دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-499-035-8
ISBN الدورة:
964-499-048-X

الصفحات: ٥٧٦

كتاب الحجّ‌

١ ـ الحجّ وأحكام وجوبه

٢ ـ الصورة الاجمالية للحجّ

٣ ـ مواقيت الاحرام

٤ ـ تفاصيل أفعال الحجّ والعمرة

٥ ـ محرّمات الاحرام‌

٤٠١
٤٠٢

١ ـ الحج وأحكام وجوبه‌

وجوب الحج فوري مرّة واحدة مع اجتماع الشرائط ـ ويصطلح عليها بحجّة الإسلام ـ وهي : البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والاستطاعة المتحقّقة بوجدان النفقات اللاّزمة ذهابا وإيابا ـ لمن قصد العودة أو ذهابا فقط لمن لم يقصدها ـ وسعة الوقت ، والسلامة على النفس والمال والعرض ، والتمكن من استئناف الوضع المعيشي بعد العودة بدون حرج ، وعدم المزاحمة بواجب أهم.

والحج مع اختلال هذا الأخير يقع مصداقا لحجّ الإسلام وان كان الفاعل آثما بخلاف اختلال غيره فانه لا يقع كذلك.

وإذا تلفت النفقات أثناء الذهاب أو قبل اتمام أعمال الحج لم يجزئ ما أتي به عن حجّ الإسلام.

ولا يلزم تحقّق الاستطاعة في بلد المكلف بل يكفي تحقّقها في المكان الذي هو فيه.

والسعي لتحصيل الاستطاعة غير لازم ولو بقبول الهبة فيما إذا لم تكن‌

٤٠٣

مقيّدة بالحج.

أجل مع البذل يجب الحج.

وتكفي إباحة النفقات ولا تلزم ملكيتها.

ومن كان بحاجة الى دار أو زواج أو ما شاكل ذلك من ضروريات الحياة يلزمه تقديم الحج الا مع لزوم الحرج.

وهكذا المرأة التي يمكنها الحج بمهرها أو هدايا الزواج أو ببيع بعض حليّها التي استغنت عنها لكبر.

وهكذا من كانت له دار واسعة بإمكانه تبديلها أو بيع بعضها فانه يجب ذلك ما دام لا يلزم الحرج.

ومن عليه دين في ذمّة الناس يمكنه الحج به يلزمه استحصاله إذا لم يكن فيه حرج. بل قد يقال بأن من استقرض ما يمكّنه من الحج بدون حرج في قضائه يجب عليه.

ومن تمكّن من نفقات الحج قبل موسمه استقرّ عليه الوجوب ولزمه التحفّظ على الاستطاعة.

ومن استقر عليه الحج وسوّف حتى عجز عن المباشرة أو تيسّرت له النفقات ولم يتمكن من البداية تجب عليه الاستنابة ما دام هناك يأس من امكانية المباشرة.

ومن استقر عليه الوجوب يلزمه تهيئة المقدّمات والخروج في وقت يثق بإدراكه الحج.

وكما يجب الحج مرّة تجب العمرة كذلك لدى اجتماع الشرائط السابقة أو عند إرادة دخول مكّة في غير حالات الاستثناء.

ومن استطاع وسوّف استقرّ في ذمّته ولزمه الاتيان به ولو تسكعا‌

٤٠٤

الا مع فرض الحرج.

والمستند في ذلك :

١ ـ الحج من الفرائض الضرورية في الإسلام والتي بني عليها. قال تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١). وفي الحديث الصحيح : «بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية» (٢). وفي صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديّا أو نصرانيا» (٣).

وهل يحكم بكفر تارك الحج لا عن عذر كما هو ظاهر الآية الكريمة؟ كلا ، إذ من المحتمل إرادة كفران النعمة ـ من الكفر ـ مقابل شكرها لا إرادة ما يقابل الإسلام ، والمعنى من لم يشكر نعمة الهداية إلى الإسلام بالعمل بالوظائف فان الله غنيّ عنه ، وهذا ما قد يعبّر عنه بالكفر العملي.

أجل من تركه لإنكار وجوبه من دون شبهة حكم عليه بالكفر لاستلزام ذلك انكار الرسالة.

٢ ـ واما انه فوري فهو من ضروريات الإسلام أيضا. ويدلّ عليه حكم العقل فإنّ الأمر وان لم يوضع للفورية الا ان كل واجب يلزم عقلا الاتيان به فورا الا إذا حصل وثوق بعدم فواته بالتأخير ، وحيث ان الإنسان‌

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) وسائل الشيعة الباب ١ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٧ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

٤٠٥

لا وثوق له عادة بالبقاء الى السنة الثانية فيلزمه الاسراع الى الاتيان به.

على ان بالإمكان استفادة ذلك من النصوص أيضا كصحيح المحاربي المتقدّم ، فان الفورية إذا لم تكن واجبة فلما ذا يموت التارك للحج من دون عذر يهوديّا أو نصرانيا ، ان العقوبة مع جواز التراخي لا وجه لها.

٣ ـ واما انه مرّة واحدة‌ فهو من الواضحات أيضا إذ لو كان يجب أكثر من ذلك لاشتهر لشدّة الابتلاء بالمسألة والحال لم ينسب الخلاف الا الى الشيخ الصدوق حيث أفتى بوجوبه في كلّ عام على أهل الثروة والجدّ استنادا الى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام : «ان الله عزّ وجلّ فرض الحج على أهل الجدة في كلّ عام ...» (١).

قال في العلل : «والذي اعتمده وأفتي به ان الحج على أهل الجدة في كل عام فريضة» (٢).

ولأجل وضوح حكم المسألة شكّك في العروة الوثقى (٣) في صحّة النسبة. ولا وجه للتشكيك الا ما أفاده بعض الأعلام من ان : «المقام العلمي الرفيع للصدوق يأبى صدور ذلك منه لما عرفت من انه من الواضحات. نسأله تعالى العصمة ، انه أرحم الراحمين» (٤).

هذا مضافا الى إمكان استفادة الحكم من بعض الروايات (٥) الآبي‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) علل الشرائع : ٤٠٥ ، ووسائل الشيعة الباب ٣ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣.

(٣) العروة الوثقى بداية الفصل الأوّل من كتاب الحج.

(٤) مستمسك العروة الوثقى ١٠ : ٥.

(٥) وسائل الشيعة الباب ٣ من أبواب وجوب الحج.

٤٠٦

لسانها عن التخصيص.

٤ ـ واما اشتراط البلوغ والعقل‌ فلما تقدم من شرطيتهما العامة لكل تكليف. هذا مضافا الى موثقة إسحاق بن عمّار : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن ابن عشر سنين يحج ، قال : عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت» (١) وغيرها.

٥ ـ واما اشتراط الحرية‌ فمما لا خلاف فيه. ويدلّ عليه صحيح الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام : «... ليس على المملوك حجّ ولا عمرة حتى يعتق» (٢) وغيره.

٦ ـ واما اعتبار نفقات الحج في تحقق الاستطاعة‌ فلصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قوله عزّ وجلّ : (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة» (٣) وغيرها. وحيث لا يحتمل إرادة خصوص عين الزاد والراحلة فلا بدّ من إرادة ما يعمّ ملك ثمنها.

وهل تعتبر امكانية الراحلة في تحقّق الاستطاعة في حق القادر على المشي بدون حرج أيضا؟ نعم ذلك هو المعروف بين الفقهاء. ويدل عليه إطلاق الصحيحة السابقة وغيرها.

هذا ولكن وردت روايات توحي بعدم اعتبار ذلك ، ففي صحيحة معاوية بن وهب : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل عليه دين أعليه ان‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١٢ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة الباب ١٥ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٨ من أبواب وجوب الحج الحديث ٧.

٤٠٧

يحجّ؟ قال : نعم ، ان حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين. ولقد كان أكثر من حجّ مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشاة. ولقد مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكراع الغميم فشكوا إليه الجهد والعناء فقال : شدّوا أزركم واستبطنوا ففعلوا ذلك فذهب عنهم» (١).

ويظهر من صاحب الوسائل اختياره لمضمونها حيث عنون الباب بباب وجوب الحج على من أطاق المشي.

الا انه لهجران مضمونها لدى الأصحاب ـ خصوصا وقد افترضت الجهد الذي قد يساوق الحرج ـ يلزم حملها على بعض المحامل.

ويؤيّده ان المسألة عامة البلوى فلو كان ما ذكر تامّا لاشتهر وذاع بين الفقهاء.

ولو لا ذلك كان المناسب تقييد الأولى بالحاجة بقرينة الثانية كسائر موارد الإطلاق والتقييد.

٧ ـ وتقييد النفقات بقيد «اللازمة» يقصد به اخراج مثل نفقات هدايا الحج ، فإن القدرة عليها لم تؤخذ في صحيحة هشام فلا تكون معتبرة.

٨ ـ واما عدم اعتبار نفقة العود لمن لا يريد ذلك‌ فواضح لعدم الموجب لذلك. بل يمكن ان يقال ان من يمكنه البقاء في مكة بلا حرج فلا موجب لأخذ نفقة الاياب بعين الاعتبار في حقه بل يلزمه السكن هناك لتحقق الاستطاعة في حقّه فيشمله إطلاق الآية الكريمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١١ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

٤٠٨

٩ ـ واما اعتبار سعة الوقت‌ فلصيرورة التكليف بما لا يطاق بدون فرض ذلك. أجل يلزم التحفّظ على الاستطاعة الى السنة الثانية لما سيأتي من ان الاستطاعة يلزم التحفّظ عليها متى ما تحقّقت وليس لها وقت مخصوص بعد إطلاق الآية الكريمة.

١٠ ـ واما اعتبار السلامة على ما ذكر‌ فيمكن استفادته من الآية الكريمة ـ لعدم صدق الاستطاعة بدون ذلك ـ مضافا الى الروايات الخاصّة كصحيحة هشام المتقدّمة.

كما يمكن التمسّك بقاعدة لا ضرر.

وإذا قيل : ان الحج بنفسه مبني على الضرر لذهاب جملة كبيرة من المال بسببه.

قلنا : ان ذلك وجيه في المقدار الذي يستدعيه طبع الحج دون ما زاد.

وهل يلزم لسقوط الوجوب اليقين بعدم السلامة أو يكفي مجرّد الخوف؟

المناسب الثاني لان الخوف طريق عقلائي في باب الضرر ، وقد جرت عليه سيرة العقلاء الممضية بعدم الردع.

١١ ـ واما اعتبار التمكن من المواصلة عند الاياب‌ فمهم الدليل عليه قاعدة نفي الحرج المستندة إلى قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١).

١٢ ـ واما اعتبار عدم المزاحم الأهم‌ ـ كما إذا استلزم الحج فوات‌

__________________

(١) الحج : ٧٨.

٤٠٩

علاج لازم لمريض أو التأخير في قضاء لازم لدين ـ فلدخول المورد تحت باب التزاحم القاضي بتقديم الأهم ، فانّ دليل الحج ودليل الواجب الآخر مطلقان فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.

وهكذا الحال إذا توقّف الحج على ارتكاب محرم كركوب الطائرة المغصوبة ، فان المورد يدخل تحت باب التزاحم فيقدم الأهم.

١٣ ـ واما انه يقع مصداقا لحج الإسلام عند ترك الأهم‌ فلان ذلك لازم باب التزاحم بناء على امكان فكرة الترتّب حيث يكون الأمر بالمهم مشروطا بترك الاشتغال بالأهم ، فعند عدم الاشتغال به يقع المهم صحيحا بواسطة الأمر الترتبي.

واما انه لا يقع مصداقا عند تخلف غير ذلك فلأخذه في موضوع حجّ الإسلام اللازم منه عدم تحققه عند تخلّفه ، بخلاف عدم المزاحمة بالأهم فإنّه لم يؤخذ كذلك وانما كان معتبرا من باب المزاحمة.

١٤ ـ واما ان النفقات إذا تلفت ـ لسرقة ونحوها ـ قبل اتمام الحج لم يقع ما أتى به مصداقا لحج الإسلام‌ فلان الاستطاعة شرط في حج الإسلام حدوثا وبقاء فإذا تلفت النفقات قبل الاتمام كشف ذلك عن عدم الاستطاعة بقاء ، وهذا بخلاف التلف بعد الاتمام ، فان اعتبار الاستطاعة بلحاظ العود هو لقاعدة نفي الحرج وهي لأجل كونها امتنانية لا تدلّ على الشرطية في الحالة المذكورة لأنه يلزم خلف الامتنان.

هذا ومسألة عدم اجزاء حج المتسكع حدوثا أو بقاء عن حج الإسلام أمر متسالم عليه بين الفقهاء. ولو لا التسالم المذكور تمكن المناقشة باعتبار ان المستفاد من الأدلة ان الحج الواجب هو مرّة واحدة تسمّى بحجّة الإسلام ، والاستطاعة شرط لوجوبها لا لوقوعها حج‌

٤١٠

الإسلام ، فقوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ ...) (١) ناظر الى اثبات الوجوب وانه لا يستقر الا على المستطيع ولا يدل على ان من حجّ بدون استطاعة ثم استطاع يتوجّه اليه الوجوب من جديد.

١٥ ـ واما عدم اعتبار الاستطاعة من البلد‌ فلعدم الدليل على ذلك ، فإذا تحققت من مكان آخر أمكن التمسّك بإطلاق الآية الكريمة لصدق الاستطاعة. وعليه فلو وصل شخص بشكل وآخر الى مكّة من دون استطاعة ، وقبل ان يحرم لعمرة التمتّع أهدى له شخص كامل النفقات من الميقات وحتى العودة الى وطنه كفاه ذلك في تحقق الاستطاعة.

١٦ ـ واما ان تحصيل الاستطاعة غير لازم‌ فلان مقدمة الوجوب لا يجب تحصيلها كما هو واضح.

وإذا قيل : مع القدرة على الاكتساب ـ خصوصا إذا كان بسهولة ـ تصدق الاستطاعة للحج عرفا ومن ثمّ يكون إطلاق الآية الكريمة شاملا.

قلنا : ان ظاهر صحيحة هشام المتقدّمة المفسّرة للاستطاعة بوجدان الزاد والراحلة وجدانهما الفعلي ولو بثمنهما لا مجرّد القدرة على ذلك.

١٧ ـ واما عدم لزوم قبول الهبة غير المقيّدة بالحج‌ فلان ذلك نحو من الاكتساب الذي تقدّم عدم وجوبه.

واما إذا كانت مقيّدة به فالمناسب وان كان عدم لزوم قبولها لما سبق نفسه الا ان روايات متعدّدة دلّت على ان من عرض عليه الحج يجب عليه ، ففي صحيحة محمّد بن مسلم : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فان‌

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٤١١

عرض عليه الحج فاستحيى ، قال : هو ممّن يستطيع الحج. ولم يستحيي ولو على حمار أجدع أبتر ...» (١) ، ومن وهب له بشرط الحج يصدق عليه : عرض عليه الحج.

ومن ذلك يتّضح الحال في من بذل له ودعي إليه فان الوجوب يستقر عليه لصدق عرض الحج عليه.

١٨ ـ واما كفاية الاباحة‌ فلصدق الاستطاعة المأخوذة في الآية الكريمة معها.

ودعوى انه لا مجال للتمسّك بهذا بعد تفسير الاستطاعة في صحيحة هشام المتقدّمة بمن له زاد وراحلة الظاهر في اعتبار الملكية مدفوعة بأنّ ظاهر اللام الاختصاص ـ دون الملك ـ وذلك صادق مع الإباحة.

ودعوى ان الإباحة المالكية إذا كانت كافية فيلزم كفاية الاباحة الشرعية الثابتة في المباحات العامّة أيضا ، وهو بعيد مدفوعة بأنّا نلتزم تحقّق الاستطاعة بعد الاستيلاء لصدق عنوان «له زاد وراحلة» بخلافه قبل ذلك فانه لا يصدق.

١٩ ـ واما وجوب الحج على من كان بحاجة الى دار ونحو ذلك‌ فلصدق الاستطاعة المفسّرة في صحيحة هشام السابقة بالزاد والراحلة. أجل مع الحرج ـ المشقّة الشديدة ـ لا يثبت الوجوب لحكومة قاعدة نفي الحرج على الأدلّة الأوّلية التي منها دليل وجوب الحج على المستطيع.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١٠ من أبواب وجوب الحج الحديث ١.

٤١٢

ومن ذلك يتّضح الحال في بقيّة الفروع بما في ذلك حالة القرض ، فإنّه وان لم يكن لازما ـ لكونه نحوا من التكسب غير اللازم ـ الا أنّه بعد تحقّقه بمقدار نفقات الحج يكون المكلف مالكا للنفقات فيستقرّ عليه الوجوب الا مع الحرج في الوفاء.

٢٠ ـ واما الوقت اللازم تحقّق الاستطاعة فيه بحيث لا يجوز تفويتها بعد ذلك‌ ففيه خلاف.

والمعروف انه خروج القافلة الاولى.

واختار في العروة الوثقى كونه التمكّن من المسير وان لم تخرج القافلة بعد (١).

واختار جماعة منهم الشيخ النائيني كونه أشهر الحج (٢).

والمناسب عدم التقيّد بوقت خاص لان ظاهر الآية الكريمة وجوب الحج كلّما صدقت الاستطاعة من دون اشتراط وقت خاص ، فلو حصلت في محرم وجب الحج آنذاك غايته بنحو الواجب المعلّق. والثمرة تظهر في لزوم التحفّظ على الاستطاعة ولزوم تهيئة المقدّمات بنحو الواجب الموسع.

أجل يلزم لتحقّق الاستطاعة مضافا الى توفّر النفقات حصول الصحة وتخلية السرب لان الثلاثة اخذت عناصر للاستطاعة في صحيحة هشام المتقدّمة.

وعلى هذا : من تمكّن من نفقات الحج ولكنه لم يكن ذا صحّة أو لم يكن مخلى السرب فليس ذا استطاعة ومن ثمّ لا يلزمه التحفّظ على‌

__________________

(١) العروة الوثقى ، كتاب الحج ، فصل شرائط وجوب حجة الإسلام ، الشرط ٣ ، المسألة ٢٣.

(٢) دليل الناسك : ٣٦ ، طبعة مؤسسة المنار.

٤١٣

الاستطاعة من حيث النفقات. اما اذا اجتمعت في زمان فمن اللازم التحفّظ عليها حتى ولو كان ذلك في محرّم.

٢١ ـ واما وجوب الاستنابة في الموردين‌ فقد دلّ عليه صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «وان كان موسرا وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فان عليه ان يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له» (١) وغيره.

وهو باطلاقه يشمل الموردين.

وهل يكفي في المورد الثاني العذر في سنة الاستطاعة أو لا بد من استمراره؟ قد يقال : بأنّ مقتضى إطلاق الصحيح هو الأوّل.

بيد أنّه يلزم حمله على إرادة الثاني بحيث يكون المقصود حال بينه وبين أصل الحج مرض أو ... لا حال بينه وبين الحج في سنة الاستطاعة ، إذ لو كان المقصود هو الثاني لاشتهر ذاك وشاع لشدّة الابتلاء بالمسألة والحال ان المشهور هو العدم بل ادعي عليه الاجماع.

وهل يلزم في النائب ان يكون صرورة؟ المشهور عدم اعتبار ذلك ، والمناسب اعتباره لظاهر الصحيح. أجل يتنزل الى الاحتياط الوجوبي تحفّظا من مخالفة المشهور.

ويختص ذلك بما إذا كان المنوب عنه حيّا لأنه مورد الصحيح ولا يعمّ الميّت لأصل البراءة بعد عدم الدليل على الاعتبار.

هذا لو لم يكن إطلاق في أدلة الاستنابة عن الميت الذي استقر عليه الحج والا كان هو المرجع دون أصل البراءة.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢٤ من أبواب وجوب الحج الحديث ٢.

٤١٤

ثم انه قد يناقش في أصل وجوب الاستنابة لرواية سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان رجلا أتى عليّا ولم يحجّ قط فقال : اني كنت كثير المال وفرطت في الحج حتى كبرت سنّي ، فقال : فتستطيع الحج؟ فقال : لا ، فقال له علي عليه‌السلام : إن شئت فجهّز رجلا ثم ابعثه يحجّ عنك» (١) ، فان التعليق على المشيئة يدل على عدم الوجوب.

ويمكن ردّ ذلك بضعف السند بسلمة حيث لم تثبت وثاقته ، وبأن المقصود : ان كنت خائفا وتحب تفريغ ذمتك فاستنب ، وهذا لا يتنافى ووجوب الاستنابة.

٢٢ ـ واما وجوب تهيئة المقدّمات‌ فلحكم العقل بوجوب ما لا يتم الواجب الا به ، بمعنى ان المكلف لا يكون معذورا عقلا بتركه للواجب بسبب تركها. أجل ان وجوبها موسع ما دام يوثق بعدم فوات الواجب بعدم الاسراع في تهيئتها.

٢٣ ـ واما الوقت الذي يجب فيه الخروج فيما إذا فرض تفاوت القوافل في وقت الخروج‌ فقيل بلزومه مع الاولى وان وثق بإدراك الحج مع الثانية ، وقيل بجواز الخروج مع الاخرى ما دام يحتمل الإدراك معها.

والمناسب عدم جواز التأخير الا مع الوثوق بالإدراك مع التأخّر لان التحفظ على أداء الواجب لازم عقلا ، والوثوق طريق عقلائي في مثل ذلك.

ثم انه لو كان واثقا ولكن لم يتحقق منه الادراك لعارض فهل يستقر الحج في ذمّته بحيث يلزمه اداؤه في السنة الثانية ولو تسكعا؟ كلا لأنه لم يتوان حتى يستقر عليه.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢٤ من أبواب وجوب الحج الحديث ٣.

٤١٥

أجل يلزمه التحفظ على الاستطاعة الى السنة الثانية لما تقدّم من ان العناصر الثلاثة للاستطاعة اذا تحققت في أي وقت يستقر الوجوب في الذمة ولا يجوز تفويتها. ولكن لو فاتت لعذر فلا يلزم التسكع لعدم كونه ممّن سوّف بعد استقرار الوجوب عليه.

٢٤ ـ واما العمرة‌ فلا إشكال في وجوبها على من استطاع للحج اما لأنّها جزء المركب الواحد ـ كما في حجّ التمتع ـ أو لأنّها واجب مستقل.

وليس مستند الوجوب قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (١) أو (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) (٢) لقصورهما عن إثبات ذلك كما هو واضح ، بل لان ذلك مضافا الى كونه من المسلّمات تدلّ عليه جملة من الروايات ، كصحيح معاوية عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع إليه سبيلا لان الله عزّ وجلّ يقول : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)» (٣) وغيره.

كما لا إشكال في ان الآتي بعمرة التمتّع تسقط عنه فريضة العمرة لصحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا استمتع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العمرة» (٤) وغيره.

وينحصر البحث بعد هذا في من استطاع للعمرة المفردة ولم يستطع للحج.

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) البقرة : ١٥٨.

(٣) وسائل الشيعة الباب ١ من أبواب العمرة الحديث ٨.

(٤) وسائل الشيعة الباب ٥ من أبواب العمرة الحديث ١.

٤١٦

والكلام تارة يقع في القريب الذي وظيفته غير حجّ التمتّع واخرى في البعيد الذي وظيفته ذلك.

اما القريب فيمكن التمسّك بصحيح معاوية المتقدّم لإثبات وجوبها وفوريتها عليه.

واما البعيد فلا يبعد دلالة الصحيح على الوجوب في حقه أيضا الا انه لا بدّ من حمله على غيره لان المسألة ابتلائية ، فلو كان الوجوب ثابتا في حقّه لاشتهر وذاع والحال ان المعروف بين الفقهاء عدم الوجوب ، بل قال في العروة الوثقى : «أرسله بعضهم إرسال المسلّمات» (١).

٢٥ ـ واما اعتبار الاحرام لدخول مكّة‌ فلصحيح محمّد بن مسلم : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام : هل يدخل الرجل مكّة بغير احرام؟ قال : لا ، الا مريضا أو من به بطن» (٢) وغيره.

وحيث ان الاحرام لا يكون الا بحج أو عمرة فتتعيّن العمرة إذا لم يكن الوقت وقتا للحج.

ويستثنى من ذلك من يتكرّر منه الدخول جلبا لحوائج الناس ، ففي صحيح رفاعة بن موسى : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان الحطابة والمجتلبة أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه فأذن لهم ان يدخلوا حلالا» (٣).

ونسب الى المشهور التعدي الى كل من تكرّر منه الدخول ولو لم ينطبق عليه عنوان المجتلب فهما منهم عدم الخصوصية لعنوان الاجتلاب.

__________________

(١) العروة الوثقى ، كتاب الحج ، فصل أقسام العمرة ، المسألة ٢.

(٢) وسائل الشيعة الباب ٥٠ من أبواب الاحرام الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٥١ من أبواب الاحرام الحديث ٢.

٤١٧

وهذا الاحتمال وان كان وجيها في من تكرر منه الدخول لحاجة عقلائيّة ـ كمن يتكرّر منه ذلك لمراجعة طبيب ـ الا ان التعدي لغير ذلك مشكل فينبغي الاقتصار على موضع النصّ والرجوع في غيره الى عموم صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم.

ويستثنى من ذلك أيضا الداخل قبل مضي الشهر القمري الذي تحقّق فيه الاحرام السابق للعمرة المفردة أو لحجّ التمتّع لموثق إسحاق بن عمّار : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن المتمتع يجي‌ء فيقضي متعة ثم تبدو له الحاجة فيخرج الى المدينة والى ذات عرق أو الى بعض المعادن ، قال : يرجع الى مكة بعمرة ان كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه لان لكلّ شهر عمرة ...» (١).

وتقييد الشهر بالقمري لأنه المتبادر من النص.

كما ان المتبادر ما بين الهلالين دون ثلاثين يوما الا مع القرينة ، كما في أشهر العدة لبعد موت الأزواج بداية الشهر الهلالي.

٢٦ ـ واما ان من استطاع وسوّف استقر في ذمّته ولزمه التسكع‌ فمتسالم عليه. ولا يبعد استفادته من الآية الكريمة لان ظاهرها ان من استطاع في زمان كفى ذلك في استقرار الوجوب عليه وان زالت ما دام ذلك بسوء الاختيار ، وخرجت من ذلك حالة الزوال لا بذلك للعلم من الخارج بانتفاء الوجوب فيها.

ومع التنزل يمكن استفادة ما ذكر من صحيحة المحاربي المتقدّمة الدالّة على ان من مات ولم يحجّ من دون حاجة تجحف به‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢٢ من أبواب أقسام الحج الحديث ٨.

٤١٨

فليمت يهوديّا أو نصرانيّا ، فإن المقصود فليمت كذلك لو استطاع ولم يحج ، وبإطلاقها تشمل حالة زوال الاستطاعة أيضا ، وبذلك يثبت الوجوب ولو تسكعا والا فلا وجه للموت يهوديا أو نصرانيّا.

واما التقييد بعدم الحرج فلقاعدة نفي الحرج الحاكمة على الأدلّة الأوّلية. مضافا الى امكان استفادة ذلك من صحيحة المحاربي المتقدّمة أيضا.

٢ ـ الصورة الإجمالية للحج‌

الحج على ثلاثة أقسام : تمتع وإفراد وقران.

والتمتع مركب من عمرة وحج متأخّر عنها.

والعمرة تبتدأ بالاحرام من أحد المواقيت الآتية ثم الطواف حول الكعبة ثم صلاته ثم السعي بين الصفا والمروة ثم التقصير.

والحج يبتدأ بالاحرام من مكة ثم الوقوف في عرفات من ظهر تاسع ذي الحجّة وحتى المغرب ثم الوقوف في المزدلفة من الفجر الى طلوع الشمس ثم رمي جمرة العقبة في منى يوم العاشر ثم الذبح أو النحر فيها في اليوم المذكور ثم الحلق أو التقصير فيها أيضا ثم طواف الحج وصلاته ثم السعي ثم طواف النساء وصلاته. ويلزم المبيت في منى ليلة الحادي والثاني عشر ورمي الجمار صبيحة اليومين ، والنفر من منى بعد زوال اليوم الثاني عشر.

والافراد يشترك مع التمتّع فيما ذكر الا انه في الافراد لا تكون العمرة المحرم لها من مكّة متقدّمة ، كما لا يعتبر الاتصال بينهما ، ولا يلزم فيه‌

٤١٩

الذبح والنحر ، ويجوز فيه تقديم الطواف والسعي على الوقوفين اختيارا ، والاحرام له يكون من أحد المواقيت الآتية لإحرام عمرة التمتع ، ويجوز فيه بعد الاحرام للحج الطواف المندوب.

والقران يشترك مع الافراد في جميع ما ذكر الا انه فيه يصطحب الحاج معه الهدي حال الاحرام. وفي عقد احرامه يكون مخيّرا بين التلبية والاشعار أو التقليد.

وحج الإسلام من حاضري المسجد الحرام يلزم كونه قرانا أو إفرادا ومن غيرهم تمتّعا.

والمكلّف بالخيار في غير حج الإسلام وان كان التمتع أفضل.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما انقسام الحج الى الثلاثة‌ فمما لا خلاف فيه بين المسلمين.

وتدل عليه صحيحة معاوية بن عمّار : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الحج ثلاثة أصناف : حج مفرد وقران وتمتع بالعمرة الى الحج ، وبها أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفضل فيها ولا نأمر الناس الا بها» (١) وغيرها.

واما تركب حج التمتع ممّا ذكر فكذلك. ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) (٢) والروايات الكثيرة.

ويظهر من بعض النصوص ان تشريع الحج ابتداء كان بنحو الافراد والقران ، وفي حجّة الوداع شرع التمتّع ، ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين حجّ حجّة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة فصلّى بها ثم قاد راحلته‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١ من أبواب أقسام الحج الحديث ١.

(٢) البقرة : ١٩٦.

٤٢٠