تاريخ بخارى

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي

تاريخ بخارى

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي


المحقق: الدكتور أمين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر الطرازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٤

ذكر ضرب الدرهم والفضة ببخارى

أول من ضرب الفضة ببخارى ملك كان اسمه «كانا بخار خداة» وكان ملكا على بخارى ثلاثين عاما ، وكان يتاجر فى بخارى بالكرباس والقمح ، فأخبروه بأنهم ضربوا الفضة بالولايات الأخرى ، فأمر أيضا بأن تضرب النقود الفضية ببخاى من خالص الفضة وأن تنقش عليها صورته بالتاج وكان هذا فى زمان خلافة أمير المؤمنين أبى بكر الصديق (١) رضى الله تعالى عنه. إلى أن كان عصر هارون الرشيد (٢) فصار غطريف بن عطا أمير خراسان فى شهر رمضان سنة مائة وخمس وثمانين (٨٠١ م). وكان غطريف هذا أخا لأم هارون الرشيد المسماة بالخيزران (٣) وهى ابنة عطا ملك اليمن من بلد يقال لها جرش (٤) وكانت قد أسرت فى طبرستان (٥) وأتوا بها من هنالك إلى المهدى (٦). فرزق المهدى منها بولدين أحدهما موسى الهادى والآخر هارون الرشيد. ولما عظم أمر الخيزران جاء غطريف هذا إليها من اليمن وأقام معها فأعطاه هارون الرشيد خراسان. وفى ذلك التاريخ كانت

__________________

(١) أبو بكر الصديق ـ عبد الله بن أبى قحافة : أول الخلفاء الراشدين ١٠ ـ ١٣ ه‍ / ٦٣٢ ـ ٦٣٤ م).

(٢) ١٤٩ ـ ١٩٣ ه‍ (٧٦٦ ـ ٨٠٩ م).

(٣) زوجة المهدى العباسى ، توفيت ببغداد سنة ١٧٣ ه‍ (٧٨٩ م) وكانت ملكة حازمة متفقهة ، حزن عليها ابنها هارون الرشيد شديد الحزن ومشى فى جنازتها حافيا وعليه طيلسان أزرق وقد شد وسطه بحزام إلى أن صلى عليها ووضعها فى قبرها بمدافن قريش ثم تصدق عليها بمال عظيم ، [الأعلام للزركلى ج ٢ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦].

(٤) جرش ـ بالضم ثم الفتح وشين معجمة من مخاليف اليمن من جهة مكة [معجم البلدان ج ٥ ص ٨٥] والمخلاف الكورة وهى كالمديرية فى اصطلاح مصر الإدارى.

(٥) طبرستان ـ بفتح أوله وثانيه وكسر الراء [معجم البلدان ج ٦ ص ١٧ ـ ٢٢].

وتعرف اليوم بمازندران (Desmaisons : Dict.Persan ـ Francais ,v.II ,p.٦٣٥)

(٦) المهدى ـ هو الخليفة محمد بن أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ثالث خلفاء بنى العباس ، (١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍ / ٧٧٥ ـ ٧٨٥ م).

٦١

فضة خوارزم (١) قد راجت بأيدى الناس. وكان الناس يأخذون هذه الفضة عن غير رضا ، وكانت فضة بخارى تلك قد خرجت من أيدى الناس فلما جاء غطريف ابن عطا إلى خراسان ذهب إليه أشراف وأعيان بخارى وقالوا له (٢) :

لم تبق لنا فضة بالمدينة فليأمر أمير خراسان بأن تضرب لنا نفس السكة على نحو ما كانت فضة بخارى قديما ، وينبغى أن تكون الفضة بحيث لا يخرجها أحد من أيدينا ولا تخرج من بلدنا حتى نتعامل بها فيما بيننا ، وكانت الفضة عزيزة فى ذلك التاريخ ، فجمعوا أهل المدينة وطلبوا رأيهم فى هذا الأمر فاتفقوا على أن تضرب العملة الفضية من ستة أشياء هى الذهب والفضة والمسك (٣) والقصدير والحديد والنحاس ، ففعلوا هكذا ، وضربوا تلك السكة القديمة باسم غطريف ، أى الفضة الغطريفية.

وكان عامة الناس يسمونها غدريفى. وكانت النقود الفضية القديمة من خالص الفضة. وهذه الفضة التى ضربوها أخلاطا ، جاءت سوداء فلم يأخذها أهل بخارى ، فغضب عليهم السلطان ، فكانوا يأخذونها مكرهين. وقوموا الستة دراهم الغدريفية بدرهم واحد من الفضة الخالصة وأخذ السلطان بهذه القيمة حتى راجت ، ولهذا السبب ارتفع خراج بخارى لأن خراج بخارى قديما كان مائتى ألف درهم من الفضة إلا قليلا.

__________________

(١) خوارزم (Kharezm) أوله بين الفتحة والضمة والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة (خارزم) [معجم البلدان ج ٣ ص ٤٧٤] ، أقدم إيالة فى آسيا الوسطى يرجع تاريخها السياسى إلى أقدم العصور قبل الميلاد ، وهى منشأ الدولة الخوارزمشاهية التى قضى عليها چنكيز خان وأصبحت تابعة لخانات آلتون أوردو ، حوالى ١٥٠ سنة. وفى أوائل القرن السادس عشر الميلادى وقعت خوارزم تحت حكم الشيبانيين ثم الفرس ومنذ سنة ١٥٥٨ م (٩٦٦ ه‍.) عرفت أولا باسم عاصمتها «قيات» ثم «أوركنج» ثم «خيوه» إلى أن ألحقت بالاتحاد السوفييتى ووزعت بين جمهوريتين هما أوزبيكستان وتركمنستان السوفييتيتين وذلك بعد هجوم الروس وخلعهم أميرها (خان خيوه) السيد عبد الله خان بهادر سنة ١٩٢٤ م. (١٣٤٣ ه‍.)

(Larousse de XXe.Siecle ,V.IV ,p.٣٤٢)

(٢) الترجمة اللفظية : وطلبوا منه.

(٣) هكذا فى الأصل.

٦٢

فلما ضربوا الغدريفى وراج الدرهم الفضى المقوم بستة دراهم غدريفية ، ألزمهم السلطان أداء الخراج بهذا الغدريفى ، فلما عز الغدريفى حتى صار كل درهم منه يعادل درهما من الفضة ولم يطلب (١) السلطان الفضة ، وطلب الغدريفى ارتفع خراج بخارى دفعة من مائتى ألف درهم إلا قليلا إلى مليون وثمانية وستين ألفا وخمسمائة وسبعة وستين (٥٦٧ و ٠٦٨ ، ١) درهما غدريفيّا. وقد روى محمد بن جعفر أنه فى سنة كان المائتان والعشرون درهما من الفضة الخالصة تعادل خمسة وثمانين درهما غدريفيّا. ويقول أحمد بن نصر إنه فى سنة اثنتين وعشرين (أى ٥٢٢ ه‍ ـ ١١٢٨ م) حيث ترجمنا هذا الكتاب ، كان المائة درهم من الفضة الخالصة بسبعين درهما غدريفيّا ، والذهب الأحمر (٢) كان المثقال منه بسبعة دراهم ونصف درهم غدريفية.

وقد حكى محمد بن جعفر أن هذا الغدريفى ضرب بقصر ماخك (٣) فى مدينة بخارى وكانت الفضة فى الدرهم الغدريفى أكثر من الأخلاط الأخرى ، وقيل إنه كان فى كل درهم قدر (٤) من الذهب ، ويوجد فى كل عشرة دراهم من نصف درهم إلى أربعة دوانق ونصف دانق (٥) ذهب. وقد ضرب كل من آل سامان والملوك الآخرين بعدهم فى بخارى كثيرا من الپشيزات العدلية (٦) ، ولم يذكر ذلك لأنه لم يكن فيه غرابة.

__________________

(١) فى نسخة شيفر : بخواست أى طلب ، وفى نسخة مدرس رضوى : نخواست أى لم يطلب ، وهذا ما يتمشى مع السياق فأخذنا به فى الترجمة.

(٢) فى نسخة شيفر : در شرع ، أى فى الشرع. وفى نسخة مدرس رضوى : زر سرخ ، أى الذهب الأحمر وهذا هو الأرجح.

(٣) فى نسخة دانشكده معقول ومنقول (كلية المعقول والمنقول) بطهران : ماخ.

(٤) فى نسخة شيفر : يك چند : أى قدر ـ وفى نسخة رضوى : يك حبة : أى حبة. والجملة التالية ترجح «قدر» بدون تحديد للوزن بالحبة.

(٥) وزن يعادل ثمانى حبات. سدس وحدة كاملة ، ويقال «شش دانك» أى ستة دوانق للوحدة الكاملة التى تعادل درهما واحدا. ودانق أيضا يعادل ٤ / ١ مثقال.

) Desmaisons. Dict. Persan ـ Francais, v. I, P. ٣٦٨ (

(٦) جمع پشيز ـ وهو عملة صغيرة ورقيقة من النحاس الأحمر. (نفس المرجع).

٦٣

ذكر ابتداء فتح بخارى

روى محمد بن جعفر : أنه حين أرسل معاوية عبيد الله بن زياد إلى خراسان عبر نهر جيحون وجاء إلى بخارى. وكانت ملكة بخارى سيدة [خاتون] لأن ابنها «طغشاده» كان صغيرا. ففتح عبيد الله بن زياد «بيكند» و «رامتين» واسترق كثيرين وأخذ أربعة آلاف من رقيق بخارى لنفسه ، وكان هذا فى آخر سنة ثلاث وخمسين وأول سنة أربع وخمسين (٦٧٢ / ٦٧٣ م). فلما وصل إلى مدينة بخارى صف الصفوف وأقام المنجنيقات. فأرسلت الخاتون شخصا إلى الترك وطلبت منهم العون. وأوفدت شخصا إلى عبيد الله بن زياد وطلبت سبعة أيام مهلة وقالت إنى فى طاعتك وأرسلت إليه هدايا كثيرة. فلما لم يصل المدد فى هذه الأيام السبعة ، أرسلت إليه الهدايا مرة ثانية وطلبت مدة سبعة أيام أخرى. فوصل عسكر الترك وتجمع آخرون وصار جيش عظيم ، وخاضوا معارك كثيرة وهزم الكفار أخيرا وتعقبهم المسلمون وقتلوا كثيرين ، ودخلت الخاتون القلعة وعاد أولئك العسكر (أى عسكر الترك) إلى ولاياتهم ، وآخذوا (آى عسكر المسلمين) سلاحا وثيابا وأدوات ذهبية وفضية ورقيقا وواحدة من خفى الخاتون مع جورب. وكان الجورب والخف من الذهب المرصع بالجواهر. فلما قوموهما بلغا مائتى ألف درهم. وأمر عبيد الله ابن زياد بقطع الأشجار وتخريب الديار وتعرضت المدينة للخطر أيضا. فأرسلت الخاتون شخصا وطلبت الأمان ، وتم الصلح على مليون درهم وأرسلت المال وأخذ (أى عبيد الله بن زياد) المال وعاد ومعه تلك الأربعة آلاف من الرقيق. فلما عزل من إمارة خراسان فى سنة ست وخمسين (٦٧٥ م) وصار سعيد بن عثمان (١) أمير خراسان ، عبر جيحون وجاء إلى بخارى. فأرسلت الخاتون شخصا وقالت : أنا على ذلك الصلح الذى عقدته مع عبيد الله بن زياد ، وأرسلت بعض ذلك المال.

__________________

(١) انظر تعليقنا عليه ، حاشية ٣ ص ٦٦٥.

٦٤

فإذا بعسكر السغد (١) وكش (٢) وتخشب (٣) قد وصلوا ، وكان عددهم مائة وعشرين ألف رجل ؛ فندمت الخاتون على الصلح وما كانت أرسلته. فقال سعيد : أنا عند قولى ، ورد المال وقال : لا صلح لنا. وعندئذ تجمع العسكر ووقفوا وجها لوجه واصطفوا ، فألقى الله تعالى الرعب فى قلوب الكافرين حتى عاد كل عسكر الكفار هؤلاء دون حرب ، وبقيت الخاتون وحدها ؛ فأرسلت مرة أخرى شخصا وطلبت الصلح وزادت المال وأرسلته جميعا. فقال سعيد : أنا الآن ذاهب إلى السغد وسمرقند وأنت على طريقى فيجب أخذ رهن منك حتى لا تأخذى على الطريق ولا تضايقينى ، فأعطت الخاتون ثمانين شخصا من أمراء ودهاقين بخارى رهائن لسعيد. فرجع سعيد عن باب بخارى ومضى لطيته. وقد حكى أن هذه الخاتون كانت تعشق أحد غلمان زوجها وكان الناس يقولون إن طغشاده ابنها من ذلك الرجل ، وأنها ألحقت نسب هذا الولد بزوجها وأن هذا الولد ليس من صلب بخار خداة. وقال جماعة من عسكرها نعطى ملكها هذا لابن آخر لخداة ، يكون بلا شك ابن الملك. وعلمت الخاتون بقصدهم هذا وأخذت تدبر لدفعهم عنها ، فلما تم هذا الصلح مع سعيد وطلب منها رهنا احتالت الخاتون وأعطته هؤلاء القوم الذين كانوا قد دبروا هذه الفكرة رهائن ، فتخلصت منهم ومن سعيد كذلك. ويحكى أنه لما عقد سعيد الصلح مع الخاتون قال لها : يجب أن تخرجى للسلام علىّ ، ففعلت الخاتون كذلك وخرجت للسلام عليه ، فقال يجب أن تخرجى للسلام على كبرائى أيضا ، فخرجت الخاتون للسلام على كل واحد من وجوه عسكره ، وكان عبد الله بن حازم (٤) أحد

__________________

(١) انظر تعليقنا بصفحة ٥٥ حاشية ٦.

(٢) كش (Kasch) وتعرف الآن باسم «شهر سبز» أى المدينة الخضراء ، مدينة بالتركستان قرب نخشب. (Desmaisons : v.٣ ,p.٣٣)

(٣) نخشب بالفتح ثم السكون وشين معجمة مفتوحة وباء موحدة : مدينة بما وراء النهر وهو اسم ثان لمدينة «نسف» تعرف اليوم باسم «قرشى» وهى مسقط رأس علماء كثيرين منهم نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد النسفى المتوفى سنة ٣٥٧ ه‍ / ٩٦٧ م. صاحب العقائد النسفية ، وأبو البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد النسفى من مشاهير لفقهاء المتوفى سنة ٧١٠ ه‍. (١٣١٠ م) صاحب كتاب الوافى وشرحه الكافى وكذا كنز الدقائق. [انظر معجم البلدان ج ٨ ص ٣٧٣].

(٤) فى نسخة مدرس رضوى خازم بالخاء المعجمة.

٦٥

وجوه عسكره ، فأمر بإيقاد نار عظيمة فى خيمته ، وكان واقفا والجو فى غاية الحرارة ، وكان عبد الله هذا رجلا أحمر ، وقد احمرت عيناه من وهج النار أيضا ، وكان رأسه من الكبر بحيث كانوا يشبهونه باليغارية (١) ، وكان رجلا مهيبا فحمل السلاح وسلّ السيف وجلس ، فلما دنت منه الخاتون فزعت منه ، وفرت مسرعة وهى تقول : بيت ـ

لقد أحسن الله زينتك أيها الغلام ... جنبت عين السوء حتى لا تخالطك (٢)

حكاية : ويقول سليمان الليثى أيضا : إنه لما صالح سعيد الخاتون مرض ببخارى : فجاءت الخاتون أيضا لعيادته وكان معها كيس مملوء بالذهب فأدخلت يدها فى الكيس وأخرجت منه شيئين وقالت : إننى أحتفظ لنفسى بواحدة لآكلها إذا مرضت ، وأعطيك هذه الأخرى لتأكلها وتطيب ، فتعجب سعيد قائلا : ما هذا الذى تقدمه الخاتون بهذا الإعزاز والإعظام؟ فلما خرجت الخاتون نظر سعيد ، فكانت تمرة تقادم عهدها ، فأمر قومه فحملوا خمسة جمال بالتمر الطازج وحملوه إلى الخاتون ، ففتحت الجوالات ورأت تمرا كثيرا ، ففتحت الكيس وأخرجت تمرتها تلك وقابلتها بذلك التمر ، فكان كالتى معها ، فجاءت معتذرة وقالت ليس لدينا كثير من هذا الجنس وقد احتفظت بهاتين التمرتين سنوات طويلة من أجل المرض.

وحكى أن هذه الخاتون كانت امرأة حسناء وجميلة فعشقها سعيد ، ولأهل بخارى فى هذا المعنى أغان كثيرة باللغة البخارية.

رواية : حكى أنه حين جاء سعيد إلى بخارى أتى قثم بن العباس رضى الله عنه (٣)

__________________

(١) لعلها جمع أويغور ، والأويغور قبيلة تركية كانت منتشرة فى ماوراء النهر وكانت لهم حضارة وهم أول من كتب التركية. [شمس الدين سامى : قاموس الأعلام].

(٢) خوبت آراست أى غلام ايزد .. چشم بد دور چه نياميزود.

(٣) قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشى الهاشمى ـ ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام كان فى عهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب والى مكة ، وبرواية المدينة ، وقصد سمرقند بصحبة سعيد بن عثمان بن عفان فى زمن معاوية حيث استشهد ـ ويروى أنه رضى الله عنه كان كثير الشبه بالنبى عليه السلام ويعرف ببخارى وفرغانه وبلاد تركستان باسم «شاه زنده» وله مزار بسمرقند يعرف بمزار «شاه زنده» أى السلطان الحى. [ش. سامى : قاموس الأعلام ج ٥ ص ٣٦٠٢].

توفى رضى الله عنه سنة ١٥٩ ه‍ (٧٧٦ م) (الزركلى : الأعلام ص ٢٩ ج ٦).

٦٦

٦٧
٦٨

إلى بخارى ، فأكرمه سعيد ، وقال : إننى أعطى كل شخص من هذه الغنيمة سهما ولك ألف سهم. فقال قثم رضى الله عنه : لا أريد غير سهم كحكم الشريعة ، وبعد ذلك ذهب قثم رضى الله عنه إلى مرو وتوفى هنالك ، وقال بعضهم إنه توفى بسمرقند. والله أعلم.

ولما فرغ سعيد من أمر بخارى ، ذهب إلى سمرقند والسغد وقام بحروب كثيرة ، وكان النصر حليفه ، ولم يكن بسمرقند يومذاك ملك ، وأخذ من سمرقند ثلاثين ألفا من الرقيق وأموالا طائلة. فلما وصل إلى بخارى أرسلت الخاتون شخصا وقالت : ما دمت قد عدت بالسلامة فاعطنا تلك الرهائن. فقال إننى لم آمنك بعد ؛ فلتبق الرهائن حتى أعبر جيحون ، فلما عبر جيحون أرسلت إليه ثانيا شخصا فقال : انتظرى حتى أصل إلى مرو ، فلما وصل إلى مرو قال : انتظرى حتى أصل إلى نيسابور (١) فلما وصل نيسابور قال حتى أصل إلى الكوفة ومن هنالك إلى المدينة. فلما وصل المدينة أمر الغلمان فحلوا السيوف والمناطق عنهم وأخذوا كل ما كان معهم من ثياب ديباج وذهب وفضة جميعا ، وأعطوهم الأكلمة (٢) عوضا عنها وشغلوهم بالفلاحة. فضاقوا غاية الضيق وقالوا : أى هوان بقى لدى هذا الرجل لم يعاملنا به ، لقد أخذنا أرقاء ، ويكلفنا بالأعمال الشاقة ، وما دمنا سنهلك فى الهوان فلا أقل من أن نهلك بفائدة ، فدخلوا بيت سعيد (٣) وغلقوا الأبواب وقتلوه وأسلموا أنفسهم للقتل كذلك. وكان ذلك فى خلافة يزيد بن معاوية. وصار مسلم بن زياد بن أبيه (٤) أمير خراسان. وجاء إلى خراسان ومن هناك كوّن جيشا ووصل إلى بخارى ،

__________________

(١) لمعرفة موقعها انظر حاشية ٥ ص ٩٦.

(٢) جمع كليم معرب «كليم galim» الفارسية وهو نوع من البسط الصوفية الرخيصة. ويتخذ القرويون والرعاة ببلاد خراسان من هذا الكليم ثيابا خشنة تقابل ما يعرف فى عامية القرى وأهل الصعيد بالبشت.

(٣) سعيد بن عثمان بن عفان الأموى القرشى ، توفى نحو سنة ٦٢ ه‍ (٦٨٢ م) وال من الفاتحين نشأ فى المدينة وبعد مقتل أبيه وفد على معاوية فولاه خراسان سنة ٥٦ ه‍ (٦٧٥ م.) ، ففتح سمرقند وأصيبت عينه بها وعزل عن خراسان سنة ٥٧ ه‍ (٦٧٦ م.) ، ولما مات معاوية انصرف إلى المدينة فقتله أعلاج كان قدم بهم من سمرقند (خ. الزركلى : الأعلام ج ٣ ص ١٥١).

(٤) مسلم بن زياد بن أبيه : يقال إن أباه أخ غير شرعى لمعاوية بن أبى سفيان وكان من سيوف الدولة الأموية وكبار ولاتها. ويعرف بزياد بن سميه كذلك ، توفى سنة ٣٥ ه‍ (٦٥٥ م.).

٦٩

فرأت الخاتون ذلك الجيش والمعدات وعرفت أن بخارى لا تستطيع مقاومته ، فأرسلت إلى طرخون ملك السغد وقالت : إننى أكون زوجة لك وتكون بخارى بلدك ، ويجب أن تأتى وتكف يد العرب عن هذا الملك ، فجاء طرخون فى مائة وعشرين ألف رجل ، وجاء بيدون أيضا من التركستان مع عسكر كثير (١) وكانت الخاتون قد عقدت صلحا مع مسلم وفتحت الأبواب وأبواب القصر الخارجى أيضا. فوصل بيدون ونزل على الضفة الأخرى لنهر خرقان (خرقان رود) ، فأخبروا مسلم بأن بيدون وصل ، وأن الخاتون بايعته وأغلقوا أبواب المدينة. فبعث مسلم بن زياد بشخص إلى المهلب وقال : قل له يذهب ويرى هذا العسكر ما مقداره ، وأن يعد ما يلزم للاستطلاع.

فأجاب المهلب (٢) : لا يوفد مثلى فى هذه المهمة ، أنا رجل مشهور ، فأرسل شخصا إذا عاد سالما يخبرك الخبر اليقين وإذا هلك لا تظهر الهزيمة فى جيشك.

فقال مسلم لا بد وأن تذهب. فقال المهلب إذا كان ولا بد من ذهابى فأرسل معى رجلا من كل لواء ولا تخبر أحدا بذهابى ، ففعل كذلك وأرسل معه ابن عمه ؛ وذهبوا معه ليلا ، فاستطلعوا دون أن يعرف جيش العدو ، فلما طلع النهار أدى مسلم بن زياد صلاة الفجر والتفت إلى الناس وقال : لقد أرسلت المهلب ليلة أمس للاستطلاع ، ففشا الخبر فى العسكر وسمع العرب وقالوا : إنه أرسل المهلب ليصيب من الغنيمة أكثر منا ولو كانت الحرب قائمة لأرسلنا معه ، فأسرع جمع بالركوب ، وذهبوا إثر المهلب حتى ضفة النهر ، فلما أبصرهم المهلب قال : أخطأتم إذ قدمتم ، كنت مستخفيا وها هم يأتون علانية والآن يأخذ الكفار الجميع.

وأحصى المهلب المسلمين فكانوا تسعمائة ، فقال : والله لتندمنّ على ما فعلتم

__________________

(١) فى نسخة شيفر : بيامد با اين لشكر ، أى جاء مع هذا العسكر ؛ وفى نسخة مدرس رضوى : بالشكر بسيار بيامد : أى جاء بعسكر كثير. وهذه العبارة أنسب لتمشيها مع السياق فأخذنا بها.

(٢) أبو سعيد المهلب بن أبى صفرة ظالم بن سراق الأزدى العتكى (٧ ـ ٨٣ ه‍ ـ ٦٢٨ ـ ٧٠٢ م) أمير ، بطاش ، جواد ، قال فيه عبد الله بن الزبير «هذا سيد أهل العراق» ، ولد فى دبا وقدم المدينة مع أبيه فى أيام عمر وولى إمارة البصرة لمصعب بن الزبير وفقئت عينه بسمرقند. ولاه عبد الملك بن مروان ولاية خراسان فقدمها سنة ٧٩ ه‍ (٦٩٨ م) ومات بها (الزركلى : الأعلام ج ٨ ص ٢٦٠).

٧٠

وعندئذ اصطفوا ورآهم طلائع عسكر بيدون فأسرع المسلمون بنفخ البوق وركبوا جميعا فى آن واحد واصطفوا ، وحمل عليهم ملك الترك وعجز العرب. فقال المهلب : لقد علمت أن هذا سيحدث ، فقالوا وما التدبير؟ قال : أسرعوا ، فعادوا وأدركهم بيدون وقتل أربعمائة من المسلمين وفر الباقون حتى المعسكر ، وطلع فجر اليوم التالى وعبر بيدون النهر وجاء إلى أمير ختن (١) حيث كان بينهما نصف فرسخ ، ونشبت المعركة ، فتقدم المهلب واشتدت الحرب وحمل الكفار وأحاطوا به ، فصاح المهلب : أدركونى! فذهل مسلم وقال : هذه صيحة المهلب. وكان عبد الله ابن خودان آنذاك ماثلا أمام مسلم صامتا ، فقال مسلم : ماذا حدث حتى لا تتكلم؟ فقال : والله لو لم يخش المهلب الهلاك لما صاح ، فلأركب وأعمل ما علىّ فإذا هلكت فإنى راض ، وكان المهلب يصيح عند كل هزيمة. فقال مسلم : اصبروا ساعة. وفى أثناء هذا طلب مسلم الخوان وأكل ، فقال عبد الله خودان : أى وقت طعام هذا؟ أشبعك الله! .. لقد هلكت دون أن تدرى ولم تكن رجل حرب. فقال مسلم وما التدبير الآن؟ قال : مر الفرسان أن يترجلوا ويذهبوا إلى ساحة الوغا ، ففعلوا كذلك. وأسرع عبد الله بن خودان إلى المهلب ، فكان المهلب فى ورطة شديدة ، فقال انظروا خلفكم ، فلما نظروا رأوا الرجال يأتون لنجدتهم فتشجعوا وأخذوا فى الوثوب واشتدوا فى الحرب. وقتل بيدون فى أثناء ذلك فكبر المسلمون وانهزم الكفار كلية. وكان المسلمون يتعقبونهم ويقتلونهم حتى قضوا عليهم وأخذوا غنائم كثيرة وقسموها فى ذلك اليوم. فأصاب كل فارس ألفين وأربعمائة درهم. فأرسلت الخاتون شخصا وطلبت الصلح فصالحها مسلم وأخذ أموالا عظيمة. فقالت

__________________

(١) ختن : مدينة قديمة ومشهورة بالمسك والجمال فى التركستان الشرقية ، تقع على بعد ٣٠٠ كيلومتر جنوب شرقى ياركند على ضفاف نهر ختن من روافد نهر تاريم. جميع أهاليها أتراك مسلمون كانت لها أهمية تجارية كبرى فى قديم الزمان لوقوعها فى طريق تجارى بين الصين ومدن آسيا الغربية وظلت حينا إمارة مستقلة وحينا آخر تحت حكم الصين وفى عام ١٢٩٠ ه‍ (١٨٧٣ م.) انضمت إلى إمارة التركستان الشرقية التى حررها من الحكم الصينى أتالق الغازى يعقوب بك ، ثم استولى عليها الصينيون ثانية بعد أن استولوا على مدينة كاشغر ، ولم تزل تحت حكمهم للآن كجزء من التركستان الشرقية المعروفة أيضا بالتركستان الصينية.

٧١

الخاتون : إنى أطلب إليك أن ترينى عبد الله بن حازم (١) كما هو ، فإنى ، رأيته مرة وأغمى علىّ ، ويبدو لى أنه ليس بآدمى. فاستدعى مسلم عبد الله بن حازم إلى مضيفته وأراه للخاتون. وكان يرتدى جبة خز زرقاء وعمامة حمراء ، فلما رأته الخاتون سجدت وأرسلت إليه الهدايا إعجابا. وعاد مسلم مظفرا بغنائم كثيرة وذهب إلى خراسان.

__________________

(١) فى نسخة مدرس رضوى : خازم بالخاء المعجمة.

٧٢

ذكر ولاية قتيبة بن مسلم وفتح بخارى

وقسمة ما وراء النهر بين العرب والعجم

لما صار قتيبة بن مسلم (١) أمير خراسان من قبل الحجاج (٢) جاء إليها وأخضع خراسان كلها ، وتم على يديه فتح طخارستان (٣) وعبر جيحون سنة ثمان وثمانين (٧٠٦ م) وعلم أهل بيكند (٤) بذلك فحصنوا المدينة وكانت فى غاية المنعة. وكانوا يسمون بيكند قديما شارستان (أى المدينة الكبيرة) وسموها «شارستان روئين» أى المدينة الصفرية لاستحكامها. وخاض قتيبة حروبا عنيفة جدّا ، وقد عانى المسلمون العجز مدة خمسين يوما وعاينوا المشاق وأعملوا الحيلة ، وحفر قوم أسفل الجدار والبرج ونفذوا إلى حظيرة للدواب داخل السور وحفروا الجدار وأحدثوا ثغرة ، ولم يكن المسلمون قد وصلوا إلى السور ونفذوا من الثغرة ، فصاح قتيبة بأن كل من ينفذ من الثغرة أعطيه ديته وإذا قتل أعطيها لأولاده ، حتى رغب كل واحد منهم فى الدخول واستولوا على الحصن.

__________________

(١) قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحسين الباهلى ـ أبو حفص (٤٩ ـ ٩٦ ه‍ / ٦٦٩ ـ ٧١٥ م) أمير فاتح من مفاخر العرب ، كان أبوه كبير القدر عند يزيد بن معاوية وقد نشأ فى الدولة المروانية فولى الرى فى أيام عبد الملك بن مروان وخراسان فى أيام ابنه الوليد ، ووثب لغزو ماوراء النهر فتوغل فيها وافتتح كثيرا من المدائن كخوارزم وسجستان وسمرقند وغزا أطراف الصين وضرب عليها الجزية وأذعنت له بلاد ماوراء النهر كلها فاشتهرت فتوحاته واستمرت ولايته ثلاث عشرة سنة. وهو عظيم المكانة مرهوب الجانب ، ومات الوليد واستخلف سليمان بن عبد الملك وكان هذا يكره قتيبة ، فأراد قتيبة الاستقلال بما فى يده وجاهر بنزع الطاعة واختلف عليه قادة جيشه فقتله وكيع بن حسان التميمى بفرغانة. [الزركلى : الأعلام ج ٦ ص ٢٨].

(٢) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفى (٤٠ ـ ٩٥ ه‍ ـ ٦٦٠ ـ ٧١٤ م) وهو أشهر ولاة بنى أمية وأشدهم قسوة وبطشا بمخالفيهم وقد أبلى فى إخماد الفتن والفتوح بلاء عظيما وبنى مدينة واسط.

(٣) طخارستان : بالفتح وبعد الألف راء ثم سين ثم تاء مثناة من فوق ويقال طخرستان ، وهى ولاية واسعة كبيرة تشتمل على عدة بلاد وهى من نواحى خراسان وهى طخارستان العليا والسفلى. [ياقوت : معجم البلدان ج ٦ ص ٣١ ـ ٣٣] ـ ولاية كبيرة فى أعالى جيحون غربى بلخ (ياقوت).

(٤) انظر تعليقنا بصفحة ٣٤ حاشية ٢

٧٣

وطلب أهل بيكند الأمان ، فصالحهم قتيبة على مال أخذه (١) وأمّر عليهم ورقاء بن نصر الباهلى وتوجه إلى بخارى.

فلما بلغ خنبون (٢) أخبروه بأن أهل الحصن تمردوا وقتلوا الأمير. فأمر قتيبة العسكر قائلا : اذهبوا وانهبوا بيكند فقد أبحت دماءهم وأموالهم. وسبب ذلك أنه كان فى بيكند رجل له بنتان جميلتان ، فانتزعهما ورقاء بن نصر ، فقال هذا الرجل :

إن بيكند مدينة كبيرة فلم تأخذ ابنتى من بين كل أهل المدينة؟ فلم يجبه ورقاء. فوثب الرجل وطعن ورقاء بسكين فى سرّته ولكنها لم تكن قاضية ولم يقتل. فلما بلغ قتيبة الخبر عاد وقتل من كان فى بيكند من أهل الحرب جميعا واسترق من بقى ، بحيث لم يبق فى بيكند أحد وخربت. وكان أهل بيكند تجارا وقد ذهب أكثرهم إلى بلاد الصين والجهات الأخرى للتجارة ، ، فلما عادوا بحثوا عن أولادهم ونسائهم وأقربائهم وابتاعوهم من العرب ، وعمروا بيكند كذلك مرة ثانية. وقد قيل بأنه لم تكن مدينة تخرّبت كلها وبقيت خاوية ثم عمرت سريعا على يد أهلها أنفسهم إلا بيكند.

حكاية : يحكى أنه لما فتح قتيبة بيكند وجد فى معبد الأصنام صنما من الفضة يزن أربعة آلاف درهم ، ووجد أوانى (٣) من الفضة ، فجمعها كلها ووزنها فكانت مائة وخمسين ألف مثقال ، ووجد حبتين من اللؤلؤ كل منهما كبيضة الحمام ، فقال قتيبة : من أين أتيتم بهاتين اللؤلؤتين بهذا الحجم الكبير؟ قالوا : أتى بهما طائران فى منقاريهما ، وألقيا بهما فى بيت الأوثان هذا ، فجمع قتيبة الطرائف وبعث

__________________

(١) الترجمة الحرفية : فصالحهم قتيبة وأخذ مالا.

(٢) فى بعض النسخ جيحون (حاشية مدرس رضوى) وخنبون بفتح أوله وبعد النون الساكنة باء موحدة وآخره نون : من قرى بخارى بما وراء النهر بينها وبين بخارى أربعة فراسخ على طريق خراسان. ينسب إليها أبو القاسم واصل بن حمزة بن على بن نصر الصوفى الخنبونى أحد الرحالين فى طلب الحديث. ياقوت : [معجم البلدان ج ٣ ص ٤٦٩].

(٣) فى الأصل جام ومعناها القدح أو الكأس ويستعمل أهل بخارى هذه الكلمة بمعنى الطبق فترجمناها بآنية لانطباقها على المعنيين.

٧٤

بها مع هاتين الحبتين إلى الحجاج ، وكتب رسالة بفتح بيكند وذكر قصة هاتين الحبتين من اللؤلؤ فى الكتاب ، فكتب الحجاج الجواب قائلا : علم ما ذكرت وساورنى العجب من هاتين اللؤلؤتين الكبيرتين وذينك الطائرين اللذين أتيا بهما ، وأعجب من هذا سخاؤك إذ حصلت على مثل هذين الشيئين الفاخرين وبعثت بهما إلينا ، بارك الله عليك (١) ، ثم بقيت بيكند خرابا سنوات طوالا (٢) ، فلما فرغ قتيبة من أمر بيكند ذهب إلى خنبون وشن حروبا واستولى على خنبون وتاراب (٣) وكثير من القرى الصغيرة ، وذهب إلى وردانة وكان هناك ملك اسمه وردان خداة خاض معه حروبا كثيرة. ومات وردان خداة أخيرا واستولى (أى قتيبة) على قرى كثيرة. وفى وسط قرى بخارى فيما بين تاراب وخنبون ورامتين تجمع عسكر كثير وأحاطوا بقتيبة ، وأقبل طرخون ملك السغد بعسكر كثير وخنك خداة بجيش عظيم ، ووردان خداة بجيشه ، وقد استأجروا الملك كورمغانون ابن أخت فغفور الصين (٤) وكان قد جاء بأربعين ألف رجل ليناصروه (٥) فى حرب قتيبة وتجمعت الجيوش واشتد الأمر على قتيبة وكان قتيبة وأصحابه فى حاجة إلى سلاح (٦) ، ونادى قتيبة بأن لا يبعدوا الطليعة عنهم وأن لا يسرحوا العسكر ، وقد ارتفعت لهذا قيمة السلاح بحيث صار ثمن الرمح خمسين درهما والمجن خمسين أو ستين درهما والدرع سبعمائة درهم. وقال حيان النبطى لقتيبة : أنا أبحث ذلك بنفسى فأمهلنى إلى غد ، فلما أصبح الصباح بعث حيان النبطى بشخص إلى ملك السغد وقال : عندى نصيحة ويتحتم عليك أن نجتمع كلانا فى مكان واحد. فقال طرخون : فليكن ، متى نجتمع؟

__________________

(١) هكذا فى الأصل ـ وفى القرآن الكريم : (وباركنا عليه وعلى إسحق.) آية ١١٣ سورة الصافات.

(٢) هذا يناقض ما تقدم بشأن سرعة تعمير بيكند.

(٣) اسم قرية على بعد ثلاثة فراسخ من بخارى. [برهان قاطع].

(٤) فغفور أو پغپور لقب ملوك الصين مثل قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس.

(٥) هذه ترجمة العبارة كما وردت فى الأصل الفارسى ونصها «تا أو را يارى دهند بجنك قتيبة» والمفهوم من سياق الكلام أنهم استأجروه ليحارب هو فى المقدمة ويعينوه بجيوشهم.

(٦) نص العبارة الفارسية «بى سلاح» أى بدون سلاح.

٧٥

فقال حيان : حين ينشغل العسكر بالحرب وتشتد المعركة. ففعلا كذلك ، فلما حمى الوطيس قابل حيان النبطى طرخون وقال : لقد ذهب عنك الملك وأنت لا تدرى! قال : وكيف؟ فقال : نحن نستطيع أن نبقى هنا ما دام الجو حارّا ، والجو الآن بارد وقد آن لنا أن نرحل ، وما دمنا هنا فإن هؤلاء الأتراك يحاربوننا ، فإذا ما ذهبنا من هنا يحاربونك لأن ولاية السغد مكان جميل ولا مثيل له فى الدنيا جمالا ، فكيف يتركون لك السغد ليرحلوا إلى التركستان؟ وتبقى فى عناء ويأخذون ملكك. فقال طرخون : وما حيلتى؟ قال : تعقد صلحا مع قتيبة وتعطيه شيئا وتظهر للترك بأنه قد وصل لنا جيش عظيم عن طريق كش ونخشب مددا من الحجاج ، وتقول لهم إنى عائد ليعودوا هم أيضا ؛ فإذا ما عقدت معنا الصلح وأخذت منا العهد لن نريد بك سوءا ولن نؤذيك وتخرج أنت من هذا العناء. فقال طرخون : لقد أحسنت نصحى ، فلأفعل هكذا ، سأعود الليلة. فلما أقبل الليل بعث طرخون بشخص إلى قتيبة واصطلح وأرسل مالا قدره ألفا درهم ونفخوا فى البوق وذهبوا ، فقال الدهاقين والأمراء ماذا حدث؟ فقال : حذار تنبهوا ـ فقد بعث الحجاج بعسكر عظيم من ناحية كش ونخشب ليأتوا من خلفنا ويحيطوا بنا ، وإنى عائد إلى ولايتى. فبعت كورمغانون التركى بشخص وسأل الخبر فأخبروه بهذه الحالة ، فنفخ هو أيضا فى البوق وعاد ، وكانوا ينهبون الولاية ويمضون ، فصرف الله تعالى هذا البلاء عن المسلمين. وقد بقى قتيبة فى شدة أربعة شهور لم تصل فيها أخباره هو وأصحابه إلى الحجاج ، وكان قلب الحجاج مشغولا من هذه الناحية وكانوا فى المساجد يتلون القرآن ويقيمون الختمات (١) ويدعون الدعوات ، وعاد قتيبة وأصحابه إلى بخارى. وكانت هذه المرة الرابعة التى جاء فيها إلى بخارى وحارب وأخذ الأموال ونهب جانبا من الولايات وقتل بعضا وأسر بعضا واسترقهم. فكان يذهب إلى مرو ويعود إلى ولاية بخارى حماها الله تعالى من جميع الآفات والبليات.

__________________

(١) أى يقيمون المجالس التى يقرأ فيها القرآن من أوله لآخره ، ويقال للمصحف بأكمله فى قرانا المصرية «الختمة» ويقرأ الريفيون كذلك القرآن كله فى بعض المناسبات ويقال فى ذلك إنهم عملوا ختمة أى سهروا ليلة قرأوا فيها القرآن من أوله لآخره ووزعوا الصدقات. وفى التركستان وأفغانستان وتركية والهند والحجاز يختم المسلمون القرآن فى ليالى شهر رمضان وهم يصلون صلاة التراويح وذلك فى أيام معدودات ويسمى ذلك «ختم» أيضا.

٧٦

ذكر فتح بخارى وظهور الإسلام فيها

روى محمد بن جعفر : أن زوج الخاتون أم طغشادة قد مات ، وكان ابنها الأمير بخار خداة صغيرا ، وكانت هذه الخاتون تتولى الملك ، وقد مر ذكرها مع عبيد الله بن زياد وسعيد بن عثمان بن عفان رضى الله عنهما ، وفى كل مرة كان عسكر الإسلام يأتى إلى بخارى ويغزو فى الصيف ويعود فى الشتاء ، وكانت هذه الخاتون تحارب كل من يأتى مدة ثم تصالحه.

ولما كان ابنها صغيرا فإن كل واحد من الأهل كان يطمع فى هذا الملك ، وكان بخار خداة قد استولى على بخارى بالحرب ، وكان أهل بخارى فى كل مرة يسلمون ثم يرتدون حين يعود العرب ، وكان قتيبة قد حملهم على الإسلام ثلاث مرات ثم عادوا فارتدوا وكفروا. وقد حارب قتيبة هذه المرة الرابعة واستولى على المدينة وأظهر الإسلام بعد عناء كبير وغرسه فى قلوبهم وشدد عليهم بكافة الطرق. وكانوا يقبلون الإسلام فى الظاهر ويعبدون الأصنام فى الباطن. فرأى قتيبة من الصواب أن يأمر أهل بخارى بأن يعطوا نصف بيوتهم للعرب ليقيموا معهم ويطلعوا على أحوالهم فيظلوا مسلمين بالضرورة ، فأظهر الإسلام بهذه الطريقة وألزمهم بأحكام الشريعة وبنى المساجد وأزال آثار الكفر ورسم المجوسية ، وكان يبذل فى ذلك جهدا عظيما ، ويعاقب كل من قصر فى أحكام الشريعة ، وبنى المسجد الجامع وأمر الناس بأداء صلاة الجمعة بما فى ذلك أهل بخارى فليجعل الله تعالى ثواب هذا الخير ذخيرة آخرته.

٧٧

ذكر بناء المسجد الجامع

بنى قتيبة المسجد الجامع داخل حصار (حصن) بخارى فى سنة أربع وتسعين (٧١٢ م) ، وكان ذلك الموضع بيت أصنام. فأمر أهل بخارى بأن يجتمعوا هنالك كل يوم جمعة ، فكان يأمر بمناد كل يوم جمعة يقول : بأن كل من يأتى لصلاة الجمعة أعطيه درهمين. وكان أهل بخارى فى أول الإسلام يقرأون القرآن فى الصلاة بالفارسية ، ولم يكونوا يستطيعون تعلم العربية. وحينما كان يحين وقت الركوع كان يقف وراءهم رجل يصيح فيهم «بكنيتا نكينت» (١) وحينما كانوا يريدون السجود. كان يصيح فيهم «نكونيا نكونى» (٢).

وقد ذكر محمد بن جعفر فى كتابه : أنه رأى مسجد بخارى الجامع وعليه أبواب ذات صور مكشوطة الوجه وقد ترك باقيها على حاله ، وقال : إنى سألت أستاذى من وضع هذه الأبواب أولا؟ وكان هناك رجل معمر فقال : سبب ذلك أنه كان يقال قديما بأنه كان خارج المدينة سبعمائة قصر كان يقيم بها الأغنياء وكانوا أكثر تمردا وأكثر الناس تخلفا عن الحضور إلى المسجد الجامع ، وكان الفقراء يرغبون فى الحصول على هذين الدرهمين ، ولكن الأغنياء لم يكونوا راغبين. وفى يوم جمعة ذهب المسلمون إلى أبواب تلك القصور ودعوهم إلى صلاة الجمعة وألحوا ، فكانوا (أى الأغنياء) يضربونهم بالحجارة من أسطح القصور ، فدارت الحرب وتغلب المسلمون ، واقتلعوا أبواب قصورهم وجاءوا بها ، وكان كل شخص قد نقش على تلك الأبواب صورة صنمه ، فلما اتسع المسجد الجامع استخدموا تلك الأبواب فيه ، وكشطوا وجوه الصور وتركوا بقيتها وأقاموها. ويقول أحمد بن محمد ابن نصر : قد بقى واحد من تلك الأبواب إلى اليوم فى ذلك الموضع الذى تنزل منه من السطح إلى باب المسجد الجامع حين تريد الذهاب إلى سراى أمير خراسان ، فتترك الباب الأول والباب الثانى من بقية تلك الأبواب ، وأثر الكشط ما يزال ظاهرا عليه. وذلك المسجد الذى فى داخل الحصار بناه قتيبة ، وكان الناس يصلون فيه ،

__________________

(١ ، ٢) هاتان العبارتان بلغة أهل بخارى ، ومفادهما طلب الركوع والسجود كما يفهم من السياق.

٧٨

فلما ازداد الإسلام ، وكانت رغبة الناس فى الإسلام تزداد كل يوم ، لم يتسع لهم ذلك المسجد إلى أن كان زمن الفضل بن يحيى بن خالد البرمكى (١) حين صار أمير خراسان فى زمن هارون الرشيد ، فتجمع أهل بخارى واتفقوا فيما بينهم وأنشأوا مصرف (٢) الحصار وبنوا بين الحصار والمدينة المسجد الجامع سنة مائة وأربع وخمسين (٧٧٠ م) وصلوا الجمعة فى مسجد الحصار الجامع. وحين بلى المسجد الجامع تعطل مسجد الحصار الجامع كذلك ، وصار ديوانا للخراج ، ولم يكن لأحد فى عمارة المسجد الكبير ما كان للفضل بن يحيى البرمكى من الأثر ، وقد أنفق عليه مالا كثيرا وكان كلّ بعد ذلك يزيد فيه ، حتى كان زمن الأمير إسماعيل السامانى رحمه الله ، فاشترى دورا كثيرة ، وزاد فى المسجد مقدار الثلث. وكان أول من أمر بقناديل فى المساجد فى شهر رمضان هو الفضل بن يحيى البرمكى هذا.

حكاية : روى أنه فى أيام الأمير السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل ، حين دخل الناس المسجد الجامع فى يوم جمعة من شهر رمضان انهار عليهم المسجد دفعة وهلك فيه خلق كثير وأقيم العزاء فى جميع المدينة وأخرج بعضهم وما يزال فيهم رمق ، وكانوا يموتون بعد فترة. وكان بعض آخر مكسور الأطراف ، وهلك خلق كثير فى عامة المدينة بحيث بقيت مدينة بخارى بعد ذلك خالية ثم صمد أهل المدينة وعاونهم كل من أتباع السلطان وقام بهذا العمل أبو ... (٣) القاضى رحمه الله ، حتى تم فى سنة واحدة ، ثم تهدم مرة أخرى فى العام التالى وانهار كل من جانبى القبلة ولكن لم يكن أناس هنالك ، فأعادوا عمارته. وقد أقام أبو عبيد الله بن

__________________

(١) هو أبو العباس الفضل بن يحيى بن خالد البرمكى (١٤٧ ه‍ ـ ١٩٣ ه‍ (٧٦٤ ـ ٨٠٨ م) أخو هارون الرشيد فى الرضاعة ، قلد منصب الوزارة قبل أخيه جعفر البرمكى ثم عين واليا على خراسان بعد أن تولى أخوه الوزارة ـ اشتهر بالعدل والجود فى خراسان وبنى فى مدينة بلخ مسجدا جامعا مكان بيت النار المسمى بنوبهار. سجنه هارون الرشيد مع والده يحيى بعد أن قتل أخاه جعفرا سنة ١٩٣ ه‍ / ٨٠٨ م ومات فى السجن أثناء التعذيب. (قاموس الأعلام ج ٥ ص ٣٤١٤ ـ لغات تاريخية وجغرافية ج ٥ ص ٢٠٤).

(٢) مكان يتجمع فيه الماء الفائض (باركين ـ Barguin).

(٣) هكذا فى الأصل فى كلا النسختين.

٧٩

الجيهانى (١) المنارة من خالص ماله فى مدة خمس سنوات سنة ست وثلثمائة (٩١٨ م) وكان وزير السلطان فى ذلك التاريخ.

وكان هذا المسجد الجامع متصلا بالحصار حتى آخر عهد إبرهيم بن طمغاج خان الذى تولى الملك وكان لطمغاج خان ابن آخر هو شمس الملك نصر بن إبرهيم (٢) ، فقصد بخارى ثم دعم حصارها. وحارب شمس الملك على باب حصار بخارى ، فكانوا يرمون الحصار بالسهام من فوق منارة المسجد الجامع ، وقاسى أهل الحصار من ذلك. فأمر شمس الملك بقذف النار من الحصار وكان رأس المنارة من الخشب فاحترق وامتدت الحرائق إلى المسجد الجامع فاحترق أيضا ، فلما استولى الملك شمس الملك على الحصار واستتب له ملك بخارى أمر ببناء المسجد الجامع ثانيا وبحفر خندق بين الحصار وبين المسجد ، وبنوا رأس المنارة من الآجر ، وأمر بإبعاد المقصورة والدار التى بها المقصورة عن الحصار. وقد قدم كل من الأشراف (٣) والأثرياء المعونة حتى تمت هذه العمارة ، وكان حريق المسجد الجامع فى سنة أربعمائة وستين (١٠٦٧ م) وتم بناؤه سنة أربعمائة وواحدة وستين (١٠٦٨ م). ويقول محمد بن أبى بكر سمعت من الثقات أن هذه المقصورة والمنبر والمحراب التى فى بخارى أمر الملك شمس الملك بنحتها فى سمرقند وقد نقشت وأحضرت إلى بخارى. وكان المسجد قائما على هذه الصفة حتى أيام أرسلان خان محمد ابن سليمان فأمر بإبعاد المسجد الجامع عن الحصار حتى لا يحدث خلل كما حدث فى زمان شمس الملك.

وقد اشترى أرسلان خان بيوتا كثيرة فى المدينة وأمر بأن يهدم من المسجد الجامع ما كان قريبا من الحصار ، وبهدم تلك المنارة التى كانت على مقربة من الحصار

__________________

(١) فى بعض النسخ أبو عبد الله الحيانى : حاشية مدرس رضوى طبع طهران ص ٥٩.

(٢) توفى شمس الملك سنة ٤٩٣ ه‍ ـ ١٠٩٩ م ، انظر حاشية ٢ ص ٤٨.

(٣) الأشراف ترجمة «خواجكان جويبارى» باصطلاح أهل بخارى. ولا يزال فى بخارى جماعة يسمون «خواجكان جويبارى» أى الأشراف الجويباريين يصلون أنسابهم بالحسين بن على رضى الله عنهما. وكان ملوك وأمراء بخارى يصاهرونهم إلى وقت قريب. وكلمة (خواجه) بالفارسية أيضا معناها السيد ويلقب بها سادة القوم مثل (خواجه نظام الملك) و (خواجه عبيد الله أحرار) و (خواجه حافظ شيرازى) وغيرهم من أهل العلم والشرف والدين والرياسة. وتنطق كلمة (خواجه) الفارسية (خاجه) بدون نطق الواو.

٨٠