دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-499-037-4
ISBN الدورة:
964-499-048-X

الصفحات: ٣٥٩

المتيقن من ذلك هو الحاكم الشرعي فيتعين اختصاص الحق به.

ومما يؤكد ذلك فعل امير المؤمنين عليه‌السلام ـ حيث كان يراقب الاسواق ويعزر كل من خالف المقررات الشرعية ـ والروايات الخاصة الواردة في الموارد المتفرقة ، كصحيحة ابي العباس عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «قلت له : ما للرجل يعاقب به مملوكه؟ فقال : على قدر ذنبه» (١) الواردة في تأديب المملوك ، وموثقة اسحاق بن عمار : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «ربما ضربت الغلام في بعض ما يجرم قال : وكم تضربه؟ قلت : ربما ضربته مائة فقال : مائة؟! مائة؟! فأعاد ذلك مرتين. ثم قال : حدّ الزنا؟! اتق الله. فقلت : جعلت فداك فكم ينبغي لي أن اضربه؟ فقال : واحدا. فقلت : والله لو علم اني لا اضربه الا واحدا ما ترك لي شيئا الا افسده قال : فاثنين فقلت : هذا هو هلاكي قال : فلم ازل أماكسه حتى بلغ خمسة ثم غضب فقال : يا اسحاق ان كنت تدري حدّ ما اجرم فاقم الحدّ فيه ولا تعدّ حدود الله» (٢) الواردة في تأديب الغلام.

٢ ـ صحيحة حماد بن عثمان عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «قلت له : كم التعزير؟ فقال : دون الحدّ. قلت : دون ثمانين؟ قال : لا ، ولكن دون اربعين فانها حدّ المملوك. قلت : وكم ذاك؟ قال : على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة بدنه» (٣) وما كان بمضمونها.

وسند الصحيحة بطريق الشيخ الكليني وان كان قد يتأمل فيه من ناحية المعلى بن محمد ـ حيث انه لم يوثق بل ضعّف ـ الا انه بطريق‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٩ الباب ٣٠ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٩ الباب ٣٠ من أبواب مقدمات الحدود الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٨٤ الباب ١٠ من ابواب بقية الحدود الحديث ٣.

٣٠١

الشيخ الصدوق لا خدشة فيه فلاحظ.

٣ ـ اقامة الحدود في عصر الغيبة‌

يجوز للحاكم الشرعي اقامة الحدود في عصر الغيبة.

والمستند في ذلك أمران :

١ ـ ان الحكمة المقتضية لتشريع الحدود‌ ـ وهي الوقوف امام الفساد والفجور ـ لا يحتمل اختصاصها بعصر الحضور.

٢ ـ التمسك باطلاق ادلة وجوب اقامة الحدود ، كقوله تعالى : (الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) ، (وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) ، فانه يقتضي وجوب اقامة الحدود في كل زمان ، وحيث لا يحتمل جواز تصدي اي شخص لذلك ـ للزوم محذور اختلال النظام ـ فيلزم تصدي طائفة خاصة لذلك ، والقدر المتيقن منها هو المجتهدون العدول.

وتؤيد ذلك رواية اسحاق بن يعقوب : «سألت محمد بن عثمان العمري ان يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : اما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك الى ان قال : واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله ...» (٣) ، فان اسحاق وان لم يذكر‌

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٠١ الباب ١١ من ابواب صفات القاضي الحديث ٩.

٣٠٢

بتوثيق في كتب الرجال الا ان ذلك لا يمنع من التمسك بها على مستوى التأييد.

واذا قيل : ان التمسك بالوجهين المذكورين تام لو لم يقم دليل على حصر وظيفة اقامة الحدود بالامام عليه‌السلام ، وذلك الدليل موجود ، وهو رواية دعائم الإسلام عن الامام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة الا بامام عدل» (١). وقريب منها رواية الجعفريات (٢).

قلنا : يلزم حمل الرواية المذكورة على كون المقصود ان ذلك لا يصلح لغير الامام عليه‌السلام مع افتراض حضوره وعدم غيبته ، اي يلزم حملها على زمن الحضور والا فهل يحتمل عدم جواز الحكم لغير الامام عليه‌السلام في زمان الغيبة؟! ان لازم ذلك الفوضى وعدم استقرار النظام.

هذا لو قطعنا النظر عن سند الدعائم والا فالمناقشة أوضح باعتبار ان رواياته مراسيل لم يذكر اسنادها.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٦ : ١٣ الباب ٥ من ابواب صلاة الجمعة الحديث ٤.

(٢) مستدرك الوسائل ٦ : ١٣ الباب ٥ من ابواب صلاة الجمعة الحديث ٢.

٣٠٣
٣٠٤

كتاب القصاص‌

١ ـ القصاص وأقسامه‌

٢ ـ قصاص النفس‌

٣ ـ وسائل اثبات القتل عمدا‌

٤ ـ من احكام قصاص النفس‌

٥ ـ قصاص ما دون النفس‌

٣٠٥
٣٠٦

١ ـ القصاص واقسامه‌

القصاص ـ بكسر القاف وهو الجزاء على الجناية بمثلها ـ مشروع بل حياة للبشرية.

وهو يتعلق بالنفس تارة وبما دونها اخرى.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما ان القصاص ما ذكر‌ فهو من واضحات اللغة والفقه.

٢ ـ واما انه مشروع‌ فهو من ضروريات الإسلام.

والاشكال على تشريعه بانه مخالف للإنسانية والعاطفة ناشئ عن الجهل او التجاهل بفلسفته.

وقد اشار الكتاب الكريم في كثير من آياته الى تشريع القصاص ، وفي بعضها الاشارة الى فلسفته ، كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١) ، (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

٣٠٧

قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً) (١) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ...) (٢) ، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ) (٣) ، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٤) ، (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) (٥).

ويدل على ذلك بالعموم قوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٦) ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٧) ، (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (٨) ، (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) (٩).

ثم ان الآيات الكريمة المذكورة كما دلت على شرعية القصاص دلت أيضا على حرمة قتل المؤمن ظلما بل ان ذلك من ضروريات الإسلام ، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة (١٠).

وكما يحرم قتل الانسان الآخر يحرم أيضا قتل الانسان نفسه ، وذلك مما لا ينبغي التأمل فيه. وقد يستفاد ذلك من قوله تعالى : (وَلا

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

(٢) البقرة : ١٧٨.

(٣) الانعام : ١٥١.

(٤) الاسراء : ٣٣.

(٥) المائدة : ٤٥.

(٦) الشورى : ٤١.

(٧) الشورى : ٤٠.

(٨) النحل : ١٢٦.

(٩) البقرة : ١٩٤.

(١٠) راجع وسائل الشيعة ١٩ : ٢ الباب الاول وما بعده من ابواب القصاص في النفس.

٣٠٨

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً* وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) (١). وقد روى ابو ولاد الحناط في صحيحة : «سمعت ابا عبد الله عليه‌السلام يقول : من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها» (٢).

ثم ان حرمة قتل الانسان الآخر لا تختص بما اذا كان واجدا للروح بل تعمّ الحمل الذي هو نطفة أو علقة. وتدل على ذلك موثقة اسحاق بن عمار : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ، قال : لا ، فقلت : انما هو نطفة فقال : ان اول ما يخلق نطفة» (٣).

وبهذا اتضح ان الحرمة تعم ما اذا كان الحمل من الزنا لإطلاق الموثقة. ويأتي في باب الديات ان شاء الله تعالى ثبوت الدية في اسقاط الحمل وبيان مقدارها.

٢ ـ قصاص النفس‌

لا يثبت الحق لأولياء المقتول في الاقتصاص من القاتل الا اذا تمت الشروط التالية :

الاول : ان يكون القتل بنحو العمد.

الثاني : التساوي في الحرية والعبودية ، فيقتل الحر بالحر والعبد بالعبد ولا‌

__________________

(١) النساء : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ١٣ الباب ٥ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٥ الباب ٧ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١.

٣٠٩

يقتل الحر بالعبد بل يغرم قيمته يوم قتله مع تعزيره بالضرب الشديد.

الثالث : التساوي في الدين ، فلا يقتل المسلم بالكافر ـ وان لزم تعزيره فيما اذا لم يكن القتل جائزا ـ بل يغرم ديته لو كان ذميا.

الرابع : ان لا يكون القاتل ابا للمقتول فلا يقتل الاب بقتله لابنه بل يعزر ويلزم بالدية.

الخامس : ان يكون القاتل بالغا عاقلا والا فلا يقتل وتلزم العاقلة بالدية.

السادس : ان يكون المقتول محقون الدم فلا قصاص في القتل السائغ ، كقتل سابّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد الائمة عليهم‌السلام أو قتل المهاجم دفاعا وما شاكل ذلك.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما ان حق القصاص لا يثبت الا اذا كان القتل بنحو العمد‌ فهو مما لا خلاف فيه. وتدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان : «سمعت ابا عبد الله عليه‌السلام يقول : من قتل مؤمنا متعمدا قيد منه الا ان يرضى اولياء المقتول ان يقبلوا الدية ، فان رضوا بالدية واحبّ ذلك القاتل فالدية» (١) وغيرها.

ولا اشكال في ظهور الصحيحة في ثبوت حق القصاص في موارد القتل العمدي ، واما ظهورها في نفيه في غير ذلك فلو شكك فيه فبالامكان الاستعانة بالنصوص الدالة على ثبوت الدية ونفي القصاص في موارد القتل خطأ والشبيه بالعمد ، كقوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) (٢) فانه باطلاقه يدل‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٣٧ الباب ١٩ من ابواب قصاص النفس الحديث ٣.

(٢) النساء : ٩٢.

٣١٠

على ان الخطأ بكلا قسميه تثبت فيه الدية دون القصاص.

والحكم متسالم عليه بيننا وان نسب الى مالك القول بلزوم القود في الشبيه بالعمد. وعلّق صاحب الجواهر على ذلك بقوله : «لكن الاجماع والسنة بل والكتاب على خلافه ضرورة عدم صدق قتل المؤمن متعمدا عليه» (١).

متى يصدق القتل متعمدا؟

ثم انه لا اشكال عرفا في صدق القتل متعمدا فيما اذا قصد القاتل القتل بآلة يتحقق بها القتل غالبا. واما اذا قصده بآلة لا يتحقق بها القتل الا نادرا او لم يقصده ولكن كانت الآلة يتحقق بها القتل غالبا فلا يبعد صدقه أيضا.

اما في الحالة الاولى فلفرض القصد الى القتل فيها وهو كاف عرفا لصدق القتل متعمدا. وقد يستدل عليه أيضا بصحيحة الحلبي : «قال ابو عبد الله عليه‌السلام : العمد كل ما اعتمد شيئا (٢) فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة (٣) فهذا كله عمد ، والخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره» (٤) وغيرها ، فان الوكزة ونحوها ليست من الوسائل القاتلة غالبا وبالرغم من ذلك عدت الاستعانة بها من مصاديق القتل العمدي ، وما ذاك الا لتحقق القصد الى القتل.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٣ : ٤.

(٢) اي قصد شيئا.

(٣) الوكز : الضرب بجميع الكف.

(٤) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٤ الباب ١١ من ابواب القصاص في النفس الحديث ٣.

٣١١

واما في الحالة الثانية فلان الاستعانة بالآلة التي يعلم بترتب القتل عليها عادة لا تنفك عن قصده بالتبع. وتؤكد ذلك صحيحة ابي العباس الفضل بن عبد الملك عن عبد الملك عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «اذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد. قال : سألته عن ...» (١) ، فان مقتضى اطلاقها ان الضرب بالحديدة ـ الذي هو مما يترتب عليه القتل عادة ـ هو من مصاديق القتل العمدي وان لم يقصد الضارب القتل.

وسند الرواية وان كان ضعيفا بطريق الكليني والشيخ الا انه صحيح بطريق الشيخ الصدوق ، وهو كاف لاعتبار الرواية. وصدر الرواية «اذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد» وان لم يكن مذكورا في طريق الكليني والشيخ الا ان ذلك ليس بمهم بعد كونه مذكورا في الطريق الصحيح وهو طريق الشيخ الصدوق.

اقسام القتل‌

ثم ان القتل على اقسام ثلاثة : القتل عمدا ، والقتل الشبيه بالعمد ، والقتل بنحو الخطأ المحض المعبر عنه في بعض الروايات بالقتل الذي لا شك فيه (٢).

والفارق بينها ان القاتل اذا كان قاصدا للقتل او كانت الآلة التي استعان بها قاتلة غالبا فالقتل عمدي.

واذا كان قاصدا لفعل معين من دون قصد القتل ولا ترتب القتل‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٦ الباب ١١ من ابواب القصاص في النفس الحديث ٩.

(٢) لاحظ الباب ١١ من ابواب القصاص في النفس من الوسائل الأحاديث ٧ ، ٩ ، ١٣ ، ١٧ ، ١٩.

٣١٢

عليه غالبا فالقتل شبيه بالعمد ، كالضرب تأديبا بالعصا فيتفق القتل وكإجراء الطبيب عملية جراحية لا يترتب عليها الموت عادة فيتفق حصوله من دون قصده.

واذا كان غير قاصد للفعل المعين فضلا عن فرض قصد القتل أو كون الآلة قاتلة غالبا فالقتل بنحو الخطأ المحض ، كمن وجّه طلقة مسدسه الى حيوان فأصابت انسانا او كان يصلحه فانطلقت منه رصاصة فقتلت انسانا.

وحكم القتل العمدي القصاص الا مع التراضي على الدية في حين ان حكم القتل في النحوين الاخيرين هو الدية ، غايته في القتل الشبيه بالعمد يتحملها القاتل لكنها في القتل خطأ تتحملها عاقلة الجاني.

٢ ـ واما ان الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد‌ فمما لا اشكال فيه ، وهو القدر المتيقن من مورد تشريع القصاص وقد قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (١).

واما ان الحرّ لا يقتل بالعبد فلم يعرف فيه خلاف للروايات الكثيرة ، كصحيحة ابي بصير عن أحدهما عليهما السّلام : «قلت له : قول الله عز وجل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فقال : لا يقتل حر بعبد ولكن يضرب ضربا شديدا ويغرم ثمنه دية العبد» (٢) وغيرها.

اجل ورد في بعض الروايات ما يدل على الخلاف ، كموثقة‌

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٧٠ الباب ٤٠ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١.

٣١٣

اسماعيل بن ابي زياد (١) عن جعفر عن ابيه عن آبائه عليهم‌السلام : «انه قتل حرا بعبد قتله عمدا» (٢) ، وموثقة زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم‌السلام : «ليس بين الرجال والنساء قصاص الا في النفس وليس بين الأحرار والمماليك قصاص الا في النفس ...» (٣) ، وموثقة السكوني الاخرى عن جعفر عن ابيه عن علي عليه‌السلام : «ليس بين العبيد والاحرار قصاص فيما دون النفس» (٤).

الا ان الروايات الثلاث المذكورة وان كانت دلالة بعضها واضحة غير انها ساقطة عن الاعتبار اما لهجران الاصحاب لمضمونها او لمخالفتها للكتاب الكريم حيث يستفاد من الآية المتقدمة ان الحر لا يقتل بالعبد فلاحظ.

٣ ـ واما ان المدار على قيمة العبد يوم قتله‌ فلانه اليوم الذي تشتغل فيه ذمة القاتل بالقيمة.

٤ ـ واما اعتبار التساوي في الدين‌ فلم يعرف فيه خلاف للنصوص المتعددة ، كصحيحة محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه‌السلام : «لا يقاد مسلم بذمي في القتل ولا في الجراحات ولكن يؤخذ من المسلم جنايته للذمي على قدر دية الذمي ثمانمائة درهم» (٥) وغيرها.

ومورد النصوص وان كان هو الذمي الا انه يتعدى الى غيره ـ

__________________

(١) وهو المعروف بالسكوني.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٧٢ الباب ٤٠ من ابواب القصاص في النفس الحديث ٩.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٣٩ الباب ٢٢ من ابواب قصاص الطرف الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٩ : ١٣٩ الباب ٢٢ من ابواب قصاص الطرف الحديث ٣.

(٥) وسائل الشيعة ١٩ : ٨٠ الباب ٤٧ من ابواب القصاص في النفس الحديث ٥.

٣١٤

كالحربي والمستأمن ـ بالاولوية القطعية التي هي واضحة بلحاظ المستأمن أيضا لان الذمي مستأمن وزيادة فاذا ثبت الحكم له ثبت لمن دونه بالاولوية القطعية.

٥ ـ واما لزوم التعزير‌ فلما تقدم في البحث عن الحدود من ثبوته على ارتكاب اي محرم من المحرمات.

٦ ـ واما لزوم دفع الدية لو كان المقتول ذميا‌ فلصحيحة محمد بن قيس المتقدمة.

٧ ـ واما اعتبار ان لا يكون القاتل ابا للمقتول‌ فهو مما لا خلاف فيه لصحيحة حمران عن أحدهما عليهما السّلام : «لا يقاد والد بولده ويقتل الولد اذا قتل والده عمدا» (١) وغيرها.

واما انه يعزر فلما تقدم من ثبوته على ارتكاب اي محرم.

واما لزوم دفع الدية فلقاعدة «ان دم المسلم لا يذهب هدرا» المستفادة من صحيحة عبد الله بن سنان وعبد الله بن بكير جميعا عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «قضى امير المؤمنين عليه‌السلام في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله ، قال : ان كان له اولياء يطلبون ديته اعطوا ديته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لان ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الامام ...» (٢) وغيرها.

على ان صحيحة ظريف قد دلت في ذيلها على ذلك حيث ورد فيها : «ويكون له الدية ولا يقاد» (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٥٦ الباب ٣٢ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ١٠٩ الباب ٦ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ٥٨ الباب ٣٢ من ابواب القصاص في النفس الحديث ١٠.

٣١٥

٨ ـ واما اعتبار ان يكون القاتل بالغا عاقلا‌ فأمر لا خلاف فيه لحديث رفع القلم (١) المشتهر بين الاصحاب. اجل هو لا يدل على لزوم تحمل العاقلة للدية ، ولا بدّ من الاستناد في ذلك الى الروايات الخاصة ، كصحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام : «كان امير المؤمنين عليه‌السلام يجعل جناية المعتوه على عاقلته خطأ كان أو عمدا» (٢) ، وموثقة اسحاق بن عمار عن جعفر عن ابيه : «ان عليا عليه‌السلام كان يقول : عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة» (٣) وغيرهما.

٩ ـ واما اعتبار ان يكون المقتول محقون الدم‌ فواضح اذ بعد جواز القتل لا معنى للاقتصاص من القاتل بل لا مجال أيضا لاحتمال ثبوت الدية.

٣ ـ وسائل اثبات القتل عمدا‌

يثبت القتل عمدا بوسائل ثلاث : الاقرار ولو مرة واحدة ، وبالبينة بمعنى شهادة رجلين عدلين ، وبالقسامة.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما ثبوت القتل عمدا باقرار القاتل‌ فلإطلاق دليل حجية الاقرار المتمثل في السيرة العقلائية على نفوذ اقرار كل عاقل عليه. وتؤكد ذلك صحيحة الفضيل : «قال ابو عبد الله عليه‌السلام : ومن أقرّ على نفسه عند الامام‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٠ الباب ٤ من ابواب مقدمة العبادات.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٧ الباب ١١ من ابواب العاقلة الحديث ١.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٧ الباب ١١ من ابواب العاقلة الحديث ٣.

٣١٦

بحق حد من حدود الله في حقوق المسلمين فليس على الامام ان يقيم عليه الحد الذي أقرّ به عنده حتى يحضر صاحب الحق او وليه فيطالبه بحقه ، قال : فقال له بعض اصحابنا : يا ابا عبد الله فما هذه الحدود التي اذا اقرّ بها عند الامام مرة واحدة على نفسه اقيم عليه الحد فيها؟ فقال : اذا اقرّ على نفسه عند الامام بسرقة قطعه ، فهذا من حقوق الله ، واذا اقرّ على نفسه انه شرب خمرا حدّه فهذا من حقوق الله ، واذا اقرّ على نفسه بالزنا وهو غير محصن فهذا من حقوق الله. قال : واما حقوق المسلمين فاذا اقرّ على نفسه عند الامام بفرية لم يحدّه حتى يحضر صاحب الفرية او وليه. واذا اقرّ بقتل رجل لم يقتله حتى يحضر اولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم» (١).

هذا والمنسوب الى جماعة ـ كالشيخ وابن ادريس وغيرهما ـ اعتبار الاقرار مرتين. وعلّق صاحب الجواهر على ذلك بقوله : «ولا نعرف له وجها الا الاحتياط في الدماء الذي لا يعارض الادلة. مع انه معارض بمثله وعدم بطلان دم المسلم» (٢).

وما ذكره وجيه. ويمكن ان يضاف اليه بان ذلك لو تمّ فلازمه اعتبار الاقرار اربع مرات فان ذلك معتبر في الزنا ، والقتل ليس بأدون منه.

٢ ـ واما ثبوت ذلك بالبينة‌ فلانصراف كلمة البينة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البينة على من ادعى» (٣) ، وقوله : «انما اقضي بينكم بالبينات‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٤٤ الباب ٣٢ من ابواب مقدمات الحدود الحديث ١.

(٢) جواهر الكلام ٤٢ : ٢٠٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٠ الباب ٣ من ابواب الشهادات الحديث ١.

٣١٧

والايمان» (١) الى شهادة رجلين عدلين. وعلى تقدير التشكيك في الانصراف المذكور يمكن التمسك بالاطلاق المقامي ، فان الوسيلة المعروفة للإثبات هي شهادة رجلين عدلين ، والسكوت عن تحديد البينة لا بدّ ان يكون اعتمادا على ذلك.

٣ ـ واما القسامة‌ (٢) فالاتكال عليها كوسيلة للإثبات مخالف للقاعدة الاولية ، اذ مقتضى قاعدة «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه» ان كل من ادعى شيئا فلا تثبت دعواه الا اذا اقام البينة عليها ، ولكن شذّ من ذلك مورد الدم فان ولي المقتول اذا ادعى ان القاتل فلان فان كانت له بينة على ذلك حكم بصدق دعواه وان لم تكن له بينة فالمناسب للقاعدة المتقدمة وصول النوبة الى يمين المدعى عليه ، ولكن لأجل النصوص الخاصة انعكست القاعدة في ذلك فالمدعى عليه لا يمكنه دفع الدعوى عن نفسه باليمين بل ينحصر دفعها بالبينة التي تشهد بنفي نسبة القتل اليه ، واذا لم تكن له بينة فبامكان المدعي اثبات دعواه من خلال حلف خمسين رجلا من أقاربه أو غيرهم على صدق دعواه. وقد دلت على ذلك عدة نصوص ، كصحيحة بريد بن معاوية عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «سألته عن القسامة فقال : الحقوق كلها البينة على‌

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦٩ الباب ٢ من ابواب الشهادات الحديث ١.

(٢) القسامة ـ بفتح القاف ـ هي الايمان التي يؤديها جماعة او هي الجماعة التي تؤدي الايمان.

ويحتمل صدقها عليهما معا. وقد قيل بان القسامة كانت جاهلية وقد اقرها الإسلام. ويظهر من بعض الاخبار انها سنّة شرّعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلاحظ رواية ابي

بصير : «سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن القسامة اين كان بدوها؟ فقال : كانت من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الانصار ...» وسائل الشيعة ١٩ : ١١٨ الباب ١٠ من ابواب دعوى القتل الحديث ٥. بناء على قراءة «قبل» بكسر الاول وفتح الثاني.

٣١٨

المدعي واليمين على المدعى عليه الا في الدم خاصة فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما هو بخيبر اذ فقدت الانصار رجلا منهم فوجدوه قتيلا فقالت الانصار : ان فلان اليهودي قتل صاحبنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للطالبين : اقيموا رجلين عدلين من غيركم اقده برمته (١) ، فان لم تجدوا شاهدين فاقيموا قسامة خمسين رجلا أقده برمته فقالوا يا رسول الله : ما عندنا شاهدان من غيرنا وانا لنكره ان نقسم على ما لم نره فوداه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : انما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي اذا رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوه حجزه مخافة القسامة ...» (٢). وموثقة ابي بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «ان الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في اموالكم ان البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، وحكم في دمائكم ان البينة على المدعى عليه واليمين على من ادعى لئلا يبطل دم امرئ مسلم» (٣) وغيرهما.

ثم انه توجد عدة اسئلة ترتبط بالمقام نذكر من بينها :

الاول : هل يشترط في قبول القسامة اللوث (٤)؟ مقتضى اطلاق‌

__________________

(١) اقدت القاتل بالمقتول : قتلته قصاصا.

والرمة ـ بضم الراء ـ قطعة حبل يشدّ بها القاتل عند اخذه الى محل القصاص لئلا يهرب. هذا في الاصل ، ولكنه قد تستعمل ـ لمناسبة أو بدونها ـ بمعنى جميع ، يقال أخذت الشي‌ء برمته ، اي أخذته كله وجميعه. والمراد في الرواية ذلك.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ١١٤ الباب ٩ من أبواب دعوى القتل الحديث ٣.

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١١٥ الباب ٩ من ابواب دعوى القتل الحديث ٤.

(٤) اللوث : كل امارة توجب الظن بصدق المدعي ، كما اذا وجد عند المقتول شخص قد شهر السلاح الملوث بالدم او اخبر صبي باني رأيت فلانا يزاول عملية القتل وما شاكل ذلك من الامارات الموجبة للظن.

٣١٩

النصوص عدم اعتبار ذلك الا انه لا بدّ من رفع اليد عنه لتسالم الاصحاب على اعتبار ذلك ، فانه على ما قيل لم يعرف الخلاف الا من المحقق الأردبيلي القائل : «كأن لهم على ذلك اجماعا او نصا ما اطلعت عليه» (١).

وقد يستدل ـ مضافا الى التسالم ـ بجملة «انما جعلت القسامة احتياطا لدماء الناس» الواردة في بعض روايات المسألة (٢) بتقريب ان الاحتياط للدماء لا يتم الا مع فرض اللوث ، وبدونه يلزم هدرها ، فان الفاسق قد ينسب القتل الى بعض ويقيم عليه القسامة فيقتص من المدعى عليه ويذهب بذلك دمه هدرا.

الثاني : هل يجوز ان يكون المدعي احد الخمسين او يلزم ان يكون خارجا عنهم؟

يجوز ان يكون احدهم كما هو مقتضى ظاهر صحيحة بريد المتقدمة فلاحظ.

الثالث : هل يلزم في الايمان الخمسين ان تكون من خمسين رجلا او يجوز تكرارها من الرجل الواحد اذا كان العدد أقلّ من ذلك؟ مقتضى صحيحة بريد المتقدمة هو الاول ، الا ان المنسوب الى المشهور هو الثاني بل ادعي تسالم الاصحاب عليه. ويدعم ذلك ان النصوص قد دلت على ان العلة في تشريع القسامة هي الاحتياط للدماء فاذا كان يعتبر ان يكون عدد الحالفين خمسين رجلا يلزم عدم امكان تحقق الاحتياط لندرة تحصيل خمسين رجلا.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٢ : ٢٣٠.

(٢) فلاحظ صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في وسائل الشيعة ١٨ : ١١٦ الباب ٩ من ابواب دعوى القتل الحديث ٩.

٣٢٠