تاريخ بخارى

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي

تاريخ بخارى

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي


المحقق: الدكتور أمين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر الطرازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٤

وإقامتها بالمدينة ، فكانت فى غاية الفخامة والجمال بحيث لم يكن مثلها فى أى مكان. ولما تمت وركبوا رأسها وبقى قليل على تمامها أصابتها عين وانهارت المنارة على المسجد الجامع فانهدم ثلثه وتحطمت جميع الأخشاب المنقوشة والمخروطة ، فأمر أرسلان خان مرة أخرى بإقامة المنارة ، وبالغوا فى إحكامها وجعلوا رأسها من الآجر وبناها كلها من خالص ماله. والمسجد الجامع الذى أمر به أرسلان خان كان فى سنة خمسمائة وخمس عشرة (١١٢١ م). وبالمسجد كله خمسة أروقة داخلية ، والرواقان المطلان على المدينة مع المنارة من بناء أرسلان خان وهذا الرواق الأكبر والمقصورة من بناء شمس الملك ، وبين هذه رواقان داخليان منذ القدم ، والذى بقرب الحصار من آثار الأمير إسماعيل السامانى رحمه الله. وقد بناه سنة مائتين وتسعين (٩٠٢ م) والآخر الذى فى ناحية بيت أمير خراسان من بناء الأمير الحميد نوح بن نصر بن إسماعيل السامانى فى سنة ثلثمائة وأربعين من هجرة النبى صلى الله عليه وسلم (٩٥١ م) (١).

__________________

(١) هذا المسجد الذى وضع أساسه القائد العربى قتيبة بن مسلم سنة ٩٤ ه‍ (٧١٢ م) ومنارته الرائعة التى تم بناؤها بأمر أرسلان خان سنة ٥١٥ ه‍ (١١٢١ م). يعتبران من أهم آثار بخارى الإسلامية.

وقد حول ذلك المسجد بعد الثورة البلشفية إلى متحف ومكتبة ووصعت أمامه تماثيل وسميت المكتبة (مكتبة ابن سينا).

٨١

ذكر مصلى العيد

لما بنى قتيبة بن مسلم المسجد الجامع كان داخل الحصار ، ومن داخل المدينة إلى تلك الأطراف يسمى ريكستان (أى الصحراء) فجعل ذلك الموضع مصلى العيد ، وأخرج المسلمين فصلوا العيد (١) وأمر الناس بإخراج السلاح معهم لأن الإسلام كان ما يزال جديدا ولم يكن المسلمون فى مأمن من الكفار ، وقد بقى لليوم سنة بأن كل صاحب سلاح يخرجه معه ، ويسمون ذلك الباب باب سراى المعبد (٢) ، وقد كان هذا معبد خيل أمير بخارى (٣) ، وقد أدوا صلاة العيد فى هذا المصلى سنوات طوالا ، ولم يكن يتسع لهم فاشترى الأمير السديد منصور بن نوح بن نصر على طريق «سمتين» بساتين وحدائق نزهة بثمن كبير وأنفق فى ذلك أموالا طائلة وجعلها مصلى العيد وأمر بمنبر ومحراب جميلين وبإقامة مبلغات (٤) يكبر عليها المكبرون ليسمع الناس. وكان من مصلى العيد إلى باب حصار بخارى مقدار نصف فرسخ ، كان يمتلئ كله بالناس ، وصلوا العيد هنالك سنوات طوالا وكان ذلك فى سنة ثلاثمائة وستين (٩٧٠ م) وكان ذلك المصلى موجودا إلى زمن أرسلان خان ، فأمر أرسلان خان ببناء مصلى قرب المدينة حتى لا يتعب الناس ، وإذا قصد المدينة عدو فى وقت ما لا يكون الناس غائبين عنها. وكان للملوك حديقة بباب إبرهيم تسمى شمس آباد ، وكانت قد تخربت فاستعملت للفلاحة وقد أمر خاقان الترك

__________________

(١) فى نسخة شارل شيفر طبع باريس ١٨٩٢ «نماز كاه عيد كردند» ومعناها أنشأوا مصلى العيد. وفى نسخة مدرس رضوى طبع طهران «نماز عيد كردند» أى صلوا العيد ، وهذا كما يبدو هو الصحيح الذى يتمشى مع السياق.

(٢) الكلام غير متصل بما قبله ويبدو أن بعض العبارة سقط من الأصل.

(٣) فى الأصل «واين معبد الخيل أمير بخارا بوده است» ويبدو أن فى الأصل كلمة سقطت ولعله يقصد أن هذا المعبد صار إصطبلا لخيل أمير بخارى.

(٤) جمع مبلغة وهى مكان مرتفع داخل المسجد يكبر عليه المبلغون خلف الإمام لإسماع المصلين.

٨٢

بمنع ذلك كله وضرب عليها أسوارا عالية وأقيم منبر ومحراب من الآجر (١) ومبلغات للمكبرين وذلك سنة خمسمائة وثلاث عشرة من هجرة النبى صلى الله عليه وسلم (١١١٩ م).

__________________

(١) بنسخة مدرس رضوى عبارة «خشت نپخته» أى لبن ، وفى نسخة شيفر «خشت پخته» أى آجر.

٨٣

ذكر تقسيم مدينة بخارى بين العرب والعجم

يروى محمد بن جعفر عن حاتم الفقيه أنه لما جاء قتيبة إلى بخارى للمرة الرابعة واستولى عليها اصطلح على أن يدفع (أهل بخارى) للخليفة كل سنة مائتى ألف درهم ولأمير خراسان عشرة آلاف درهم ، وأن يعطى للمسلمين نصف الدور والضياع وعلف دواب العرب والحطب وما ينفق. وأن يدفع ذلك من خارج المدينة أيضا. وكان بالمدينة قصور وبعض الأحياء المتفرقة البعيدة عن بعضها البعض. ولما كان للرستاق والمدينة سبعة أبواب كان يسمى الباب الأول باب السوق ؛ لأنه فى تلك الأيام لم يكن فى أى باب سوق قريبة من المدينة إلا بهذا الباب ، ونحن نسميه باب العطارين ، ثم قسم قتيبة المدينة ، فمن حيث تدخل من باب العطارين (١) إلى باب نون أعطاه لربيعة ومضر والباقى لأهل اليمن ، وحين تدخل المدينة ، فأول محلة على يدك اليسرى يقال لها كوى رندان (أى محلة الفتّاك) وقد كان خلفها كنيسة المسيحيين ، وهنالك مسجد يقال له مسجد بنى حنظلة وحين تدخل من باب المدينة يكون على يدك اليمنى محلة يقال لها محلة الوزير ابن أيوب بن حسان ، وتسمى تلك المحلة أيضا كوى كاخ (أى محلة القصر) ، وهذا الوزير بن أيوب كان قائدا من قواد قتيبة ، وكان أبوه أيوب أميرا لبخارى ، وهو أول من صار فى الإسلام أميرا لبخارى من قبل قتيبة بن مسلم. وكان أمراء بخارى دائما يقيمون فى محلة القصر هذه ، وكانت هنالك سراى على حدة لأجل أمراء بخارى. وكان هناك دهقان يقال له «خينة» (٢) ولما أسلم صار اسمه أحمد. وكانت محلة القصر كلها ملكا له وكان

__________________

(١) نص العبارة فى نسخة مدرس رضوى «از آنجا كه از در عطاران اندر آيى تابدر حصار واز آنجا تا بدر نون مر ربيعة ومضر را داده بود» وترجمتها : فمن حيث تدخل من باب العطارين (إلى باب الحصار ومن هنالك) إلى باب نون كان قد أعطاه لربيعة ومضر.

(٢) أشار مدرس رضوى فى حاشيته إلى أن اسمه فى بعض النسخ كدرخينه.

٨٤

فى هذه المحلة قصر لهذا الدهقان يقيم فيه أمراء بخارى دائما ، وقد خرج هذا القصر من بعده من يد صاحبه.

وفى سنة مائة وخمسين (٧٦٧ م) أقام ورثة هذا الدهقان المسمى «كدره خينه» دعوى أمام أبى جعفر الدوانقى الذى كان خليفة (١) وأخرجوا القبالة ، وكان حده الأول سور المدينة المتصل بسقيفة البقالين (چوبه بقالان) ، وحده الثانى سور المدينة المتصل بسوق الفستقيين (٢) ، والحد الثالث طريق مستقيم يؤدى من باب نون إلى وسط المدينة ، ومن باب العطارين إلى باب نون جملة محلة واحدة وهى ربع المدينة وقد ذكروها فى هذه القبالة ، والألف دكان التى فى سوق بخارى (٣) والخمس والسبعون قرية الخاصة بنهر بخارى وفراويز العليا التى أحدثت فى زمن الإسلام هذه كلها أقاموا بها دعوى أمام الخليفة وعرضوا القبالات وشهد الشهود ، وأمر الخليفة بقيدها بالدفاتر وإحضارها إلى بخارى وقد استردوها جميعا. ثم إن أبناءهم بعد ذلك باعوها قطعة قطعة لكل شخص حتى تفرقت بأيدى الناس. وحين تعبر باب العطارين يأتى باب بنى سعد ومسجد بنى سعد ، وكان حسن بن علاء السغدى رجلا عظيما ، وكان له قصر فى المدينة فى غاية العظمة لم يكن مثله لأى ملك. وقد بنى محلة علاء بباب علاء وهو الذى بنى هذه الحظيرة. وقد غلت له هذه الحظيرة فى كل شهر ألفا ومائتى دينار ، وكان له فى المدينة مستغلات.

حكاية : فى زمن حسن بن طاهر الذى كان أمير خراسان كان له وزير اسمه حفص بن هاشم ، طمع فى أن يشترى هذه الأملاك منهم ، ولم يبيعوها له فحبسهم لهذا السبب وأنزل بهم عقوبات كثيرة. وكان يستدعيهم إليه كل أسبوع مرة ويساومهم وعندما يأبون البيع يعيدهم إلى السجن ويأمر بالمزيد فى عقوبتهم حتى مضى على ذلك خمس عشرة سنة ، قاسوا فيها العقوبة والعناء ولم يبيعوا أملاكهم ، وذات يوم استدعاهم حفص بن هاشم وقال : لقد انقضى عهد طويل وأنتم فى

__________________

(١) هكذا فى الأصل. أى كان أميرا من قبل الوالى.

(٢) المشتغلون بتجهيز الفستق (پسته شكنان).

(٣) فى نسخة مدرس رضوى : «فى بخارى».

٨٥

العقوبة ، فماذا تلقون فى النهاية؟

فقال حسن بن علاء : نلقى واحدة من ثلاث : إما أن تموت أنت أو يموت سيدك أو نموت نحن! فأمر حفص يوم ذاك بالتشديد فى السجن والعقوبة ، ولم يمض على هذا الكلام شهر حتى مات أمير خراسان وقامت فتنة وحطموا السجن وفر حفص بن هاشم ونهبوا داره وبقى حفص متواريا حتى مات وعاد حسن بن علاء مع إخوته إلى بخارى.

فإذا عبرت باب بنى سعد فهناك باب بنى أسد وكان هذا الباب يسمى فى الجاهلية (در مهره) أى باب الخرزة ، وإذا خرجت من ذلك الباب ونزلت إلى النهاية فهناك سراى أمير خراسان وباب آخر يسمى (در كبريه) أى باب المجوس لأنه إذا خرجت من الباب يكون الحصار أمامك (١) وقد تخربت هذه المحلة اليوم ويسمون تلك المحلة «فغسادره» وقد صارت الآن مدافن. وكانت بيوت العرب فى الأغلب بذلك الباب وهو أقوى الأبواب وله حزام كبير طوله ستون قدما ، وتحت ذلك الحزام بيوت كثيرة ، وقد بنى هذه العمارة أمير اسمه «سوناس تكين (٢)» وقبره فى هذا الموضع أيضا. ويوجد باب آخر يسمى «باب حقره» وكان السيد الإمام أبو حفص الكبير البخارى (٣) رحمة الله عليه يقيم بتلك المحلة ، وقد رحل من بخارى إلى بغداد وتلمذ للإمام محمد بن حسين الشيبانى (٤) رحمه الله ، ولم يكن

__________________

(١) لعله يريد أن هذا الحصن كان للمجوس قبل الإسلام لأن أهل بخارى كانوا مجوسا ووثنيين كما مر بنا.

(٢) بنسخة مدرس رضوى : سوناش تكين.

(٣) الإمام أبو حفص الكبير من مشاهير فقهاء بخارى من تلاميذ الإمام محمد الشيبانى وقد شهد له بأنه كان أقدر تلاميذه ، وكان معاصرا للإمام محمد بن إسماعيل البخارى ، وابنه أيضا من المشاهير ويعرف بأبى حفص الصغير.

ولد الإمام أبو حفص سنة ١٥٠ ه‍ / ٧٩٧ م / وتوفى ببخارى ، سنة ٢٢٧ ه‍ / ٨٤١ م (قاموس الأعلام ج ١ ص ٧١٠).

(٤) فى نسخة حسن وهو الصحيح ـ وهو الإمام محمد بن الحسن بن فرقد الشيبانى بالولاء الفقيه الحنفى (١٣٢ ـ ١٨٩ ه‍ / ٧٤٩ ـ ٨٠٤ م) صاحب كتاب الآثار ، والجامع الصغير فى الفروع وكتاب الحج وموطأ (الإمام محمد بن الحسن الشيبانى) (سركيس : معجم المطبوعات العربية والمعربة ص ١١٦٣).

٨٦

أحد مثله فى الولاية وهو من جملة متأخرى بخارى وكان زاهدا وعالما أيضا وقد صارت بخارى بسببه قبة الإسلام (١). والسبب هو أن أهل بخارى تعلموا وفشا فيها العلم وصاروا أئمة وعلماء محترمين وكان هو السبب. وقد بلغ ابنه أبو عبد الله من العلم بحيث إنه حين كانت القافلة تعود من الحج ، كان علماؤها يجيئون إلى الإمام أبى حفص ويسألونه فكان يقول لهم : إنكم آتون من العراق فلم لم تسألوا علماء العراق؟ فكان أحدهم يقول : لقد ناظرت علماء العراق فى هذه المسألة فلم يستطيعوا الجواب وقالوا لى : حين تصل إلى بخارى سل السيد الإمام أبا حفص البخارى أو أحد أبنائه عنها ، وعندئذ كان (أى الإمام أبو حفص) يجيب عن هذه المسألة بالجواب الصائب. وكان السيد أبو حفص يختم القرآن مرتين كل يوم وليلة مع أنه كان يعلم الناس العلم. ولما ضعف وهرم كان يختم القرآن مرة ، ولما ازداد ضعفا كان يقرأ نصف القرآن حتى رحل عن الدنيا ـ تغمده الله بالرحمة والرضوان.

حكاية : حكى أن يحيى بن نصر قال : كنت عند السيد أبى حفص وكان قد صلى الفجر وجلس ووجهه إلى القبلة وهو يقرأ شيئا ، فلما طلعت الشمس فنظر ، لم يكن القوم قد حضروا ليعلمهم ، فنهض وصلى أربع ركعات قرأ فيها سورة البقرة وآل عمران وسورة النساء وسورة المائدة ولما سلم لم يكن القوم قد حضروا بعد ، فنهض وصلى اثنتى عشرة ركعة وقرأ حتى سورة الرعد.

وقد روى محمد بن طالوت الهمدانى عن الفضل الخطاب أنه كان فى بخارى أمير اسمه محمد بن طالوت ، قال يوما لوزيره «خشويه» يجب أن نذهب لزيارة السيد أبى حفص وندركه ، وكان خشويه هذا من عظماء بخارى ومحتشما (٢) فقال خشويه : لا ينبغى لك أن تذهب إليه ، إذ حينما تذهب إليه لا تستطيع الكلام أمامه لهيبته ، فقال لا بد أن أذهب. فذهب مع الوزير إلى السيد أبى حفص وكان يصلى فى المسجد ، فلما سلم بعد صلاة الظهر دخل الوزير وقال لقد جاء الأمير فهل تأذن له بالدخول؟ فقال : نعم. وكان جالسا ووجهه إلى القبلة ، ودخل الأمير وسلم

__________________

(١) كانت بخارى تلقب بقبة الإسلام.

(٢) معناها هنا رجل ذو مركز اجتماعى ومنزلة كبيرة فى قومه.

٨٧

وجلس ، ولم يستطع أن يتكلم قط. فقال السيد رحمة الله عليه : ما حاجتك؟ فلم يستطع الكلام برغم ما بذل من جهد ليتكلم. فلما رأى خشويه الأمير (١) قال له : كيف وجدت السيد أبا حفص؟ قال : كما قلت ، بقيت متحيرا ، ذهبت إلى الخليفة مرارا وتحدثت إليه ولم تمنعنى مهابة الخليفة من الكلام وهنا لم أستطع الكلام لهيبته (٢).

روى عن محمد بن سلام البيكندى ، وكان زاهدا عالما ، أنه قال : رأيت فى المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببخارى فى سوق خرقان ـ ومن أول كوى مغان (محلة المجوس) إلى كوى دهقانان (محلة الدهاقين) كان يسمى قديما سوق خرقان. قال : رأيت الرسول مقتعدا نفس الناقة التى جاء ذكرها فى الحديث ، وعلى رأسه عمرة بيضاء وقد وقف أمامه جمع غفير يهللون بمجىء الرسول عليه السلام ، ويقولون أين ننزل الرسول صلوات الله عليه ، وعندئذ أنزلوه بمنزل السيد الإمام أبى حفص رحمة الله عليه ، ورأيت السيد أبا حفص جالسا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ كتابا. وأقام الرسول عليه السلام مدة ثلاثة أيام بمنزل السيد أبى حفص وهو يقرأ الكتاب والرسول عليه السلام يسمع ، ولم يرده قط فى هذه الأيام الثلاثة واستصوب كل ما قرأه.

ولم تبق دار السيد أبى حفص رحمة الله عليه اليوم ، لأن الناس بنوا هنالك ، ولكن بقيت آثارها والصومعة أيضا باقية فى تلك الدار وهى مستجاب الدعوة (٣) وكانت وفاته سنة سبع عشرة ومائتين (٨٢٢ م) ، وتربته فى الباب الجديد (دروازه نو) معروفة وهى مكان الدعاء المستجاب. ويسمى ذلك التل تل السيد الإمام أبى حفص ، وهنالك مساجد وصوامع وبها مجاورون على الدوام والناس يتبركون بتلك التربة ،

__________________

(١) العبارة فى المتن الفارسى نصها : چون أمير خشويه را ديد» ومعناها : فلما رأى الأمير خشويه ـ وهذا خطأ واضح نبه إليه مدرس رضوى فى الحاشية حيث قال : وفى نسخة «چون خشويه أمير را ديد» ومعناها : فلما رأى خشويه الأمير ، وهذا أنسب.

(٢) أى لهيبة أبى حفص.

(٣) أى المكان الذى تستجاب فيه الدعوة.

٨٨

ويسمون ذلك الموضع باب حقره (١) (أى باب طريق الحق) لأن الناس كانوا يحملون الفتاوى هنالك إلى السيد أبى حفص رحمة الله عليه ، وقد سموا الفتوى الحق ولهذا سموه «حقره» أى طريق الحق. ويسمون الباب السابع «در نو» أى الباب الجديد ، بمعنى أنه آخر أبواب المدينة. وحين تدخل هذا الباب يكون مسجد القرشيين ، على يدك اليمنى ، وهو بقرب دار السيد أبى حفص. ويسمونه مسجد القرشيين ، لأن مقاتل بن سليمان القرشى أقام هنالك ، ومقاتل هذا هو مولى حيان وكان حيان مولى طلحة بن هبيرة الشيبانى. وكان حيان هذا رجلا عظيما وذا قدر ، وقد ذهب إلى خراسان وعقد صلحا بين قتيبة وطرخون ملك السغد فى وقت كان الكفار قد أحاطوا بقتيبة على باب بخارى ، ثم إن حيان هذا نفسه بعث بعسكر إلى فرغانة فقتلوا قتيبة ، ويسمون حوض حيان باسمه. وتربة قتيبة معروفة فى فرغانة فى ناحية رباط سرهنگ (٢) (أى رباط القائد) حيث يرقد فى قرية تسمى كاخ (أى القصر) ويذهبون إلى هنالك دائما من الولايات للزيارة. وكان عمره خمسا وخمسين سنة حين استشهد ، رضى الله عنه (٣).

__________________

(١) «حقره» مخفف «حق راه» أى طريق الحق.

(٢) هذه الكاف الفارسية «ك» تنطق مثل الجيم العامية فى لهجة أهل القاهرة.

(٣) استشهد قتيبة بن مسلم الباهلى سنة ٩٦ ه‍ ـ ٧١٥ م. ـ انظر تعليقنا بحاشية ١ ص ٦٩.

٨٩

ذكر آل سامان ونسبهم

لما صار أسد بن عبد الله القشيرى (١) أمير خراسان جاء إلى خراسان وبقى هنالك حتى رحل عن الدنيا فى سنة مائة وست وستين (٧٨٢ م).

وحكوا أنه كان رجلا صالحا كريما ، وكان يتطلع إلى مواساة الأسرات الكبيرة القديمة ويحسن رعاية الأصلاء سواء من العرب أو من العجم.

ولما فرّ سامان خداة جدهم (أى جد آل سامان) من بلخ (٢) وجاء إليه (أى إلى أسد القشيرى) فى مرو ، أكرمه وحماه وقهر أعداءه وأعاد إليه بلخ وآمن سامان خداة على يديه.

ويسمى سامان خداة لأنه بنى قرية وأسماها سامان (٣) فدعوه بذلك الاسم ،

__________________

(١) فى جميع النسخ القشيرى ـ وهذا خطأ بالتأكيد لأن أسد بن عبد الله هذا أخو خالد بن عبد الله ابن يزيد بن أسد بن كرز البجلى القسرى من أمراء بنى أمية المعروفين وكان من خطباء ذلك العصر ، وقد ذكرت ترجمة حياته فى كثير من كتب التاريخ والتراجم ، وذكر وضبط فى كل مكان «القسرى» ولا موضع للشك والتردد فى ذلك. وتولى خالد بعد إمارة الحجاز إمارة العراقين من قبل هشام بن عبد الملك وجعل أخاه أسدا خليفته فى خراسان. وبعد أن عزل كلاهما بعد مدة تولى أسد بن عبد الله إمارة خراسان مرة أخرى سنة مائة وست عشرة (٧٣٤ م.) وبقى فى إمارة خراسان حتى توفى فى بلخ سنة مائة وعشرين (٧٣٧ م) ـ بناء على هذا يكون تاريخ مائة وست وستين الذى ذكر فى النص غلطا وصحيحه مائة وعشرون. [حاشية مدرس رضوى ص ٦٩ ، ٧٠].

(٢) بلخ (Balkh) : من أقدم مدن آسيا فى شمال أفغانستان على بعد حوالى عشرة فراسخ جنوب نهر جيحون (Oxus) ، عرفت لدى اليونان باسم باكتره (باختر) عاصمة إقليم باكتريا (Bactriane) واسمها القديم زرياسپ أو زراسپ ولقبت فى الإسلام بأم البلاد و (شهر إبرهيم) أى مدينة إبرهيم. وتعتبر بلخ من أهم المناطق الأثرية فى أفغانستان وفيها مآذن وواجهات وأروقة للمبانى الأثرية التى كانت تضمها هذه المدينة التاريخية ، ومنها مبنى «نو بهار» الشهير الذى بنى قبل الميلاد ومبنى «باباقو» و «خواجه پارسا» وكذلك «أطلال عكاشة» التى تقع على مقربة من الباب الغربى لمدينة بلخ.

(٣) سامان : آخره نون ، قال الحازمى سامان من محال إصبهان ينسب إليها أبو العباس أحمد بن على السامانى الصحاف. وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد البناء البشارى : سامان قرية بنواحى سمرقند إليها ينسب ملوك بنى سامان بما وراء النهر ويزعمون أنهم من ولد بهرام جور ، ويؤيده أنهم يقولون : سامان خداة ابن جبا بن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جور ، واختلفوا فى لفظ جبا على عدة أقوال فالسمعانى ضبطه جبا

٩٠

كما يدعى أمير بخارى بخار خداة. ولما رزق سامان خداة بغلام أسماه أسدا لمحبته إياه ، وأسد هذا هو جد الأمير الماضى (١) إسماعيل السامانى رحمة الله عليه. وإسماعيل بن أسد بن سامان خداة. وكان سامان خداة من أبناء الملك بهرام چوبين (تشوبين) (٢) ومن ثم أخذ بلاط السامانيين يزداد رفعة كل يوم حتى بلغ ما بلغ. ويقول أحمد بن محمد بن نصر إن محمدا بن جعفر قد روى فى كتابه عن محمد ابن صالح الليثى وأبى الحسن الميدانى أنه فى أيام أسد بن عبد الله القشيرى خرج رجل ودعا أهل بخارى إلى الإيمان ، وكان أهل بخارى فى الأغلب أهل ذمة ويدفعون الجزية ، فأجابه قوم وأسلموا ، وكان طغشادة ملك بخارى ، فغضب لأنه كان فى السر كافرا فكتب إلى أمير خراسان أسد بن عبد الله كتابا يقول فيه إنه ظهر ببخارى رجل يثير علينا الولاية وجعل قوما يخرجون علينا ، ويقولون إننا أسلمنا وهم كاذبون ، أسلموا بلسانهم وهم مشغولون بأمرهم ذاك (أى الكفر) فى سرهم ، ويثيرون الولاية والملك بهذه الحجة ولا يؤدون الخراج (٣) ، ولهذا كتب أسد بن عبد الله إلى عامله شريك بن حريث وأمره بأن يقبض على هؤلاء القوم ويسلمهم لملك بخارى ليفعل بهم ما يشاء ، وروى أن هؤلاء القوم كانوا فى المسجد يقولون جميعا بصوت عال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ويصيحون : وا محمدا ووا أحمدا ، وكان بخار خداة (طغشادة) يضرب أعناقهم ولم يكن أحد ـ

__________________

ـ بضم أوله والباء الموحدة ، وضبطه المستغفرى بالفتح وقال يروى بالتاء ويروى بالحاء ويروى بالخاء. كذا قالوا ... وقال الفرغانى فى تاريخه حدثنى أبو للعباس محمد بن الحسن بن العباس البخارى أن أصلهم من سامان وهى قرية من قرى بلخ من البهارمة ، ويمكن الجمع بين القولين لأن سامان خداة معناه المالك سامان ، لأن خداة بالفارسية الملك فيكون أرادوا ذلك. ثم غلب عليهم هذا الاسم وذلك كقولهم شاه أرمن لملك الأرمن وخوارزم شاه لصاحب خوارزم ، ويقولون لرؤساء القرى ده خدا لأن (ده) اسم القرية (خدا) مالك ، كأنه قال مالك القرية أو رب القرية. (ياقوت : معجم البلدان ، طبع القاهرة سنة ١٩٠٦ ج ٥ ، ص ١١ ، ١٢).

(١) فى نسخة «رضى» هكذا فى حاشية مدرس رضوى ص ٧٠.

(٢) بهرام چوبين (تشوبين) كان قائد كسرى أبرويز وقد ثار هذا القائد على كسرى ففر كسرى إلى الروم واستعان بهم على استعادة ملكه وتمكن كسرى من قتل بهرام الثائر عليه.

(٣) الترجمة الحرفية : ويكسرون الخراج.

٩١

يجرؤ على الكلام فيشفع لهم ، حتى ضرب أعناق أربعمائة شخص وصلبهم واسترق الباقين باسم أسد بن عبد الله وأرسلهم إليه بخراسان. ولم يرتد أحد قط من هؤلاء القوم عن الإسلام ، وبقى من بقى منهم على الإسلام ، ولم يثن أسد بن عبد الله هؤلاء القوم عن الإسلام. ولما مات طغشادة بخار خداة عاد هؤلاء القوم إلى بخارى. «والله أعلم».

٩٢

ذكر نصر بن سيار ومقتل طغشادة

مات أسد بن عبد الله فى نفس سنة مائة وست وستين (٧٨٢ م.) (١) وجعل هشام بن عبد الملك بن مروان (٢) نصرا بن سيار (٣) أميرا لخراسان وأرسل إليه منشورا فلما جاء إلى ماوراء النهر وحارب الأتراك وفتح فرغانة وشتّتهم عاد إلى سمرقند ، فلما بلغها ذهب إليه طغشادة بخار خداة ، وأكرمه نصر واحترمه لأنه كان خطب إليه ابنته. وكان طغشادة قد أعطاه ضياع خنبون العليا (٤) التى تسمى «كاريك علويان» ولما جاء طغشادة إلى نصر بن سيار كان نصر بن سيار جالسا على باب داره وذلك فى شهر رمضان وقت غروب الشمس ، وبينما كان نصر بن سيار يتحدث مع بخار خداة جاء دهقانان من بخارى كلاهما من أقارب بخار خداة ، وقد أسلما على يد نصر بن سيار ، وكانا من أبناء العظماء فتظلما كلاهما لدى نصر بن سيار من بخار خداة وقالا لقد غصبنا بخار خداة قرانا ، وكان واصل بن عمرو أمير بخارى حاضرا هناك فطلبا الانتصاف منه أيضا وقالا بأن كلا هذين قد اتحدا ويأخذان أملاك الناس ، وكان طغشادة يتحدث همسا فظنا أن طغشادة يطلب من نصر بن سيار أن يقتلهما ، فعزما (على أمر) وقالا لبعضهما البعض : ما دام بخار خداة سيقتلنا فلا أقل من أن نشفى أنفسنا (٥) وقال طغشادة لنصر بن سيار

__________________

(١) فى هذا التاريخ سهو أيضا ، وموت أسد بن عبد الله وإمارة نصر بن سيار كما سبق ذكره حدثا فى سنة مائة وعشرين (٧٣٧ م.). [حاشية مدرس رضوى ص ٧١].

(٢) الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان (٧١ ـ ١٢٥ / ٦٩٠ ـ ٧٤٣ م).

(٣) وهو نصر بن سيار بن رافع بن حرى بن ربيعة الكنانى (٤٦ ـ ١٣١ ه‍ / ٦٦٦ ـ ٧٤٨ م) شيخ مضر بخراسان ووالى بلخ ثم أمير خراسان بعد وفاة أسد بن عبد الله القسرى سنة ١٢٠ ه‍ (٧٣٧ م) مات بساوة سنة ١٣١ ه‍ (٧٤٨ م) وهو ينتظر النجدة من بنى مروان.

(٤) انظر تعليقنا عليه بحاشية ٢ ص ٧٠.

(٥) الترجمة الحرفية «نطيب قلوبنا» والجملة تفيد الانتقام فوضعنا ما يفيد ذلك بالعربية. يقول جرير :

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما تجد

٩٣

بأن هذين اللذين آمنا على يديك أيها الأمير ، لم يضعان الخناجر فى وسطيهما؟ فقال لهما نصر بن سيار : لم تضعان هذه الخناجر فى وسطيكما؟ فقالا بيننا وبين بخار خداة عداوة ولا نأمن على أنفسنا منه. فأمر نصر بن سيار هارون بن سياوش بحل الخناجر عن وسطيهما وتجهم لهما الأمير ، فابتعد ذانك الدهقانان ودبرا قتلهما. ونهض نصر بن سيار للصلاة وأقامها وأم (المصلين) وأدى الصلاة. وكان بخار خداة جالسا على كرسى ولم يصل لأنه كان ما يزال كافرا فى سريرته. فلما فرغ نصر بن سيار من الصلاة دخل البيت ودعا طغشادة فزلقت قدم طغشادة على باب الدار ووقع فجرى أحد ذينك الدهقانين وطعن بخار خداة بسكين فى بطنه ومزقها ، ولحق الآخر بواصل وكان ما يزال فى الصلاة فضربه فى بطنه بحربة ، فلما بصر به واصل أسرع بضربه بالسيف ورمى رأس ذلك الدهقان ومات كلاهما فى آن واحد ، وأمر نصر بن سيار بقتل ذلك الذى طعن بخار خداة بالسكين وحملوا بخار خداة فى الحال إلى داخل البيت ، وأجلسه نصر بن سيار على وسادته واستدعى «قريحة» الطبيب وأمره بمعالجته ـ وكان بخار خداة يوصى ومات بعد ساعة ، فدخل غلمانه ونزعوا عنه لحمه وحملوا عظامه إلى بخارى. وكان ملكا مدة اثنتين وثلاثين سنة. وصلى نصر بن سيار على واصل بن عمرو ودفنه فى بيته ، وأقام ابن (١) طغشادة بخار خداة لبخارى ونصب خالد بن جنيد أميرا على بخارى. والله أعلم.

__________________

(١) فى نسختى شيفر ومدرس رضوى «بشر». وأشار مدرس رضوى فى حاشية ص ٧٣ بأنه فى نسخة د «پسر» أى «ابن» وهذا أصوب. لأن بشرا اسم عربى ولم يكن مستعملا ببخارى وقتئذ.

٩٤

ذكر شريك بن الشيخ المهرى

كان رجل من العرب قد أقام ببخارى وكان رجلا مبارزا شيعيّا ، يدعو الناس إلى خلافة أبناء أمير المؤمنين على رضى الله عنه ويقول : لقد تخلصنا الآن من عناء المروانيين ، فلا حاجة بنا إلى عناء آل العباس ، ويجب أن يكون أبناء النبى خلفاءه ، فاجتمع عليه خلق كثيرون ، وكان أمير بخارى عبد الجبار بن شعيب ، وقد بايعه وبايعه كذلك أمير خوارزم (١) عبد الملك بن هرثمة ، وأمير برزم (٢) مخلد بن الحسين ، واتفقوا وقبلوا نشر هذه الدعوة وحرب كل من يواجههم. فبلغ هذا الخبر أبا مسلم (٣) ، فبعث زيادا بن صالح إلى بخارى فى عشرة آلاف رجل وأمره قائلا إذا وصلت إلى نهر آموى (جيحون) فتلبث وابعث الجواسيس ليخبروك بأحوال شريك (٤) الخارجى ، ولتذهب بحيطة إلى بخارى. وخرج أبو مسلم رحمه الله من مرو وعسكر على مرحلة من طريق آموى (جيحون) وجمع عسكره من كل جانب ، وقال لزياد بن صالح أنا هنالك فإذا احتجت إلى عسكر فاخبرنى لأبعثه إليك ، فجاء زياد إلى بخارى وعسكر ، وعسكر شريك بن الشيخ بعسكر عظيم على باب بخارى وحالفه جميع أهل بخارى على حرب أبى مسلم (٥) وقاتلوا مدة سبعة وثلاثين يوما ، ولم يكن يوم قط إلا وكان الظفر لهذا الشيخ ، وكان يقتل فى كل يوم ويؤسر كثير من عسكر زياد وابن صالح حتى ذهب سليمان القرشى مولى حيان النبطى إلى

__________________

(١) انظر تعليقنا بحاشية ١ ص ٦٠.

(٢) برزم (Berzem) اسم حصن على نهر آمو (برهان قاطع) (وديميزون ، ج ١ ص ٢٨٠).

(٣) انظر تعليقنا عليه حاشية ١ ص ٢٥.

(٤) آموى ، آمو ، آمو دريا ، درياى آمو ، آب آمو (جيحون) : نهر مشهور فى آسيا الوسطى فى التركستان ينبع من جبال پامير (Pamir) وآلتاى (Altai) ويجرى على الحدود الفاصلة بين أفغانستان وجمهورية تاجيكستان الحالية ثم يتجه شمالا بعد مدينة ترمذ حتى يصب فى بحيرة آرال (Aral) يعرف باسم جيحون (Djeihoun) لدى العرب وباسم اوكسوس (Oxus) لدى اليونان القدماء والإفرنجة.

(٥) فى نسخة مدرس رضوى على حرب زياد بن صالح وأبى مسلم.

٩٥

باب المدينة فى خمسمائة رجل ، فخرج حمزة الهمدانى من مدينة بخارى فى مواجهته ، وكان سليمان قد وضع أربعمائة رجل فى كمين وتقدم هو فى مائة رجل لحرب حمزة الهمدانى ، فظن حمزة أن رجاله هذا القدر لا أكثر ، فتقدم وحارب وخرج هؤلاء الأربعمائة رجل من الكمين وأهلكوا خلقا كثيرا وفر الباقون إلى داخل المدينة ، وجاء قتيبة بن طغشادة بخار خداة فى عشرة آلاف رجل وأظهر علامة الجيش والتحم مع زياد بن صالح فى الحرب وأمر بفتح أبواب القصور ، وكان على باب مدينة بخارى سبعمائة قصر ، فأمر أهل القصور بإظهار علامة الجيش ، وكان الناس فى هذه القصور أكثر من هؤلاء الذين فى المدينة ، ولكن كان (العرب) فى المدينة مع أهلها ولم يكن فى القصور أحد من (العرب) ، وأمر بخار خداة أهل الرستاق وأهل القصور بغلق الأبواب أمام عسكر شريك وعدم تقديم الطعام والعلف وأمر بحمل الطعام والعلف إلى معسكر زياد ، وصعبوا الأمر على عسكر شريك بكل الطرق ، حتى بقى العسكر فى ضيق وجاعوا ، فلم تجد دوابهم العلف وعجزوا عن العمل ، وتدبروا فصار الاتفاق على أن يزدادوا اقترابا من باب المدينة ليأتوا بالطعام والعلف منها ، ويجعلوا المدينة خلفهم ووجومهم صوب الخصم ، ويعاونهم من المدينة أيضا عسكر آخر. ولكنهم لم يستطيعوا الذهاب نهارا ، لأن معسكر زياد وبخار خداة كان على الطريق فذهبوا ليلا حتى صاروا على فرسخ من المدينة ، وعلم زياد فخرج ، وأخذ الطريق عليهم ، وتقاتلوا قتالا شديدا ووقعت الهزيمة على عسكر زياد وبخار خداة فقال بخار خداة الصواب أن نحمل على ساقة الجيش (١) لأننا إذا خرجنا قدامهم يهجمون على الموقع ويشتد الأمر علينا ، فإذا ما حملنا على الساقة تكون مقدمتهم قد ألقت بنفسها فى المدينة ، فيعودون على عجل ويقفون للحرب وتتحقق مصلحتنا. ففعلوا كذلك وبقيوا حتى ذهب بعضهم ومن ثم حملوا على الساقة وأخذوا فى الحرب ، وكانوا يحاربون ويذهبون ، حتى وصلوا إلى «نوكندة» (٢) فقال بخار خداة لزياد بن صالح : إن هؤلاء القوم جياع ، ولم يروا العنب والشمام

__________________

(١) ساقة الجيش : مؤخرة الجيش.

(٢) نوكندة : الكاف مفتوحة ثم نون ساكنة ودال مهملة (نوكند) من قرى سمرقند.

٩٦

ولم يأكلوهما هذا العام ، فحينما يصلون إلى «نوكنده» نتركهم حتى يشغلوا أنفسهم بالعنب والشمام وتكون مقدمتهم بلغت المدينة وعندئذ ننقض عليهم. فلما وصلوا إلى نوكنده تفرقوا فى طلب العنب والشمام والفاكهة ، وكانت مقدمتهم وصلت المدينة ، وعندئذ هاجمهم بخار خداة وزياد وحملا عليهم وقتلا خلقا عظيما وانهزم الباقون ، وفى أثناء ذلك سقط شريك بن الشيخ الذى كان صاحب دعوة هؤلاء القوم عن حصانه وقتل (١). ونزل زياد بن صالح على باب «ماخ» (٢) الذى يسمى الآن مسجد مغاك (أى مسجد الكهف) على ضفة النهر ، وأمر بإضرام النار فى المدينة ، وظلت المدينة تحترق مدة ثلائة أيام بلياليها وأمر بأن ينادى بأن كل من يخرج يعطى الأمان. وكان زياد قد ترك العسكر بعيدا عن المدينة حتى يخرجوا ، وفى هذه الليلة وصل ابن شريك وأحد كبار عسكره إلى باب المدينة ، فقبض على كليهما وحملا إلى زياد فأمر بصلبهما. وجبن أهل المدينة ولم يخرجوا بهذا النداء.

وبعد ثلاثة أيام جاء زياد إلى باب المدينة ونزل بقصر بخار خداة الذى كان على باب الحصار بريكستان (٣) ، وأمر بذهاب العسكر إلى باب المدينة وواصلوا الحرب ثانيا ، وكانوا يحاربون ويكبرون فتهتز الأرض ، واشتدت المعركة وخرج بضعة أشخاص من الأعيان ، ودار القتال بباب العطارين وقتل كثير من أهل المدينة ، وأمر زياد بصلب كل من يؤسر من المدينة على بابها ، واستولوا عليها آخر الأمر.

وحيما فرغ زياد من أمر بخارى ذهب إلى سمرقند وهنالك وقعت له حروب ثم ذهب إلى خراسان. والله أعلم.

__________________

(١) قتل شريك بن الشيخ المهدى سنة ١٣٣ ه‍ (٧٥٠ م) [الزركلى : الأعلام ج ٣ ص ٢٣٩]

(٢) ماخ (Makh) بالخاء المعجمة ـ مسجد ماخ ببخارى ومحلة ماخ بها وهو اسم رجل مجوسى أسلم وبنى (جعل) داره مسجدا. [ياقوت : معجم البلدان ج ٧ ص ٣٥٢].

(٣) ك : هذه الكاف الفارسية تنطق مثل الجيم فى عامية أهل القاهرة.

٩٧

ذكر خروج المقنع وأتباعه من المبيضة (١)

يقول أحمد بن نصر إن محمدا بن جعفر روى هذا الفصل فى كتابه ولكن رواه ناقصا وروى إبرهيم صاحب أخبار المقنع ومحمد بن جرير الطبرى (٢) أن المقنع كان رجلا من أهل رستاق مرو (٣) من قرية يقال لها «كازه» وكان اسمه هاشم ابن حكيم وكان يشتغل أول أمره بالقصارة (٤) ثم اشتغل بتعليم العلم وحصل علوما من كل نوع وتعلم الشعبذة وعلم النيرنجات والطلسمات ، وحذق الشعبذة وكان يدعى النبوة أيضا ، وقضى عليه المهدى بن المنصور (٥) فى سنة مائة وسبع وستين هجرية (٧٨٣ م) (٦). وقد تعلم النيرنجات وكان فى غاية الذكاء. قرأ كتبا كثيرة من علوم الأولين وصار بارعا للغاية فى السحر ، وكان اسم أبيه حكيما ، وكان قائدا من قواد أمير خراسان فى زمان أبى جعفر الدوانقى ومن أهل بلخ ، وسمى المقنع لأنه كان يغطى رأسه ووجهه إذ كان فى غاية القبح ، وكان رأسه أصلع وإحدى عينيه عوراء وكان دائما يضع على رأسه ووجهه قناعا أخضر (٧). وكان هذا المقنع فى أيام

__________________

(١) كان أتباع المقنع يرتدون الثياب البيضاء ويتخذونها شعارا لهم فعرفوا فى التاريخ باسم المبيضة (سفيد جامكان).

(٢) هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبرى المؤرخ المفسر الإمام ، ولد فى آمل بطبرستان سنة ٢٢٤ ه‍ / ٨٣٩ م. واستوطن بغداد حيث توفى بعد أن ترك آثارا خالدة سنة ٣١٠ ه‍ / ٩٢٣ م.

(٣) انظر تعليقنا بحاشية ٤ ص ٣٥.

(٤) مهنة غسل الثياب وتبييضها.

(٥) هو الخليفة محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ثالث الخلفاء العباسيين (١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍ / ٧٧٥ ـ ٧٨٥ م).

(٦) فى كتاب الأعلام للزركلى ج ٥ ص ٢٩ مات سنة ١٦٣ ه‍ / ٧٨٠ م. وكان ظهور المقنع سنة ١٦١ ه‍. (٧٧٧ م) كما ذكره الطبرى والشهرستانى وغيرهما من المؤرخين.

(٧) وفى بعض المراجع ومنها ابن الأثير وابن خلكان والشهرستانى أن هذا القناع كان من الذهب على صورة وجه إنسان (راجع الأعلام للزركلى ج ٥ ص ٢٩).

٩٨

أبى مسلم صاحب الدعوة قائدا من قواد خراسان وصار وزيرا لعبد الجبار الأزدى (١) وادعى النبوة وظل هكذا مدة. وأرسل إليه أبو جعفر الدوانقى شخصا وحمله من مرو إلى بغداد ، وسجنه سنوات. ولما أطلق سراحه بعد ذلك عاد إلى مرو وجمع الناس وقال : أتعلمون من أنا؟ قالوا : أنت هاشم بن حكيم. فقال أخطأتم! أنا إلهكم وإله العالم أجمع [ترب فوه (٢)] وقال أنا أدعو نفسى بأى اسم أريد ، ثم قال أنا الذى أظهرت نفسى للخلق بصورة آدم ثم بصورة نوح ثم بصورة إبرهيم ثم بصورة موسى ثم بصورة عيسى ثم بصورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم بصورة أبى مسلم ثم بهذه الصورة التى ترون. وقال الناس : لقد ادعى الآخرون النبوة وأنت تدعى الألوهية. فقال : هم نفسانيون وأنا الروحانى الذى كنت فيهم ولى القدرة على إظهار نفسى بأى صورة أشاء. وكتب كتبا إلى كل ولاية وأعطاها لدعاته وكتب فيها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من هاشم بن حكيم سيد السادات إلى فلان بن فلان ، الحمد لله الذى لا إله إلا هو إله آدم ونوح وإبرهيم وعيسى وموسى ومحمد وأبى مسلم. ثم إن للمقنع القدرة والسلطان والعزة والبرهان ، اتبعونى واعلموا أن الملك لى [عليه اللعنة] ـ ولى العزة والربوبية ولا إله غيرى [ترب فوه] وكل من يتبعنى له الجنة وكل من لا يتبعنى له النار» وأرسل دعاته إلى كل مكان وهو ما زال بمرو ، وأضل كثيرا من الناس. وكان بمرو رجل من العرب اسمه عبد الله بن عمرو اتبعه وزوجه ابنته وعبر عبد الله هذا جيحون وجاء إلى نخشب وكش ، وكان يدعو الخلق فى كل مكان إلى دين المقنع [عليه اللعنة] وأضل أناسى كثيرا وكان أكثرهم فى كش ورستاق كش ، وكانت أول قرية دخلت دين المقنع وأظهرت دينه قرية فى كش

__________________

(١) هو عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدى ، أمير من الشجعان الأشداء الجبارين فى صدر العهد العباسى ولاه المنصور إمرة خراسان سنة ١٤٠ ه‍. (٧٥٧ م.) فقتل كثيرا من أهلها بتهمة الدعوة لولد على ابن أبى طالب ثم خلع طاعة المنصور فوجه المنصور الجند لقتاله فأسروه وحملوه إليه فقطعت يداه ورجلاه وضرب عنقه بالكوفة ونفى أهله وبنوه (ابن الأثير ج ٥ ص ١٨٦ ـ ١٨٧ وكذلك فى الأعلام للزركلى ج ٤ ص ٤٨).

(٢) هذه العبارة تقابل فى العربية «فض فوه» وهى ترجمة [خاكش بدهن].

٩٩

اسمها قرية «سوبخ» (١) وكان كبيرهم عمرو السوبخى (٢) فخرجوا وقتلوا أميرهم وكان رجلا ورعا من العرب ، وقد دخلت أغلب قرى السغد فى دين المقنع وكفر كثيرون من قرى بخارى وأعلنوا الكفر. وقد عظمت هذه الفتنة واشتد البلاء على المسلمين ، فكانوا (أى أتباع المقنع) يقطعون الطريق على القوافل وينهبون القرى ويكثرون التخريب (٣). وفشا خبر المقنع بخراسان ، فأمر حميد بن قحطبة الذى كان أمير خراسان بالقبض عليه ، ففر من قريته وظل مختفيا حتى تبين له أن خلقا عظيما بولاية ماوراء النهر قد اعتنقوا دينه وأظهروه فأراد عبور جيحون ، وكان أمير خراسان قد أمر الحراس بتوقيفه على شاطئ جيحون وكان مائة فارس يصعدون شاطئ جيحون وينزلون باستمرار ليقبضوا عليه إذا عبر ، فجاء إلى شاطئ جيحون فى ست وثلاثين شخصا وصنع طوفا وعبر جيحون وذهب إلى ولاية كش وأصبحت تلك الولاية تبعا له ومال الخلق إليه. وكان على جبل سام حصن فى غاية الاستحكام وبه ماء جار وأشجار وزروع ، وحصن آخر أقوى من هذا ، فأمر بتعميره وجمع هنالك أموالا كثيرة ونعما لا تحصى ، وأقام الحراس وكثرت المبيضة وعجز المسلمون فى أمرهم وبلغ الخبر بغداد ، وكان الخليفة فى ذلك الوقت المهدى (٤) ، فتضايق وبعث بعساكر كثيرة لحربه وأخيرا حضر هو نفسه إلى نيسابور (٥) لدفع تلك الفتنة ،

__________________

(١) جاء فى حاشية مدرس رضوى نقلا عن معجم البلدان ما يأتى : شوبخ وشوبخى وسوبخ بضم الأول وسكون الثانى وبعدهما باء موحدة وخاء معجمة من قرى نسف (كش).

(٢) فى نسخة مدرس رضوى عمر بدل عمرو.

(٣) جاء فى نسخة مدرس رضوى بعد هذه الجملة مايلى : وكان سبب ذهاب المقنع إلى ماوراء النهر أنه لما فشا خبر المقنع بخراسان ... إلخ.

(٤) المهدى ـ هو الخليفة محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ثالث خلفاء بنى العباس حكم (١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍ / ٧٧٥ ـ ٧٨٥ م).

(٥) نيسابور معرب نيشاپور (Nischapour) وكذا نشاپور ، مدينة مشهورة من مدن خراسان على بعد ٩٠ كيلومترا من مدينة مشهد. اسمها القديم نيشاور أو نشاوور ، عرفت لدى اليونان القدماء باسم «نيسا» أو «نيسوس» وإليها ينسب الإله «ديونيسوس». تم فتحها أيام عمر وعثمان رضى الله عنهما وأصبحت فيما بعد عاصمة للدولة الصفارية ومركزا هاما من مراكز العالم الإسلامى فكثر عدد مدارسها وازدهرت فيها العلوم والفنون كما ظهر منها علماء أجلاء نسبوا إليها فعرف كل منهم بالنيسابورى. [ش. سامى : قاموس الأعلام ج ٦ ص ٤٦٣٠ ، ٤٦٣١].

١٠٠