الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان اُمّ أبيها فاطمة الزهراء عليها السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان اُمّ أبيها فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-485-068-4
الصفحات: ٩٥

الفصل الثاني

في بيان أخلاق الرسول صلى الله عليه واله

٢١
٢٢

ها هي فاطمة هي الوحيدة من البنات؛ تحدّث عن أبيها صفاته وأخلاقه وشمائله وعباداته وغير ذلك من حالاته ، فكان من دعائه عند دخوله المسجد كما أخرجه الطبري بإسناده عن عبدالله إبن الحسن بن الحسن ، عن فاطمة الصغرى ، عن أبيها الحسين ، عن فاطمة الكبرى إبنة رسول الله صلى الله عليه واله : «إنّ النبّي صلى الله عليه واله كان إذا دخل المسجد يقول : بسم الله اللّٰهم صلّ على محمّد وإغفرلي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج يقول : بسم الله اللهم صلّ على محمّد ، وإغفرلي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك» (١).

__________________

١ ـ دلائل الامامة ، ص ٧.

٢٣

ولقد جاء هذا الحديث في سنن الترمذي (١) وسنن إبن ماجة (٢) ، ومسند أحمد (٣) بإسنادهم عن عبدالله بن الحسن عن اُمّه ، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله ... إلى آخر الحديث.

وقال الترمذي : بعد تخريج هذا الحديث : هذا الحديث حسن ، وليس إسناده بمتّصل ، وفيه نظر : السند متّصل وغير مقطوع لأنّ فاطمة اُم عبدالله بن الحسن تروى عن أبيها الحسين ، عن فاطمة بنت رسول الله كما عرفت فيما رواه الطبري. اذن السند متّصل وغير مقطوع.

قولها عليها السلام : «إنّ النبّي كان إذا دخل المسجد» النبّي عبارة عن من أوحي إليه بملك ، أو اُلهم في قبله ، أو نبّه بالرؤيا الصالحة.

وقال الطريحي : النبيّ : هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة بشر ، أعم من أن يكون له شريعة كمحمّد صلى الله عليه واله أو ليس له شريعة كيحيىٰ (٤).

و «الدخول» : نقيض الخروج ، يقال : دخلت الدار

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ج ٢ ، ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ، ح ٣١٤ و ٣١٥.

٢ ـ سنن إبن ماجة : ج ١ ، ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، ح ٧٧١.

٣ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٦ ، ص ٢٨٣.

٤ ـ مجمع البحرين : ج ١ ، ص ٤٠٥.

٢٤

إذا صرت داخلها.

و «المسجد» : فتحاً وكسراً : بيت الصلاة. قاله الطريحى (١).

وقال الزجاج : المسجد : كلّ موضع يتعبّد فيه فهو مسجد (٢).

وفي الحديث : أنّ النبي صلى الله عليه واله قال : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً (٣).

وقال ابن أعرابي : مسجد بفتح الجيم : محراب البيوت ومصلّى الجماعات (٤).

وقيل المسجد بكسر الجيم : البيت الذي يسجد فيه ، وبالفتح : موضع الجبهة (٥).

يقول : «بسم الله» الله : لفظ دال على المعبود بالحق لم يطلق على غيره أصلاً ، وكما تاهت العقول في ذاته تعالى وصفاتة لإحتجابها بأنوار العظمة تحيّروا أيضاً في لفظ الله. كأنّما إنعكس إليه من تلك الأنوار أشعّة بهرت أعين المستبصرين ، فاختلفوا ، أسريانّي هو أم عربي؟ إسم أو صفة؟ مشتّق وممّ إشتقاقه؟

__________________

١ ـ مجمع البحرين : ج ٣ ، ص ٦٥.

٢ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ٢٠٤.

٣ ـ مصابيح السنة : ج ٤ ، ص ٣٦ ، ح ٤٤٧٠ ، وصحيح مسلم : ج ١ ، ص ٣٧١ ، ح ٥/٥٢٣.

٤ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ٢٠٤.

٥ ـ تاج العروس : ج ٨ ، ص ١٧٤.

٢٥

وما أصله؟ علم أو غير علم؟

الحق : أنّه عربّي مشتقّ من الآلهة والاُلوهة بمعنى العبادة.

وقيل : إشتقاقه من أله كعلم بمعنى تحيّر ، لأنّه تعالىٰ يجار في شأنه العقول والأفهام.

وقيل : هو إسم علم لذات الواجب إبتداءً وعليه مدار التوحيد في قولنا : لا إلٰه إلّا الله.

«اللّهم صلّ علىٰ محمّد» أصل اللّهم : يا الله ، حذف حرف النداء وعوّض عنه الميم ولذلك لا يجمع بينهما إلّا ضرورة كقول الشاعر :

إنّي إذا ما حدثْ اُلمّا

أقول يا اللهمّ يا اللهما (١).

وإنّما اُخّرت الميم تبّركاً بإسمه تعالىٰ ، وخصّت بذلك دون غيرها ، لأن الميم عهد زيادتها آخراً كميم زرقم للشديد الزرقة.

و «صلّ» الصّلاة في اللغة : بمعنى الدعاء. ويؤيّده بأنّ الصّلاة بهذا المعنى في أشعار الجاهليّة كثيرة الإستعمال.

ومعنى الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه واله تعظيمه في الدنيا بإعلاء كلمته ، وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة : بتضعيف مثوبته ، والزيادة في كماله ، وفي رفع درجته ، إذ مراتب إستحقاق نعم الله

__________________

١ ـ شرح الكافيه في النحو للرضي : ج ١ ، ص ١٤٦.

٢٦

عزّوجلّ غير متناهية.

والصّلاة على محمّد وآل محمّد في غير الصّلاة وعند عدم ذكره مستحبّة عند جميع أهل الإسلام ولا يعرف من قال بوجوبها غير الكرخي فإنّه أوجبها في العمر مرّة كما في الشهادتين.

وأمّا في الصلاة فأجمع علماء الشيعة رضوان الله عليهم على وجوبها في التشهدين معا.

وأمّا علماء أبناء العامة فقد ذهب الشافعي : (١) إلى إستحبابه في التشهد الأوّل ووجوبه في التشهد الثاني (٢). وقال

__________________

١ ـ هو أبو عبدالله محمّد بن إدريس بن العباس ، ينتهى نسبه إلى عبد مناف ، والشافعي أحد أئمّة المذاهب الأربعة السنّية ، ولد سنة ١٥٠ ه ـ بغزّة ، ونشأ بمكّة وكتب العلم بها وبالمدينة ، وكان شديد التشيّع وهو القائل :

إن كان رفضاً حبّ آل محمّد

فليشهد الثّقلان إنّي رافضيّ

وله حول الولاية أشعار كثيرة ومدائح غفيرة ، منها هذان البيتان المشهوران :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لا يصلّي عليكم لا صلاة له

ومنها :

إذا في مجلس ذكروا عليّاً

وشبليه وفاطمة الزكيّة

يقال تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الرافضيّة

هربت إلى المهيمن من اُناس

يرون الرفض حبّ الفاطميّة

على آل الرسول صلاة ربّي

ولعنته لتلك الجاهليّة

٢ ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد : ج ١ ، ص ٣٢ والفقه على مذاهب الأربعة : ج ١ ، ص ٢٣٤ و ٢٤٦.

٢٧

أبوحنيفة (١) ومالك (٢) مستحبّة فيهما معا (٣).

وأمّا عند ذكره صلى الله عليه واله فظاهر كثير من الأخبار والأحاديث كقوله صلى الله عليه واله : من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ دخل النّار ، ومن ذكرت عنده فنسي الصّلاة عليّ خطّىء به طريق الجنّة (٤).

وقوله صلى الله عليه واله من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ دخل النار فأبعده الله (٥).

ومن الواضح أنّ الصلاة تجب كلّما ذكر وكلّما سمع ذكره صلى الله عليه واله ، لأن الوعيد إمارة الوجوب وهذا مختار إبن بابويه والمقداد من أصحابنا ، والطحاوي من العامّة ، ومن العلماء من أوجبها في كلّ مجلس مرّة ، ومنهم من أوجبها في العمر مرّة.

__________________

١ ـ هو النعمان بن ثابت بن زوطي أحد أصحاب المذاهب الأربعة ، صاحب الرأى والقياس والفتاوي المعروفة في الفقه ، ولد سنة ثمانين ، ومات سنة ماءة وخمسين هج ـ في بغداد ، ودفن في مقبرة الخيزران ، وعاش سبعين سنة ، وتتلمّذ على يد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام سنتان حيث قال عنها : لو لا السنتان لهلك النعمان.

٢ ـ هو أبو عبدالله مالك بن أنس أحد أصحاب المذاهب الأربعة ، ولد في المدينه المنوّرة سنة ٩٥ هجريّة ، وتوفى سنة ١٧٩ هجريّة ، ودفن بالبقيع في المدينة ، وتتلمّذ على يد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام كما جاء في مقدمة الموطأ والموطأ ، كتاب جمع فيه الأحاديث النبويّة والفقه معا.

٣ ـ الفقه على المذاهب الأربعة : ج ١ ، ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، وبدايه المجتهد ونهاية المقتصد : ج ١ ، ص ١٣٢.

٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٥ ، ح ١٩ ، ثواب الأعمال : ص ٢٠٦ ، باب ٨ ، ح ١.

٥ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٥ ، ح ١٩.

٢٨

والحق الوجوب عند ذكره وسماعه صلى الله عليه واله للأخبار الكثيرة الصريحة بالأمر بها كلّما ذكر أو سمع. والأصل في الأمر : الوجوب كما هو ظاهر.

وأما القول بالاستحباب مطلقا كما ذهب إليه جماعة مستدليّن بالأصل والشهرة المستندين إلى عدم تعليمه عليه السلام للمؤذّنين ، وتركهم ذلك مع عدم وقوع نكير عليهم كان يفعلون الآن.

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان لنقل.

وفيه ما لا يخفى لأنّ عدم التعليم وعدم النكير وكذا عدم النقل ممنوع ، فقد أخرجه الكليني بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام : إذا أذّنت فأفصح بالألف والهاء ، وصلّ على النبي صلى الله عليه واله كلّما ذكرته ، أو ذكره ذاكر في أذان وغيره (١).

مضافاً إلىٰ أنّ عدم النقل لا يدلّ على عدمه ، على أنّه لا يمكن التمسّك بأصالة البراءة بعد ورود القرآن والأحاديث به كقوله تعالىٰ : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (٢).

ومن الواضح أنّ الصلاة من الله تعالى : الرحمة ، ومن الملائكة : الإستغفار ، ومن الآدميين : الدعا.

__________________

١ ـ الكافي : ج ٣ ، ص ٣٠٣ ، ح ٧.

٢ ـ الأحزاب : ٥٦.

٢٩

وكقول الصادق عليه السلام : إذا ذكر النبيّ صلى الله عليه واله فأكثروا الصّلاة عليه (١) حيث رتّب الأمر بالصّلاة على الذكر بالفاء التعقيبيّة وهو ايقاعها على الفور ، فلو أهمل الفور أثم على القول بالوجوب ولم تسقط.

والظاهر إنّ الأمر بها عام لكلّ أحد.

والأخبار في فضل الصّلاة عليه صلى الله عليه واله أكثر من أن تحصى.

فمنها ما أخرجه الكليني بإسناده عن أبي عبدالله عليه السلام إنّه قال : إذا ذكر النبي صلى الله عليه واله فأكثروا الصلاة عليه ، فإنّه من صلّى على النبيّ صلاة واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ، ولم يبق شيىء ممّا خلقه الله إلّا صلّى على العبد لصلاة الله وصلاة ملائكته. فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برىء الله منه ورسوله وأهل بيته (٢).

وعنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : من صلّى علّي صلّىٰ الله عليه وملائكته ، فمن شاء فليقل. ومن شاء فليكثر (٣).

وعنه أيضاً قال : من صلّى على محمّد وآل محمّد عشراً صلّى الله عليه وملائكته ألفاً ، أما تسمع قول الله عزّوجلّ : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩١ ، ح ٢.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢ ، ح ٦.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢ ، ح ٧.

٣٠

بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (١) (٢).

وعن أحدهما عليهما السلام قال : ما في الميزان شيىء أثقل من الصّلاة على محمّد وآل محمّد ، وأنّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فيخرج صلّى الله عليه وآله الصّلاة عليه فيضعها في ميزانه فترجّح (٣).

وعن أبي عبدالله عليه السلام. قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : إرفعوا أصواتكم بالصّلاة علّي فإنّها تذهب بالنفاق (٤).

و «محمّد» علم منقول من الصفة التي معناها كثير الخصال المحمودة.

وقال ابن فارس : سمّي نبيّنا محمّد صلى الله عليه واله محمّداً : لكثرة خصاله المحمودة (٥).

وقال الجوهري : المحمّد : الذي كثرت خصاله المحمودة (٦).

وفي لسان العرب : محمّد وأحمد من أسماء سيّدنا المصطفى رسول الله صلى الله عليه واله ، وقد سمّيت محمّداً وأحمدا (٧).

__________________

١ ـ الأحزاب : ٤٣.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٣ ، ح ١٤.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٤ ، ح ١٥.

٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٣ ، ح ١٣.

٥ ـ معجم المقاييس اللغة : ج ٢ ، ص ١٠٠ ، ومجمل اللغة : ج ١ ، ص ٢٥٠.

٦ ـ الصحاح في اللغة : ج ٢ ، ص ٤٦٦.

٧ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ١٥٧.

٣١

وقال الزبيدي : وقد سمّت العرب أحمداً ومحمّداً وهما من أشرف أسمائه صلى الله عليه واله ولم يعرف مَن تسمى قبله صلى الله عليه واله بأحمد إلا ما حكي أن الخضر عليه السلام كانّ إسمه كذلك (١).

ومحمّد هو النبي الاُمّي العربي القرشي الهاشمي الأبطحي التهامي؛ المصطفى من دوحة الرسالة والمرتضى من شجرة الولاية.

وقد ورد في أخبار كثيرة من طرف أهل البيت عليهم السلام أنّ النبي قال : سماّني الله من فوق عرشه وشقّ لى إسماً من أسمائه فسماّني محمّداً وهو محمود (٢).

وقال القسطلاني في شرح المواهب : وقد سماّه الله تعالى بهذا الإسم قبل الخلق بألفي عام كما ورد من حديث أنس بن مالك من طريق أبي نعيم في مناجاة موسى عليه السلام (٣).

وهو أبوالقاسم محمّد بن عبدالله بن عبدالمطلب خاتم النبيين وسيّد المرسلين ، حملت به اُمّه في أيّام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى ليلة الجمعة ، وهي آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة.

وولد صلى الله عليه واله بمكة يوم الجمعة عند طلوع الشمس السابع عشر

__________________

١ ـ تاج العروس : ج ٨ ، ص ٤٠.

٢ ـ بحارالأنوار : ج ١٦ ، ص ٩٢ ، ح ٢٧ ، والخصال : ص ٤٢٥ ، ح ١ ، ومعاني الأخبار : ص ٥٠ ، ح ١.

٣ ـ شرح المواقف : ج ٣ ، ص ١٥٦.

٣٢

من شهر ربيع الأول عام الفيل.

وعند أبناء العامة أنّه صلى الله عليه واله ولد يوم الإثنين من ربيع الاوّل ثمّ اختلفوا ، فقيل : لليلتين خلتا منه.

وقيل : لثمان خلون منه ، وقيل : لعشر.

وقيل : لاثنتي عشرة ليلة ، وعليه عمل أهل مكة في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت ووافقهم على ذلك الكليني في كتابه الكافي (١).

«وأغفر ذنوبي» غفر يغفر من باب ضرب ـ ستر خطئيته وصفح عن عقوبته. فالله سبحانه عزّوجلّ يستر ذنوب عباده وعيوبهم مع تجاوزه عن خطاياهم وذنوبهم ، وعفوه عن معاصيهم لامجرد الستر.

و «ذنوبي» الذنوب : جمع ذنب ، وهو الإثمّ ، وعرّف بأنّه ما يحجب العبد عن الله ، وجمعه باعتبار تنوّعه.

«وافتح لي أبواب رحمتك» قال الراغب : الفتح : إزالة الإغلاق والإشكال ، وذلك ضربان : أحدهما يدرك بالبصر كفتح الباب والقفل والمتاع. كقوله تعالى : «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ» (٢) وكقوله : (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ) (٣).

__________________

١ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٩.

٢ ـ يوسف : ٦٥.

٣ ـ الحجر : ١٤.

٣٣

الثاني : ما يدرك بالبصيرة كفتح الهم ، وهو إزالة الغم ، وذلك ضربان.

أحدهما : في الأمور الدنيويّة كغمّ يفرج ، وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه ، قال الله سبحانه وتعالى : (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) (١) أي وسعنا ، وكقوله : «لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» (٢) أي أقبل عليهم الخيرات.

الثاني : فتح المستغلق من العلوم نحو قولك : فلان فتح من العلم باباً مغلقاً ، كقوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (٣) قيل : عني فتح مكة ، وقيل : بل عني ما فتح عليه من العلوم والهدايا التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة التي صارت سبباً لغفران ذنوبه (٤).

و «أبواب» الأبواب : جمع الباب وهو ، مدخل الشيىء وأصل ذلك مداخل الأبنية ، كباب المدينة والدار ، ثم تجوز فيه فاستعمل في كلّ ممّا يتوصّل به إلى الشيىء ، ومنه «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (٥) أي به يتوصل إليه.

وأبواب رحتمك أي الأسباب التي يتوصّل بها إليها.

__________________

١ ـ الأنعام : ٤٤.

٢ ـ الأعراف : ٩٦.

٣ ـ الفتح : ١.

٤ ـ المفردات : ص ٣٧.

٥ ـ الجامع الصغير : ج ١ ، ص ١٠٨ ، وعوالي الئالي : ج ٤ ، ص ١٢٣.

٣٤

و «الرحمة» الرحمة : الرقّة والتعطّف. وقيل : هي ميل القلب إلى الشفقة على الخلق والتعطّف بهم.

وقيل : هي إرادة إيصال الخير إليهم.

«وإذا خرج يقول : بسم الله اللّهم صلّ على محمّد وإغفر ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» الفضل : الخير والإحسان إبتداءً ، والمعنى اللهمّ افتح لي أبواب الخير والإحسان.

نعم ها هي فاطمة تحنّ على أبيها وتهيّب النبي صلى الله عليه واله كما جاء في حديث المغازلي بإسناده عن علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن اُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله قالت لمّا نزلت على النبي صلى الله عليه واله (لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا) (١).

قالت فاطمة : «فتهيّبت النبي صلى الله عليه واله أن أقول له : يا أبة! فجعلت أقول له : يا رسول الله! فأقبل عليّ ، فقال لي : يا بنيّة لم تنزل فيك ولا في أهلك من قبل ، أنت منّي وأنا منك ، وإنّما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر ، قولي : يا أبة ، فإنّه أحبّ للقلب وأرضى للرّب ، ثمّ قبّل النبي صلى الله عليه واله جبهتي ومسحني بريقه فما إحتجت إلى طيب بعده» (٢).

__________________

١ ـ النور : ٦٣.

٢ ـ مناقب إبن المغازلي : ص ٣٦٤.

٣٥

قولها عليها السلام : «لمّا نزلت على النبي صلى الله عليه واله «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا». قالت فاطمة : «فتهّيبت النبي صلى الله عليه واله أن أقول له : يا أبة! فجعلت أقول له : يا رسول الله!».

أخرجه القمي في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام في ذيل هذه الآية ، قال : لا تقولوا : يا محمّد ولا يا أباالقاسم ولكن قولوا يا نبيّ الله ، ويا رسول الله (١).

ومن هنا هابت فاطمة بأن تقول : يأ أبة ، فأخذت تخاطب أباها ب ـ «يا رسول الله» ، فأجابها وقال لها :

«يا بنيّة لم تنزل فيك ولا في أهلك من قبل». وأهل بيتها : هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

«أنت منّي وأنا منك» حبّذا خطاب من أب كريم ورحيم ورؤوف إلى فلذّة كبده وقرّة عينه وحبيبته فاطمة الحنونة ، ولقد يظهر من الأحاديث بعدم اختصاص هذا الخطاب بها عليها السلام فحسب ، بل قال صلى الله عليه واله : في موارد متعدّدة حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسينا (٢).

__________________

١ ـ تفسير علي بن ابراهيم القمي : ج ٢ ، ص ١١٠.

٢ ـ سنن إبن ماجة : ج ١ ، ص ٥١ ، ح ١٤٤ ، سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٦١٧ ، ح ٣٧٧٥ ، والمستدرك على الصحيحين : ج ٣ ، ص ١٧٧.

٣٦

كما قال صلى الله عليه واله : عليّ منّي وأنا من عليّ ، ولا يُؤدّي عَنّي إلّا أنا أو علي (١).

وكقوله صلى الله عليه واله : إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّ كل مؤمن من بعدي (٢).

وكقوله صلى الله عليه واله : عليّ منّي وأنا منه (٣).

وقوله صلى الله عليه واله : لعلي بن أبي طالب : أنت منّي وأنا منك (٤).

وغير ذلك من الموارد.

«وإنّما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر». وأصل الأهل : القرابة ، ثمّ أطلق على من اختصّ بشىء واتّصف به كأهل البلد وأهل العلم.

«والجفاء» : غلظ الطبع والخلقة. قاله ابن المنظور (٥).

وفي مصباح المنير : جفا يجفو : إذا غلظ ، ومنه جفاءُ البدو :

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٩٤ ، ح ٣٧١٩ ، وسنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٤٤ ، ح ١٩٩ وخصائص أميرالمؤمنين : ص ١٠٦ ، مسند احمد : ج ٥ ، ص ١٦٥.

٢ ـ خصائص أميرالمؤمنين : ص ٩٩.

٣ ـ خصائص أميرالمؤمنين : ص ١٠٠ ، والمعجم الكبير : ج ٤ ، ص ١٦ ، ح ٣٥١٢.

٤ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٩٣ ، ح ٣٧١٦ ، وسنن الكبرى : ج ٨ ، ص ٥ وتاريخ بغداد : ج ٤ ، ص ١٤٠ ، ح ١٨٢٢.

٥ ـ لسان العرب : ج ١٤ ، ص ١٤٨.

٣٧

وهو غلظتهم وفظاظتهم (١).

«والبَذَخ» : الكبر ، وقد بَذِخَ بالكسر وتبذَّخَ : أي تكبّر وعَلَا (٢).

«والكبر» : بكسر الكاف وسكون الباء الموحّدة : اسم من التكبّر ، وهو العظمة والتجبّر ، وهو رذيلة الإفراط في العزّ.

وقال الراغب : الكبر : ظن الإنسان بنفسه أنّه أكبر من غيره ، والتكبّر : إظهاره ذلك من نفسه (٣).

وهذا نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه وإنزالها فوق منزلتها.

والمعنى إنّ هذه الآية نزلت في أهل الغلظة والفظاظة وأهل التكبّر والتجبّر.

«قولي يا أبة ، فإنّه أحبّ للقلب ، وأرضى للرّب» ، «والقول» : الكلام.

وقيل يكون القول : في الخير ، والقال والقيل : يكون في الشرّ.

«يا أبة» الأب : الوالد ، وقال الراغب : يسمّى كلّ من كان سبباً في إيجاد شيىء ، أو إصلاحه ، أو ظهوره أباً ، ولذلك يسمّى النبيّ صلى الله عليه واله أبا المؤمنين ، وروي أنّه صلى الله عليه واله قال لعلي : أنا وأنت أبوا هذه الاُمّة (٤).

__________________

١ ـ المصباح المنير : ص ١٠٤.

٢ ـ الصحاح في اللغة : ج ١ ، ص ٤١٨.

٣ ـ الذريعة إلى مكارم الشريعة : ص ١٥٣ ، الباب السابع.

٤ ـ المفردات : ص ٧.

٣٨

وقال الجوهري : «يا أبة إفعل» ، يجعلون علامة التأنيث عوضاً عن ياء الإضافة ، كقولهم في الاُمّ : يا اُمة ، وتقف عليها بالهاء إلاّ في القرآن فإنّك تقف عليها بالتاء إتباعاً للكتاب (١).

«فإنّه أحَبّ للقلب» القلب في اللغة : صرف الشيىء إلى عكسه ، ومنه القلب ، سمّي به لكثرة تقلّبه ، وله ظاهر : وهو المضغة الصنوبريّة المودعة في التجويف الأيسر من الصدر ، وهو محلّ اللطيفة الإنسانيّة ، ولذا ينسب إليه الصلاح والفساد. وله باطن : وهو اللطيفة الربانيّة النورانيّة العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلٰهيّة ، وبها يكون الإنسان إنساناً ، وبها يستعد لإمتثال الأحكام ، وبها صلاح البدن وفساده ، ويعبّر عنها بالنفس الناطقة ، وقال تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (٢). وهو مقر الإيمان : قال سبحانه وتعالى : (أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ» (٣) كما أنّ الصدر محل الإسلام قال الله : «أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) (٤).

واللبّ مقام التوحيد : قال تعالى عزّوجلّ : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (٥).

__________________

١ ـ الصحاح في اللغة : ج ٦ ، ص ٢٢٦٠.

٢ ـ الشمس : ٧ ـ ٨.

٣ ـ المجادلة : ٢٢.

٤ ـ الزمر : ٢٢.

٥ ـ الرعد : ١٩.

٣٩

والفؤاد مقر المشاهدة : قال سبحانه عزّوجلّ : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) (١).

«وأرضى للرب» أرضى : اسم تفضيل يجوز أن يكون للفاعل على ما هو القياس في بنائه ، ويجوز أن يكون المفعول كأشهر وألوم فإنّه قياس عند سيبويه (٢).

«للرّب» والرب في الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيىء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وقيل : صفة مشبّهة من ربه يربيه مثل تمّه يتمّه ، بعد جعله لازماً ينقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور ، سمّي به المالك لأنّه يحفظ ما يملكه ويربيّه ، ولا يطلق على غير الله سبحانه عزّوجلّ إلا مقيداً كرب الدار ، ورب البستان ، ورب الدابّة.

«ثمّ قبّل النبي صلى الله عليه واله جبهتى ومسحني بريقه» القُبْلة من التقبيل معروفة بمعنى اللثمة ، والبَوس بالفتح : بهذا المعنى فارسي معرّب من بُوس بالضم.

و «النبيّ» من اُوحي إليه بملك ، أو اُلهم في قلبه ، أو نبّه بالرؤيا الصالحة ، وقال الفيومي : النبيء على فعيل مهموز لأنّه أنبأ عن الله أي أخبر (٣).

__________________

١ ـ النجم : ١١.

٢ ـ كتاب سيبويه : ج ٢ ، ص ٣ ـ ٦.

٣ ـ المصباح المنير : ص ٥٩١.

٤٠