دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

دروس تمهيديّة في الفقه الإستدلالي على المذهب الجعفري - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: برهان
الطبعة: ٢
ISBN: 964-499-035-8
ISBN الدورة:
964-499-048-X

الصفحات: ٥٧٦

١ ـ أقسام المياه وأحكامها‌

تقسيم الماء‌

ينقسم الماء إلى مطلق ومضاف.

والمضاف طاهر في نفسه وليس بمطهر من الحدث ولا من الخبث.

وإذا لاقى نجاسة تنجس جميعه مهما كان مقداره.

والمطلق إذا كان كثيرا ـ كرا ـ لا يتنجّس إلاّ بتغيّر أحد أوصافه ، وبحكم الكثير ذو المادة.

وإذا كان قليلا يتنجّس بمجرّد ملاقاة النجس أو المتنجس إلاّ إذا كان متدافعا.

وإذا شك في كرية الملاقى فمع احراز حالته السابقة يحكم بما تقتضيه ، ومع عدمه يحكم بطهارته.

وفي تحديد مقدار الكر أقوال.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما طهارة المضاف في نفسه‌ فلقاعدة الطهارة المستفادة من‌

٢١

موثقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انّه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (١) ، واستصحابها.

٢ ـ واما انه ليس بمطهر من الحدث‌ فيكفي لإثباته استصحاب بقاء الحدث بعد عدم الدليل على ارتفاعه به ، بل ويمكن إقامة الدليل على العدم بمثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٢) ، فانه بالإطلاق يدل على المطلوب.

٣ ـ واما انه ليس بمطهر من الخبث‌ فتدلّ عليه رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام : «يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ، ولا يجزئ من البول إلاّ الماء» (٣) ، فانه بضمّ عدم الفصل بين البول وغيره يثبت المطلوب.

وعلى تقدير ضعف الرواية بالقاسم بن محمّد الجوهري الوارد في سندها ـ حيث لم تثبت وثاقته إلاّ من خلال كامل الزيارات بناء على وثاقة كل من يرد فيه ـ فيكفي لإثبات المطلوب استصحاب بقاء الخبث.

٤ ـ واما تنجسه بمجرّد الملاقاة‌ فأمر متسالم عليه ، ويمكن استفادته من موثقة السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام : «ان عليّا عليه‌السلام سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة. قال : يهرق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل» (٤) ، فانه بضمّ عدم الفصل يثبت العموم.

والسكوني وان لم يكن من أصحابنا إلاّ ان ذلك لا يضرّ بعد ثبوت‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٣٧ من أبواب النجاسات الحديث ٤.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٣٠ من أحكام الخلوة الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة الباب ٥ من أبواب الماء المضاف الحديث ٣.

٢٢

وثاقته بعبارة الشيخ المنقولة في العدة (١).

٥ ـ وامّا عدم تنجّس المطلق ـ إذا كان كرّا ـ بالملاقاة‌ فلصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (٢) وغيره.

٦ ـ وامّا تنجّسه عند تغير أحد أوصافه الثلاثة‌ فلصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب» (٣) ، فانها باطلاقها تشمل الكرّ.

٧ ـ وامّا تنجس القليل بملاقاة عين النجاسة‌ فلمفهوم صحيح معاوية المتقدّم.

وامّا تنجسه بالمتنجّس أيضا فهو المعروف بين الأصحاب خلافا لجماعة منهم الشيخ الآخوند بدعوى انه لا إجماع على ذلك ، إضافة إلى انّه لا خبر يدل عليه لا بالخصوص وهو واضح ، ولا بالعموم لأنّ المنسبق من لفظ «شي‌ء» في صحيح معاوية المتقدّم عين النجاسة ، ومعه يكون المرجع استصحاب الطهارة. وبقطع النظر عنه قاعدة الطهارة.

وفيه : ان جملة من النصوص تشمل ملاقاة المتنجس أيضا. ففي صحيح شهاب بن عبد ربه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل ان يغسلها ، انّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده‌

__________________

(١) العدة في أصول الفقه ١ : ١٤٩.

(٢) وسائل الشيعة الباب ٩ من أبواب الماء المطلق الحديث ٢.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٣ من أبواب الماء المطلق الحديث ١.

٢٣

شي‌ء» (١) ، فانّه يمكن التمسّك بإطلاق المفهوم لإثبات المطلوب.

٨ ـ واما استثناء حالة التدافع‌ فلانه لو كان المائع يتدافع من العالي مثلا ولاقت النجاسة السافل فلا يتنجس العالي بل السافل فقط ، اما لأنه مع التدافع يتحول المائع إلى مائعين بالنظر العرفي ، ولا موجب مع تنجّس أحدهما لتنجّس الثاني ، أو لأنّ العرف لا يرى تأثر العالي بالنجاسة ، ومسألة كيفية السراية حيث لم يرد فيها نص خاص فلا بدّ من تنزيلها على ما يراه العرف.

٩ ـ واما انّه مع الشك في كرية الملاقى واحراز حالته السابقة يحكم بما تقتضيه‌ فللاستصحاب.

واما انه مع عدم احرازها يحكم بالطهارة لاستصحاب الطهارة وبقطع النظر فلقاعدة الطهارة المستفادة من موثقة الساباطي المتقدّمة.

وجوه في مقابل قاعدة الطهارة‌

وقد يتمسك في مقابل قاعدة الطهارة واستصحابها بجملة من الوجوه من قبيل :

الأوّل : التمسك بعموم ما دلّ على تنجس كل ماء لاقى نجاسة ، كموثقة سماعة : «ولا تشرب من سؤر الكلب إلاّ ان يكون حوضا كبيرا يستقى منه» (٢).

وفيه : انه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ـ لخروج الكرّ منه ويشك في فردية المشكوك للعام أو للمخصص ـ وهو غير جائز ،

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٨ من أبواب الماء المطلق الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة الباب ٩ من أبواب الماء المطلق الحديث ٣.

٢٤

لوجود حجتين ، وادخال المشكوك تحت احداهما بلا مرجح.

الثاني : التمسك بالقاعدة الميرزائية‌ القائلة بأن الاستثناء من الحكم الالزامي أو ما يلازمه إذا تعلّق بعنوان وجودي فلا بدّ عرفا من إحراز ذلك العنوان في ارتفاع الحكم الالزامي أو ما يلازمه. وعليه فالحكم بالانفعال لا ترفع اليد عنه مع عدم احراز الكرية (١).

وفيه : ان القاعدة المذكورة وان تمسك بها الشيخ النائيني في موارد متعدّدة الا انها غير ثابتة.

الثالث : التمسك بقاعدة المقتضي والمانع‌ ، بتقريب : ان الملاقاة مقتضية للتنجيس والكرية مانعة ، ومع إحراز المقتضي والشك في المانع يبنى على تحقّق المقتضى.

وفيه : ان القاعدة المذكورة لم يحرز ثبوتها لدى العقلاء ولا تستفاد من النصوص.

الرابع : التمسك باستصحاب العدم الأزلي للكرية‌ بتقريب : ان موضوع الانفعال مركّب من القلّة والملاقاة ، والجزء الأوّل محرز بالاستصحاب ، والثاني بالوجدان فيثبت الحكم.

وفيه : ان ما ذكر وجيه بناء على حجيّة الاستصحاب في الاعدام الأزلية.

الخامس : التمسّك باستصحاب العدم النعتي للكرية‌ بتقريب : ان أصل الماء هو المطر ، وهو ينزل قطرة قطرة ، ومعه يكون كلّ ماء مسبوقا بالقلّة حين نزوله مطرا فتستصحب قلّته. وبضم الاستصحاب‌

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٥ ، وفوائد الأصول ٣ : ٣٨٤.

٢٥

الى الوجدان يثبت تمام الموضوع للانفعال.

وفيه : ان القلّة المحرزة في بدء الخلقة لا تجدي في الفروض العادية التي يؤخذ فيها ماء من البحر دفعة في ظرف كبير يشك في كونه كرّا.

وعليه فالرجوع إلى استصحاب الطهارة أو أصالة الطهارة يبقى بلا مانع بعد البناء على بطلان الوجوه الخمسة المذكورة.

مقدار الكر‌

١٠ ـ واما تحديد الكر بالمساحة‌ ففيه أقوال ، والمعروف منها قولان : أحدهما : ما كان كل من أبعاده الثلاثة يساوي ثلاثة أشبار ، ونتيجته ان الكر ـ ٢٧ شبرا.

ثانيهما : ما كان كل من أبعاده الثلاثة يساوي ثلاثة أشبار ونصفا ، ونتيجته ان الكر شبرا.

اما القول الأوّل فتدل عليه صحيحة إسماعيل بن جابر : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ، قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» (١) ، بتقريب : ان الذراع عبارة عن شبرين ، والسعة لا يراد بها الطول أو العرض بل ما يسعه السطح.

وظاهر تحديدها بذراع وشبر كونها كذلك من جميع الجهات ، وذلك لا يتمّ إلاّ في الشكل الدائري.

وفي تحصيل حجم الدائرة يضرب نصف القطر (٢) * نصف‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١٠ من أبواب الماء المطلق الحديث ١.

(٢) والقطر بعد كونه نفس السعة يساوي حسب الفرض ثلاثة أشبار.

٢٦

المحيط* العمق.

وحيث ان نسبة المحيط إلى القطر ثلاثة إلى واحد تقريبا ـ وان كانت بالدقّة ـ فنصف المحيط ـ شبرا.

ومن ثم تصبح النتيجة شبرا.

وقد يناقش في السند بأن ظاهر الوسائل ان الشيخ ينقلها من كتاب محمّد بن أحمد بن يحيى الذي له طرق صحيحة إليه في المشيخة والفهرست إلاّ ان الأمر ليس كذلك فانه يرويها بطريق خاص في الاستبصار (١) يشتمل على أحمد بن محمد بن يحيى ، وفي التهذيب (٢) على أحمد بن محمد بن الحسن ، وكلاهما لم يوثقا إلاّ بناء على كفاية شيخوخة الإجازة.

واما القول الثاني فيدل عليه صحيح أبي بصير : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء» (٣).

وبعد التعارض نقول : على تقدير عدم صحّة سند القول الأوّل يتعيّن المصير إلى الثاني.

واما بناء على صحته ولو بالاستعانة بصحيحة إسماعيل بن جابر الاخرى (٤) فحيث لا يمكن الجمع العرفي بينهما ولا الترجيح‌

__________________

(١) الاستبصار ١ : ١٠.

(٢) التهذيب ١ : ٤١.

(٣) وسائل الشيعة الباب ١٠ من أبواب الماء المطلق الحديث ٦.

(٤) وسائل الشيعة الباب ٩ من أبواب الماء المطلق الحديث ٧.

٢٧

بالموافقة للكتاب والمخالفة للعامة يتساقطان ويلزم الرجوع إلى القاعدة ، وهي تقتضي نتيجة القول الثاني لان الأقل من متى ما شك في تنجسه بالملاقاة فمقتضى عموم انفعال كلّ ماء بالملاقاة تنجّسه ، ولا يضرّ إجمال المخصص مفهوما بعد كونه منفصلا.

ومتى ما شك في كفاية المرة عند الغسل به فاستصحاب النجاسة ـ بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ـ يقتضي بقاءها.

هذا كلّه لو لم ندخل في الحساب روايات وفرضيات أخرى وإلاّ فالنتيجة قد تتغيّر ، وذلك ما يحتاج إلى مستوى أعلى من البحث.

الأسآر‌

الأسآر كلّها طاهرة ويحل تناولها إلاّ سؤر الكلب والخنزير والكافر. نعم يكره سؤر ما لا يحل أكل لحمه شرعا عدا الهر. وامّا سؤر المؤمن فهو شفاء.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما طهارة السؤر‌ فلانه بعد عدم الدليل على نجاسته يجري استصحاب طهارته. وبقطع النظر عنه أو لعدم جريانه في الشبهات الحكمية بما في ذلك الترخيصية يمكن التمسّك بقاعدة الطهارة.

٢ ـ واما جواز التناول‌ فللاستصحاب ، وبقطع النظر عنه فلأصل البراءة بعد عدم الدليل على الحرمة.

٣ ـ واما نجاسة سؤر الثلاثة‌ فلملاقاته للنجس.

٤ ـ واما كراهة سؤر ما لا يحل لحمه‌ فلكونها مقتضى الجمع بين‌

٢٨

ما دلّ على الجواز كصحيحة العباس (١) : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرة ... والوحش والسباع فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه فقال عليه‌السلام : لا بأس به» (٢) وبين ما دلّ على المنع كمفهوم موثقة عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «... كلّ ما أكل لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب» (٣) ، فان الوصف لوروده مورد التحديد يدل على المفهوم.

٥ ـ واما عدم كراهة سؤر الهر‌ فلما ورد في صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في كتاب علي عليه‌السلام : ان الهر سبع ولا بأس بسؤره واني لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان الهر أكل منه» (٤) ، فانه لا وجه للاستحياء مع الكراهة.

٦ ـ واما الشفاء في سؤر المؤمن‌ فلصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في سؤر المؤمن شفاء من سبعين داء» (٥) وغيرها.

٢ ـ أحكام التخلي‌

المشهور حرمة استقبال القبلة واستدبارها حالة التخلي.

ويطهر موضع البول بغسله بالماء فقط مرّة واحدة ، وقيل مرّتين.

__________________

(١) ورد في الطبع القديم للوسائل : ... عن الفضل عن العباس ، والصواب : عن الفضل ابي العباس ، وهو المعروف بالبقباق الذي هو من ثقات أصحابنا. وقد نقلها الحرّ بشكل صحيح في الباب ١١ من أبواب النجاسات الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة الباب ١ من أبواب الأسآر الحديث ٤.

(٣) وسائل الشيعة الباب ٤ من أبواب الأسآر الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة الباب ٢ من أبواب الأسآر الحديث ٢.

(٥) وسائل الشيعة الباب ١٨ من أبواب الأشربة المباحة الحديث ١.

٢٩

واما موضع الغائط فيطهر أيضا بكل جسم قالع للنجاسة.

والبلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء محكوم بالبولية إلاّ مع طول المدّة بنحو يطمئن بعدم بقاء بول في المجرى.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما حرمة الاستقبال والاستدبار‌

فمتسالم عليها إلاّ من بعض المتأخّرين كصاحب المدارك حيث اختار الكراهة (١).

وقد يستدل بمرفوعة محمّد بن يحيى : «سئل أبو الحسن عليه‌السلام : ما حدّ الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها» (٢).

لكنها ضعيفة سندا بالرفع ، ودلالة باعتبار ان السياق قرينة على إرادة الأدب الإسلامي إلاّ بناء على استفادة الوجوب والتحريم من حكم العقل دون الوضع.

وعليه فيشكل الحكم بالحرمة لان المستند ان كان هو الإجماع فهو محتمل المدرك على تقدير تحققه ، وإن كان هو الروايات فهي ضعيفة.

وإذا قيل : ان الروايات وان كانت ضعيفة السند والدلالة إلاّ ان استناد الأصحاب إليها يجبر ذلك حيث يتولّد اطمئنان بصدقها.

وبكلمة اخرى : ان التسالم ـ على تقدير تحقّقه ـ ان كان مستندا الى الروايات فذلك موجب للاطمئنان بحقانيتها ، وان لم يكن مستندا إليها فيلزم ان يكون حجّة لكاشفيته التعبّدية عن وصول الحكم إلى‌

__________________

(١) مدارك الاحكام ١ : ١٥٨.

(٢) وسائل الشيعة الباب ٢ من أبواب أحكام الخلوة الحديث ٢.

٣٠

المجمعين من الامام عليه‌السلام يدا بيد.

وبهذه الطريقة يمكن ان تثبت للإجماعات المدركية أو محتملة المدرك قيمة في مقام الاستدلال.

قلنا : هذا وجيه لو انحصر المدرك المحتمل برواية واحدة ولم نحتمل وجود مدرك آخر للمجمعين غيرها ، اما اذا كانت الروايات متعدّدة ـ كما هو الحال في المقام حيث توجد أكثر من رواية صالحة للدلالة ـ فلا يتم ما ذكر لاحتمال استناد نصف المجمعين إلى هذه الرواية ونصفهم الآخر إلى الرواية الاخرى ، وبذلك لا يتولّد اطمئنان بحقانيّة الرواية.

٢ ـ واما طهارة موضع البول بغسله بالماء فقط‌ فلصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار. بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واما البول فانه لا بدّ من غسله» (١).

والرواية صحيحة لان سند الشيخ إلى الحسين بن سعيد صحيح. والحسين نفسه وبقية الرجال هم من أجلاّء أصحابنا.

٣ ـ واما كونه مرّة واحدة‌ فلعدّة روايات كصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا انقطعت درة البول فصبّ الماء» (٢) ، فإن إطلاق الصبّ يصدق بالمرة الواحدة.

والقول بالتعدّد مبني على المناقشة في الرواية السابقة وأمثالها بعدم كونها في مقام البيان من الناحية المذكورة ، وهو يقتضي التعدّد‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة الباب ٣١ من أبواب أحكام الخلوة الحديث ١.

٣١

يقتضي التعدّد لاستصحاب النجاسة بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية.

وتؤكّد اعتبار التعدّد رواية البزنطي : «سألته عن البول يصيب الجسد. قال : صبّ عليه الماء مرّتين ، انّما هو ماء» (١) ، بناء على صدق الاصابة على الواصل من الجسد إليه.

أجل مع إنكار الاستصحاب ودلالة الرواية المذكورة يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند الغسل مرّة واحدة.

ثمّ ان في رواية البزنطي مشكلتين ينبغي الالتفات إليهما :

الاولى : ان الرواية المذكورة رواها ابن إدريس في مستطرفاته (٢).

وطريقه إليها حيث لم يذكره فهو مجهول وساقط عن الاعتبار إلاّ ما ينقله عن أصل محمّد بن علي بن محبوب الأشعري فانه صرّح بانه رآه بخط الشيخ الطوسي ، والشيخ له طريق معتبر إلى ابن محبوب على ما في الفهرست (٣).

الثانية : ان الرواية مضمرة ، وهي ساقطة عن الاعتبار من الناحية المذكورة أيضا.

ويمكن الجواب : اما ببيان ان البزنطي من أجلاّء الأصحاب الذين لا تليق بهم الرواية عن غير الإمام عليه‌السلام أو ببيان ان ذكر الضمير بدون مرجع قضية غير مألوفة في اللغة العربية ، فلا يليق بالعارف بأساليب الكلام إذا دخل على جماعة من الناس ان يقول : سألته من دون ذكر‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢٦ من أبواب احكام الخلوة الحديث ٩.

(٢) السرائر : ٤٧٣.

(٣) الفهرست : ١٤٥.

٣٢

مرجع الضمير.

ومعه يلزم في موارد ذكر الضمير بدون مرجع وجود عهد خاص بين الطرفين لمرجع الضمير اعتمدا عليه في تشخيص المرجع ، وبسبب ذلك ذكر الضمير.

وحيث لا يوجد شخص يليق ان يكون معهودا في الأوساط الشيعيّة إلاّ الإمام عليه‌السلام فيتعيّن ان يكون هو المرجع.

وإذا قيل : لعل هناك شخصا غير الإمام عليه‌السلام كان معهودا بين الطرفين اعتمدا على عهده في ذكر الضمير ولا يتعيّن كون المعهود هو الإمام عليه‌السلام.

قلنا : ان المضمر كالبزنطي مثلا حيث انه لم يحتكر الرواية على نفسه بل حدّث بها غيره أو سجّلها في أصله فذلك يدل على انه أراد نقلها لجميع الأجيال. وحيث لا يوجد شخص تعهده الأجيال جميعا إلاّ الإمام عليه‌السلام فيثبت بذلك رجوع الضمير إليه عليه‌السلام.

والفارق بين البيانين اختصاص الأوّل بما إذا كان المضمر من أجلاّء الأصحاب بخلاف الثاني فانه عام للجميع.

٤ ـ واما الحكم بالبولية على الخارج قبل الاستبراء بالرغم من اقتضاء قاعدة الطهارة الحكم بعدم ذلك‌ فللروايات الحاكمة بانتقاض الطهارة أو ببولية المشتبه ، كمفهوم صحيحة محمّد بن مسلم : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل بال ولم يكن معه ماء. قال : يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات ، وينتر طرفه ، فإن خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من‌

٣٣

البول ولكنه من الحبائل» (١).

٥ ـ واما الاكتفاء بطول المدّة‌ فلان المطلوب بالاستبراء نقاء المحل فمع الاطمئنان به تترتّب فائدته.

هذا مضافا إلى التمسّك باستصحاب عدم خروج البول ، وبقطع النظر عنه فبقاعدة الطهارة فان الحاكم عليهما ـ وهو الصحيحة المتقدّمة ـ يختص بغير هذه الحالة.

٣ ـ الوضوء‌

كيفية الوضوء‌

يجب في الوضوء غسل الوجه ما بين قصاص الشعر والذقن طولا وما بين الابهام والوسطى عرضا. والمشهور عدم جواز النكس.

ثم غسل اليدين بتقديم اليمنى من المرفق إلى أطراف الأصابع بدون نكس.

ثم مسح مقدّم الرأس بمقدار المسمّى.

ثم مسح الرجلين إلى الكعبين كذلك ، بمسح اليمنى باليمنى اولا واليسرى باليسرى ، ويجوز فيه النكس ، ويلزم كونه بنداوة الوضوء.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما ان الوضوء مركّب من غسلين ومسحين‌ فيكفي لإثباته كتاب الله العزيز : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١١ من أبواب أحكام الخلوة الحديث ٢.

٣٤

الْكَعْبَيْنِ) (١) فان الأرجل عطف على محل المجرور كما يقتضيه الظهور وصحيحة زرارة الآتية في الرقم ٣.

٢ ـ واما تحديد الوجه‌ بما ذكر فلصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي ان يوضأ الذي قال الله عزّ وجلّ ، فقال : الوجه الذي قال الله وأمر الله عزّ وجلّ بغسله الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر وان نقص منه أثم ما دارت عليه الوسطى والابهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الاصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه. وما سوى ذلك فليس من الوجه. فقال له الصدغ من الوجه؟ فقال : لا» (٢).

وطريق الصدوق إلى زرارة صحيح في المشيخة. وبقطع النظر عنه يكفي طريق الكليني.

ثمّ ان الظاهر ان التحديد بما ذكر ملحوظ بنحو الطريقيّة دون الموضوعية ، ومعه يلزم رجوع الانزع والاغم وطويل الأصابع وقصيرها الى المتعارف.

٣ ـ واما عدم جواز النكس‌ فقد يستدل له :

تارة بالأخبار البيانية كصحيحة زرارة : «حكى لنا أبو جعفر عليه‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بقدح من ماء فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّا من ماء فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه ثمّ مسح بيده الجانبين جميعا ثم أعاد اليسرى في الإناء فأسدلها على اليمنى ثمّ مسح جوانبها ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ثمّ صبّها على اليسرى فصنع بها كما صنع‌

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) وسائل الشيعة الباب ١٧ من أبواب الوضوء الحديث ١.

٣٥

باليمنى ثمّ مسح ببقية ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء» (١) حيث أسدل عليه‌السلام الماء من أعلى الوجه.

واخرى بأصالة الاشتغال حيث لا يقطع بالفراغ مع النكس.

ويرد الأوّل ان الفعل أعمّ من الوجوب.

والثاني انه بعد ثبوت إطلاق الآية الكريمة ـ الذي هو دليل اجتهادي ـ لا معنى للرجوع إلى الأصل.

ولو قطعنا النظر عن الإطلاق فالأصل الجاري هو البراءة على ما هو الصحيح في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين إلاّ بناء على ان الواجب هو الطهارة المسببة ـ دون نفس الغسل والمسح ـ الذي لازمه صيرورة المقام من قبيل الشك في المحصل. ولكنه مرفوض فان مقتضى ظاهر آية الوضوء وجوب نفس الغسل والمسح.

ومع التنزل فوجوب الاحتياط في موارد الشك في المحصل الشرعي بعد كون وظيفة الشارع بيانه أوّل الكلام بل مقتضى عموم أدلّة البراءة الشرعية عدمه.

ومن خلال هذا كلّه اتّضح جواز النكس لإطلاق الأمر بالغسل ، وبقطع النظر عنه يمكن التمسك بأصل البراءة.

هذا ولكن الاحتياط بالعدم ـ حذرا من مخالفة المشهور ـ لا ينبغي تركه.

٤ ـ واما وجوب غسل اليدين بالمقدار المذكور فهو مقتضى آية الوضوء.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١٥ من أبواب الوضوء الحديث ١٠.

٣٦

وهل المرفق يجب غسله أيضا؟ ان الآية الكريمة لا دلالة لها من هذه الناحية. أجل ورد في بعض الأخبار البيانية : «... ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى ... ثمّ غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى ...» (١) وظاهر كل ما يذكر فيها الوجوب إلاّ إذا دلّ من الخارج دليل على العدم. وإذا لم نقبل هذا وقلنا ان الفعل أعم من الوجوب فليس لنا إلاّ التسالم على ذلك وعدم نقل الخلاف إلاّ عن زفر من العامة (٢).

٥ ـ واما عدم جواز النكس في غسل اليدين ولزوم تقديم اليمنى والمسح على مقدّم الرأس وكفاية مسمّى المسح واعتبار المسح على الرجلين دون الغسل‌ فقد تقدّمت الإشارة إليه في القسم الأوّل من الكتاب (٣).

٦ ـ واما لزوم الاستيعاب الطولي ما بين رءوس الأصابع إلى الكعبين‌ فقد وقع محلاّ للخلاف فاكتفى جماعة منهم صاحب الحدائق بمسح البعض (٤).

والآية الكريمة شاهد على قول المشهور بناء على قراءة النصب التي لا تقدّر معها الباء ـ المستفاد منها التبعيض ـ في الأرجل ووضوح كون الغاية راجعة إلى تحديد الممسوح دون المسح بقرينة جواز النكس جزما. ومعه فلا يقال بأن انتهاء المسح إلى الكعبين‌

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ١٥ من أبواب الوضوء الحديث ٢.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ١٦٠.

(٣) القسم الأول من الكتاب : ٧٩.

(٤) الحدائق الناضرة ٢ : ٢٩٤.

٣٧

لا يستلزم ابتداءه من رءوس الأصابع.

ولا يمكن التمسّك لكفاية مسح البعض بصحيحة زرارة وبكير : «تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك» (١) بدعوى دلالتها على كفاية مسح شي‌ء من المحدود.

والوجه فيه : ان ما ذكر يتم بناء على كون الموصول تفسيرا للقدمين لا لشي‌ء ، وحيث انّها مجملة من هذه الناحية فيعود ظهور الآية بلا مزاحم.

٧ ـ واما الكعبان‌ فالمعروف إلى زمان العلاّمة انّهما قبتا القدمين وهو فسّرهما بالمفصل بين الساق والقدم (٢).

والروايات ان لم تكن مؤيّدة للمشهور فلا أقل من تضاربها ، وهكذا كلمات اللغويين متضاربة من هذه الناحية.

والمناسب ان يقال : ان شدّة الابتلاء بالمسألة كلّ يوم تؤكد ان المعنى المعروف قبل العلاّمة هو الصحيح لأنه اما توارثوه جيلا بعد جيل عن المعصوم عليه‌السلام أو انّهم استندوا إلى فهمهم ذلك من الروايات ، وخطأ الجميع بعيد.

هذا مضافا إلى ان الكعب بمعنى الارتفاع والارتفاع البارز ليس إلاّ القبة.

هذا كله بالقياس إلى الامامية.

__________________

(١) وسائل الشيعة الباب ٢٣ من أبواب الوضوء الحديث ٤.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٢٢٠.

٣٨

واما غيرهم فقد فسّروا الكعب بالعظمين الناتئين عن يمين الساق وشمالها (١).

واستدلوا بان الكعب في كل رجل لو كان واحدا فالمناسب التعبير ب «إلى الكعاب» ، كما قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٢) لمّا كان لكل واحدة قلب واحد.

وفيه : ان الاستعمال بنحو الجمع في بعض الموارد لا يدل على انحصار الصحة به.

٨ ـ وامّا كفاية المسمّى عرضا في مسح الرجلين‌ فهو المشهور وخالف الشيخ الصدوق حيث اختار لزوم مسحهما بتمام الكفّ (٣).

وقد يستدل له بصحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم. فقلت : جعلت فداك لو ان رجلا قال باصبعين من أصابعه هكذا فقال لا إلاّ بكفيه (بكفه) كلّها» (٤).

والمناسب ان يقال : مقتضى آية الوضوء بناء على قراءة الجر كفاية المسح بقدر المسمّى عرضا لتقدير الباء.

واما على قراءة النصب فلا يلزم الاستيعاب لجميع القدم ولا المسح بمقدار الكفّ لمنافاة ذلك وكون المسح إلى الكعب بمعنى القبة ، فان المسح إلى ذلك لا يمكن تحقّقه إلاّ بمقدار اصبع أو اصبعين اللهم إلاّ إذا فسّر‌

__________________

(١) التفسير الكبير ٦ : ١٦٥ ، واحكام القرآن للجصاص ٢ : ٤٣٦ ، وتفسير القرطبي ٦ : ٩٦.

(٢) التحريم : ٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨.

(٤) وسائل الشيعة الباب ٢٤ من أبواب الوضوء الحديث ٤.

٣٩

الكعبان بحدهما لا بنفسهما لكنه تحميل على الآية الكريمة.

وإذا كان هذا المقدار يكفي في ردّ الصحيحة السابقة لصدق عنوان كونها مخالفة للكتاب فالأمر واضح ، وان رفضنا ذلك ـ كأن يدعى ان المورد من قبيل المطلق والمقيّد ـ فيمكن ان يقال ان المسح بتمام الكفّ لو كان لازما لذاع واشتهر لشدّة الابتلاء والحال ان ذلك لم يعرف إلاّ من الصدوق.

شرائط الوضوء‌

يلزم في الوضوء : النية ، بمعنى قصد الفعل بداعي امتثال أمر الله سبحانه ، وطهارة الماء ، وإباحته ، وإطلاقه ، والترتيب ، والموالاة ، والمباشرة.

والمشهور اعتبار طهارة الأعضاء ، وعدم المانع من استعمال الماء شرعا.

والمستند في ذلك :

١ ـ اما لزوم النية بالمعنى المتقدّم‌ فلانه لازم العبادية.

اما كيف نثبت العبادية والنصوص خالية منها؟

قد يربط ذلك بمسألة ان الأصل في مشكوك العبادية هو العبادية أو التوصليّة فإذا بني على اقتضائه العبادية ـ لما افيد في الكفاية من عدم احراز تحقّق غرض المولى إلاّ بقصد القربة ـ تثبت بذلك العبادية في المقام.

بيد ان المبنى قابل للتأمّل لأنه مبني على استحالة أخذ قصد التقرّب في متعلّق الامر ، امّا بعد امكانه ـ كما هو الصحيح ـ فيستكشف من اطلاقه كونه توصليا.

ومع التنزل يمكن التمسك بالبراءة لنفي احتمال المدخلية في‌

٤٠