تاريخ بخارى

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي

تاريخ بخارى

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن جعفر النرشخي


المحقق: الدكتور أمين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر الطرازي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٩٤

١٠١
١٠٢

وكان يخشى فساد الإسلام وانتشار دين المقنع فى العالم أجمع. ودعى المقنع الأتراك وأباح لهم دماء وأموال المسلمين. وجاء من التركستان عساكر كثيرة طمعا فى النهب ونهبوا الولايات وكانوا يأسرون نساء وأبناء المسلمين ويقتلونهم. وقد ظهر فى بخارى لأول مرة جماعة المبيضة الذين كانوا من مبايعى المقنع وذهبوا إلى قرية يقال لها «نمجكت (١)» ودخلوا المسجد ليلا وقتلوا المؤذن مع خمسة عشر شخصا وقضوا على أهل القرية جميعا وكان ذلك فى سنة تسع وخمسين ومائة (٧٧٥ م).

وكان أمير بخارى حسين بن معاذ ، وكان من أكابر طائفة المقنع رجل من أهل بخارى اسمه الحكيم أحمد ، ومعه ثلاثة قواد آخرون اسم الأول «حشرى» والثانى «باغى» وكان هذان من «كوشك فضيل» ، وكان اسم الثالث «كردك» من «غجدوان (٢)» ، وكان كل هؤلاء الثلاثة مبارزين وعيارين وعدائين وشطارا (٣).

فلما قتلوا أهل القرية. وبلغ الخبر المدينة ، اجتمع أهل بخارى وذهبوا إلى الأمير وقالوا : لا بد لنا من محاربة هؤلاء المبيضة. فخرج حسين بن معاذ فى عسكره وقاضى بخارى عامر بن عمران فى أهل بخارى فى شهر رجب سنة تسع وخمسين ومائة (٧٧٥ م) وذهبوا حتى قرية «نرشخ» ويقال لها الآن «نراجق» وعسكروا أمامهم. وقال قاضى بخارى نحن ندعوهم إلى دين الحق وما ينبغى لنا أن نحاربهم ثم دخل القاضى القرية مع أهل الصلاح ليدعوهم إلى دين الحق ، فقالوا : نحن لا نفقه ما تقولون ، وازدادوا كل يوم كفرا ، ولم يقبلوا نصحا ، ومن ثم اشتبكوا فى الحرب. وكان أول من حمل عليهم رجل من العرب اسمه نعيم بن سهل ، حارب كثيرا وقتل عدة أشخاص وقتل آخر الأمر ، ونزلت الهزيمة بالمبيضة وقتل منهم سبعمائة رجل وفر الآخرون وانقضى اليوم. فلما أصبح الصباح بعثوا رسولا وطلبوا الأمان وقالوا أسلمنا ، فصالحوهم وكتبوا كتاب الصلح واشترط المسلمون عليهم أن

__________________

(١) هى بومسكت (Boumesseket) انظر حاشية ١ ص ٣٩.

(٢) غجدوان ـ بضم أوله وسكون ثانيه وضم الدال وآخره نون من قرى بخارى (معجم البلدان ج ٦ ص ٢٦٨).

(٣) ترجمة «طرّار» وكلمة طرّار تأتى بمعنى نشال ومحتال والشاطر هو المتصف بالدهاء والخباثة وهذا المعنى أنسب فى هذه العبارة.

١٠٣

لا يقطعوا الطريق وأن لا يقتلوا المسلمين وأن ينصرفوا إلى قراهم ويطيعوا أميرهم. وأخذوا عليهم عهد الله ورسوله ، وقد وقع جميع أعيان المدينة على كتاب الصلح. ولما رجع المسلمون رجعوا هم أيضا عن ذلك العهد ، واشتغلوا ثانيا بقطع الطريق وأخذوا يقتلون المسلمين وينقلون المزروعات الخضراء النامية إلى حصن نرشخ ، واشتد الأمر على المسلمين.

فبعث الخليفة المهدى وزيره جبرائيل بن يحيى لحرب المقنع ، فجاء إلى بخارى وعسكر على باب سمرقند ليذهب لحرب المقنع ، فذهب إليه حسين بن معاذ وقال : أعنى على حرب المبيضة حتى إذا ما فرغنا من هذا الأمر نذهب معك لحرب المقنع ، فأجابه جبرائيل وأخذ العسكر وذهب حتى قرية نرشخ وأمر بحفر خندق حول القرية وعسكروا فى الخندق وأمر العسكر باليقظة حتى لا تخرج المبيضة وتغير عليهم ليلا ، وحدث ما قال فخرجوا (أى المبيضة) أول ليلة وأغاروا عليهم وأحدثوا كثيرا من التخريب. فلما رأى حسين بن معاذ أمير بخارى الأمر كذلك بالغ فى ملاطفة جبرائيل وطلب إليه أن يبقى ببخارى ولا يذهب إلى كش (١) حتى يتم هذا الأمر ، فاشتبك جبرائيل فى الحرب وتحاربوا أربعة شهور متصلة صباح مساء ولم يكن يوم إلا وكان الظفر فيه للمبيضة ، وحار المسلمون وتلمسوا الحيلة ، فقال مالك بن فارم : أنا أدبركم فأمر بحفر أخدود من المعسكر حتى جدار الحصار وأرسل الرجال هنالك بالسلاح وأمر بتقوية كل ما يحفرون بالخشب والقصب والتراب وتغطيته حتى وصلوا إلى أسفل جدار الحصار وجعلوا ثغرة بمقدار خمسين ذراعا وقووها بالأعمدة ، فلما حفر مقدار خمسين ذراعا ملأوه بالحطب وألقوا فيه النفط وأضرموا النار لتحترق تلك الأعمدة وينهار جدار الحصن ، فلم تشتعل النار لأن النار يلزمها الريح لتشتعل. ولم يكن هناك تحت الحصن طريق للريح ، فنصبوا المجانيق وصوبوها نحو ذلك البرج الذى ردم تحته وألقوا الحجارة فحدثت ثغرة وتطرق الريح واشتعلت النار واحترقت تلك الأعمدة وانهار مقدار خمسين ذراعا. ووضع المسلمون فيهم السيف وقتلوا أناسا كثيرين واستأمن الباقون ثم تعاهدوا على

__________________

(١) كش وتعرف الآن بشهر سبز مدينة بالتركستان قرب نخشب (قرشى). (Desmaison : V.٣ ,p ,٣٨)

١٠٤

ما كانوا تعاهدوا عليه أولا ، بأن لا يؤذوا المسلمين وأن يعودوا إلى قراهم ويبعثوا بكبرائهم إلى الخليفة ولا يحملوا معهم سلاحا. فتعهدوا بهذه الشروط ، وخرجوا وعبروا الخندق وحملوا معهم السلاح خفية. وأودع جبرائيل كبيرهم حكيم لدى ابنه العباس قائلا ؛ أنزله فى السرادق واقتله خفية.

وامتثلوا أمره فحملوه إلى السرادق ، وكانوا واقفين من بعيد ، وذهب جبرائيل إلى السرادق ، فأرسل المبيضة «خشوى» الذى كان صديق «حكيم» وقال لجبرائيل : نحن لا نذهب بدون «حكيم». وكان «خشوى» يلبس خفين جديدين ، وبينما كان يقول هذا الكلام ، جاء العباس بن جبرائيل وقال قتلت حكيما. فأمر جبرائيل بإنزال «خشوى» عن الحصان وقتلوه فى الحال. فصاح المبيضة وأخرجوا السلاح ودارت الحرب. وأمر جبرائيل بركوب العسكر جميعا واشتبكوا فى الحرب وخاضوا معارك عنيفة أشد مما جرت ، حتى هزموا مرة أخرى وقتل منهم (أى المبيضة) خلق كثير وفر من بقى. وكانت سيدة قرية نرشخ امرأة اسم زوجها شرف ، وكان قائد أبى مسلم ، وقد قتله أبو مسلم رحمه الله فأتوا بتلك المرأة إلى جبرائيل وكان معها ابن عم أعمى دنس وشرير للغاية ، فقال جبرائيل لتلك المرأة : أحلى أبا مسلم. فقالت : يعنون (١) بأبى مسلم أبا المسلمين وهو ليس أبا المسلمين إذ أنه قتل زوجى. فأمر جبرائيل بأن يشطروا هذه المرأة نصفين من وسطها ، وقتلوا ابن عمها أيضا. وذهب «كردك» إلى المقنع وقتل «باغى» الذى كان منهم ، فى الحرب أيضا. وحمل جبرائيل رءوسهم إلى السغد ليكسر قلوب المبيضة فيها. وكان قد ولّى على أهل السغد أمير من نقباء المقنع اسمه سغديان فحالفه أهل السغد ، ووقعت لجبرائيل حروب كثيرة مع أهل السغد. وأخيرا قتل رجل من أهل بخارى سغديان هذا ، وتفرق هؤلاء القوم. وذهب جبرائيل من هنالك إلى سمرقند ووقعت له مع الأتراك والمبيضة حروب كثيرة ، وسار مع أمير خراسان معاذ بن مسلم حيث جاء إلى مرو سنة مائة وإحدى وستين (٧٧٧ م) وتجهز من هنالك وانحدر إلى صحارى آموى

__________________

(١) الترجمة الحرفية : يقولون.

١٠٥

(جيحون). فلما بلغ بخارى جمع الدهاقين من أهل بخارى رجال الحرب فاجتمع خمسمائة وسبعون ألف رجل ، فأمر معاذ بن مسلم بإعداد آلات حرب كثيرة ، وأعد ثلاثة آلاف عامل بالقواديم والمساحى والجرار والفئوس والصناع اللازمين فى الجيش من كل جنس وصنع المجانيق والعرادات ، ويمم شطر السغد بأحسن تعبئة.

وكان بالسغد كثير من المبيضة وقد جاء كثير من عسكر الترك ، وأتى أمير هرى (هراة) (١) بعشرة آلاف من الضأن من هراة وكان يحملها معه ، فقال له معاذ ابن مسلم : الترك هنا خصومنا وهم على مقربة منا وهم شديد والرغبة فى الخراف.

فاترك هذه الخراف ببخارى أو بعها لى لأقسمها بين العسكر ، فلم يرض ، فجاء قوم من الترك وأغاروا واستاقوا الخراف جميعا إلى مكان يقع بين «أربنجن (٢)» و «زرمان (٣)» فذهب العسكر فى إثرهم فقتل بعضهم وعاد بعضهم منهزمين ، وذهب معاذ بن مسلم إلى السغد وسمرقند وخاض حروبا كثيرة مع الترك والمبيضة

__________________

(١) هرى وكذا هراة ـ مدينة هامة وعاصمة من عواصم خراسان فى شمال غرب أفغانستان الحالية على الساحل الشرقى من نهر «هرى» أو «هريرود» سماها الإسكندر المقدونى «الكساندريا آريانه» وقد ازدهرت هذه المدينة فى الإسلام ولا سيما فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين فأصبحت من مراكز العلم والفن. ومنها خرج كثير من العلماء والأدباء وأهل الفن يلقبون بالهروى منهم مولانا نور الدين الجامى ودولتشاه ومير خوند وحسين الواعظ الكاشفى ، ومن أبرز رجال الفن فى القرن التاسع الهجرى المصور كمال الدين بهزاد الذى يعرف برفائيل الشرق وهو الذى ترأس المجمع الفنى للكتاب بهراة ثم انتقل إلى تبريز حيث ترأس أيضا المجمع الفنى للكتاب وأصبحت له مدرسته الخاصة فى فن التصوير.

(٢) أربنجن : بالفتح ثم السكون وكسر الباء الموحدة وسكون النون وفتح الجيم وآخره نون ، بليدة من نواحى السغد ثم من أعمال سمرقند وربما أسقطوا الهمزة فقالوا «ربنجن» ـ منها أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الأربنجنى ، كان فقيها حنفيّا مات سنة ٣٦٩ ه‍ (٩٧٩ م) وغيره. [معجم البلدان ج ١ ص ١٧٦].

وجاء فى ج ٤ ص ٢٢٥ من نفس المرجع : ربيخن : بفتح أوله وثانيه وياء ساكنة وخاء معجمة ونون ، وقيل (أربيخن) بليدة من صغد سمرقند.

(٣) زرمان : بفتح أوله وسكون ثانيه وآخره نون ، من قرى صغد سمرقند بينها وبين سمرقند سبعة فراسخ. عن السمعانى ... ينسب إليها أبو بكر محمد بن موسى الزرمانى .. إلخ [معجم البلدان ج ٤ ص ٣٨٥]

وفى ديميزون : زرمان (Zarman) ، زارمان (Zarman).

١٠٦

مدة عامين كان الظفر يواتيه تارة ويواتى خصمه تارة أخرى ، وبعد العامين طلب إعفاءه ، وصار المسيب بن زهير الضبى فى مرو أميرا لخراسان فى جمادى الأولى سنة مائة وثلاث وسنين (٧٧٩ م) وجاء إلى بخارى فى شهر رجب وكان أمير بخارى جنيد بن خالد ، فأرسله أمير خراسان إلى خوارزم. وكان ببخارى قائد من قواد المقنع اسمه «كولارتكين» ذو عسكر وحشم خاض معه حروبا. وقد روى محمد بن جعفر أن خمسين ألفا من عسكر المقنع من أهل ماوراء النهر من الترك وغيرهم اجتمعوا بباب حصن المقنع. وسجدوا وتضرعوا وطلبوا منه المشاهدة فلم يتلقوا جوابا فألحوا وقالوا لن نعود حتى نرى طلعة مولانا. وكان له غلام اسمه «حاجب» فقال له المقنع قل لعبادى [ترب فوه] إن موسى طلب رؤيتى فلم أتجل إذ لم تكن له طاقة ، وكل من يرانى لا يطيق ويموت فى الحال ، فزادوا فى الضراعة والرجاء ، وقالوا : نريد الرؤية فإذا متنا فلا ضير. فوعدهم قائلا تعالوا فى اليوم الفلانى ، لأتجلى لكم. ثم أمر النساء اللواتى كن معه فى الحصن وكن مائة امرأة من بنات دهاقين السغد وكش ونخشب يحتفظ بهن معه ، وكانت عادته أنه حيثما كانت امرأة جميلة يرونها له فيأتى بها ويحتفظ بها معه ولم يكن معه فى الحصن غير هاتيك النساء وهذا الغلام الخاص. أما كل ما كانوا يحتاجونه من مأكول ، فكان باب الحصن يفتح كل يوم مرة ، وكان فى الخارج وكيل يعد كل ما يلزم فيطلبه الغلام ويدخله الحصن ، ثم يغلق باب الحصن ثانيا إلى اليوم التالى. ولم يكن أحد قط يرى وجهه القبيح لأنه كان يضع على وجهه قناعا أخضر. فأمر هاتيك النسوة بأن تمسك كل منهن مرآة وتصعد إلى سطح الحصن ويجعلن كل مرآة مقابل الأخرى حين يقع نور الشمس على الأرض ويمسكن جميع المرايا ويجعلنها متقابلة دون تفاوت وكان الخلق قد تجمعوا ، فلما سطعت الشمس على تلك المرايا امتلأ الفضاء نورا بانعكاسهما ، وعندئذ قال للغلام قل لعبادى ، بأن الله يتجلى بوجهه فانظروا ، فنظروا فرأوا كل الدنيا ممتلئة بالنور فخافوا وسجدوا جميعا مرة واحدة وقالوا : ربنا تكفى هذه القدرة والعظمة التى رأيناها وإذا نظرنا أكثر من هذا تنفطر مرائرنا. وظلوا هكذا ساجدين حتى أمر المقنع ذلك الغلام قائلا : قل لأمتى ، ارفعوا رؤوسكم

١٠٧

من السجود فإن إلهكم راض عنكم وغفر خطاياكم ، فرفع القوم رؤوسهم من السجود بخوف وفزع ، ثم قال : أبحت لكم جميع الولايات ومن لا يتبعنى فدمه وما له وأولاده حلال لكم [ترب فوه]. وتوجه هؤلاء القوم من هنالك للنهب وكانوا يفخرون على الآخرين ويقولون رأينا الله.

١٠٨

سبب هلاك المقنع

أقام سعيد الذى كان أمير هراة (١) بباب حصن المقنع مع عسكر كثير وبنى بيوتا وحمامات وأقام هنالك صيفا وشتاء. وكان بالحصن عين ماء وأشجار وزراعة وبه خواصه (أى خواص المقنع) وقادة وجيش قوى. وكان بداخل الحصن حصن آخر على رأس الجبل ولم يكن لأحد قط سبيل إلى ذلك الحصن ، وكان (المقنع) يقيم مع النسوة فى الحصن وكان من عادته أن يؤاكلهن كل يوم ويجلس للشراب ويشرب معهن. ومضى على حاله هذا أربع عشرة سنة ، فلما ضيق أمير هراة عليه الخناق وتفرق جنده ، فتح القائد الذى كان داخل الحصن بابه وخرج طائعا واعتنق الإسلام واستولى المسلمون على القلعة ، فعرف المقنع أنه لا يمكنه الاحتفاظ بالحصن الداخلى.

وروى محمد بن جعفر عن أبى على محمد بن هارون الذى كان من دهاقين كش أنه قال : كانت جدتى من جملة النسوة اللاتى استأثر بهن المقنع لنفسه وكان يحنفظ بهن فى الحصن. وكانت تقول : ذات يوم أجلس المقنع النساء للطعام والشراب على عادته ، ووضع فى الشراب سمّا وأمر لكل امرأة بقدح خاص وقال. إذا شربت قدحى فيجب أن تشربن جميعا أقداحكن ، فشربن جميعا ولم أشرب أنا وأرقته فى طوقى ولم يدر المقنع بذلك ، فهوى جميع النسوة ومتن وأنا أيضا ألقيت بنفسى بينهن وتماوتت ، ولم يعلم بحالى ، ثم نهض المقنع ونظر ورأى كل النسوة ميتات ، فذهب إلى غلامه وضربه بالسيف وأطاح برأسه وكان قد أمر بإحماء التنور ثلاثة أيام فذهب إلى ذلك التنور وخلع ثيابه وألقى بنفسه فيه وتصاعد الدخان ، فذهبت إلى ذلك التنور ولم أر له أى أثر ، ولم يكن أحد قط حيّا فى الحصن. وكان سبب

__________________

(١) ذكر مدرس رضوى فى حاشيته ص ٨٧ أنه ورد فى نسخة ما يأتى : «سعيد شخصى را كه أمير هرات بود بدر حصار فرستاد» ومعناها : أرسل سعيد الشخص الذى كان أمير هراة إلى باب الحصار.

وسعيد هذا هو القائد سعيد الحرشى كما يذكره محمد بن جعفر فيما بعد.

١٠٩

احتراقه أنه كان دائما يقول : إذا عصانى عبادى أذهب إلى السماء وآتى من هنالك بالملائكة وأقهرهم ، فحرق نفسه لهذا ليقول الناس إنه ذهب إلى السماء ليأتى بالملائكة وينصرنا من السماء ويبقى دينه فى العالم. ثم فتحت تلك المرأة باب الحصن ودخل سعيد الحرشى وحمل الخزانة.

ويقول أحمد بن محمد بن نصر : إنه ما زال هؤلاء القوم فى ولايتى كش ونخشب وبعض قرى بخارى مثل «كوشك عمر» (أى قصر عمر) و «كوشك خشتوان» (أى قصر خشتوان) وقرية زرمان ، وهم أنفسهم لا يعرفون شيئا عن المقنع ، وهم على دينه ومذهبهم هو ألا يؤدوا الصلاة ولا يصوموا ولا يغتسلوا من جنابة ولكنهم أمناء ، ويخفون كل هذه الأحوال عن المسلمين ويدعون الإسلام. ويقال بأنهم يبيحون نساءهم لبعضهم البعض ويقولون بأن المرأة كالوردة لا ينقص منها شىء قط إذا شمّت وحين يدخل رجل إلى امرأة للخلوة يترك علامة على باب البيت حتى إذا وصل زوج هذه المرأة يعلم أنها مع رجل فى البيت ، فيعود. وحين يفرغ الرجل يدخل (أى الزوج) بيته. وكان لهم رئيس فى القرية يأتمرون بأمره.

حكاية ...................

.......................

...................... (١)

__________________

(١) رؤى حذف هذه الحكاية عند طبع الكتاب.

ارجع إلى ص ٨٩ بالأصل الفارسى طبعة مدرس رضوى ـ طهران.

١١٠

ذكر بداية ولاية آل سامان

«رحمهم الله»

سبق أن ذكر قبل هذا أنه كان لسامان خداة ولد أسماه أسدا لمحبته لأسد بن عبد الله القشيرى (١) ، وكان لأسد أربعة أولاد : نوح وأحمد ويحيى وإلياس. ولما خرج رافع بن الليث (٢) على هارون الرشيد (٣) وأخذ سمرقند ، بعث الرشيد هرثمة بن أعين (٤) لحربه. وقد حصن رافع سمرقند وعجز هرثمة فى أمره. وكان المأمون قد جاء مع الرشيد إلى خراسان لسبب هذه الحادثة ، وكان قلب الرشيد مشغولا للغاية بهذا الأمر. فكتب المأمون إلى أبناء أسد وأمرهم بمعاونة هرثمة فى حرب رافع. وحمل أبناء أسد رافعا على عقد صلح مع هرثمة وصاهروا بينهما. وفرغ بال الرشيد من هذا الأمر ، وكان يخشى أن يستولى رافع على كل خراسان. وقد رأى المأمون أن هذا الأمر (أى الصلح) حدث فى وقته تماما. وقد توفى هارون بطوس (٥) فى هذا السفر.

__________________

(١) الصحيح هو أسد بن عبد الله القسرى ، انظر حاشيتنا (١) ص ٨٦.

(٢) رافع بن الليث بن نصر بن سيار [توفى سنة ١٩٥ ه‍ / ٨١١ م] ، وهو ثائر من بيت إمارة ورياسة كان مقيما فى ماوراء النهر بسمرقند وناب فيها أيام الرشيد العباسى وعزل وحبس بسبب امرأة وهرب من الحبس فقتل العامل على سمرقند واستولى عليها سنة ١٩٠ ه‍ (٨٠٥ م) وخلع طاعة الرشيد ودعا إلى نفسه وسار إليه نائب خراسان على بن عيسى ، فظفر رافع ، وتوجه إليه الرشيد سنة ١٩٢ ه‍ (٨٠٧ م.) وانتدب لقتاله هرثمة نائب العراق فانهزم رافع سنة ١٩٣ ه‍. (٨٠٩ م.). [الأعلام للزركلى ج ٣ ص ٣٦]

(٣) هارون الرشيد بن محمد المهدى بن المنصور العباسى ـ [أبو جعفر] ، خامس خلفاء العباسيين بالعراق (١٤٩ ـ ١٩٣ ه‍ / ٧٦٦ ـ ٨٠٩ م). (المرجع السابق)

(٤) هرثمة بن أعين (توفى سنة ٢٠٠ ه‍. / ٨١٦ م.) ، كان والى أفريقيا وعين واليا على خراسان سنة ١٨١ ه‍. / ٧٩٧ م. من قبل الرشيد حيث حارب رافعا وانتصر عليه. [المرجع السابق]

(٥) طوس : مدينة قديمة أسسها طوس بن نوذر ، على بعد عشرين كيلومترا من مدينة مشهد بخراسان. كانت مركزا هامّا للثقافة الإسلامية ، وقد خرج منها الإمام الغزالى ونصير الدين الطوسى والشاعر الفردوسى. [قاموس الأعلام ج ٤ ص ٣٠٢١]

١١١

ولما صارت الخلافة للمأمون (١) صار غسان بن عباد (٢) أمير خراسان فأمره المأمون بأن يولى أبناء أسد بن سامان خداة ، فأعطى كلا منهم مدينة هامة من مدن خراسان جزاء ما أسلف. وولى غسان بن عباد نوحا بن أسد أميرا على سمرقند ، وأحمد بن أسد أميرا بمرو ، وكان ذلك سنة اثنتين ومائتين (٣) (٨١٧ م).

ولما عزل غسان من خراسان ، صار طاهر بن الحسين أميرا لها وأقر لهم هذه الولايات ، وخلع على نوح بن أسد الذى كان أكبرهم وكان يقيم بسمرقند حتى رحل عن الدنيا ، فأخلفه أخاه أحمد بن أسد. وكان أحمد بن أسد هذا رجلا عالما ورعا ، وكان يقيم بسمرقند إلى أن غادر الدنيا ، فأخلفه ابنه نصرا بن أحمد ابن أسد. فلما جلس مكان أبيه وصل من الخليفة الواثق بالله منشور أعمال ماوراء النهر باسمه فى يوم السبت غرة شهر رمضان المبارك سنة واحدة وخمسين ومائتين (٨٦٥ م).

__________________

(١) المأمون العباسى ـ عبد الله بن هارون الرشيد ـ [أبو العباس] (١٧٠ ـ ٢١٨ ه‍. / ٧٨٦ ـ ٨٣٣ م.). [الأعلام للزركلى]

(٢) غسان بن عباد (توفى بعد سنة ٣١٦ ه‍. / ٨٣١ م). (أبو الفرج) ، ابن عم الفضل بن سهل ، ولى خراسان من قبل الحسن بن سهل ثم ولاه المأمون السند سنة ٢١٣ ه‍ (٨٢٨ م) [الأعلام للزركلى]

(٣) فى نسخة شيفر «در سال دويست ونود ودو» أى سنة اثنتين وتسعين ومائتين ، وفى نسخة مدرس رضوى «سال دويست ودو» أى سنة اثنتين ومائتين وهو الصحيح ، لأن إمارة غسان فى خراسان كانت من سنة ٢٠٢ إلى ٢٠٥ ه‍. / ٨١٧ ـ ٨٢٠ م. وقد أشار مدرس رضوى فى حاشيته ص ٩٠ إلى أنه أصلح هذا التاريخ من نسخة رمز إليها بالحرف (ت).

١١٢

ذكر بداية ولاية الأمير الماضى أبى إبرهيم إسماعيل بن أحمد السامانى

أول السلاطين السامانيين ، وكان فى الحقيقة ملكا جديرا وقمينا بالملك ، ورجلا عاقلا عادلا رحيما صاحب رأى وتدبير ، يظهر الطاعة دائما للخلفاء ويرى متابعتهم واجبة ولازمة. وفى يوم السبت منتصف ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين (٩٠٠ م) أسر عمرا بن الليث فى بلخ واستولى على المملكة وتولى الملك مدة ثمانى سنوات ، وقد لحق بجوار رحمة الحق فى سنة خمس وتسعين ومائتين (٩٠٧ م) ببخارى عليه الرحمة والغفران.

وقد ولد (١) بفرغانة فى شهر شوال سنة أربع وثلاثين ومائتين (٨٤٨ م) ولما بلغ السادسة عشر توفى أبوه ، وقد رباه أخوه الأكبر الأمير نصر وكان يعمل فى خدمته. ولما جاء الحسين بن طاهر الطائى من خوارزم (٢) إلى بخارى فى ربيع الآخر سنة مائتين وستين (٨٧٣ م) وقعت بينه وبين أهل بخارى حروب واستولى على المدينة بعد خمسة أيام واقتص من أهل بخارى فى المدينة والرستاق (٣) وقتل أشخاصا كثيرين وأطلق (الجند) الخوارزمية فأخذوا فى السرقة والمصادرة وكانوا يسطون ليلا على المنازل فى مكابرة ويرتكبون الجنايات الجسيمة ويأخذون الأموال ، فخرج أهل بخارى لحربه ، وقتل أشخاص كثيرون واحترق ثلث المدينة ، ولما تغلب أهل المدينة نادى بالأمان ، ولما سمع الناس الذين كانوا قد تجمعوا واستعدوا للحرب بخبر الأمان تفرقوا وذهب بعضهم إلى الرستاق. فلما علم الحسين بن طاهر أن الناس تفرقوا وضع فيهم السيف وقتل خلقا عظيما ، فشغب الناس ثانيا وهزم الحسين بن

__________________

(١) توجد كلمة «ولايت» بدل «ولادت» فى متن شيفر ومدرس رضوى ، وقد أشار مدرس رضوى فى حاشية ص ٩١ إلى وجود كلمة (ولادت) فى إحدى النسخ وهذا ما يتمشى مع السياق والحقيقة فأخذنا به.

(٢) هذه الكلمة ترسم فى الفارسية هكذا ولكنها تنطق (خارزم) بحذف الواو المعدولة.

(٣) نص العبارة الفارسية «وبا أهل بخارا عذر شهر وروستا كرد» والسياق يرجح المعنى الذى ذهبنا إليه والترجمة الحرفية لا تعطى معنى مفهوما فى العربية.

١١٣

طاهر وتحاربوا طوال اليوم. فلما جن الليل أحكم غلق باب القصر ، وكان الناس يحرسون باب القصر ليقبضوا عليه ، وكان قد أخذ خراج بخارى كله وجميع الدراهم الغدرفية وأفرغها فى وسط الدار وكان يريد استبدالها بالفضة فلم يجد وقتا. وقد أحدث ثغرة بالجدار فى تلك الليلة وفر بأهله عاريا جائعا وترك تلك الدراهم الغدر فية. وعلم الناس بذلك فدخلوا الدار ونهبوا ذلك المال واغتنى منه أشخاص كثيرون بحيث بقى أثر ذلك الغنى فى أعقابهم ، وكان يقال فى المدينة «فلان غنى دار الحسين ابن طاهر» (١) وفر بعد ذلك (٢). وحدثت من بعده فتن أخرى وحروب كثيرة فيما بين أهل بخارى ، فاجتمع أهل العلم والصلاح من بخارى لدى أبى عبد الله الفقيه بن السيد أبى حفص الكبير (٣) رحمة الله عليه وكان رجلا مبارزا فتدبروا معه أمر بخارى. ولم يكن بخراسان أمير ، وكان يعقوب بن الليث (٤) قد استولى على خراسان قهرا. وكان رافع بن هرثمة (٥) يحاربه (٦) ، كما كانت بخراسان فتنة كذلك ، وأخذت بخارى فى الخراب من هذه الفتن. فكتب أبو عبد الله بن السيد أبى حفص كتابا وجه به إلى سمرقند إلى نصر بن أحمد بن أسد السامانى ، وكان أمير سمرقند وفرغانة وطلب منه أميرا لبخارى ، فبعث بأخيه إسماعيل بن أحمد إلى بخارى. فلما بلغ الأمير إسماعيل كرمينة أقام هنالك بضعة أيام وبعث برسول إلى بخارى لدى الحسين بن محمد الخوارجى الذى كان أمير بخارى.

__________________

(١) كما يقال فى أيامنا «فلان غنى حرب».

(٢) هذه العبارة فيها تكرار ، وكثيرا ما يشاهد هذا فى أسلوب الكتاب.

(٣) انظر حاشية (٣) ص ٨٢.

(٤) يعقوب بن الليث الصفار ـ (أبو يوسف) (توفى سنة ٢٦٥ ه‍ / ٨٧٩ ه‍) [الأعلام للزركلى].

(٥) رافع بن هرثمة (توفى سنة ٢٨٣ ه‍ / ٨٩٦ م) :

ولى خراسان من قبل محمد بن طاهر سنة ٢٧١ ه‍ / ٨٨٤ م واستولى على طبرستان سنة ٢٧٧ ه‍ / ٨٩٠ م فى أيام الموفق العباسى ، ولما ولى المعتضد عزله عن خراسان فامتنع واتصل بالطالبيين وحشد جيشا احتل به نيسابور وخطب فيها لمحمد بن زيد الطالبى ، فقاتله عمرو بن الليث الصفار ، فانهزم رافع وقتل وأنفذ رأسه إلى المعتضد. (الأعلام ج ٣ ص ٣٦).

(٦) فى نسخة مدرس رضوى يحاربه فى بخارى.

١١٤

وكان رسوله يتردد مرارا جيئة وذهابا إلى أن تم الاتفاق على أن يكون الأمير إسماعيل أمير بخارى والحسين بن محمد الخوارجى خليفة له (١). وقد خضع جنوده لهذا القرار ، وأرسل الأمير إسماعيل بمنشور خلافته إلى الخوارجى مع العلم والخلعة وطافوا بالخوارجى مع هذا العلم والخلعة فى مدينة بخارى. وقد أظهر أهل بخارى ابتهاجهم وكان هذا فى يوم الثلاثاء ، وفى يوم الجمعة تليت الخطبة باسم نصر ابن أحمد وأسقط اسم يعقوب بن الليث منها قبل مجىء الأمير إسماعيل ببخارى وكان يوم الجمعة ذاك أول رمضان المبارك سنة ستين ومائتين (٨٧٤ م).

وقد خرج ابن السيد أبى حفص الكبير رحمهما الله لاستقباله ومعه أشراف بخارى من العرب والعجم حتى وصلوا إلى كرمينة ، وأمر أبو عبد الله بتزيين المدينة ، وقد ندم الأمير إسماعيل على مجيئه إلى بخارى لأنه لم يكن معه حشم كثير وكانت بخارى قد ثارت وقامت فتنة ، ولم يكن يعلم سريرة أهل بخارى نحوه ، فلما خرج أبو عبد الله بن أبى حفص وذهب إلى كرمينة قوى قلبه وعلم أن أهل المدينة لا ينقضون ما يعمله أبو عبد الله ، فقوى عزيمته. وقد مدحه أبو عبد الله بمدائح كثيرة وشجعه ، ولما أدخلوه المدينة عظموه وأكرموه ، وأمر بأن ينثر أهل المدينة عليه كثيرا من الذهب والفضة ، وقد قبض الأمير إسماعيل على الحسين الخوارجى وبعث به إلى السجن وتفرق الغوغاء بقدرة الله تعالى.

__________________

(١) أى نائبا عنه.

١١٥

ذكر دخول الأمير إسماعيل بخارى

كان ذلك فى يوم الاثنين الثانى عشر من شهر رمضان المبارك سنة مائتين وستين (٨٧٣ م) ، وبذلك هدأت المدينة ، وتخلص أهل بخارى من العناء واستراحوا ، وفى نفس هذه السنة جىء إلى الأمير نصر بن أحمد بمنشور ولاية جميع أعمال ماوراء النهر من جيحون إلى أقصى بلاد المشرق من الخليفة الموفق بالله (١) ، وقد قرئت الخطبة فى بخارى باسم الأمير نصر بن أحمد والأمير إسماعيل وكان اسم يعقوب بن الليث الصفار قد سقط منها. وأقام الأمير إسماعيل ببخارى مدة ، ثم ذهب بعد ذلك إلى سمرقند دون إذن من الأمير نصر ، واستخلف على بخارى ابن أخيه أبا زكريا يحيى بن أحمد بن أسد. فلما بلغ «ريشخن (٢)» علم الأمير نصر ، فامتعض لأن ذلك كان دون إذنه ، وأمر باستقباله ، ولكنه هو نفسه لم يخرج ولم يحتف به قط وأمر بإنزاله فى قلعة سمرقند حيث خصصوا له صاحب شرطة سمرقند ، وظل هكذا غاضبا عليه. وكان الأمير إسماعيل يذهب للسلام على غير ما كانت عليه العادة قبل ذهابه إلى بخارى ، وجعل محمد بن عمر خليفة له ، وكان الأمير إسماعيل يجىء للسلام ويقف ساعة وينصرف ، ولا يقول له الأمير نصر أى كلمة ، إلى أن انقضى على هذه الحالة ثلاثة عشر شهرا. فجاء بابن عمه محمد بن نوح وعبد الجبار بن حمزة للشفاعة ، حتى أعاده إلى بخارى وجعل عصمة ابن محمد المروزى وزيره والفضل بن أحمد المروزى كاتبا له. وخرج الأمير نصر مع جميع وجوه وثقات سمرقند لوداعه. وفى هذه الأثناء التفت الأمير نصر إلى

__________________

(١) الموفق بالله (طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد) ـ أخو المعتمد على الله أحمد الخليفة العباسى الخامس عشر (٢٥٦ ـ ٢٧٩ ه‍ / ٨٦٩ ـ ٨٩٢ م) كان يدير أمور أخيه ولم يعتل إلى مسند الخلافة لوفاته مبكرا. [قاموس الأعلام ج ٤ ص ٣٠٦٣ وح ٦ ص ٤٤٨٦]

(٢) ريشخن (وفى بعض النسخ ريحن ، رسخن) وفى معجم البلدان ج ٤ ص ٣٤٨ ريخشن ـ بكسر أوله وسكون ثانيه وخاء معجمة مفتوحة وشين معجمة ساكنة ونون : من قرى سمرقند ـ عن السمعانى.

١١٦

عبد الجبار بن حمزة وقال : يا أبا الفتح ، إن هذا الصبى الذى نبعت به ترى ما عسانا نرى منه؟ فقال عبد الجبار : لا تقل هذا فإنه عبدك [بشرط أن يعمل الأمير إسماعيل كل ما تأمر به ولا يخالفك أبدا. فقال إن ما أقوله هو الحقيقة. فقال عبد الجبار ، فبم حكمت إذن؟ فقال الأمير نصر : إننى أرى الخلاف والعصيان فى عينيه وشمائله](١) ، فلما وصل الأمير إسماعيل إلى بخارى ، استقبله أهلها وأدخلوه المدينة بكل إعزاز. وكان أحد اللصوص قد جمع حوله الخلق ، وتجمع من أوباش وفتّاك (٢) الرستاق أربعة آلاف رجل ، وكانوا جميعا يقطعون الطريق بين رامتين وبركد ، وكادوا يقصدون المدينة. فبعث الأمير إسماعيل صاحب شرطته الحسين بن العلاء الذى بنى حظيرة بخارى وسمى حى علاء باسمه ، لحرب هؤلاء اللصوص ، وعاونه من أهل بخارى العظماء والكبراء وذهبوا وحاربوا وهزموا اللصوص ، وانتصر عليهم الحسين بن العلاء وقبض على كبير اللصوص وقتله وأتى برأسه وقبض على جماعة منهم كانوا يعاونونه ، فأوثقهم الأمير إسماعيل وبعث بهم إلى سمرقند. ولما فرغوا من هذه المهمة أخبر بأن الحسين بن طاهر عاد فجأة بألفى رجل إلى آموى (جيحون) وقصد بخارى فجمع الأمير إسماعيل من العسكر ما استطاع وذهب لحربه ، فأخبروه أن الحسين بن طاهر عبر جيحون بألفى رجل خوارزمى (٣) ، فركب الأمير إسماعيل وخرج وتقاتلوا قتالا عنيفا وهزم الحسين ابن طاهر وقتل بعض عسكره وغرق بعض آخر فى النهر وأسر منهم سبعون رجلا. وكانت هذه أولى الحروب التى خاضها الأمير إسماعيل. فلما أصبح الصباح استدعى الأسرى وأعطى كل واحد منهم ثوبا من الكرباس وردهم. فذهب الحسين بن

__________________

(١) العبارة التى بين القوسين [...] ترجمناها من نسخة مدرس رضوى ، وهى غير موجودة فى نسخة شيفر.

(٢) فتاك جمع فاتك ، وهو الذى يركب ما تدعو إليه نفسه دون مبالاة ، وفتاك ترجمة «رندان» الفارسية جمع «رند» ولها نفس المعنى.

يقول بشار بن برد :

من راقب الناس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

(٣) خوارزمى نسبة إلى خوارزم وتنطق «خارزمى وخارزم»

١١٧

طاهر إلى مرو وعاد الأمير إسماعيل إلى بخارى ونظر فى أمر المملكة. وعلم أنه ليس له كبير شأن لدى كبراء بخارى وليست له هيبة فى أعينهم ولن يعود عليه نفع من جمعهم حوله ، فرأى الصواب أن يدعو جماعة من كبراء بخارى ، وقال لهم : يجب أن تذهبوا من أجلى إلى سمرقند وتتخدثوا إلى الأمير نصر وتعتذروا عنى. فقالوا : سمعا وطاعة ، واستمهلوه بضعة أيام وذهبوا بعد ذلك.

وكانت هذه الجماعة أمراء بخارى قبل الأمير إسماعيل ، وكان أبو محمد بخار خداة نفسه ملك بخارى ، كما كان أبو حاتم (١) اليسارى غنيّا للغاية ولم يكن يطيعه (أى يطيع الأمير إسماعيل) لكثرة ماله. فذهب عظماء بخارى مع هذين الرجلين (٢) وكتب الأمير إسماعيل إلى الأمير نصر ليوثقهم ويبعث بهم إلى السجن ليستطيع إدارة ملك بخارى. وفعل الأمير نصر هكذا واحتجز هؤلاء القوم مدة هنالك ، حتى هدأت بخارى ، فكتب الأمير إسماعيل مرة ثانية إلى الأمير نصر وطلبهم ، وكان الأمير إسماعيل بعد ذلك يعاملهم معاملة طيبة وينجز حوائجهم ويرى رعاية حقوقهم واجبا عليه.

وكان الأمير نصر بن أحمد قد فرض على الأمير إسماعيل كل سنة خمسماية ألف درهم من أموال بخارى ، ووقعت له (أى الأمير إسماعيل) (٣) بعد ذلك حروب وأنفق ذلك المال ولم يستطع إرسال شىء. فبعث الأمير نصر بالرسل ثانيا يطلب المال ، ولم يرسل (الأمير إسماعيل شيئا) (٤) فظهرت بينهما لهذا السبب جفوة فجمع الأمير نصر العسكر ، وبعث بكتاب إلى أخيه أبى الأشعث بفرغانة (٥) وطلب إليه الحضور فى جيش كبير. وبعث بكتاب ثان إلى أخيه الآخر أبى يوسف

__________________

(١) أشار مدرس رضوى فى حاشية ص ٩٧ إلى وجود كلمة (أبو هاشم) بدل (أبو حاتم) فى نسخة رمز لها بحرف «د».

(٢) هذه ترجمة العبارة الواردة فى نسخة مدرس رضوى أما ترجمة العبارة الواردة فى نسخة شيفر فهى (مع هذا الرجل).

(٣ ، ٤) أضيفت هذه العبارة للتوضيح وهى غير موجودة فى الأصل.

(٥) انظر حاشية (١) ص ٢٨.

١١٨

يعقوب بن أحمد بالشاش (١) ليجىء بعسكره ويأتى كذلك بأتراك «استجاب (٢)» وجمع جيشا عظيما ومن ثم اتجه إلى بخارى.

وكان ذلك فى شهر رجب سنة مايتين واثنتين وسبعين (٨٨٥ م). فلما علم الأمير إسماعيل أخلى بخارى وذهب إلى فرب (٣) رعاية لحرمة أخيه. فجاء الأمير نصر إلى بخارى ، فلما لم يجد الأمير إسماعيل ذهب إلى بيكند (٤) ونزل هنالك ، فاستقبله أهلها ونثروا عليه الذهب والفضة وأخرجوا عطايا كثيرة. وكان بين الأمير إسماعيل ورافع بن هرثمة الذى كان وقتئذ أمير خراسان صداقة. فكتب إليه الأمير إسماعيل وطلب منه العون ، فجاء رافع بعسكره. وكان نهر جيحون قد تجمد فعبر من فوق الجليد. فلما علم الأمير نصر بمجىء رافع عاد إلى بخارى. واتفق الأمير إسماعيل مع رافع على أن يذهبا وبأخذا سمرقند (٥) ، فبلغ هذا الخبر الأمير نصر فذهب إلى طوايس (٦) على عجل وأخذ عليهما الطريق. فسلك الأمير إسماعيل مع رافع طريق الصحراء ، وكانت جميع رساتيق بخارى فى حوزة الأمير نصر ولم يكونا يجدان الطعام والعلف فى البادية. وكانت تلك السنة قحطا واشتد عليهما الأمر حتى صار المنّ (٧) من الخبز فى عسكرهما بثلاثة دراهم ، وهلك خلق عظيم

__________________

(١) انظر حاشية (٢) ص ٢٢.

(٢) استجاب (استيجاب ـ (Istidjab هكذا فى قاموس ديميزون. أما ياقوت فقد ذكرها كالآتى اسفيجاب ـ بالفتح ثم السكون وكسر الفاء وياء ساكنة وجيم وألف وباء موحدة : اسم بلدة كبيرة من أعيان ماوراء النهر فى حدود تركستان ولها ولاية واسعة وقرى كالمدن كثيرة ... وهى من الإقليم الخامس ... وكانت من أعمر بلاد الله وأنزهها وأوسعها خصبا وشجرا ومياها جارية ورياضا مزهرة ولم يكن بخراسان ولا بما وراء النهر بلد لا خراج عليه إلا اسفيجاب لأنها كانت ثغرا عظيما فكانت تمفى من الخراج وذلك ليصرف أهلها خراجها فى ثمن السلاح والمعونة على المقام بتلك الأرض ، وكذلك ما يصاقبها من المدن نحو طراز وصبران وسانيكث وفاراب حتى أتت على تلك النواحى حوادث الدهر وصروف الزمان. [معجم البلدان ج ١ ص ٢٣٠ ـ ٢٣١] ـ وذكرها مدرس رضوى بهامش نسخة أيضا «استيجاب» والصحيح اسپيجاب بالباء الفارسية المثلثة ومعربها اسفيجاب كما ذكر ياقوت.

(٣) انظر حاشيتنا (١) بصفحة ٢١

(٤) انظر حاشية (٢) ص ٣٤

(٥) انظر حاشية (١) ص ١٨

(٦) انظر حاشية (٤) ص ٢٧

(٧) المن ـ وحدة قياسية للوزن مختلف فى تقديرها.

١١٩

من عسكر رافع جوعا. وكتب الأمير نصر إلى ابنه أحمد فى سمرقند ليجمع الغزاة من سغد سمرقند ، ولم يعط أهل الولاية علفا للأمير إسماعيل وقالوا إن هؤلاء خوارج ولا يحل نصرتهم. وكان الأمير نصر قد ضاق ذرعا بمجىء رافع ، فذهب الأمير نصر إلى كرمينة (١) وكانوا يجرون فى إثره ، فنصح شخص «رافع» ا وقال له : لقد تركت ولايتك وجئت إلى هنا ، فإذا ما اتفق الأخوان وحصراك بينهما فماذا تستطيع أن تعمل؟ فخاف رافع من هذا الكلام وبعث برسول إلى الأمير نصر وقال : إنى لم أجىء للحرب بل جئت لأصلح بينكما. فاستحسن الأمير نصر هذا الكلام ، وتصالحا على أن يكون أمير بخارى شخص آخر ، والأمير إسماعيل عامل الخراج ، ولا تكون أموال الديوان والخطبة باسمه ، ويدفع كل سنة خمسمائة ألف درهم. (واستدعى نصر بن أحمد وإسحق بن أحمد أيضا) (٢) وخلع عليه وأسند إليه إمارة بخارى ورضى الأمير إسماعيل بذلك.

وعاد الأمير نصر وذهب رافع أيضا إلى خراسان. وكان ذلك سنة ثلاث وسبعين ومايتين (٨٨٦ م). فلما انقضى على هذه الحال خمسة عشر شهرا بعث الأمير نصر شخصا فى طلب المال ، فأمسك الأمير إسماعيل المال ولم يرسله ، وكتب الأمير نصر رسالة إلى رافع لأنه كان قد ضمنه ، وكتب رافع أيضا كتابا إلى الأمير إسماعيل بهذا المعنى فلم يهتم الأمير إسماعيل ، وجمع الأمير نصر العسكر مرة أخرى وكلهم من أهل ماوراء النهر وجاء أبو الأشعث من فرغانة وقصد بخارى مرة أخرى على النحو المتقدم واتجه (أى الأمير نصر) إلى بخارى ، فلما بلغ كرمينة جمع الأمير إسماعيل أيضا عسكره وذهب إلى طوايس ودارت الحرب واشتدت المعركة وانهزم إسحق بن أحمد إلى فرب فحمل الأمير إسماعيل حملة قوية على أهل فرغانة وانهزم أبو الأشعث إلى سمرقند ، وأراد أهل سمرقند القبض عليه لأنه كان قد ترك

__________________

(١) انظر حاشية (٣) ص ٢٧.

(٢) هكذا فى نسختى شيفر ومدرس رضوى فى الأصل الفارسى وفيه لبس ـ ولعل صحيحه «واستدعى نصر بن أحمد إسحق بن أحمد أيضا وخلع عليه وأسند إليه إمارة بخارى ورضى الأمير إسماعيل بذلك». وهذا ما يتمشى مع السياق.

١٢٠