تاريخ بخارى

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي

تاريخ بخارى

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي


المحقق: الدكتور أمين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر الطرازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٤

غنيّا ودهقانا كبيرا كان قد فر ، وبقى المعدمون والفقراء ، وعندما عاد هؤلاء القوم إلى بخارى دخل فى خدمتهم أولئك الفقراء ، وكان بينهم دهقان عظيم يسمى «بخار خداة» لكونه ابن دهقان كان يملك أكثر الضياع ، وكان أغلب هؤلاء الناس عبيده وخدامه.

وقد بنى «شير كشور» مدينة «بخارى» وقرى «مماستين» و «سقمتين» و «سمتين» و «فرب» (١) وحكم مدة عشرين سنة ، وعند ما تولى بعده ملك آخر بنى «اسكجكت» (٢) و «شرغ» و «رامتين» ثم قرية «فرخشى» (٣) ، وعند ما جىء بابنة ملك الصين عروسا إلى بخارى ، جاءوا فى جهازها بمعبد للأصنام من الصين ووضعوه برامتين.

وفى أيام خلافة أمير المؤمنين أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، سك النقد فى بخارى من الفضة الخالصة ، ولم يكن بها من قبل نقود فضية وقد فتحت بخارى أيام معاوية على يد قتيبة بن مسلم ؛ فولى «طغشادة» بخارى اثنين وثلاثين عاما من قبل قتيبة بن مسلم ، ولما قتله أبو مسلم فى سمرقند فى عهد نصر بن سيار أمير خراسان كان «طغشادة» قد حكم بعد قتيبة بن مسلم عشر سنوات (وقتله أبو مسلم رحمه الله) (٤) ثم ملك بعده أخوه «سكان بن طغشادة» سبع سنوات وقتل فى قصر

__________________

(١) جاء فى حاشية مدرس رضوى ص ٧ ما خلاصته : أن هذا الاسم ورد بجميع النسخ على هذه الصورة «فرب» وجاء فى برهان قاطع أنه اسم نهر عظيم ، والظاهر أنه «فربر» أو «فربر» بفتح الفاء أو كسرها وفتح الراء وسكون الباء هو الصحيح ، على ما ذكره السمعانى فى كتاب الأنساب ، وياقوت فى معجم البلدان (ح ٦ ص ٣٥٣) حيث قالا إن «فربر» مدينة صغيرة بين جيحون وبخارى على بعد فرسخ واحد من جيحون تعرف باسم «رباط طاهر بن على».

(٢) نص عبارة نسخة شيفر : «بعد از آن پادشاه ديكر كه شد اسكجكت نام ، شرغ ورامتين بنا كرد» ومعناها : ولما تولى بعده ملك آخر أسمه اسكجكت ، بنى شرغ ورامتين. وعبارة مدرس رضوى التى قمنا بترجمتها أصح لأن اسكجكت إحدى قرى بخارى.

(٣) فرخشى (فرخش)(Fara Khschi) (ديمزون)

فرخشا ـ بفتح أوله وثانيه وسكون الخاء المعجمة والشين وألف مقصورة ، من قرى بخارى

[ياقوت : معجم البلدان ج ٦ ص ٣٥٥]

فرخشى منسوب إلى «افرخش» بفتح الألف وسكون الفاء وفتح الراء وسكون الخاء المعجمة ثم الشين ، مخففة فرخش ، من قرى بخارى على بعد أربعة فراسخ [السمعانى : الأنساب].

(٤) هذه العبارة التى بين قوسين (...) مكررة فى الأصل وكررنا ترجمتها كذلك.

٢١

«فرخشى» على أثر ثورة بأمر الخليفة وذلك فى شهر رمضان حينما كان مشغولا بقراءة القرآن ، ودفن أيضا فى ذلك القصر وتولى بعده أخوه «بنيات بن طغشادة» الملك سبع سنوات وقتل بأمر الخليفة فى قصر «فرخشى» وسنذكر سبب ذلك بعد هذا ، وظلت بخاى بعده فى قبضة أبناء «طغشادة» وخدامه وأحفاده إلى عهد الأمير إسماعيل السامانى حيث خرج الملك من يد أبناء «بخار خداة» وسيأتى ذكره فيما بعد.

٢٢

ذكر سيدة (خاتون) كانت ملكة بخارى

وأولادها الذين تولوا الملك بعدها

يقول محمد بن جعفر : عند ما مات «بيدون بخار خداة (١)» ترك طفلا رضيعا اسمه «طغشادة» ، فجلست على العرش هذه الخاتون (السيدة) التى كانت أم الطفل ومكثت فى الحكم خمس عشرة سنة. وأخذ العرب يقصدون بخارى فى عهدها ، فكانت الخاتون فى كل مرة تعقد الصلح معهم وتعطيهم المال.

ويقال إنه لم يكن فى عصر من العصور من هو أصوب رأيا منها ، فكانت تحكم بصائب الرأى وينقاد لها الناس. وكان من عادتها أن تخرج كل يوم من حصن بخارى على ظهر جوادها وتقف على باب «ريكستان» وقد سمى هذا الباب بباب العلافين (دروازه علف فروشان) حيث كانت تجلس على تخت وأمامها الغلمان والخصيان والأشراف والحشم.

وكانت قد فرضت على أهل الرستاق أن يجىء لخدمتها مائتا شاب من الدهاقين والأمراء متمنطقين بمناطق ذهبية ويحملون السيوف ويقفون من بعيد ، وعند خروج الخاتون كانوا يحيونها ويقفون فى صفين وهى تنظر فى أمور المملكة وتأمر وتنهى وتخلع على من تريد وتعاقب من تريد وتظل هكذا من الصباح إلى الضحى ثم تعود إلى الحصن وترسل الموائد وتطعم جميع الخدم والحشم.

وعند ما يأتى المساء كانت تخرج على هذه الصورة وتجلس على التخت وقد اصطف أمامها الدهاقين والأمراء فى صفين للتحية ، وذلك إلى غروب الشمس وحينئذ تقوم وتركب وتذهب إلى القصر ، ويذهب هؤلاء إلى موطنهم فى الرستاق.

وفى اليوم التالى يأتى قوم آخرون للخدمة بنفس الطريقة وهكذا دواليك حتى تأتى

__________________

(١) بخار خداة : لقب ملوك بخارى.

٢٣

النوبة على هؤلاء القوم (ثانية) ، وكان يتحتم على كل منهم أن يجىء فى العام أربعة أيام على هذا المنوال.

فلما توفيت هذه الخاتون كان ابنها «طغشادة» قد كبر واستأهل الملك بينما كان الكل يطمع فى هذا الملك.

وقد كان ثمة وزير أصله من التركستان يسمى «وردان خداة» وكانت له إمرة «وردانة» وقد خاض معه قتيبة (١) حروبا كثيرة إلى أن مات «وردان خداة» هذا ، واستولى قتيبة على بخارى بعد أن أخرج «وردان خداة» مرارا من هذه الولاية حتى هرب إلى التركستان. فأعطى قتيبة بخارى لطغشادة ثانية وأجلسه على العرش وصفا له الملك وكف عنه أيدى جميع أعدائه.

وكان «طغشادة» قد أسلم على يد قتيبة وظل يحكم بخارى طيلة حياة قتيبة ، كما بقى ملك بخارى فى يده بعد قتيبة فى عهد نصر بن سيار. فملك بخارى اثنين وثلاثين عاما ، وأنجب طغشادة وهو فى الإسلام ولدا أسماه قتيبة محبة فى قتيبة بن مسلم ، فأجلس قتيبة هذا على عرش والده وبقى على الإسلام مدة إلى أن ارتد فى زمان أبى مسلم رحمه الله ، فعلم أبو مسلم بذلك وقتله وأهلك أخاه كذلك مع أهله ، وبعد ذلك صار «بنيات بن طغشادة» ملكا على بخارى وكان قد ولد فى الإسلام وظل عليه مدة. فلما ظهر «المقنع» وظهرت فتنة المبيّضة أى ذوى الأردية البيضاء (سپيدجا مكان) فى رستاق بخارى مال إليهم «بنيات» وأعامهم حتى طالت أيديهم وتغلبوا ، فأخبر صاحب البريد الخليفة ، وكان الخليفة إذ ذاك «المهدى». ولما فرغ المهدى من أمر المقنع والمبيضة أرسل الفرسان ، وكان بنيات جالسا فى قصر «فرخشى» يحتسى الشراب فى المجلس وينظر من الشرفة ، فرأى الفرسان قادمين من بعيد ، فأدرك بالفراسة على الفور أنهم من قبل الخليفة ، وبينا كان يتدبر الأمر إذ بهم وصلوا وسلوا السيوف دون أن يتكلموا وضربوا رأسه وذلك

__________________

(١) أى القائد العربى الأمير قتيبة بن مسلم الباهلى ، استشهد سنة ٩٦ ه‍ (٧١٤ م) ، انظر تعليقنا عليه بصفحة ٦٩ حاشية ١.

٢٤

فى عام مائة وستة وستين من الهجرة ٧٨٢ م وفر قومه كلهم وعاد هؤلاء الفرسان أجمعين.

وعند ما قتل أبو مسلم (١) قتيبة بن طغشادة بسبب ارتداده عن الإسلام وقتل كذلك أخاه وأهل بيته ، أعطى ضياعه ومستغلاته لبنيات بن طغشادة الذى ظلت معه حتى عصر الأمير إسماعيل السامانى.

فلما ارتد بنيات وقتل ، ظلت تلك الضياع فى يد أولاد بخار خداة. وكان آخر من خرجت من يده هذه الأملاك (٢) هو أبو إسحق إبرهيم بن خالد بن بنيات.

وكان إبرهيم يقيم فى بخارى والأملاك فى يده ويرسل كل عام بالخراج والغلات من ناحية ما وراء النهر (٣) إلى أخيه نصر ليبعث بها إلى أمير المؤمنين المقتدر (٤).

__________________

(١) هو أبو مسلم (عبد الله بن مسلم) الخراسانى (١٠٨ ـ ١٣٧ ه‍. / ٧٢٦ ـ ٧٥٥ م.) من أعظم دعاة العباسية وقادتهم ، اختلف فى نسبه وأصله وحقيقته ، ويبدو أنه كان مولى فارسيا (خراسانيا). أدخله فى خدمته الإمام إبرهيم بن محمد بن على العباسى وكناه بأبى مسلم وندبه للدعوة للعباسيين فى خراسان ، فأظهر قدرة فائقة واستغل تذمر الموالى وانقسام العرب القبلى ومنازعاتهم وانتشار العقائد المتطرفة ، فجمع جمهورا كبيرا من خراسان وبلاد ما وراء النهر واستولى على مرو سنة ٧٤٧ م. (١٣٠ ه‍) وعلى نيسابور فى السنة التالية ودخل الكوفة سنة ٧٤٩ م (١٣٢ ه‍) حيث بويع السفاح خليفة سنة ٧٥٠ م. (١٣٣ ه‍.) وعظم مركز أبى مسلم بنجاحه ، فرأى فيه المنصور العباسى خطرا عليه فقتله سنة ٧٥٥ م.

(١٣٧ ه‍.). [قاموس الأعلام ، والموسوعة العربية الميسرة]

(٢) وردت بالنص كلمة «مملكت» بمعنى الأملاك والملك بكسر الميم كما يستفاد من السياق.

(٣) ماوراء النهر (ـ پاردريا (Par ـ Daria) ، ترانسوكسيانا (Trans Oxiane) اسم أطلق على الولايات الواقعة شمال مجرى نهر جيحون (Oxus) وتشتمل على السغد (الصغد) وفرغانة والشاش (چاچ) وأشر وسنة وغيرها من الولايات والمدن وهى جزء من التركستان الغربية يضم جمهورية أوزبيكستان وجمهورية تاجيكستان الحالية وقد وصفها الجغرافيون العرب بالجمال وخصوبة الأراضى وقال بعضهم إنها جنة الله على الأرض ، كما أشادوا بكرم أهلها وخدماتهم التى قدموها للإسلام والعلم. يقول ياقوت فى معجم البلدان ج ٧ ص ٣٧٠ ـ ٣٧٣ فى تحديد موقعها «يراد به ماوراء نهر جيحون بخراسان ، فما كان فى شرقيه يقال له بلاد الهياطلة وفى الإسلام سموه ماوراء النهر ، وما كان غربيه فهو خراسان وخوارزم.

وقد تم فتح ماوراء النهر على يد العرب فى القرن الأول الهجرى ، فأسلم أهلها عن يقين وإيمان ثم جاهدوا فى سبيل الله والدين وقدم علماؤهم خدمات علمية جليلة.

(٤) المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ـ الخليفة الثامن عشر من خلفاء العباسيين (٢٨٢ ـ ٣٢٠ ه‍. / ٨٩٥ ـ ٩٣٢ م).

٢٥

وقد انتزع الأمير إسماعيل السامانى هذه الضياع والمستغلات من يده لأن أحمد بن محمد الليث الذى كان صاحب الشرطة قال ذات يوم للأمير :

أيها الأمير ـ ممن آلت هذه الضياع بهذا الحسن وكثرة الغلات إلى أبى إسحق؟ فقال الأمير إسماعيل السامانى : إن هذه الضياع ليست ملكه بل هى أملاك سلطانية. فقال أحمد بن محمد الليث : إنها أملاكهم ولكن الخليفة انتزعها من أيديهم بسبب ردة أبيهم وصيرها ملك بيت المال ، ثم عاد فأعطاها له على سبيل الأجر والجامكية وهو لا يقوم بالخدمة كما يجب ويرى هذه الضياع ملكا له.

وبينما كانوا فى هذا الحديث إذ دخل أبو إسحق بن إبرهيم ، فقال له الأمير إسماعيل السامانى : يا أبا إسحق ـ ما مقدار ما يعود عليك كل عام من الغلة من هذه الضياع؟. فقال أبو إسحق : تغل كل عام عشرين ألف درهم بعد كثير من التعب والتكلف. فأمر الأمير إسماعيل أحمد بن محمد الليث قائلا : خذ هذا الموضع وقل لأبى الحسن العارض أن يعطيه كل عام عشرين ألف درهم. وبهذا خرجت هذه الضياع من يده ولم تعد إليه.

وقد توفى أبو إسحق سنة إحدى وثلثمائة (٩٢٣ م) وبقى أولاده فى قريتى «سفنة» و «سيونج».

٢٦

ذكر بخارى وملحقاتها

ذكر أبو الحسن النيسابورى فى كتابه «خزائن العلوم» أن مدينة بخارى من جملة مدن خراسان (١) ، ولو أن نهر جيحون (٢) يقع بينهما. و «كرمينة» (٣) من رساتيق بخارى وماؤها من ماء بخارى وخراجها من خراج بخارى ولها رستاق على حدة ، وبها مسجد جامع ، وقد كان فيها أدباء وشعراء كثيرون ، وقد سميت «كرمينة» قديما ب «بادية خردك» ومن بخارى إلى كرمينة أربعة عشر فرسخا.

و «نور» مكان عظيم وفيها مسجد جامع وأربطة كثيرة ، ويذهب إليها كل عام أهل بخارى والأماكن الأخرى للزيارة.

ويغالى أهل بخارى فى هذا الأمر فيرون أن من يذهب لزيارة «نور» تكون له فضيلة الحج ، وحينما يعود يزينون له المدينة بالأقواس لعودته من ذلك المكان المبارك. وتسمى «نور» هذه فى الولايات الأخرى بنور بخارى وقد دفن فيها كثير من التابعين ، رضى الله عنهم أجمعين إلى يوم الدين.

ثم «طوايسة» (٤) واسمها «أرقود» وكان بها قوم منعمون مترفون ، وفى بيت كل منهم طاووس أو طاووسان من باب الترف ، ولم يكن العرب قد رأوا الطاووس

__________________

(١) انظر حاشية ص ١٧.

(٢) جيحون : بالفتح وهو اسم أعجمى ... وقال حمزة أصل اسم جيحون بالفارسية حرون وهو اسم وادى خراسان على وسط مدينة يقال لها «جيهان» فنسبه الناس إليها وقالوا «جيحون» على عادتهم فى قلب الألفاظ [ياقوت : معجم البلدان ج ٣ ص ١٨٧ ـ ١٨٨]. وعرف نهر جيحون باسم (Oxus) أوكسوس لدى الفرنجة كما يسمى الآن «آمودريا» أى نهر آمو.

(٣) كرمينية : بالفتح ثم السكون وكسر الميم وياء مثناه من تحت ساكنه ونون مكسورة وياء أخرى مفتوحة خفيفة ـ وهى بلدة من نواحى الصغد كثيرة الأشجار والثمار بين سمرقند وبخارى ، بينها وبين بخارى ثمانية عشر فرسخا.

[ياقوت : معجم البلدان ج ٧ ص ٢٤٥]

(٤) فى نسخة مدرس رضوى (طوايس) وذكر فى حاشيتها أن ياقوت والسمعانى كلاهما ضبطاها (طواويس) جمع طاوس طبق القاعدة العربية.

[انظر معجم البلدان ج ٦ ص ٦٦].

٢٧

قبل ذلك ، فلما رأوا هنالك طواويس كثيرة ، سموا تلك القرية بذات الطوايس (الطواويس) ، وقد زال اسمها الأصلى وتركوا بعد ذلك كلمة «ذات» أيضا وقالوا «طوايس». وفيها مسجد جامع ولها سور عظيم ، وفى قديم الأيام كانت هناك سوق من تقاليدها أن تباع بها سنويّا لمدة عشرة أيام من فصل الخريف بقايا السلع المعيبة من رقيق ودواب وغير ذلك من متخلفات معيبة أخرى ، ولم يكن فى الإمكان ردها ثانية أو قبول أى شرط للبائع والمشترى. وكان يحضر هذه السوق أكثر من عشرة آلاف من التجار وأصحاب الحوائج من «فرغانة» (١) و «الشاش» (٢) وأماكن أخرى ، ويعودون بأرباح طائلة. ولهذا كان أهل هذه القرية أغنياء ، ولم تكن الزراعة سبب غناهم. وهى تقع على الطريق الرئيسى إلى سمرقند وتبعد عن بخارى سبعة فراسخ.

«اسكجكت» (٣) : لها خندق عظيم وكان بها قوم أغنياء ، ولم تكن الزراعة مصدر ثرائهم ، لأن ضياع تلك القرية من خربة ومعمورة تبلغ ألف «جفت» (٤)

__________________

(١) فرغانه (Farghana) : ولاية كبيرة فى التركستان كانت عاصمتها مدينة «خوقند» وكانت تابعة لخانات خوقند قبل استيلاء الروس عليها ، وهى الآن أهم مقاطعة فى جمهورية أوزبيكستان. وكانت فرغانة مسقط رأس علماء أجلاء فى الإسلام مثل أحمد بن كثير الفرغانى الذى يعرف لدى الأوربيين باسم (Al ـ Fragan ,Alfraganius) عاش الفرغانى فى عهد الخليفة المتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍. / ٨٤٦ ـ ٨٦١ م.) فى بغداد وله أثر خالد فى علم الهيئة وهو الذى أنشأ المقياس الجديد للنيل فى مصر (انظر معجم البلدان ج ٦ ص ٣٦٤ وقاموس الأعلام ج ٥).

(٢) الشاش (Schach) أو «چاچ» (Tchatch) ـ هى فى الأغلب مدينة طشقند فى التركستان الغربية كما يفهم من وصف الجغرافيين العرب وكانت مسقط رأس علماء أجلاء منهم : أبو بكر محمد بن على ابن إسماعيل القفال الشاشى المتوفى ٣٦٦ ه‍. (٩٧٦ م) [معجم البلدان ج ٥ ص ٢١٢ ـ ٢١٤]. ومدينة طشقند الآن عاصمة لجمهورية أوزبيكستان السوفييتية ، وهى تقع على نهر چرچق (Tchirtchik) (نهر الشاس القديمة) من رواند سيردريا (سيحون).

(٣) ذكر مدرس رضوى فى حاشية ص ١٥ نقلا عن كتاب الأنساب للسمعانى : «سكجكث» بكسر السين المهملة والجيم بين الكافين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وفى آخرها ثاء مثلثة قرية على بعد أربعة فراسخ من بخارى على طريق سمرقند ،

(٤) بالتركية «چفت» وتنطق تشفت (Tcheft) ومن معانيها بالتركية مزرعة وكانت تسمى قديما بمصر «شفلك» وتجمع على «شفالك» ، وعرفت فيما بعد بالتفتيش أى المزرعة أو الضيعة. وهى هنا «وحدة مساحية» انظر حاشية ٤ ص ٥٠.

٢٨

وكان كل أهلها تجارا ويكثر بها «الكرباس» (١).

وكانت تقام بها السوق كل يوم خميس ، وتلك القرية من جملة الأملاك السلطانية الخاصة (٢) وكان أبو أحمد الموفق بالله قد أقطع تلك القرية محمد ابن طاهر أمير خراسان ثم باعها إلى سهل بن أحمد الداغونى البخارى وأخذ الثمن ، وبنى (الداغونى) فيها حماما وقصرا عظيما فى زاوية على ضفاف النهر وظلت بقية ذلك القصر إلى زماننا ، ويسمى بقصر الداغونى ، وقد هدمت مياه النهر ذلك القصر.

وكان لسهل بن أحمد الداغونى هذا أتاوة عل أهل «أسكجكت» مقدارها عشرة آلاف درهم سنويّا مقسمة على بيوتها ، وقد منعت الأتاوة من هذه القرية لمدة سنتين أو ثلاث ، فرجعوا إلى السلطان وطلبوا منه العون ، وأخرج ورثة سهل ابن أحمد قبالة (٣) فى أيام (الأمير) إسماعيل السامانى ، فرأى القبالة صحيحة ، ولكن الخصومة كانت قد طال بها العهد ، فتوسط سادة المدينة وصالحوا أهل القرية وورثة الداغونى على مائة وسبعين ألف درهم. وقد اشترى أهل هذه القرية قريتهم هذه ، فرفعت عنهم تلك الإتاوة ، ودفعوا ذلك المال. ولم يكن بهذه القرية مسجد جامع قط حتى كان فى أيام الملك شمس الملك نصر بن إبرهيم بن طمغاج خان ، سيد من أهل هذه القرية يقال له «خوان سالار» (٤) وكان رجلا محتشما كثير العشيرة ومن جملة عمال السلطان ، فبنى مسجدا جامعا فى غاية الرواء من خالص ماله ، وأنفق عليه مالا طائلا وأقام به صلاة الجمعة.

يقول أحمد بن محمد بن نصر : أخبرنى خطيب «شرغ» أنهم لم يقيموا فى ذلك المسجد الجامع غير صلاة جمعة واحدة ، ولم يسمح أئمة بخارى بعد ذلك ولم يجيزوا

__________________

(١) الكرباس نوع من القماش الخشن المنسوج من القطن كالدمور.

(٢) فى نسخة مدرس رضوى : وآن ديهه أزحمله خاصه مملكه سلطان نيست والمعنى : وتلك القرية ليست من جملة أملاك السلطان الخاصة.

(٣) قباله ـ وثيقة.

(٤) هذه الكلمة تقرأ «خان سالار».

٢٩

أن تقام هنالك صلاة جمعة ، وقد تعطل هذا المسجد الجامع إلى أن صار «قدر خان جبرئيل بن عمر بن طغرل خان» أميرا على بخارى وكان اسمه طغرل بيك ولقبه كولارتكين ، فاشترى أخشاب ذلك المسجد من ورثة «خوان سالار» وهدمه وجاء بالأخشاب إلى مدينة بخارى ، وبنى مدرسة بقرب سويقة البقالين (چوبه بقالان) استخدم فيها تلك الأخشاب وأنفق مالا لا حد له ، وتسمى تلك المدرسة بمدرسة كولارتكين وبها تربة الأمير.

و «شرغ» (١) تقع مقابل «اسكجكت» ولا يوجد بينهما أى بستان أو أرض خالية سوى نهر عظيم يقال له نهر «سامجن» ويسمى اليوم نهر «شرغ» ويسميه بعض الناس «حرام كام». وكان على هذا النهر جسر عظيم بين كلا القريتين.

ولم يكن فى «شرغ» هذه فى أى وقت مسجد جامع ، وقد بنى ذلك الجسر بغاية الإحكام من الآجر فى أيام أرسلان خان محمد بن سليمان بناء على أمره وبنوا مسجدا جامعا من ماله الخاص ، وقد أمر ببناء رباط للغرباء بجانب «اسكجكت». ولهذه القرية قلعة كبيرة يمكن أن تقارن بمدينة لعظمتها. وقد ذكر محمد بن جعفر أنه كان لهم قديما سوق وكانوا يجيئون كل سنة من الولايات البعيدة ويتاجرون ويبيعون عشرة أيام وسط الشتاء ، وكان أكثر ما ينتج هناك الحلوى المحشوة المصنوعة من الدوشاب (٢) والقنطارى (٣) والأخشاب والسمك المملح والطازج وفراء الخراف والحملان. وكانت التجارة رائجة وأما اليوم فى زماننا فتقام السوق كل يوم جمعة ويقصدها التجار من المدينة ونواحيها. ومن حاصلات تلك القرية التى يحملها التجار اليوم إلى الولايات الروى (٤) والكرباس (٥).

__________________

(١) شرغ : بفتح أوله وسكون ثانيه وغين معجمة ، وهو تعريب «چرغ» وهى قرية كبيرة قرب بخارى ينسب إليها قوم من أهل العلم قديما وحديثا. [ياقوت معجم البلدان ج ٥ ص ٢٥٣]

(٢) الدوشاب هو الرب ، والرب عصارة التمر المطبوخة وما يطبخ من التمر والعنب.

(٣) القنطارى أو القنطاريون حشيشة مرة الطعم مقوية للمعدة وهى من الدخيل [المنجد].

(٤) الروى : نوع من الفلزات الصلبة أبيض يميل إلى الزرقة ويصهر مع غيره من المعادن فى الصناعة [برهان قاطع].

(٥) نوع من النسيج القطنى الخشن يشبه الدمور.

٣٠

وروى محمد بن جعفر ، أن الأمير إسماعيل السامانى رحمه الله اشترى هذه القرية وجميع ضياعها وعقاراتها وأوقفها كلها على رباط كان قد بناه بباب سمرقند داخل مدينة بخارى ، وذلك الرباط وتلك الأوقاف أيضا غير موجودة اليوم. وكانت شرغ واسكجكت هاتان أجمل قرى بخارى حماها الله تعالى.

«زندنه (١)» : بها حصن كبير وأسواق كثيرة ومسجد جامع ، وهناك تؤدى الصلاة وتقام السوق كل يوم جمعة وما ينتج بها يقال له ال «زندنيجى» وهو الكرباس أى من قرية زندنة ، وهو جيد وموفور أيضا وينسج ذلك الكرباس فى كثير من قرى بخارى ويسمى الزندنيجى أيضا لأنه ظهر أول الأمر فى تلك القرية. ويحمل من ذلك الكرباس إلى جميع الولايات مثل العراق وفارس وكرمان (٢) والهند وغيرها ويتخذ منه جميع العظماء والملوك ثيابا ويشترونه بثمن الديباج ، عمرها الله.

«وردانه» (٣) : قرية كبيرة ذات قلعة وسور عظيم ومتين ، وكانت منذ القدم مقر الملوك وليس فيها الآن مقر الملك ، وهى أقدم من مدينة بخارى ، بناها الملك شاهپور ، وهى حد التركستان. وكانت تقام هناك سوق يوما فى كل أسبوع وكانت التجارة فيها رائجة ، ومن حاصلانها الزندنيجى الجيد.

«أفشنه» (٤) لها قلعة كبيرة وسور محكم وتتبعها عدة نواح ، ويقام بها السوق

__________________

(١) زندنه : بفتح أوله وسكون ثانيه ودال مهملة مفتوحة ونون. قرية كبيرة من قرى بخارى بماوراء النهر بينها وبين بخارى أربعة فراسخ فى شمال المدينة ... وإلى هذه القرية تنسب الثياب الزندنيجية بزيادة الجيم وهى ثياب مشهورة.

[ياقوت : معجم البلدان ج ٤ ص ٤١٠].

(٢) كرمان ، بالفتح ثم السكون وآخره نون وربما كسرت والفتح أشهر وأصح ، ولاية كبيرة فى جنوب شرق إيران ، تحدها غربا فارس وشمالا عراق العجم وخراسان وشرقا سيستان وبلوچستان وجنوبا بحر فارس وخليج هرمز وبحر عمان (ش. سامى : قاموس الأعلام ج ٥ ص ٣٨٤٨) وانظر معجم البلدان ج ٧ ص ٢٤١ ـ ٢٤٤.

(٣) وردانه : من قرى بخارى ، كذا ضبطه العمرانى وحققه أبو سعيد ، وينسب إليها إدريس بن عبد العزيز الوردانى ، يروى عن عيسى بن غنجار وغيره ، روى عنه ابنه أبو عمرو. [ياقوت : معجم البلدان ج ٨ ص ٤١٤].

(٤) أفشنه : بفتح الهمزة وسكون الفاء والشين معجمة مفتوحة ونون وهاء : من قرى بخارى.

[ياقوت : معجم البلدان ج ١ ص ٣٠٥]

٣١

يوما فى كل أسبوع ، وضياع وفلوات هذه القرية وقف على طلاب العلم ، وقد بنى قتيبة بن مسلم هنالك مسجدا جامعا ، كما بنى محمد بن واسع أيضا مسجدا ، والدعاء فيه مستجاب ويقصده الناس من المدينة ويتبركون به.

«بركد» (١) : قرية قديمة وكبيرة ولها حصن عظيم وتسمى هذه القرية «بركد علويان» لأن الأمير إسماعيل السامانى اشتراها وأوقف عشر حصص (٢) منها على العلويين وحصتين على دراويش بخارى وحصتين على ورثته.

«راميتن» (٣) : ذات حصن كبير وهى قرية محكمة أقدم من مدينة بخارى ، وقد سميت هذه القرية فى بعض الكتب بخارى ، وهى مقام الملوك من قديم الزمان ، وبعد أن أصبحت بخارى مدينة كان الملوك يشتون فى هذه القرية وظلت كذلك فى الإسلام. وحين وصل أبو مسلم رحمه الله إلى بخارى أقام بهذه القرية ، وقد بناها أفراسياب (٤) ، وكان أفراسياب لا يقيم بمكان آخر غير هذه القرية حين كان يأتى إلى هذه الولاية. وقد ذكر فى كتب الفرس أنه عاش ألفى سنة ، وكان رجلا ساحرا من أبناء الملك نوح ، وقد قتل صهره سياوش (٥) ، وكان لسياوش ابن يسمى

__________________

(١) بركد : «بفتح الباء وسكون الراء وفتح الكاف وفى آخرها دال ، قرية من قرى بخارى» [السمعانى : كتاب الأنساب]. «من قرى بخارى ... ينسب إليها أبو جعفر محمد بن أحمد بن موسى بن سلام البركدى القاضى مات فى ذى الحجة سنة تسع وثمانين وثلاثمائة» (٩٩٨ ه‍).

[ياقوت ١ معجم البلدان ح ٢ ص ١٤٩].

(٢) فى نسخة مدرس رضوى «دودانك» أى حصتان أو سهمان.

(٣) راميتن : هكذا فى النسختين ولكن ياقوت ذكرها هكذا : راميثن ـ بكسر الميم وسكون الياء وثاء مثلثة وآخره نون ، قرية ببخارى ... ينسب إليها روح بن المستنير أبو إبرهيم الراميثنى البخارى.

[معجم البلدان ج ٤ ص ٢١٣]

(٤) أفراسياب هو ملك الترك وبطلهم فى الشاهنامة وقد خاض عدة حروب ضد الإيرانيين وحارب رستم البطل الإيرانى وأكبر أبطال الشاهنامة مرات هزم فيها جميعا وقتل آخر الأمر على يد رستم فى عهد الملك كيخسرو ابن سياوش.

(٥) سياوش وسياوخش : ابن الملك الأسطورى كيكاوس ملك إيران وقد أحبته سودابة زوج أبيه وراودته فأبى وكادت له وثبتت براءته وذات يوم غضب من أبيه كيكاوس ولجأ إلى أفراسياب ملك الترك فرحب به وزوجه ابنته فرنكيس أو فركيس ثم فسد ما بينهما بسعاية أخى أفراسياب فقتله.

٣٢

٣٣
٣٤

كيخسرو وقد قدم هذه الولاية فى عسكر عظيم طلبا لثأر والده ، وقد أحاط أفراسياب قرية راميتن هذه بسور ورابط كيخسرو بعسكره حول هذا السور سنتين وبنى إزاءها قرية وسمى تلك القرية «رامش» (١) وسميت رامش لطيبها. وما تزال هذه القرية حتى الآن معمورة. وبنى فى قرية رامش بيت نار يقول المجوس إنه أقدم من بيت نار بخارى. وقد قبض كيخسرو بعد عامين على أفراسياب وقتله. وقبر أفراسياب فى مدخل مدينة بخارى بباب المعبد فوق ذلك التل الكبير المتصل بتل السيد الإمام أبى حفص الكبير رحمه الله. ولأهل بخارى فى مقتل سياوش أغان عجيبة ويسميها المطربون ثأرسياوش (٢). ويقول محمد بن جعفر إنه مضت ثلاثة آلاف سنة من هذا التاريخ. والله أعلم.

«ورخشه» (٣) : من جملة القرى الكبيرة ، وكانت مثل بخارى وأقدم منها وقد كتب فى بعض النسخ «رجفندون» بدل «ورخشه» وكانت مقر الملوك وذات سور محكم ، وقد حاصرها الملوك مرات ، وكان لها ربض مثل ربض مدينة بخارى ، ولرجفندون أو ورخشة اثنا عشر جدولا هى فى داخل سور بخارى وكان بها قصر عامر يضرب به المثل فى حسنه وقد بناه بخار خداة (٤) ، وقد مضى على بناء ذلك القصر أكثر من ألف سنة وكان قد تخرب وتعطل سنين طويلة ثم عمره «خنك خداة» ثم تخرب ، ثم عمره بنيات بن طغشادة بخار خداة فى الإسلام وجعله مقرّا له حتى قتل فيه.

وقد دعى الأمير إسماعيل السامانى رحمه الله تعالى أهالى تلك القرية وقال لهم :

__________________

(١) رامش معناها الراحة والهدوء أو الاستقرار.

(٢) «كين سياوش».

(٣) ورخشه ذكرت أيضا على شكل فرخشه ، ورخشى ، برخشى وكما ذكرها الإصطخرى هى أول منزل ينزل فيه المسافر عند ما يريد السفر من بخارى إلى خوارزم.

[معجم البلدان ج ٨ ص ٣٣٨].

أما ژ. ژ. پ ديميزون (J.J.P.Desmaisons) فقد أوردها فى المجلد الرابع من معجمه» Dictionnaire Persan ـ Francais «ص ٢٠٢ نقلا عن فرهنك شعورى كالآتى : ورخش (Varkhach) اسم مدينة بولاية بلخ.

(٤) لقب ملوك بخارى.

٣٥

إنى أعطيكم عشرين ألف درهم وأخشابا وأهدمه ، وبعض العمارة قائم فاجعلوا أنتم هذا القصر مسجدا جامعا ، فلم يقبل أهالى تلك القرية وقالوا : لا يستقيم بناء مسجد جامع فى قريتنا ولا يجوز ، وكان هذا القصر قائما حتى عصر الأمير أحمد بن نوح ابن نصر السامانى. فأتى بأخشاب هذا القصر إلى المدينة واشتغل بتعمير بيته الذى كان على باب سور بخارى. ولهذه القرية سوق كل خمسة عشر يوما وحين يكون السوق آخر العام يجعلونه عشرين يوما ، وفى اليوم الحادى رالعشرين يحتفلون ب «النوروز» (١) ويسمونه نوروز الفلاحين ولذلك يحافظ فلاحو بخارى على حسبانه ويعتمدون عليه ، ويقع نوروز المجوس بعده بخمسة أيام.

واعتبرت «بيكند» (٢) من جملة المدن ولم يرض أهل بيكند بأن يسمى أحد بيكند قرية ، وإذا ذهب أحد أهل بيكند إلى بغداد وسئل من أين أنت؟ قال من بيكند. ولا يقول بخارى. وهى ذات مسجد جامع كبير وأبنية عالية. وكان على بابها أربطة كثيرة حتى سنة أربعين ومائتين (٨٥٤ م). وقد روى محمد ابن جعفر فى كتابه أنه كان لبيكند أكثر من ألف رباط بتعداد قرى بخارى ، وكان سبب ذلك أن بيكند مكان عظيم جميل ، وقد بنى أهل كل قرية هناك رباطا وأقاموا به جماعة وبعثوا بنفقاتهم من القرية.

وفى فصل الشتاء وهو وقت غلبة الكفار ، كان يتجمع هنالك من كل قرية جمع غفير للغزو ، وينزل كل قوم برباطهم ، وكان أهل بيكند جميعا تجارا يتجرون مع الصين ويركبون البحر وكانوا أغنياء جدّا وقد لقى قتيبة بن مسلم عنتا

__________________

(١) نوروز ـ كلمة فارسية معناها اليوم الجديد وتطلق على أكبر أعياد الفرس وهو عيد الربيع ويبدأ مع بداية السنة الفارسية الشمسية وأولها شهر «فروردين» وقد سن سنة هذا العيد الملك الأسطورى جمشيد الذى يشبه فى الأساطير الفارسية من وجوه كثيرة سليمان عليه السلام من حيث بسطة الملك وسلطانه على الإنس والجن والثراء العريض. وتقول الأسطورة إن هذا الملك فسق فى أخريات أيامه عن أمر ربه وادعى الربوبية فسلط الله عليه الضحاك الحميرى فقتله واستولى على ملكه ألف عام.

(٢) بيكند ـ بالكسر وفتح الكاف وسكون النون ، بلدة بين بخارى وجيحون على بعد ٤٤ كيلومترا من بخارى. كانت عاصمة لماوراء النهر فترة من الزمن [ش. سامى : قاموس الأعلام ج ٣ ص ١٤٤٣].

وهكذا فى معجم البلدان ج ٢ ص ٣٣٩.

٣٦

شديدا فى الاستيلاء عليها لأنها كانت فى غاية الحصانة ، وكانت تسمى «المدينة الصفرية» (١). وهى أقدم من مدينة بخارى ، وقد اتخذها كل ملك فى هذه الولاية مقاما له. وبين فرب (٢) وبيكند بيداء رملية تمتد اثنى عشر فرسخا ، وقد عمر أرسلان خان محمد بن سليمان فى أيامه بيكند وجمع فيها الناس ، وبنوا عمارات جميلة. وبنى الخاقان لنفسه دارا بالغة التكاليف يمر بها نهر «حرام كام» ويتصل ببيكند مقاصب (٣) ومستنقعات عظيمة يقال لها «باركين فراخ» (٤) وتسمى أيضا «قراكول» (٥) وقد سمعت من رجال موثقين أن مساحتها عشرون فرسخا.

وروى فى كتاب المسالك والممالك أنها تسمى «بحيرة سامجن» ويتجمع هنالك فائض نهر بخارى (٦) ويوجد بها حيوانات مائية ولا يحصل من خراسان على كل هذا القدر من الطيور والسمك الذى يحصل عليه هنالك. وأمر أرسلان خان بحفر ترعة على حدة لبيكند بحيث يصل ماؤها إلى عين عماراتها ، لأن ماء «حرام كام» كان يصل حينا وحينا لا يصل.

وتقع بيكند على جبل ولكنه قليل الارتفاع ، وأمر الخاقان بحفر ترعة فى الجبل ، وقد بدا الصخر فى غاية الاندماج بحيث لم توجد فيه ثغرة وحاروا فى هذا الأمر وبذلوا مقادير عظيمة من الزيت والخل ليلين الصخر ، فلم يستطيعوا حفر أكثر من فرسخ واحد وهلك خلق كثيرون ، فانصرفوا عن ذلك بعد بذل الكثير من الجهد والمال ، وستذكر قصة فتح بيكند فى مكانها.

__________________

(١) شهرستان رويين ...

(٢) انظر تعليقنا عليها فى حاشية ١. ص ٢١

(٣) جمع مقصبة وهى منبت القصب وتسمى قصباء كذلك.

(٤) باركين فى اللغة الفارسية مكان تجمع المياه ، وفراخ بمعنى فسيح أى المكان الفسيح لتجمع المياه (Desmaisons : V.I ,P.٠٣٢).

(٥) «قرا» باللغة التركية القديمة بمعنى أسود و «كول» بمعنى بحيرة ، أى البحيرة السوداء. وهى (كما ذكرها شمس الدين سامى) بحيرة تقع فى إمارة بخارى فى جنوب غرب مدينة بخارى على بعد ٣٠ كيلومترا من الساحل الشمالى لنهر جيحون وتتشكل من المياه الفائضة لنهر زرافشان (قاموس الأعلام ج ٥ ص ٣٦٤٣)

(٦) أى نهر زرافشان.

٣٧

«فرب» (١) من جملة المدن ولها نواح على حدة ، وبينها وبين شاطئ جيحون فرسخ واحد يصير نصف فرسخ حين يفيض الماء ، ويحدث أحيانا أن يصل ماء جيحون إلى فرب. ولقرب مسجد جامع كبير بنيت جدرانه وسقفه من الآجر ، بحيث لا يوجد فيه خشب قط ، وكان بها أمير لا يضطر لأية حادثة إلى الذهاب إلى بخارى ، وقاض يجرى الأحكام بظلم شدّاد (٢).

وقرى بخارى كثيرة وهذه التى ذكرناها كانت أشهرها وأقدمها.

__________________

(١) انظر تعليقنا عليها فى حاشية ٠١ ص ٢١.

(٢) شداد بن عاد وكان مشهورا بالظلم.

٣٨

ذكر بيت الطراز (١) الذى كان فى بخارى

وما يزال قائما

وكان ببخارى دار صناعة تقع بين السور والمدينة قرب المسجد الجامع ، كانت تنسج بها البسط والسرادقات واليزديات (٢) والوسائد وسجاجيد الصلاة والبرود الفندقية من أجل الخليفة ، وكان خراج بخارى ينفق على سرادق واحد ، وفى كل عام كان يأتى من بغداد عامل خاص ويأخذ من هذه الثياب ما يقابل خراج بخارى. ثم حدث أن تعطلت هذه الدار وتفرق من كانوا يعملون بهذه الصناعة. وكان ببخارى صناع مهرة (أساتذة) مخصصين لهذا العمل ، وكان التجار يأتون من الولايات ويحمل الناس من تلك الثياب ، كما كانوا يحملون الزندنيجى إلى الشام ومصر والروم ، ولم تكن تنسج (٣) فى أية مدينة بخراسان. والعجيب أن بعض أهل تلك الصناعة ذهبوا إلى خراسان وأعدوا الآلات اللازمة لها ونسجوا تلك الثياب ؛ فلم يكن لها ذلك الرواء. ولم يكن هناك ملك أو أمير أو رئيس أو صاحب منصب لا يوجد عنده شىء منها ، وكان منها الأحمر والأبيض والأخضر ، والزندنيجى اليوم أشهر تلك الثياب فى جميع الولايات.

__________________

(١) يشبه ما يعرف الآن فى القاهرة بدار الكسوة التى تعد فيها أستار الكعبة.

(٢) نوع من القماش الفاخر.

(٣) فى نسخة شيفر : نبافتندى ، أى لم تكن تنسج ، وفى نسخة مدرس رضوى : نيافتندى ، أى لم تكن توجد.

٣٩

ذكر سوق ماخ

كان فى بخارى سوق تسمى «بازار ماخ روز» أى سوق ماخ روز وكانت تقام مرتين فى العام لمدة يوم واحد فى كل مرة ، وفى كل مرة كان يباع بها من الأصنام ما تربو قيمته على خمسين ألف درهم فى اليوم الواحد. وروى محمد ابن جعفر فى كتابه «أن هذه السوق كانت موجودة فى أيامنا وكنت أعجب غاية العجب لأى شىء أقاموها ، فسألت المعمرين ومشايخ بخارى ما سبب هذا؟ فقالوا : إن أهل بخارى كانوا قديما عبدة أوثان ، فصارت هذه السوق تقليدا ومنذ ذلك التاريخ تباع فيها الأصنام وهى ما تزال باقية للآن.

وذكر أبو الحسن النيسابورى فى كتاب خزائن العلوم أنه كان فى قديم الزمان ملك فى بخارى اسمه «ماخ» وهو الذى أمر بإقامة هذه السوق ، وأمر النجارين والنقاشين فكانوا ينحتون الأصنام من العام إلى العام ويحضرونها إلى هذه السوق فى اليوم المعين ويبيعونها ويشتريها الناس ، وعند ما كان يضيع الصّنم أو يتحطم أو يتقادم كانوا يشترون غيره عند ما تقام السوق ويرمون ذلك القديم.

وحيث يوجد مسجد ماخ اليوم كانت توجد صحراء ، على حافة النهر ، وأشجار كثيرة كانت تقام فى ظلالها سوق يحضرها ذلك الملك ويجلس على التخت فى هذا الموضع الذى هو اليوم مسجد ماخ ليرغب الناس فى شراء الأصنام ، وكان كل شخص يشترى لنفسه صنما ويحمله إلى بيته ، ثم صار ذلك الموضع بيت نار.

وحين كان الناس يتجمعون يوم السوق كانوا يدخلون ذلك البيت ويعبدون النار ، وكان بيت النار ذاك موجودا حتى الإسلام. فلما تقوى المسلمون بنوا ذلك المسجد مكانه وهو اليوم من مساجد بخارى الهامة.

٤٠