٦٧.

(٢) أصول الكافي : ٤٣٥.

(٣) المصدر السابق.

١٤٤
 &

وعن السكوني عن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ليس شيء اسرع اجابة من دعوة غائب لغائب » (١).

وعن جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يا علي ، اربعة لا ترد لهم دعوة : إمام عادل ، والوالد لولده ، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب ، والمظلوم. يقول الله عزّوجلّ : وعزتي وجلالي لانتصرن لك ولو بعد حين » (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من دعا لمؤمن بظهر الغيب قال الملك : فلك بمثل ذلك » (٣).

عن حمران بن اعين قال : « دخلت علىٰ أبي جعفر عليه‌السلام فقلت : أوصني ، فقال : اُوصيك بتقوىٰ الله ، وإيّاك والمزاح ؛ فإنه يذهب بهيبة الرجل وماء وجهه ، وعليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب ؛ فإنه يهيل الرزق. يقولها ثلاثاً » (٤).

وعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « الدعاء لاخيك بظهر الغيب يسوق الىٰ الداعي الرزق ، ويصرف عنه البلاء ، ويقول الملك : ولك مثل ذلك » (٥).

ب ـ الدعاء لأربعين مؤمن :

ورد التأكيد في النصوص علىٰ الدعاء لاربعين مؤمن باسمائهم ، وتقديمه علىٰ دعاء الانسان لنفسه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٦ ، ح ٨٨٧٠.

(٢) الخصال للصدوق ١ : ٩٢ ، والفقيه ٥ : ٥٢.

(٣) امالي الطوسي ٢ : ٩٥ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤.

(٤) السرائر : ٤٨٤ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.

(٥) امالي الطوسي ٢ : ٢٩٠ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧.

١٤٥
 &

علي بن ابراهيم عن ابيه بسنده عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال :

« من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ، ثم دعا لنفسه استجيب له » (١).

وعن عمر بن يزيد ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول :

« من قدم أربعين رجلاً من إخوانه قبل ان يدعو لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه » (٢).

ج ـ إيثار الآخرين بالدعاء :

عن أبي عبيدة ، عن ثوير ، قال : « سمعت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب ، أو يذكره بخير ، قالوا : نعم الاخ انت لأخيك ، تدعو له بالخير ، وهو غائب عنك وتذكره بخير ، قد أعطاك الله عزّوجلّ مثلي ما سألت له ، وأثنىٰ عليك مثلي ما أثنيت عليه ، ولك الفضل عليه » (٣).

وعن يونس بن عبدالرحمن عن عبدالله بن جندب أنه سمع أبا الحسن موسىٰ عليه‌السلام يقول : « الداعي لأخيه المؤمن بظهر الغيب ينادىٰ من عنان السماء : لك بكل واحدة مئة الف » (٤).

وعن ابن أبي عمير عن زيد النرسي قال : « كنت مع معاوية بن وهب في الموقف وهو يدعو ، فتفقدت دعاءه ، فما رأيته يدعو لنفسه بحرف ، ورأيته يدعو لرجل رجل من الآفاق ، ويسميهم ، ويسمّي آباءهم حتىٰ أفاض الناس.

فقلت له : يا عم لقد رأيت عجباً !

__________________

(١) المجالس : ٢٧٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٤ ، ح ٨٨٩٨.

(٢) المجالس : ٣٢٨ ، الامالي : ٢٧٣ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٤ ، ح ٨٨٩٩.

(٣) أصول الكافي : ٥٣٥ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٩ ، ح ٨٨٨٢.

(٤) رجال الكشي : ٣٦١.

١٤٦
 &

قال : وما الذي اعجبك مما رأيت ؟

قلت : ايثارك اخوانك علىٰ نفسك في مثل هذا الموضع ، وتفقدك رجلاً رجلاً.

فقال لي : لا تعجب من هذا يا بن أخي ، فإني سمعت مولاي ... وهو يقول من دعا لأخيه بظهر الغيب ناداه ملك من السماء الدنيا : يا عبدالله ، لك مئة الف ضعف مما دعوت .. » الخ (١).

وعن الحسين بن علي عليه‌السلام عن أخيه الحسن عليه‌السلام ، قال : « رأيت امي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ، ساجدة ، حتىٰ اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أمّاه : لم لا تدعين لنفسك ، كما تدعين لغيرك ؟

فقالت : يا بني ، الجار ثم الدار (٢).

وعن أبي ناتانة عن علي عن أبيه ، قال : « رأيت عبدالله بن جندب بالموقف ، فلم أر موقفاً احسن من موقفه ، ما زال مادّاً يديه الىٰ السماء ودموعه تسيل علىٰ خديه حتىٰ تبلغ الارض. فلما صدر الناس قلت له : يا أبا محمّد ، ما رأيت موقفاً أحسن من موقفك ! قال : والله ما دعوت إلّا لإخواني ، وذلك أن أبا الحسن موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام اخبرني أنه من دعا لاخيه بظهر الغيب نودي من العرش : ولك مئة الف ضعف. فكرهت أن ادع مئة الف ضعف مضمونة لواحدة لا ادري تستجاب أم لا » (٣).

وعن عبدالله بن سنان قال : « مررت بعبدالله بن جندب فرأيته قائماً علىٰ

__________________

(١) عدة الداعي : ١٢٩ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٧ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٤٩ ، ح ٨٨٨٥.

(٢) علل الشرائع : ٧١.

(٣) امالي الصدوق : ٢٧٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٨٤.

١٤٧
 &

الصفا ، وكان شيخاً كبيراً فرأيته يدعو ويقول في دعائه : اللّهم فلان بن فلان. اللّهم فلان بن فلان. اللّهم فلان بن فلان ، ما لم اُحصهم كثرة.

فلما سلّم قلت له : يا عبدالله ، لم أر موقفاً قط أحسن من موقفك ! إلّا أني نقمت عليك خلّة واحدة. فقال : وما الّذي نقمت عليّ ؟ فقلت له : تدعو للكثير من إخوانك ولم اسمعك تدعو لنفسك شيئاً.

فقال لي : يا عبدالله ، سمعت مولانا الصادق عليه‌السلام يقول : من دعا لأخيه المؤمن بظهر الغيب نودي من عنان السماء : لك يا هذا مثل ما سألت في أخيك مئة ألف ضعف ، فلم اُحب أن اترك مئة ألف ضعف مضمونة بواحدة لا ادري اتستجاب أم لا » (١).

وعن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه قال : « كان عيسىٰ بن أعين إذا حج فصار الىٰ الموقف اقبل علىٰ الدعاء لاخوانه حتىٰ يفيض الناس ، فقيل له : تنفق مالك ، وتتعب بدنك ، حتّىٰ إذا صارت الىٰ الموضع الذي تبث فيه الحوائج الىٰ الله اقبلت علىٰ الدعاء لاخوانك ، وتترك نفسك ؟ فقال : إنني علىٰ يقين من دعاء الملك لي وشك من الدعاء لنفسي » (٢).

وعن ابراهيم بن أبي البلاد (أو عبدالله بن جندب) قال : « كنت في الموقف فلما أفضت لقيت ابراهيم بن شعيب ، فسلمت عليه ، وكان مصاباً باحدىٰ عينيه ، وإذا عينه الصحيحة حمراء كانها علقة دم ، فقلت له : قد اصبت باحدىٰ عينيك ، وانا مشفق لك علىٰ الاخرىٰ ، فلو قصرت عن البكاء قليلاً.

قال : لا والله يا أبا محمّد ، ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة ؟

فقلت : فلمن دعوت ؟

__________________

(١) فلاح السائل : ٤٣ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٢) الاختصاص : ٦٨ ، بحار الأنوار : ٩٣ : ٣٩٢.

١٤٨
 &

قال : دعوت لاخواني. سمعت ابا عبدالله عليه‌السلام يقول : من دعا لأخيه بظهر الغيب ، وكل الله به ملكاً يقول : ولك مثلاه. فأردت أن اكون إنما ادعو لإخواني ، ويكون الملك يدعو لي لأني في شك من دعائي لنفسي ، ولست في شك من دعاء الملك إلى » (١).

ثالثاً : الدعاء للوالدين :

وهو من بر الوالدين ومصاديق بر الوالدين كثيرة.

فمنه أن يتصدق الانسان عنهما ، ومنه أن يحج عنهما ، ومنه أن يصلي عنها ، ومنه الدعاء لهما ، ومنه غير ذلك.

وروي عن الصادق عليه‌السلام : « ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيين أو ميتين ، يصلّي عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويحج عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما ، وله مثل ذلك ، فيزيده الله عزّوجلّ ببرّه (وصلته) خيراً كثيراً ».

عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام : « كان أبي يقول : خمس دعوات لا يحجبن عن الرّب تبارك وتعالىٰ :

١ ـ دعوة الامام المقسط.

٢ ـ ودعوة المظلوم ، يقول الله عزّوجلّ ، لأنتقمن لك ولو بعد حين.

٣ ـ ودعوة الولد الصالح لوالديه.

٤ ـ ودعوة الوالد الصالح لولده.

٥ ـ ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، فيقول : ولك مثلاه » (٢).

ومن الدعاء للوالدين الدعاء الوارد في الصحيفة السجادية :

__________________

(١) الاختصاص : ٨٤ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٣٩٢.

(٢) وسائل الشيعة ٤ : ١١٥٣ ، ح ٨٨٩٥.

١٤٩
 &

« اللّهم صلّ علىٰ محمّد وآله وذريّته ، واخصص ابوي بأفضل ما خصصت به آباء عبادك المؤمنين واُمهاتهم يا ارحم الراحمين ، اللّهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلاتي ، وفي كل آن من آناء ليلي ، وفي كل ساعة من ساعات نهاري ، واغفر لي بدعائي لهما ، واغفر لهما ببرهما لي مغفرة حتماً ، وارض عنها بشفاعتي لها رضا عزماً ، وبلغهما بالكرامة مواطن السلامة ، اللّهم وإن سبقت مغفرتك لهما فشفّعهما فيّ ، وإن سبقت مغفرتك لي فشفّعني فيهما ، حتىٰ تجتمع برأفتك في دار كرامتك ، ومحل مغفرتك ورحمتك ».

رابعاً : دعاء الانسان لنفسه :

وهي آخر محطة من محطات الدعاء ، وليس أولاها.

ومن عجب أن الاسلام يطلب من الإنسان أن يتنكر لنفسه في الحياة الدنيا في شؤون معيشته وفي تعامله مع الآخرين ، ويؤثرهم علىٰ نفسه ، كما يطلب منه أن يتنكر لنفسه ، ويؤثر الآخرين علىٰ نفسه بين يدي الله تعالىٰ في الدعاء أيضاً.

ولكن عليه ألا ينسىٰ نفسه من الدعاء بين يدي الله تعالىٰ. فماذا نسأل لأنفسنا من الله تعالىٰ ؟ وكيف ندعو ؟

هذا ما سنحاول إن شاء الله أن نبحث عنه.

أ ـ التعميم في الدعاء :

ينبغي في الدعاء أن نطلب من الله تعالىٰ كل شيء مما نحتاج إليه ، وكلّما يهمنا في دنيانا وآخرتنا ، ونطلب منه أن يكفينا كلما تحترز منه من سوء وشرّ في ديننا ودنيانا ، فإن مفاتيح الخير وأسبابه كلها بيد الله ، ولا يمتنع عن ارادته شيء ، ولا يعجزه شيء ولا يبخل علىٰ عباده بشيء من الخير والرحمة.

١٥٠
 &

وإذا كان الله تعالىٰ لا يبخل بالعطاء والاجابة ، فمن المعيب ، ومن القبيح أن يبخل العبد بالسؤال والدعاء.

في الحديث القدسي : « لو أنّ أولكم وآخركم وحيّكم وميّتكم اجتمعوا فتمنیٰ كل واحد ما بلغت اُمنيته فأعطيته لم ينقص ذلك من ملكي » (١).

وأيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديث القدسي : « لو أن أهل سبع سماوات وارضين سألوني جميعاً ، وأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي .. وكيف ينقص ملك أنا قيّمه » (٢).

وفي الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سلوا الله وأجزلوا ؛ فإنه لا يتعاظمه شيء » (٣).

وروي : « لا تستكثروا شيئاً مما تطلبون ؛ فما عند الله أكثر ».

وامثلة التعميم والتوسعة في الدعاء في طلب كل خير ، والاحتراز من كل شر كثيرة في النصوص المروية من الدعاء عن أهل البيت عليهم‌السلام.

نذكر منها بعض النماذج.

منها الدعاء الوارد بعد الفرائض في أيام شهر رجب :

« يا من يعطي الكثير بالقليل ، يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ، ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة .. أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة ، واصرف عني بمسألتي إيّاك جميع شر الدنيا وشرّ الآخرة ، فإنه غير منقوص ما أعطيت ، وزدني من فضلك يا كريم ».

وفي الدعاء « اللّهم إنّي أسألك مفاتح الخير وخواتمه ، وسوابغه وفوائده

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٣.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٣.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٢.

١٥١
 &

وبركاته ، وما بلغ علمه علمي ، وما قصر عن إحصائه حفظي ».

وفي الدعاء « يا من هو في علوه قريب ، يا من هو في قربه لطيف ، صلّ علیٰ محمّد وآل محمّد. اللّهم اني اسألك لديني ودنياي وآخرتي من الخير كله ، واعوذ بك من الشر كله ».

وفي الدعاء « وأدخلني في كل خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد ، وأخرجني من كل شر أخرجت منه محمّداً وآل محمّد ».

وفي الدعاء (واكفني ما اهمني من أمر دنياي وآخرتي).

وفي الدعاء « اللّهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرجته ، ولا سقماً إلا شفيته ، ولا عيباً إلا سترته ، ولا رزقاً إلا بسطته ، ولا خوفاً إلا آمنته ، ولا سوءاً إلا صرفته ، ولا حاجة هي لك رضاً ، ولي فيها صلاح إلا قضيتها يا ارحم الراحمين ».

وفي الدعاء « يا من بيده مقادير الدنيا والآخرة ، وبيده مقادير النصر والخذلان ، وبيده مقادير الغنیٰ والفقر ، وبيده مقادير الخير والشر صل علیٰ محمّد وآل محمّد ، وبارك لي في ديني الذي هو ملاك أمري ، ودنياي التي فيها معيشتي ، وآخرتي التي اليها منقلبي وبارك لي في جميع اُموري ... أعوذ بك من شرّ المحيا والممات ، واعوذ بك من مكاره الدنيا والآخرة ».

وفي الدعاء « اسألك بنور وجهك الذي اشرقت به السماوات ، وانكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تصلي علىٰ محمّد وآل محمّد ، وأن تصلح لي شأني كله ، ولا تكلني الىٰ نفسي طرفة عين ابداً ».

وفي دعاء الاسحار للامام زين العابدين « اكفني المهم كلّه ، واقض لي بالحسنىٰ ، وبارك في جميع أموري ، واقض لي جميع حوائجي ، اللّهم يسّر لي ما أخاف تعسيره ، فإن تيسير ما اخاف تعسيره عليك يسير ، وسهل لي ما أخاف

١٥٢
 &

حزونته ، ونفّس عني ما أخاف ضيقه ، وكفِّ عني ما أخاف غمّه ، واصرف عني ما اخاف بليته ».

وفي دعاء الاسحار « وهب لي رحمة واسعة جامعة أطلب بها خير الدنيا والآخرة ».

ب ـ ولا تحجبنا جلائل الحاجات عن صغارها :

قد يكون من المعيب أن يطلب بعضنا من بعض حاجاته الطفيفة والصغيرة ، ولكن عند ما يكون وجه العبد الىٰ الله تعالىٰ في الطلب والسؤال يختلف الأمر ، فلا يكون الطلب معيباً ، مهما صغرت الحاجة ، وخفت.

فان العبد مكشوف لربه سبحانه وتعالیٰ ، بكل حاجاته ، ونقصه وضعفه ، وبكل سوآته وعوراته ، ولا يخفی عليه سبحانه شيء من فقرنا ونقصنا حتىٰ نخجل أن نعرض عليه ، سبحانه ، ضعفنا وعجزنا وحاجاتنا التي نخجل أن نعرضها علىٰ غيره سبحانه.

فلا ينبغي أن تحجب جلائل الحاجات والطلبات عنه سبحانه صغار الحاجات وخفافها.

والله تعالىٰ يحب أن يرتبط به عبده في كل حاجاته وشؤونه ، صغارها وكبارها ، حتىٰ يكون ارتباطه به ارتباطاً دائماً ، ولن يدوم هذا الارتباط ، ويستمر ويتصل بين العبد وربّه ، إلا إذا كان العبد يشعر بالحاجة الىٰ ربّه ، في كلّ شؤونه وحاجاته في جلائل الحاجات وصغارها ، حتىٰ في مثل شسع نعله إذا انقطع.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « سلوا الله عزّوجلّ ما بدا لكم من حوائجكم ، حتیٰ شسع النعل ، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليسأل أحدكم ربه حاجته كلّها ، حتىٰ يسأله شسع نعله

١٥٣
 &

إذا انقطع » (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تعجزوا عن الدعاء ؛ فإنه لم يهلك أحد مع الدعاء ، وليسأل أحدكم ربّه حتىٰ يسأله شسع نعله إذا انقطع ، وأسالوا الله من فضله ؛ فإنه يحب أن يسأل » (٢).

وعن سيف التمّار قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

عليكم بالدعاء ؛ فإنكم لا تتقربون بمثله ، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها ؛ فإن صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر » (٣).

وفي الحديث القدسي : « يا موسىٰ ، سلني كلما تحتاج إليه ، حتىٰ علف شاتك وملح عجينك » (٤).

ولسنا بحاجة الىٰ التأكيد علىٰ أن هذا المبدأ في الدعاء لا يعني التخلي عن العمل والحركة والسعي. ولكن علىٰ الانسان في حركته وسعيه أن لا يضع أولاً ثقته ورجاءه في عمله وحركته ، بل يحافظ علىٰ رجاءه وثقته بالله تعالىٰ ، وعلىٰ الإنسان ثانياً أن لا يقطع علاقته وارتباطه واحساسه بالحاجة الىٰ الله تعالىٰ في زحمة تحركه وعمله وسعيه.

وهذا وذاك يتطلبان من الانسان أن يسأل الله تعالىٰ كل حاجاته وشؤونه حتیٰ شسع نعله وعلف دابته وملح عجينه ، كما ورد في الحديث القدسي.

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٣١٢ ، بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٥.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٠٠.

(٣) بحار الأنوار ٩٣ : ٢٩٣ ، المجالس : ١٩ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٠٩٠ ، ح ٨٦٣٥ ، أصول الكافي : ٥١٦.

(٤) عدة الداعي : ٩٨.

١٥٤
 &

ج ـ نسأل الله تعالىٰ النعم الجليلة والكبرىٰ :

كما نسأل الله تعالىٰ كلّ شيء ، نسأله النعم الجليلة والكبرىٰ ، ولا نستكثر نعمة مهما جلّت وعظمت أن نسألها من الله ، إن كان ذلك في الامكان ، فلا يعظم شيء علىٰ الله ، ولا يعجز الله تعالىٰ شيء ، ولا ينقص من خزانته مهما كان عطاؤه جليلاً وعظيماً.

وكما ينبغي أن لا نخجل من الله تعالىٰ أن نطلب منه صغائر الأمور ، من نحو علف الدابة ، وشسع النعل ، وملح العجين ، كذلك ينبغي أن لا نستكثر علىٰ الله تعالىٰ أن نسأله النعم العظيمة الجليلة ، مهما عظمت وجلّت.

روي عن ربيعة بن كعب قال : « قال لي ذات يوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ربيعة ، خدمتني سبع سنين ، أفلا تسألني حاجة ؟ فقلت : يا رسول الله ، أمهلني حتىٰ اُفكر. فلمّا أصبحت ودخلت عليه قال لي : يا ربيعة ، هات حاجتك ، فقلت : تسأل الله أن يدخلني معك الجنة ، فقال لي : من علّمك هذا ؟ فقلت : يا رسول الله ، ما علّمني أحد ، لكني فكرت في نفسي وقلت : إن سألته مالاً كان إلىٰ نفاد ، وإن سألته عمراً طويلاً وأولاداً كان عاقبتهم الموت. قال ربيعة : فنكس رأسه ساعة ثمّ قال : افعل ذلك ، فأعني بكثرة السجود ، قال : وسمعته يقول : ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالتزموا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » الخبر بتمامه (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سئل شيئاً فإذا أراد أن يفعله قال : نعم ، وإذا أراد أن لا يفعل سكت ، وكان لا يقول لشيء : لا ، فأتاه أعرابي فسأله فسكت ، ثم سأله فسكت ، ثم سأله فسكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كهيئة المسترسل : ما شئت يا أعرابي ؟ فقلنا : الآن يسأل الجنة ، فقال الاعرابي : أسألك ناقة ورحلها

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧.

١٥٥
 &

وزاداً ، قال : لك ذلك ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كم بين مسألة الاعرابي وعجوز بني إسرائيل ؟ ثم قال : إن موسىٰ لمّا اُمر أن يقطع البحر فانتهىٰ إليه وضربت وجوه الدواب رجعت ؛ فقال موسىٰ : يا ربّ ، مالي ؟ قال : يا موسىٰ ، إنّك عند قبر يوسف فاحمل عظامه ، وقد استوىٰ القبر بالأرض ، فسأل موسىٰ قومه : هل يدري أحد منكم أين هو ؟ قالوا : عجوز لعلها تعلم ، فقال لها : هل تعلمين ؟ قالت : نعم ، قال : فدلّينا عليه ، قالت : لا والله حتىٰ تعطيني ما أسألك ، قال : ذلك لك ، قالت : فإني أسالك أن اكون معك في الدرجة التي تكون في الجنة ، قال : سلي الجنة. قالت : لا والله إلّا أن أكون معك ، فجعل موسىٰ يراود فأوحىٰ الله إليه : أن أعطها ذلك ، فإنّها لا تنقصك ، فأعطاها ودلّته علىٰ القبر » (١).

ب ـ ما لا ينبغي من الدعاء :

والآن نتحدث عما لا ينبغي من الدعاء ، وهو طائفة من العناوين نستخرجها من نصوص القرآن والحديث ، واليك طائفة من هذه العناوين مما لا ينبغي الدعاء له :

١ ـ الدعاء علىٰ خلاف سنن الله العامة في الكون والحياة :

وقد دعا الله تعالیٰ نوح عليه‌السلام أن يشفّعه في ولده ، وينجيه من الغرق ، بناءً علىٰ وعد وعده الله تعالىٰ في نجاة أهله ، فلم يستجب الله لعبده ونبيه نوح عليه‌السلام وردّ دعاءه ، وقال له : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ووعظه ألّا يعود لمثل هذا الدعاء.

( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧.

١٥٦
 &

الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (١).

وقد كان من حق نوح عليه‌السلام أن يسأل الله تعالىٰ نجاة من كان من أهله. أما من لم يكن من أهله فلا يحق له أن يسأله له النجاة من الغرق.

ولم يكن ابنه من أهله ، وهذا هو حكم الله ، ولم يكن يحق لنوح عليه‌السلام أن يسأل الله تعالیٰ علیٰ خلاف قوانينه وأحكامه.

ولننظر في جواب نوح عليه‌السلام ، وهو جواب العبد المنيب الذي يسرع الىٰ مرضاة ربه ، ويعوذ به أن يسأله ما ليس له به علم ، وينيط نجاحه وفوزه برحمته ومغفرته تعالیٰ.

إن فهم سنن الله تعالىٰ أمر لابدّ منه في الدعاء ، وليست مهمّة الدعاء اختراق هذه السنن وتجاوزها ، وإنما مهمّة الدعاء توجيه العبد الىٰ السؤال من الله في دائرة سننه وقوانينه إن سنن الله تجسد دائماً ارادته تعالىٰ التكوينية ، ومهمة الدعاء استعطاف ارادة الله وليس تجاوزها واختراقها ، والله تعالىٰ يقول : ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا ).

والنظام الكوني هو تجسيد وتبلور لإرادة الله الذي لا يصلح أمر الكون من دونه ؛ ولا يصح أن يطلب العبد في الدعاء تغييره. فإن الدعاء من أبواب رحمة الله تعالىٰ لعباده ؛ وإرادة الله تعالىٰ مطابقة دائماً لرحمته ولا يصح من العبد أن يسأل الله تعالیٰ تغييرها واستبدالها.

لا تختلف سنة عن سنة ، فكل سنة تمثل ارادة الله ، وكل ارادة لله تمثل رحمة

__________________

(١) هود : ٤٥ ـ ٤٧.

١٥٧
 &

الله وحكمته اللتين لا رحمة ولا حكمة فوقهما ، سواء في ذلك السنن الكونية والتاريخية والاجتماعية.

فمن سنن الله تعالىٰ مثلاً حاجة الناس بعضهم الىٰ بعض في شؤون دينهم ودنياهم ، وليس من الصحيح أن يطلب الانسان من الله تعالىٰ أن يغنيه عن الآخرين ولا يحوجه الىٰ خلقه ، فهو دعاء علىٰ خلاف سنة الله تعالىٰ وارادته تماماً.

وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : « قلت : اللّهم لا تحوجني الىٰ أحد من خلقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، لا تقولن هكذا ، فليس من أحد إلّا وهو محتاج الىٰ الناس.

قال : فقلت : كيف (اقول) يا رسول الله ؟

قال : قل : اللّهم لا تحوجني الىٰ شرار خلقك » (١).

وروي عن شعيب عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث أنه قال له : « ادع الله أن يغنيني عن خلقه. قال : إن الله قسّم رزق من شاء علىٰ يدي من شاء ، ولكن اسأل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك الىٰ لئام خلقه » (٢).

وبهذا الفهم للدعاء تجد أن النصوص الإسلامية تحدّد للدعاء دائرة واقعية وتخرج الدعاء عن الدوائر غير الواقعية والخيالية.

وتؤكد هذه النصوص حقيقة هامّة في طريقة واسلوب معيشة الانسان المسلم. فكما يجب أن يكون سعيه وحركته واقعيين ، وبعيدين عن الخيال ، كذلك يجب أن يكون دعاؤه في نفس الدائرة الواقعية.

روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه سأله شيخ من الشام :

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٥.

(٢) أصول الكافي : ٤٣٨ ، وسائل الشيعة ٤ : ١١٧٠ ، ح ٨٩٤٦.

١٥٨
 &

« أي دعوة اضلّ ؟ فقال : الداعي بما لا يكون » (١).

وما لا يكون هو ما يقع خارج دائرة سنن الله المتعارفة في حياة الانسان ، ولا يكون التفكير فيه والسعي إليه واقعياً.

وفي عدة الداعي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من سأل فوق قدره استحق الحرمان » (٢).

واعتقد أن المقصود بالسؤال (فوق قدره) هو السؤال فيما لا يكون طلبه واقعياً.

٢ ـ الدعاء بما لا يحل :

وكما لا ينبغي السؤال والدعاء بما لا يكون كذلك لا ينبغي الدعاء بما لا يحلّ ، وكلاهما من باب واحد ؛ فإن الأوّل خروج علىٰ ارادة الله التكوينية ، والثاني خروج علىٰ ارادة الله التشريعية.

يقول تعالىٰ : ( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) (٢).

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« لا تسأل ما لا يكون وما لا يحل » (٤).

٣ ـ تمني زوال نعمة الغير :

ومما لا يجوز في الدعاء أن يتمنىٰ الإنسان أن ينقل الله تعالىٰ النعمة من الآخرين الىٰ الداعي.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٤.

(٢) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٧ ، ح ١١.

(٣) التوبة : ٨٠.

(٤) بحار الأنوار ٩٣ : ٣٢٤.

١٥٩
 &

يقول تعالىٰ : ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّـهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) (١).

وليس من بأس علىٰ الإنسان أن يتمنىٰ من الله النعمة ، ويتمنىٰ أن ينعم عليه مثل ما أنعم علىٰ الآخرين وأفضل منهم ، ولكن ما لا يحبه الله تعالىٰ لعباده أن يطيل الانسان النظر الىٰ ما انعم الله علىٰ عباده من النعمة.

يقول تعالىٰ : ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ولا يحب الله تعالىٰ لعباده أن يتمنىٰ الإنسان أن ينقل الله تعالىٰ النعمة من الآخرين إليه. فإن فيه من تمني سلب النعمة عن الآخرين ما لا يرتضيه الله تعالىٰ لعباده ، وفيه من ضيق النظر والاُفق في الامنيات والتمنيات ما لا يحبه الله تعالىٰ لعباده. إن سلطان الله واسع وخزانته لا نفاد لها ، وملكه لا حد له ، وليس من بأس علىٰ الإنسان أن يطلب من الله كلّ شيء ، وأن يتمنىٰ أن يرزقه الله أفضل مما رزق الآخرين. وقد ورد في الدعاء « اللّهم آثرني ولا تؤثر عليّ احداً ». « واجعلني من أفضل عبادك نصيباً عندك ، وأقربهم منزلة منك ، وأخصّهم زلفة لديك ». هذا كله لا بأس به ، ويحبه الله تعالىٰ ؛ أمّا أن يتمنىٰ أن يسلب الله النعمة من الآخرين فلا يحبه الله ، ولا يحتاج ربنا إذا أراد أن يرزق عبداً من عباده نعمة أن يسلبها من غيره ويمنحها إيّاه.

روىٰ عبدالرحمان بن أبي نجران قال : «سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ : ( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّـهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) قال : لا يتمنىٰ الرجل إمرأة الرجل ولا ابنته ، ولكن يتمنىٰ مثلها » (٣).

__________________

(١) النساء : ٣٢.

(٢) طه : ١٣١.

(٣) تفسير العياشي : ٢٣٩.

١٦٠