دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-499-037-4
ISBN الدورة:
964-499-048-X

الصفحات: ٣٥٩

اجل اذا كان امتناعه بظلم جازت المقاصة بلا حاجة الى استئذان من الحاكم الشرعي.

ومن ادعى مالا لا يد لأحد عليه حكم له به بلا مطالبة بالبينة.

ومن ادعى مالا في يد غيره وفرض انكاره :

فتارة يفرض عدم البينة لأحدهما فيحلف ذو اليد ويحكم له به. ومع عدم حلفه ورده اليمين على المدعي وفرض حلفه يحكم له به. ومع عدم حلفه هو أيضا يحكم به لذي اليد.

واخرى يفترض وجود البينة للمدعي فيحكم له به.

وثالثة يفترض وجودها لذي اليد فيحكم له به أيضا مع يمينه.

ورابعة يفترض وجود البينة لكليهما فيحكم به لذي اليد مع حلفه.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما الضابط في تحديد المدعي‌ فقد وقع فيه الاختلاف بين الاعلام بعد اتفاقهم على كونه المطالب بالبينة. ومنشأ الاختلاف عدم ورود تحديد شرعي له ليكون عليه المعول. ومن هنا قيل :

أ ـ ان المدعي هو من اذا ترك ترك. وفيه : ان هذا يتم فيما لو ادعى شخص على آخر دينا او عينا او غيرهما ، ولا يتم فيما اذا اعترف الآخر بالدين وادعى ايفاءه او اعترف بأخذ العين عارية او وديعة وادعى ارجاعها فانه مدع جزما مع انه اذا ترك لا يترك.

ب ـ ان المدعي هو كل من يدعي شيئا ويرى العقلاء كونه ملزما‌

٤١

بالاثبات (١).

وفيه : ان تحديد المدعي بمن يدعي شيئا هو تفسير للشي‌ء بنفسه واشبه بتفسير الماء بالماء.

واما تحديده بمن يكون ملزما لدى العقلاء بالاثبات فهو تحديد للمدعي من خلال حكمه ـ فان العقلاء يرون أيضا ان على المدعي الاثبات ، وليس ذلك حكما خاصا بالشرع ـ وهو غير ممكن لان اثبات الحكم لموضوع فرع كون ذلك الموضوع محددا في نفسه وبقطع النظر عن حكمه.

ج ـ ما يظهر من الجواهر وصرّح باختياره الآشتياني وغيره من ان المرجع في تحديد المدعي هو العرف ، فكل من صدق عليه عرفا عنوان المدعي ثبت كونه كذلك وكان ملزما بالبينة (٢).

وهذا التحديد وان كان من جهة جيدا لان الشرع ما دام لم يتصدّ لتحديد مفهوم المدعي فالمرجع يكون هو العرف ، كما هو الحال في كل مفهوم لم يرد فيه تحديد شرعي ، ان هذا امر مسلّم به الا ان الكلام هو في تحديد نظر العرف وانه من هو المدعي في نظر العرف ليكون ملزما بالبينة.

ولعل المناسب ان يقال : ان المدعي في نظر العرف هو من خالف قوله الحجة ، فاليد حجة كاشفة عن الملكية ، واستصحاب الحالة السابقة حجة على بقائها ، ومن خالف في دعواه احدى هاتين الحجتين وما شاكلهما فهو المدعي ويكون ملزما بالاثبات لأنه يدعي شيئا يخالف‌

__________________

(١) مباني التكملة ١ : ٤٢.

(٢) جواهر الكلام ٤٠ : ٣٧١ ، وكتاب القضاء للآشتياني : ٣٣٦.

٤٢

ما عليه الحجة بخلاف المدعى عليه فان قوله موافق للحجة.

ولعل هذا هو مقصود من فسّر المدعي بمن خالف قوله الأصل او الظاهر بعد اخذ الأصل او الظاهر كمثال لمطلق الحجة.

٢ ـ واما ان المدعي لا يطالب باليمين اضافة الى البينة‌ فلدلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه» (١) على ذلك بعد الالتفات الى ان التفصيل قاطع للشركة.

٣ ـ واما وجه استثناء الدعوى على الميت‌ فيأتي في كتاب الشهادات ان شاء الله تعالى.

٤ ـ واما ان المدعى عليه يطالب بالبينة في باب القتل لدفع دعوى القتل عن نفسه‌ فلصحيحة ابي بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «ان الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم ان البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، وحكم في دمائكم ان البينة على من ادعي عليه واليمين على من ادعى لئلا يبطل دم امرئ مسلم» (٢) وغيرها.

وهي وان كانت مطلقة من حيث اعتبار اللوث (٣) وعدمه الا انه لا بدّ من تخصيصها بذلك ، فان ذلك مضافا الى كونه متسالما عليه بين الاصحاب يمكن استفادته من بعض الروايات التي تأتي الاشارة اليها في كتاب القصاص إن شاء الله تعالى. ويأتي أيضا ان المدعى عليه اذا لم تكن له بينة فبامكان المدعي اثبات دعواه بقسامة خمسين رجلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٠ الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧١ الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٣.

(٣) اللوث : كل امارة تورث الظن بصدق المدعي في دعواه نسبة القتل الى شخص ، كوجود شخص بيده سلاح متلطخ بالدم عند قتيل. مجمع البحرين : مادة «لوث».

٤٣

٥ ـ واما ان الحلف لا يصح الا بالله سبحانه‌ فلصحيحة سليمان بن خالد المتقدمة : «في كتاب على عليه‌السلام ان نبيا من الأنبياء شكا الى ربه فقال : يا رب كيف اقضي فيما لم أر ولم اشهد؟ قال : فأوحى الله اليه : احكم بينهم بكتابي واضفهم الى اسمي فحلّفهم به. وقال : هذا لمن لم تقم له بينة» (١).

وهي تدل على صحة الحلف بجميع اسمائه عز وجل لإطلاق كلمة «اسمي» في جملة «واضفهم الى اسمي». كما يدل ذلك أيضا على اجزاء الترجمة.

ثم انه قد يستدل على عدم صحة الحلف الا بالله سبحانه واسمائه بالروايات المطلقة الناهية عن القسم بغيره سبحانه حتى في غير باب القضاء ، من قبيل صحيحة محمد بن مسلم : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله عز وجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٢) ، (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (٣) وما أشبه ذلك ، فقال : ان لله عز وجل ان يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه ان يقسموا الا به» (٤) فانها تدل باطلاقها على حرمة القسم بغير الله سبحانه حتى في باب القضاء ، ولازم ذلك عدم كفاية القسم بغيره سبحانه.

الا انه لا بد من حمل مثل الرواية المذكورة على الكراهة بقرينة ما دلّ على جواز القسم بغير الله سبحانه ، من قبيل صحيحة علي بن مهزيار : «قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه‌السلام الى داود بن القاسم : اني قد‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦٧ الباب ١ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) الليل : ١.

(٣) النجم : ١.

(٤) وسائل الشيعة ١٦ : ١٩١ الباب ٣٠ من أبواب الايمان الحديث ٣.

٤٤

جئت وحياتك» (١) وغيرها.

٦ ـ واما عدم توجه اليمين الى المنكر في باب الحدود‌ فلموثقة اسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عن ابيه عليه‌السلام : «ان رجلا استعدى عليا عليه‌السلام على رجل فقال انه افترى عليّ ، فقال علي عليه‌السلام للرجل : أفعلت ما فعلت؟ فقال : لا. ثم قال علي عليه‌السلام للمستعدي : ألك بينة؟ فقال : ما لي بينة فاحلفه لي قال علي : ما عليه يمين» (٢).

واذا لم يكن للموثقة المذكورة اطلاق لغير موردها فيمكن التمسك بموثقة غياث بن ابراهيم عن جعفر عن ابيه عن امير المؤمنين عليهم‌السلام : «لا يستحلف صاحب الحد» (٣).

وعليه فلو ادعى شخص ان فلانا قذفني مثلا فلا بد من اقامته البينة والا تسقط دعواه بلا حاجة الى يمين المدعى عليه.

٧ ـ واما ان الدعوى على الغائب مسموعة‌ فلصحيحة جميل عن جماعة من اصحابنا عنهما عليهما السّلام : «الغائب يقضى عليه اذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته اذا قدم. قال : ولا يدفع المال الى الذي اقام البينة الا بكفلاء» (٤).

وهي اذا كانت ضعيفة في بعض طرقها فيمكن التعويض ببقية طرقها التي أشار اليها صاحب الوسائل.

ولا يشكل عليها بالارسال حيث عبّر «عن جماعة من أصحابنا»

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٦ : ١٩٥ الباب ٣٠ من أبواب الايمان الحديث ١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٦ الباب ٢٤ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٦ الباب ٢٤ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٦ الباب ٢٦ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

٤٥

بدون تشخيصهم.

فانه يجاب بان الجماعة ـ التي أقلها ثلاثة ـ لا يحتمل اجتماعها على الكذب وعدم وجود ثقة من بينهم خصوصا وهم مشايخ لجميل بن دراج الذي هو من أعاظم الرواة.

على انه في بعض الطرق الاخرى قد صرح هكذا : عن جميل عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام فراجع (١).

واذا قيل : ان الرواية المذكورة معارضة برواية الحميري في قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن ابي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام : «لا يقضى على غائب» (٢).

قلنا : هي مطلقة فيمكن حملها بقرينة الرواية السابقة على ان المقصود : لا يقضى عليه بنحو كامل بل يبقى على حجته او انه لا يقضى عليه من دون كفلاء.

هذا مضافا الى ضعف سندها بأبي البختري وهب بن وهب الذي قيل عنه : انه اكذب اهل البرية (٣).

٨ ـ واما جواز اخذ الشخص ماله اذا كان في يد غيره بدون استئذانه ما دام لا يستلزم ذلك تصرفا في ملكه‌ فلقاعدة الناس مسلطون على اموالهم الثابتة بسيرة العقلاء.

والتقييد بعدم استلزام ذلك التصرف في ملك الغير باعتبار ان ذلك هو القدر المتيقن من معقد السيرة.

__________________

(١) ذيل الحديث في وسائل الشيعة.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٧ الباب ٢٦ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال الرقم ٥٥٨.

٤٦

٩ ـ واما ان المال اذا كان دينا فلا يجوز اخذه بدون استئذان مع فرض الاعتراف والبذل‌ فلان الكلي في الذمة لا يتشخص في الفرد الخارجي الا بتشخيص صاحب الذمة المشغولة.

ونفس النكتة المذكورة تأتي لو كان الامتناع عن البذل بحق.

١٠ ـ واما جواز المقاصة مع الامتناع بغير حق‌ فلصحيحة داود بن زربي : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : اني اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ثم يقع لهم عندي المال فلي ان آخذه؟ قال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه» (١) وغيرها.

ومقتضى اطلاقها عدم الحاجة الى الاستئذان من الحاكم الشرعي ، بل بعد ثبوت الاذن من الشرع لا تعود حاجة الى الاستئذان المذكور.

واذا قيل : من المحتمل ان ما صدر من الامام عليه‌السلام كان اذنا خاصا ، ومعه لا يمكن التمسك بالاطلاق او بصدور الاذن من الشرع.

قلنا : ان الراوي سوف ينقل الاذن الى غيره ويفهم الجميع من ذلك الاذن العام فلو كان مقصوده عليه‌السلام الاذن الخاص احتاج ذلك الى تقييد بعد ما كان ـ الاذن الخاص ـ مجرد احتمال يبرز في خصوص الاوساط العلمية وليس في نطاق اوسع.

١١ ـ واما ان من ادعى مالا لا يد لأحد عليه حكم له به بلا مطالبة بالبينة‌ فلقاعدة قبول دعوى المدعي بلا منازع الثابتة بسيرة العقلاء الممضاة بعدم الردع.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٢٠٢ الباب ٨٣ من ابواب ما يكتسب به الحديث ١.

٤٧

وتدل على ذلك أيضا صحيحة منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «قلت : عشرة كانوا جلوسا وسطهم كيس فيه الف درهم فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي فلمن هو؟ قال : للذي ادعاه» (١).

١٢ ـ واما ان المدعي لما في يد غيره يحكم بكونه لذي اليد مع يمينه اذا لم تكن بينة لأحدهما‌ فلان صاحب اليد مدعى عليه فيقبل قوله بيمينه ما دام لا بينة.

أجل مع عدم حلفه وردّه اليمين على المدعي يحكم له به على تقدير حلفه ، ومع عدم حلفه يحكم به لذي اليد لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام : «الرجل يدعي ولا بينة له ، قال : يستحلفه فان ردّ اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له» (٢) وغيرها.

بل يمكن التمسك بقاعدة اليد التي هي امارة على الملك لإثبات كونه لذي اليد اذا ردّ اليمين على المدعي ولم يحلف.

١٣ ـ واما الحكم بالمال للمدعي مع وجود البينة له‌ فواضح.

١٤ ـ واما الحكم به لذي اليد مع يمينه اذا كانت له بينة‌ فلما تقدمت الاشارة اليه ـ عند البحث عن وسائل الاثبات ـ من ان مقتضى اطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «واليمين على من ادعي عليه» ان اليمين ثابتة على المدعى عليه حتى مع اقامته البينة.

واذا قيل : ان صحيحة حماد بن عثمان : «بينما موسى بن عيسى في داره التي في المسعى يشرف على المسعى اذ رأى ابا الحسن‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٠٠ الباب ١٧ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٦ الباب ٧ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

٤٨

موسى عليه‌السلام مقبلا من المروة على بغلة فامر ابن هياج ـ رجلا من همدان منقطعا اليه ـ ان يتعلق بلجامه ويدعي البغلة فاتاه فتعلق باللجام وادعى البغلة فثنى ابو الحسن عليه‌السلام رجله ونزل عنها وقال لغلمانه : خذوا سرجها وادفعوا اليه فقال : والسرج أيضا لي فقال : كذبت ، عندنا البينة بانه سرج محمد بن علي ، واما البغلة فانّا اشتريناها منذ قريب وانت اعلم وما قلت» (١) تدل على ان صاحب اليد اذا كانت له بينة فلا يحتاج الى اليمين.

قلنا : انه عليه‌السلام لم يقل : اني لا احتاج الى يمين بل قال انت كاذب لان عندي بينة على كذبك ، فالبينة قد اكتفى بها عليه‌السلام في الحكم بكذب المدعي وليس للاكتفاء بها في مقام اسقاط الدعوى.

١٥ ـ واما تقديم قول ذي اليد مع حلفه على تقدير وجود البينة له وللمدعي‌ فلموثقة اسحاق بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «ان رجلين اختصما الى امير المؤمنين عليه‌السلام في دابة في ايديهما واقام كل واحد منهما البينة انها نتجت عنده فاحلفهما علي عليه‌السلام فحلف احدهما وأبى الآخر ان يحلف فقضى بها للحالف. فقيل له : فلو لم تكن في يد واحد منهما واقاما البينة ، فقال : احلفهما فايهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين. قيل : فان كانت في يد احدهما واقاما جميعا البينة؟ قال : اقضي بها للحالف الذي هي في يده» (٢) حيث يدل ذيلها على ما ذكرنا.

بل ان القاعدة تقتضي ذلك أيضا ، فانه بعد تعارض البينتين‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٤ الباب ٢٤ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٨٢ الباب ١٢ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٢.

٤٩

وتساقطهما يعود صاحب اليد بلا مزاحم فيقدم قوله مع يمينه.

واذا قيل : ان الحجة من المدعى عليه هي اليمين دون البينة ، ومعه فلا تقع بينته معارضة لبينة المدعي لتسقط الاخيرة عن الاعتبار.

قلنا : ان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه» (١) لا يدل على عدم اعتبار البينة من المدعى عليه ، بل يدل بمقتضى اطلاقه على ان المطلوب منه اليمين وان البينة وحدها لا يكتفى بها منه ما لم تنضم اليها اليمين. وعليه تعود البينة من المدعى عليه حجة بمقتضى اطلاق دليل حجية البينة وتقع طرفا للمعارضة لبينة المدعي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٠ الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

٥٠

كتاب الشّهادات‌

١ ـ شرائط الشاهد‌

٢ ـ اختلاف الحقوق في الاثبات‌

٣ ـ احكام عامة في باب الشهادات‌

٥١
٥٢

١ ـ شرائط الشاهد‌

يلزم لقبول شهادة الشاهد في مطلق موارد الشهادة ما يلي :

١ ـ البلوغ فلا تقبل شهادة غير البالغ الا في القتل فانه يؤخذ باول كلامه.

وفي التعدي الى الجرح خلاف. هذا في الصبي. واما الصبية فينبغي الجزم بعدم قبول شهادتها.

٢ ـ العقل.

٣ ـ العدالة.

٤ ـ الإسلام بل الايمان فلا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم ـ الا الذمي في الوصية بالمال اذا لم يوجد شاهدان عادلان من المسلمين ـ ولا شهادة غير المؤمن.

٥ ـ طهارة المولد الا في الشي‌ء اليسير.

٦ ـ ان لا تجر الشهادة نفعا ولا تدفع ضررا ، كشهادة الشريك لشريكه بانه اشترى من ثالث عينا لهما او شهادة بعض افراد العاقلة بجرح شهود الجناية.

٥٣

٧ ـ ان لا يكون الشاهد ذا عداوة دنيوية مع المشهود عليه ولو لم توجب فسقا.

٨ ـ ان لا يكون سائلا بكفه.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما الصبي غير المميز‌ فلا يمكن تحقق الشهادة منه. واما المميز فقد يمكن تحصيل بعض المطلقات الشاملة لشهادته ، كقوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) (١) ، (وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) (٢).

الا انه على تقدير تمامية الاطلاق المذكور ـ وعدم المناقشة بكون الخطابات المذكورة في مقام بيان الحث على الشهادة وطلبها لا أكثر ـ لا بدّ من تقييده بصحيحة محمد بن حمران : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة الصبي فقال : لا ، الا في القتل يؤخذ بأول كلامه ولا يؤخذ بالثاني» (٣) وغيرها.

وقد تعارض الصحيحة المذكورة وغيرها اما بموثقة طلحة بن زيد عن الامام الصادق عن ابيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام : «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا او يرجعوا الى اهلهم» (٤) ، أو بموثقة عبيد بن زرارة : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة الصبي والمملوك ، فقال : على قدرها يوم اشهد تجوز في الامر الدون ولا تجوز‌

__________________

(١) النساء : ٦.

(٢) النساء : ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٢ الباب ٢٢ من أبواب الشهادات الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٣ الباب ٢٢ من أبواب الشهادات الحديث ٦.

٥٤

في الامر الكبير» (١).

الا انه يمكن الجواب عن الاولى بانها وان كانت تامة سندا ـ لان طلحة وان لم يوثق الا ان تعبير الشيخ عن كتابه بانه معتمد (٢) يسهّل الامر في رواياته ـ الا انها خاصة بشهادة الاطفال بعضهم على بعض وليس على البالغين. على ان بالامكان تقييدها بمورد القتل.

وعن الثانية بهجرانها لدى الاصحاب وعدم قائل بمضمونها ، وذلك يوجب سقوطها عن الحجية.

ثم انه مما يؤكد عدم حجية شهادة غير البالغ قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) (٣) ، فان اعتبار بلوغ الشاهد في باب الدين يدل على اعتباره في غيره اما بالاولوية او بتنقيح المناط والغاء الخصوصية.

٢ ـ واما انه يؤخذ بأول كلام الصبي‌ فللصحيحة المتقدمة.

واعتبر البعض في القبول عدم التفرق مستندا الى موثقة طلحة المتقدمة. ولكنك قد عرفت نظرها الى شهادة الصبيان فيما بينهم وليس على البالغين.

٣ ـ واما الجرح‌ فقد قيل بقبول شهادة الصبي فيه أيضا بالاولوية ، بل خصّ المحقق في الشرائع قبول شهادة الصبي بذلك (٤) ، وهو غريب.

وفي مقابل هذا يمكن ان يقال باختصاص القبول بمورد القتل‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٣ الباب ٢٢ من أبواب الشهادات الحديث ٥.

(٢) فهرست الشيخ الطوسي : ٨٦ الرقم ٣٦٢.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) شرائع الإسلام ٤ : ٩١٠ ، انتشارات استقلال.

٥٥

لاحتمال وجود خصوصية في نظر الشارع ، وهي المحافظة على الدماء. بل ان لازم القول بالاولوية التعدي الى جميع الموارد الاخرى لأنها دون القتل.

٤ ـ ووجه الجزم في رفض شهادة الصبية‌ ان مثل صحيحة محمد بن حمران المتقدمة جاءت استثناء من شرطية البلوغ وليس من شرطية الذكورة.

٥ ـ واما العقل‌ فاعتباره واضح. اجل في الادواري لا محذور في قبول شهادته حالة افاقته لإطلاق الادلة. والمناسب ان يكون ذلك ـ كما قال المحقق ـ : «بعد استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه واستكمال فطنته» (١).

٦ ـ واما العدالة‌ فلا اشكال في اعتبارها في الشاهد في الجملة. وقد قال تعالى في شاهدي الطلاق : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢). وقال في شاهدي الوصية : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣). وقال في شاهدي كفارة الصيد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٤) ، بناء على ارادة الشاهدين لتشخيص قيمة الصيد المقتول دون الرسول والامام عليهما السّلام اللذين‌

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ٩١١ ، انتشارات استقلال.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) المائدة : ١٠٦.

(٤) المائدة : ٩٥.

٥٦

يقومان بتشخيص الكفارة في كل صيد وان في النعامة بدنة وفي الظبي شاة ونحو ذلك ـ كما دلت عليه بعض الروايات (١) ـ والا كانت خارجة عن محل الكلام.

وفي موثقة عبد الله بن أبي يعفور : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : ان تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا .... والدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته ...» (٢).

وفيها دلالة واضحة على شرطية العدالة لا بمعناها الدقيق بل بمعنى حسن الظاهر.

والرواية قد رويت بطريقين ، ورد في احدهما احمد بن محمد بن يحيى العطار الذي تبتني وثاقته على كبرى وثاقة مشايخ الاجازة ولا أقلّ المعروفين منهم ، وفي ثانيهما محمد بن موسى الهمداني الذي قد استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة (٣).

ويمكن التعويض عنها ـ بناء على عدم تمامية سندها ـ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «قال امير المؤمنين عليه‌السلام : لا‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣١٤ الحديث ٨٦٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٨٨ الباب ٤١ من أبواب الشهادات الحديث ١.

(٣) لا حظ ترجمة محمد بن أحمد بن يحيى الاشعري في رجال النجاشي : ٢٤٥ ، من منشورات مكتبة الداوري.

٥٧

بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا» (١) ، بناء على تنقيح المناط والغاء خصوصية المملوك.

واما بقية الروايات فهي بين ما دلّ على مانعية الفسق او الاكتفاء بالخير او الصلاح او العفة والصون فراجع.

وقد يفهم الفقيه من كل هذا ان العدالة بمعناها الدقيق المتداول بين الفقهاء ليست شرطا بل هي شرط بمعنى حسن الظاهر والعفة والمعروفية بالخير.

٧ ـ واما اشتراط الإسلام‌ فهو من واضحات الفقه. وقد دلت على ذلك موثقة سماعة : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة اهل الملة فقال : لا تجوز الا على اهل ملتهم» (٢) وغيرها.

واما الاستثناء المذكور فمما لا خلاف فيه لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ...) (٣) والروايات الكثيرة (٤).

واما الايمان فلا اشكال في اشتراطه اذا كان غير المؤمن معاندا لأنه فاسق ، والحديث الشريف يقول : «كان امير المؤمنين عليه‌السلام يقول : ... لا اقبل شهادة الفاسق الا على نفسه» كما في صحيح محمد بن قيس (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٥٣ الباب ٢٣ من أبواب الشهادات الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٨٤ الباب ٣٨ من أبواب الشهادات الحديث ٢.

(٣) المائدة : ١٠٦.

(٤) وهي مذكورة في وسائل الشيعة ١٨ : ٢٨٧ الباب ٤٠ من ابواب الشهادات ، و ١٣ : ٣٩٠ الباب ٢٠ من أحكام الوصايا.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٨ الباب ٣٢ من أبواب الشهادات الحديث ٤.

٥٨

واما اذا كان مستضعفا فالمشهور عدم قبول شهادته أيضا ـ حيث لم يفصلوا في رفض شهادة غير المؤمن بين القسمين ـ الا ان الشهيد الثاني قدس‌سره شكّك في ذلك وابرز احتمال قبول شهادته بل اختار ذلك لوجود المقتضي وفقدان المانع.

اما وجود المقتضي فلا طلاق مثل قوله عليه‌السلام ـ في صحيحة محمد بن مسلم ـ : «لو كان الامر إلينا لأجزنا شهادة الرجل اذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس» (١).

واما فقدان المانع فلان ما يتصور كونه مانعا ليس الا صدق عنوان الفاسق عليه ، وهو مدفوع ، باعتبار ان صدقه يختص بالمعاند ، اي الذي يفعل المعصية وهو يعلم انها معصية دون من يرتكبها وهو يعتقد انها طاعة. ثم اضاف قائلا : ان تحقق العدالة لا يختص بالامامي بل تتحقق في جميع اهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم (٢).

٨ ـ واما اعتبار طهارة المولد‌ فقد دلت عليه صحيحة محمد بن مسلم : «قال ابو عبد الله عليه‌السلام : لا تجوز شهادة ولد الزنا» (٣) وغيرها.

ويستثنى من ذلك الشي‌ء اليسير لصحيحة عيسى بن عبد الله : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة ولد الزنا ، فقال : لا تجوز الا في الشي‌ء اليسير اذا رأيت منه صلاحا» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٩١ الباب ٤١ من أبواب الشهادات الحديث ٨.

(٢) مسالك الافهام ٢ : ٤٠١.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٦ الباب ٣١ من أبواب الشهادات الحديث ٣.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٦ الباب ٣١ من أبواب الشهادات الحديث ٥.

٥٩

٩ ـ واما اعتبار ان لا تجر الشهادة نفعا‌ ، كشهادة الشريك فقد يستدل عليه بموثقة عبد الرحمن بن ابي عبد الله : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن ثلاثة شركاء شهد اثنان على [عن] واحد ، قال : لا تجوز شهادتهما» (١).

ودلالتها واضحة ـ بعد حمل حرف الجر على ارادة معنى اللام منه ـ الا انها معارضة بموثقته الاخرى : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن ثلاثة شركاء ادعى واحد وشهد الاثنان ، قال : يجوز» (٢). ووجه المعارضة :

اما لأنهما رواية واحدة لاستبعاد صدور النقلين المذكورين بعد كون القضية المسؤول عنها واحدة والراوي لها واحدا ، وهو عبد الرحمن ، بل الراوي عن الراوي واحد أيضا ، ومع وحدة الرواية وعدم تشخيص ما هو الصادر تسقط كلتاهما عن الاعتبار.

او لان الصادر وان كان متعددا واقعا الا انه لأجل التنافي لا يمكن الاخذ بشي‌ء منهما.

وقد يستدل أيضا بموثقة ابان التي رواها الشيخ الصدوق باسناده عن فضالة عن ابان : «سئل ابو عبد الله عليه‌السلام عن شريكين شهد احدهما لصاحبه ، قال : تجوز شهادته الا في شي‌ء له فيه نصيب» (٣).

وهي وان كانت تامة دلالة الا انها معارضة سندا برواية الشيخ الطوسي لها باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن ابان عمن‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٢ الباب ٢٧ من أبواب الشهادات الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٢ الباب ٢٧ من أبواب الشهادات الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢٧٢ الباب ٢٧ من أبواب الشهادات الحديث ٣.

٦٠