الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقولُه عليه‌السلام : « مَنْ قَنعَ باليسيرِ استغنى عنِ الكثير ، ومَنْ لم يَستغنِ بالكثيرِ افتقرَ إِلى الحقيرِ ».

وقولُه عليه‌السلام : « مَنْ صَحَتْ عرُوقُه أثمرَتْ فرُوعُه ».

وقولُه عليه‌السلام : « من أمِلَ إِنساناً هابَه ، ومن قَصُرَ عن معرفةِ شيءٍ عابَه ».

ومن كلامِه عليه‌السلام في وصفِ الإنسانِ

قولُه : « أعجب ما في الإنسانِ قلبُه ، وله مواد من الحكمة وأضدادها ، فإِنْ سَنَحَ له الرّجاء أذَلهَ الطَّمَعُ ، وإنْ هاجَ به الطَّمَع أهلكه الحِرصُ ، وِان مَلَكَة اليأْسُ قَتلَه الأسَفُ ، وإن عَرَضَ له الغَضَبُ اشتدَ به الغَيْظُ ، وإن أسْعِفَ بالرِّضا نَسِيَ التّحفُّظَ ، وِانْ ناله الخوفُ شَغلَه الحَذَرُ ، وإنِ اتّسعَ له الأمنُ استولتْ عليه الغِرَّةُ (١) ، وإنْ جُددَتْ له نِعْمةٌ أخذتْه العِزّةُ ، وِانْ أصابتْه مُصيبةٌ فَضَحَه الجَزَعُ ، وانْ أفادَ مالاً أطغاه الغِنى ، وِان عَضَّتْه فاقةٌ شَغلَه البَلاءُ ، وِانْ أجهده الجُوعُ قَعَدَ به الضعفُ ، وإن أفرطَ في الشَبَعِ كَظَّتْه البِطْنةُ ، وكلُّ تقصيرٍ به مضِرٌّ ، وكلُّ إِفراطٍ له مُفْسِدٌ » (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) الغِرة : الغفلة. « الصحاح ـ غرر ـ ٢ : ٧٦٨ ».

(٢) الكافي ٨ : ٢١ ، علل الشرائع : ١٠٩ / ٧ ، خصائص الأئمة للرضي : ٩٧ ، دستور معالم الحكم : ١٣٩ ، نثر الدرّ ١ : ٢٧٦.

٣٠١

ومن كلامِه عليه‌السلام وقد سَأل شَاهْ زَنانَ بنتَ كِسْرى حينَ أُسِرَتْ : « ما حَفِظْتِ عن أبيكِ بعدَ وَقْعةِ الفِيْل؟ » قالتْ : حَفِظْنا عنه أنّه كانَ يقولُ : إِذا غَلَبَ الله على أمرٍ ذَلَّتِ المَطامعُ دونَه ، وإذا انقضَتِ المُدّةُ كانَ الحَتْفُ في الحِيْلةِ. فقالَ عليه‌السلام : « ما أحسَنَ ما قالَ أبوكِ! تَذِلُّ الأمورُ للمَقاديرِ حتّى يكونَ الحَتْفُ في التدبيرِ » (١).

ومن كلامه عليه‌السلام : « مَنْ كانَ على يَقينٍ فأصابَه شكّ فليَمْضِ على يقينهِ ، فإِنَّ اليقينَ لايُدفَعْ بالشّكِّ » (٢).

ومن كلامِه عليه‌السلام : « المؤمنُ مِنْ نفسِه في تَعَبٍ ، والنّاسُ منه في راحةٍ » (٣).

وقالَ عليه‌السلام : « مَنْ كَسِلَ لم يُؤَدِّ حقّاً للّهِ تعالى عليهِ » (٤).

وقالَ عليه‌السلام : « أَفضل العِبادةِ : الصّبرُ ، والصّمتُ ، وانتظارُ الفرجَ » (٥).

وقالَ عليه‌السلام : « الصّبرُعلى ثلاثةِ أوْجُهٍ : فصبرٌ على المًصيبةِ ، وصبرٌ عَنِ المعصيةِ ، وصبرٌ على الطّاعةِ » (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) ذيله في نثر الدرّ ١ : ٢٨٥ ، تحف العقول : ٢٢٣.

(٢) تحف العقول : ١٠٩.

(٣) الخصال : ٦٢٠ ، تحف العقول : ١١٠.

(٤) الخصال : ٦٢٠ ، تحف العقول : ١١٠ ، كنز الفوائد ١ : ٢٧٨.

(٥) تحف العقول : ٢٠١ ، ومثله في نثر الدر ١ : ٢٧٩ ، وليس فيه : « الصبر ».

(٦) الكافي ٢ : ٧٥ ، التمحيص : ٦٤ / ١٤٩ ، تحف العقول : ٢٠٦.

٣٠٢

وقالَ عليه‌السلام : « الحِلْمُ وَزيرُ المؤمنِ ، والعِلْمُ خَليلهُ ، والرِّفْقُ أخوه ، والبرُّ والدهُ ، والصّبرُ أميرُ جُنودِهِ » (١).

وقالَ عليه‌السلام : « ثلاثةٌ من كنوز الجنّةِ : كِتمانُ الصّدَقةِ ، وكِتمانُ المُصيبةِ ، وكِتمانُ المَرَضِ » (٢).

وقالَ عليه‌السلام : « احْتَجْ إِلى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أسيرَه ، واستغنِ عمّنِ شِئتَ تكنْ نَظيرهَ ، وأفْضِلْ على مَنْ شِئتَ تكنْ أميرهَ » (٣).

وكانَ يقول عليه‌السلام : « لا غِنى معَ فُجورٍ ، ولا راحةَ لِحَسودِ ، ولا مَوَدّةَ لملول ».

وقالَ للأحْنَفِ بنِ قَيْس : « السّاكِتُ أخو الرّاضي ، ومَنْ لم يكنْ معَنا كانَ علينا ».

وقالَ عليه‌السلام في « الجُوْدُ مِنْ كَرَم الطّبيعةِ ، والمَنُّ مَفْسَدةٌ لصّنيعةِ ».

وقالَ عليه‌السلام : « تَرْكُ التّعاهُدِ للصَّديقِ داعِيَةُ القَطِيعةِ ».

وكانَ عليه‌السلام يقولُ : « إِرجافُ العامّةِ بالشّيّءِ دَليلٌ على مقذَماتِ كَوْنه ».

وقالَ عليه‌السلام : « اطلُبوا الرِّزقَ فإِنّه مضمون لطالبِه ».

ــــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٠٣ و ٢٢٢ باختلاف يسير.

(٢) دعوات الراوندي : ١٦٤ نحوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) ذكره الصدوق في الخصال : ٤٢٠ بتقديم وتأخير ، والكراجكي في كنزه ٢ : ١٩٤ ، ورواه المسعودي باختلاف يسيرفي مروج الذهب ٢ : ٤٢٠ ضمن وصية الامام لابنه الحسن عليهما‌السلام.

٣٠٣

وقالَ عليه‌السلام : « أربعةٌ لا تُرَدَّ لهم دَعوة : الإمامُ العادِلُ لرعيّتِه ، والوالد البار لولده ، والولدُ البارُ لوالدِه ، والمظلومُ ، يقول اللّهُ عزّ اسمُه : وعزّتي وجَلالي ، لأنتصرَنَّ لكَ ولوبعدَ حينٍ ».

وقالَ عليه‌السلام : « خيرُ الغِنى تركُ السُّؤالِ ، وشر الفقرِ لزُوم الخضوعَ ».

وقالَ عليه‌السلام : « ضاحِك مُعترِفٌ بذنبِه ، أفضلُ من باكٍ مُدِلًّ على ربه ».

وقالَ عليه‌السلام : « المعروفُ عِصمةٌ منَ البَوارِ ، والرِّفقُ نَعْشةٌ منَ العِثارِ ».

وقالَ عليه‌السلام : « لا عُدَّةَ أنفعُ منَ العَقْلِ ، ولاعَدُوَ أضرُ منَ الجَهْلَ ».

وقالَ عليه‌السلام : « لولا التّجارِبُ عَمِيَتِ المَذاهِبُ ».

وقالَ عليه‌السلام : « مَنِ اتّسعَ أمَلهُ قَصرُ عَمَلهُ ».

وقالَ عليه‌السلام : « أشكر الناس أقنعهم ، وأكفرهم للنّعم أجْشَعُهم ».

في أمثالِ هذا الكلامِ المفيدِ للحِكمةِ وفَصْلِ الخِطاب ، لم نَستوفِ ما جاء في معناهُ عنه عليه‌السلام ، لئلا يَنتشرَ الخِطاَبُ ، ويطولَ الكتابُ ، وفيما أثبتناهُ منه مقنعٌ لذوي الألبابِ.

٣٠٤

فصل

في آياتِ اللّهِ تعالى وبراهينِه الظّاهرةِ على

أمرِ المؤمنينَ عليه‌السلام ، الدّالّة على مكانِه من

اللّهِ عزّ وجلّ واختاصهِ من الكراماتِ بما انَفردَ به ممّن سواه ،

لِلدّعوةِ إِلى طاعتهِ ، والتّمسُّكِ بِولايتهِ ، والاستبصارِ بحقه ،

واليَقِين بامامَتِهِ ، والمَعرِفَةِ بِعصمَتِهِ وكمالِه وظهورِ حُجَتِهِ.

فمن ذلكَ ما ساوى به نبيَّيْنِ من أنبياءِ اللّهِ ورُسلِه وحُجّتينِ له على خلقِه ، ما لا شُبهةَ في صحّتِه ولا ريبَ في صوابه ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في ذكرِالمسيحِ عيسى بنِ مريَم رُوحِ اللّهِ وكلمتِه ونبيِّه ورسولهِ إلى خليقتِه ، وقدذكرَ قصتةَ والدتِه في حَمْلِها له ووضعِها إِيّاه والأعجوبة في ذلك ( قَالَتْ أنّى يَكُوْن ليْ غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنيْ بَشَر وَلَمْ أكُ بغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُكِ هُوَ عَلًيَّ هَينٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيةًَ لِلنّاسِ وَرَحْمةً مِنَّا وكَانَ أمْراً مَقْضِياً ) (١) وكانَ من آياتِ اللّهِ تعالى في المسيحِ عيسى بنِ مَرْيمَ عليه‌السلام نُطقه في المهدِ ، وخَرقُ العادةِ بذلكَ ، والأعجوبةُ فيه ، والمُعجِزُ الباهرُ لعقولِ الرِّجالِ ، وكانَ من اياتِ اللهِ تعالى في أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبِ عليه‌السلام كمالُ عقلِه ووَقارتُه ومعرفتُه باللّهِ وبرسولهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله معَ تَقارُب سِنِّه وكونه على ظاهرِ الحالِ في عِدادِ الأطفالِ حينَ دعاه رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إِلى التّصديقِ به والأقرارِ ، وكلّفه العلمَ بحقَه ، والمعرفةَ

ــــــــــــــــــ

(١) مريم ١٩ : ٢٠ ـ ٢١.

٣٠٥

بصانعِه ، والتّوحيدَ له ، وعَهدَ إِليه في الاستسرارِ بما أودعه من دينهِ ، والصيانةِ له والحفظِ وأداءِ الأمانةِ فيه.

وكانَ إِذْذاكَ عليه‌السلام على قولِ بعضِهم من أبناءِ سبعِ سنينَ ، وعلى قولِ بعضٍ آخرَمن أبناءِ تسعٍ ، وعلى قولِ الأكثرِمن أبناءِ عشرٍ ، فكانَ كمالُ عقلهِ عليه‌السلام وحصولُ المعرفَةِ له باللهِ وبرسولهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله آيةً للّهِ فيه باهرةً خَرَقَ بها العادةَ ، ودَلَّ بها على مكانهِ منه واختصاصِه به وتأهيلِه لما رشّحه له من إِمامةِ المسلمينَ والحجّةِ على الخلقِ أجمعينَ ، فجرى في خرقِ العادةِ لِما ذكرناه مجرى عيسى ويحيى عليهما‌السلام بما وصفناه ، ولولا أنّه عليه‌السلام كانَ في تلكَ الحالِ كاملاً وافراً وباللّهِ عزّ وجلّ عارفاً ، لمَا كلّفه رسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإقرارَ بنبوّته ، ولا ألزمه الإيمانَ به والتّصديقَ لرسالتهِ ، ولا دعاه إِلى الاعترافِ بحقِّه ، ولا افتتحَ الدّعوةَ به قبلَ كل أحدٍ منَ النّاسِ سوى خديجةَ عليها‌السلام زوجتهِ ، وَلماُ (١) ائتمنَه على سرِّه الّذي أُمِرَ بصيانتهِ ؛ فلمّا ـ أفرده النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلكَ من أبناءِ سنَه كلَهم في عصرِه ، وخصّه به دون من سواه ممّن ذكرناه ، دلّ ذلكَ على أَنّه عليه‌السلام كانَ كاملاً معَ تقارُبِ سنِّه ، وعارفاً باللّهِ تعالى ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلَ حُلْمِه ، وهذا هومعنى قولِ اللهِ عزّوجلّ في يحيى عليه‌السلام ( وآتيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً ) (٢) إِذ لا حكمَ أوضحُ من معرفةِ اللّهِ ، وأظهرُ منَ العلمِ بنبوّةِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشهرُ منَ القدرةِ على

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ولا.

(٢) مريم ١٩ : ١٢.

٣٠٦

الاستدلانِ ، وأيينُ من معرفةِ النّظرِ والاعتبارِ ، والعلمِ بوجوهِ الاستنباطِ ، والوصولِ بذلكَ إِلى حقائقِ الغائباتِ ؛ وإذا كان الأمرُعلى ما بيّنّاه ، ثبتَ أنّ اللّهَ سبحانَه قد خَرَقَ العادةَ في أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام بالآيةِ الباهرةِ التّي ساوى بها نبيّنه اللذَيْن نطقَ القرآنُ بآيتهِ (١) العظمى فيهما على ما شرحناه.

فصل

ومن ايات الله عزّ وجلّ الخارقةِ للعادةِ في أمير المؤمنينَ عليه‌السلام أنّه لم يُعْهَدْ لأَحدٍ من مبارزةِ الأقرانِ ومنازلةِ الأبطالِ ، مثلُ ما عُرِفَ له عليه‌السلام من كثرةِ ذلكَ على مرِّ الزّمانِ ؛ ثمّ إنّه لم يوجدْ في مُمارسي الحروب إلاّ من عَرَتهُ (٢) بشرٍّ ونِيلَ منه بجراحٍ أو شَينٍ إِلاّ أميرُالمؤمنينَ ، فإنّه لمَ يَنَلْه معَ طولِ مدّةِ زمانِ حربه (٣) جراح من عدوٍّ ولا شينٌ ، ولا وصلَ إِليه أحدٌ منهم بسوء ، حتّى كانَ من أمرهِ معَ ابنِ مُلْجَمٍ لَعنَه اللّهُ على اغتيالهِ إِيّاه ما كانَ ، وهذهِ أُعجوبةٌ أفردَه الله تعالى بالآيةِ فيها ، وخصّه بالعَلَمِ الباهرِ في معناها ، فدلّ بذلكَ على مكانهِ منه ، وتخصُّصِه بكرامتهِ التّي بَانَ بفضلِها من كافّةِ الأنامِ.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بأياته.

(٢) اي اصابته « اقرب الموارد ٢ : ٧٧٤ ».

(٣) في هامش « ش » : حروبه.

٣٠٧

فصل

ومن آياتِ الله تعالى فيهِ عليه‌السلام أنّه لا يُذكَر مُمارِسٌ للحروب التي لقيَ فيها عدوّاً إلاّ وهو ظافرٌ به حيناً وغيرُ ظافرٍ به حيناً ، ولا نالَ أحدٌ منهم خصمَه بجراح إِلاّ وقضى منها وقتاً وعوفي منها زماناً ، ولم يُعهَدْ من لم يُفْلِتْ منه قِرْنٌ في الحرب ، ولا نجا من ضربتِه أحدٌ فصَلَحَ منها إلاّ أميرُ المؤمنينَ عليه‌السلام ، فَإِنّه لا مِرْيةَ في ظَفَرِه بكلّ قِرْنٍ بارَزَه ، وإهلاكِه كلّ بطلٍ نازَلَه ، وهذا أيضاً ممّا انفردَ به عليه‌السلام من كافّةِ الأنام ، وخَرَقَ اللّهُ عزّ وجلّ به العادةَ في كلَ حين وزمانٍ ، وهومن دلائلهِ الواضحَةِ عليه‌السلام.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ تعالى فيهِ أيضاً ، أنّه معَ طولِ ملاقاتِه للحروب ومُلابَستِه إِياها ، وكثرةِ من مُنيَ به فيها من شُجعانِ الأعداءِ وصناديدِهم ، وتَجَمُّعِهم عليه واحتيالهِم في الفَتْكِ به وبذلِ الجهدِ في ذلكَ ، ما ولّى قطٌ عن أحدٍ منهم ظَهْرَه ، ولا انهزمَ عن أحدٍ منهم ، ولاتَزَحْزَحَ عن مكانِه ، ولا هابَ أحداً من أقرانِه ، ولم يلقَ أحدٌ سواه خصماً له في حربٍ إلاّ وثَبَتَ له حيناً وانحرفَ عنه حيناً ، وأقدمَ عليه وقتاً وأحجمَ عنه زماناً.

وإذا كانَ الأمرُ على ما وصفناه ، ثبتَ ما ذكرناه من انفرادِه بالآيةِ

٣٠٨

الباهرةِ والمعجزةِ الزّاهرةِ ، وخَرْقِ العادةِ فيه بما دلّ اللّهُ به على إِمامتِه ، وكَشَفَ به عن فرضِ طاعتِه ، وأبانَه بذلك من كافّةِ خليقتهِ.

فصل

ومن آياتِه عليه‌السلام وبيِّناتِه التّي انفردَ بها ممّن عداه ، ظُهورُ مَناقبِه في الخاصّةِ والعامّةِ ، وتَسخير الجمهورِ لنقلِ فضائلِه وما خصّه الله به من كرائمِه ، وتسليم العدوِّ من ذلكَ بماُ (١) فيه الحجّةُ عليه ، هذا معَ كثرةِ المنحرفينَ عنه والأعداءِ له ، وتَوَفُّرِ أسبابِ دواعيهم إِلى كتمانِ فضلهِ وجَحْدِ حقِّه ، وكونِ الدُّنيا في يدِ خًصومِه وانحرافِها عن أوليائه ، وما اتّفقَ لأضدادِه من سُلطانِ الدُّنيا ، وحَمْلِ الجمهورِ على إِطفاءِ نورِه ودَحْضِ أمرِه ، فخَرَقَ اللهُ العادةَ بنشرِفضائله ، وظُهورِ مَناقبِه ، وتسخيرِ الكلِّ للاعترافِ بذلكَ والإقرارِ بصحّتهِ ، واندِحاضِ ما احتالَ به أعداؤه في كتمانِ مَناقبه وجَحْدِ حقوقِه ، حتّى تمّتِ الحجّةُ له وظَهَرَ البرهانُ لحقِّه.

ولمّا كانتِ العادةُ جاريةً بخلافِ ما ذكرناه فيمنِ اتّفقَ له من أسباب خُمولِ أمرِه ما اتّفقَ لأميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام فانخرقتِ العادةُ فيه ، دلّ ذلكَ على بَينونتِه من الكافّةِ بباهرِ الآيةِ على ما وصفناه.

وقد شاعَ الخبرُ واستفاضَ عنِ الشّعْبِيِّ أنّه كانَ يقولُ : لقد كنتُ أسمع خطَباءَ بني أُميّةَ يَسُبُّونَ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ على

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : ما.

٣٠٩

مَنابرِهم فكأنماُ (١) يُشال بضَبْعهِ إِلى السّماءِ ، وكنتُ أسمعهُم يَمدحونَ أسلافَهم على مَنابرِهم فكأنمّاُ (٢) يَكشِفونَ عن جِيفةٍ (٣).

وقالَ الوَليدُ بنُ عبدِ المَلِكِ لبنيه يوماً : يا بَنيَّ عليكم بالدِّينِ فإِنِّي لم أرَ الدِّينَ بنى شيئاً فهَدَمَتْه الدُّنيا ، ورأيتُ الدُّنَيا قد بَنَتْ بُنياناً هَدَمَهُ (٤) الدِّينُ. ما زِلتُ أسمعُ أصحابَنا وأهلَنا يَسُبُونَ عليَّ بنَ أبي طالبِ ويَدفِنونَ فضائلَه ، يحَمِلونَ النّاسَ على شَنآنِه ، فلا يَزيدُه ذلكَ منَ القَلوب إلاّ قُرباً ، ويجَتهدونَ في تَقرييِهمُ (٥) من نُفوسِ الختقِ فلا يَزيدُهم ذلكَ إلاّ بُعداًُ (٦).

وفيما انتهى إِليه الأمرُ في دفنِ فضائلِ أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام والحيلولةِ بينَ العلماءِ ونشرِها ، ما لا شبهةَ فيه على عاقلٍ ، حتّى كانَ الرّجلُ اذا أرادَ أن يَرويَ عن أميرِ المؤمنينَ روايةً لم يَستطعْ أن يُضيفَها إِليه بذكرِ اسمِه ونَسَبِه ، وتَدعوه الضّرورةُ إِلى أن يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو يقولَ : حدَّثَني رجلٌ من قًريْشٍ ، ومنهم من يقولُ : حدَّثَني أبو زينبَ.

وروى عِكْرِمَةُ عن عائشةَ ـ في حديثِها له بمرضِ رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاتِه ـ فقالتْ في جملةِ ذلكَ : فخرجَ رسولُ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله متوكَّئاً على رجلَينِ من أهلِ بيتهِ ، أحدُهما الفَضْلً بنُ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : وكانّما.

(٢) في « م » وهامش « ش » : وكانما.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ ضمن حديث ٦.

(٤) في هامش « ش » فهدمه.

(٥) كذا في الاصل ، ولعل الانسب : تَقَرُّبهمِ.

(٦) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ / ذيل الحديث ٦.

٣١٠

العَبَّاسِ. فلما حَكَى عنها ذلكَ لعبدِاللّهِ بن عبّاسٍ رحمه‌الله قالَ له : أتعرف الرّجلَ الآخرَ؟ قال : لا ، لم تسمًّهِ لي ، قالَ : ذلكَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وما كانتْ أُمُّنا تَذكرُه بخيرٍ وهي تَستطيعُُ (١).

وكانتِ الوُلاةُ الجَوَرةُ تَضرب بالسِّياطِ من ذكره بخيرِ ، بل تَضرب الرِّقابَ على ذلكَ ، وتَعترضُ النّاسَ بالبراءةِ منه ؛ والعادةَ جاريةٌ فيمنِ اتّفقَ له ذلكَ إلا يُذْكَرَ على وجهٍ بخيرٍ ، فضلاً عن أن ْتذكَرَله فضائلٌ أوتُروى له مَناقبٌ أو تُثْبَتَ له حجّةٌ بحقٍّ. وإذا كانَ ظهورُ فضائلِه عليه‌السلام وانتشارُ مناقبِه على ما قدَّمنا ذِكرهَ من شياع ذلكَ في الخاصّةِ والعامّةِ وتسخيرِ العدوِّ والوليِّ لنقلِه ، ثَبتَ خرقُ العادِة فيه ، وبانَ وجهُ البرهانِ في معناه ، بالآيةِ الباهرةِ على ما قدَّمناه.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ تعالى فيهِ عليه‌السلام أنّه لم يمْنَ أحدٌ في ولدِه وذًريَّتهِ بما منيَ عليه‌السلام في ذريَّتِه ، وذلكَ أنّه لم يُعْرَفْ خوفٌ شَمِلَ جماعةً من ولدِ نبيٍّ ولا إِمامٍ ولا مَلِكِ زمانٍ ولا بَرٍّ ولا فاجرٍ ، كالخوفِ الّذي شَمِلَ ذرِّيَّةَ أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام ، ولا لحقَ أحداً منَ القتلِ والطّردٍ عن الدِّيارِ والأوطانِ والإخافةِ والإرهاب ما لحقَ ذُرِّيَّةَ أميرِ المؤمنين عليه‌السلام وولدَه ، ولم يَجْرِ على طائفةٍ منَ الَنّاسِ من ضروبِ

ــــــــــــــــــ

(١) اخرجه البخاري في صحيحه ٦ : ١٣ ، وباختلاف يسير في صحيح مسلم ١ : ٣١١ / ٤١٨. ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٨ ضمن حديث ٦.

٣١١

النّكالِ ما جرى عليهم من ذلكَ ، فقُتِلوا بالفَتْكِ والغِيْلةِ والاحتيالِ ، وبُنيَ على كثيرٍ منهم ـ وهم أحياءٌ ـ البُنيانُ ، وعُذِّبوا بالجوعِ والعطشِ حتَّى ذهبتْ أنفسُهم على الهلاكِ ، وأحوجَهم ذلكَ إِلى التّمزُّقِ في البلادِ ، ومُفارقةِ الدِّيارِ والأهلِ والأوطانِ ، وكتمانِ نَسَبهم عن أكثرِ النّاسِ. وبلغَ بهم الخوفُ إِلى الاستخفاء من أحبّائهم فضلاً عنِ الأعداءِ ، وبلغَ هربُهم من أوطانِهم إِلى أقصى الشّرق والغربِ والمواضعِ النّائيةِ عنِ العُمْرانِ ، وزَهِدَ في معرفتِهم أكثرُ النَّاسِ ، ورَغِبوا عن تقريبِهم والاختلاطِ بهم ، مخافةً على أنفسِهم وذراريِّهم من جبابرةِ الزّمانِ.

وهذهِ كلها أسبابٌ تقتضي انقطاعَ نظامِهم ، واجتثاثَ أُصولهِم ، وقلّةَ عددِهم. وهم معَ ماوصفناه أكثرُ ذرِّيَّةِ أحدٍ منَ الأنبياءِ والصّالحينَ والأولياءِ ، بل أكثرُ من ذراريِّ كلِّ أحدٍ منَ النّاسِ ، قد طبقوا بكثرتِهم البلادَ ، وغَلَبوا في الكثرةِ على ذراريِّ أكثرِ العِبادِ ، هذا معَ اختصاصِ مَناكحِهم في أنفسِهم دونَ البُعَداءِ ، وحصرِها في ذوي أنسابهم دِنْيةً منَ الأقرباءِ ، وفي ذلكَ خرقُ العادةِ على ما بيّنّاه ، وهو دليلُ الآَيةِ الباهرةِ في أمير المؤمنينَ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كما وصفناه وبيّنّاه ، وهذا ما لا شُبْهَةَ فيه ، والحمدُ لله.

فصل

ومن آياتِ اللّهِ عزّ وجلّ الباهرةِ فيه عليه‌السلام والخواصِّ التي أفردَه بها ، ودلَّ بالمعجزِ منها على إِمامتِه ووجوبِ طاعتِه وثبوتِ حجّتِه ، ما

٣١٢

هو من جملةِ الخرائج (١) التي أبانَ بها الأنبياءَ والرُّسُلَ عليهم‌السلام وجَعَلَها أعلاماً لهم على صدقِهم.

فمن ذلكَ ما استفاضَ عنهُ عليه‌السلام من إِخبارِه بالغائباتِ والكائنِ قبلَ كونه ، فلا يَخْرِمُ من ذلكَ شيئاً ، ويُوافِقُ المُخْبَرُمنه خَبَرَه حتّى يُتَحَقَّقَ الصدقُ فيه ، وهذا من أبهرِ مُعجزاتِ الأنبياءِ عليهم‌السلام.

ألا تَرى إِلى قولهِ تعالى فيما أبانَ به المسيح عيسى بن مريمَ عليه‌السلام منَ المعجزِ الباهرِ والآيةِ العجيبةِ الدّالّةِ على نبوّته : ( وَأُنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدخِروْنَ فيْ بيُوْتِكُمْ ) (٢). وجعلَ عزّاسمُه مثلَ ذلكَ من عجيب آياتِ رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالَ عندَ غَلَبةِ فارسٍ الرُّومَ : ( آلمَ *غُلبَتِ الرُّومُ * فيْ أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبوْنَ * فيْ بِضْعِ سِنِين ) (٣) فكانَ الأمرُفي ذلكَ كما قالَ.

وقالَ عزّ وجلّ في أهلِ بَدْرٍ قبلَ الوَقعةِ : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّوْنَ الدُّبُرَ ) (٤) فكانَ كما قالَ من غيرِ اختلافٍ في ذلكَ.

وقالَ عزّ قائلاً : ( لَتَدْخُلُنَّ اْلمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاء اللّهُ امِنِيْنَ مُحَلِّقِيْنَ

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : « الخرائج : هي المعجزات ، يقال : خرائج الشريعة وهي التي تخرج على ايديهم مصححة لدعاويهم وكذلك هي في كتاب الجليس والانيس للمعافي ابن زكريا من خ رج ».

(٢) آل عمران ٣ : ٤٩.

(٣) الروم ٣٠ : ١ ـ ٤.

(٤) القمر ٥٤ : ٤٥.

٣١٣

رُءُؤْسَكُمْ وَمُقَصِّرِيْنَ لا تَخَافُوْنَ ) (١) فكانَ الأمر في ذلكَ كما قالَ.

وقالَ جلّ وعزّ : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأيتَ النَّاسَ يَدْخُلُوْنَ فِيْ دِيْنِ اللّهِ أفْوَاجَاً ) (٢) فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

وقالَ مُخبِراً عن ضمائرِقومِ من أهلِ النِّفاقِ : ( وَيَقُوْلُوْنَ فِيْ أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ) (٣) فخبَّرَعن ضمائِرِهم وما أخفَوْه في سرائرِهم.

وقالَ عزّ وجلّ في قصّةِ اليهود : ( قُلْ يا أيُّهَا الَّذِيْنَ هَادُوْا إِنْ زَعَمْتُمْ أثَكُمْ أوْليَاءُ للّهِ مِنْ دُوْنِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا اْلمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدَاً بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ وَاللُّه عَلِيْمٌ بالظَّاِلمِيْنَ ) (٤) فكانَ الأمر كما قالَ ، ولم يجسر أحد منهم أنْ يَتمنّاه ، فحقّقَ ذلك خبرَه ، وأبان عن صدقِه ، ودلّ به على نبوته عليه‌السلام ؛ في أمثالِ ذلكَ ممّا يطول به (٥) الكتابُ.

فصل

والّذي كانَ من أمير المؤمنينَ عليه‌السلام من هذا الجِنْس ، ما لا يُستطاعُ إِنكارُه إلاً معَ الغَباوةِ والجهلِ وألبَهْتِ والعِناد ؛ ألا ترى إِلى ما تظاهرتْ به الأخبار ، وانتشرتْ به الآثارُ ، ونقلتْه الكافّةُ عنه عليه‌السلام من قوله قبلَ

ــــــــــــــــــ

(١) الفتح ٤٨ : ٢٧.

(٢) النصر ١١٠ : ١ ـ ٢.

(٣) المجادلة ٥٨ : ٨.

(٤) الجمعة ٦٢ : ٦ ـ ٧.

(٥) في « م » وهامش « ش » : باثباته.

٣١٤

قتالِه الفِرَقَ الثّلاثَ بعدَ بيعتِه : « أُمرتُ بقتالِ النّاكِثينَ والقاسِطينَ والمارِقينَ » (١) فقاتلَهم عليه‌السلام وكانَ الأمرُ فيما خبر به على ما قالَ.

وقالَ عليه‌السلام لطلحةَ والزُّبير حين استأذناه في الخروجِ إِلى العُمرةِ : « لا واللّهِ ما تريدانِ العُمرةَ ، وإنمّا ترَيدانِ البَصرةَ » (٢) فكان الأمرُ كما قالَ.

وقالَ عليه‌السلام لابنِ عبّاسٍ وهويخبرُه عنِ استئذانِهما له في العُمرةِ : « إِنّني أذِنت لهما معَ عِلمي بما قدِ انطويا عليه منَ الغدرِ ، واستظهرتُ باللّهِ عليهما ، وإنّ اللّهَ تعالى سيردُّ كيدَهما يُظفِرُني بهما » (٣) فكانَ الأمرُ كما قالَ.

وقالَ عليه‌السلام بذي قارٍ وهوجالسٌ لأخذِ البيعةِ : « يأتيكم من قِبَل (٤) الكُوفةِ الفُ رجلٍ ، لا يَزيدونَ رجلاً ولا يَنقُصون رجلاً ، يُبايعوني على الموتِ » قال ابنُ عبّاسٍ : فجزِعتُ لذلكَ ، وخِفْتُ أن يَنقُصَ القومُ عنِ العددِ أو يَزيدوا عليه فيَفسُدَ الأمرُ علينا ، ولم أزَلْ مهموماً ( دَأبي إِحصاءُ ) (٥) القومِ ، حتّى وردَ أوائلهم ، فجعلتُ أُحصيهم فاستوفيتُ عددَهم تسعَمائةِ رجلٍ وتسعةً وتسعينَ رجلاً ، ثمّ انقطعَ مجئ القومِ ، فقلتُ : إِنّا للّهِ وإنّا إِليهِ راجعونَ ، ماذا حملَه على ما قالَ؟ فبينا أنا مفكّرٌ في ذلكَ إذ رأيتُ شخصاً قد أقبلَ ، حتّى دنا فإِذا هو راجلٌ عليهِ قَباءُ

ــــــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في الخصال : ١٤٥.

(٢) ذكره المصنف في الجمل : ٨٩.

(٣) ذكره المصنف في الجمل : ٨٩.

(٤) في « ش » : اهل.

(٥) في « م » وهامش « ش » : واني احصي.

٣١٥

صوفٍ معَه سيفُه وتُرْسُه وإداوتُهُ (١) ، فقَربَ من أميرِ المؤمنينَ عليه‌السلام فقالَ له : امدُدْ يدَكَ أُبايِعْكَ ، فقالَ له أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « وعلامَ تبايعُني؟ » قالَ : على السّمعِ والطّاعةِ ، والقتالِ بينَ يَدَيْكَ حتى أموتَ أو يَفتحَ اللّهُ عليكَ ، فقالَ له : « ما اسمُك؟ » قالَ أُويرٌ ، قالَ : « أنتَ أُويسٌ القَرَنيُّ؟ » قالَ : نعم ، قالَ : « الله أكبرُ ، أخبرَني حبيبي رسولُ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنِّي أُدرِكُ رجلاً من أُمّتِه يُقالُ له أُويسٌ القَرَنِيَّ ، يكونَ من حزبِ اللهِ ورسوله ، يموت على الشّهادةِ ، يدخلُ في شفاعتِه مثلُ ربيعةَ ومُضَرَ ». قالَ ابنُ عبّاسٍ فسُرِّيَ عنِّيُ (٢).

ومن ذلكَ قولُه عليه‌السلام وقد رفعَ أهلُ الشّام المصاحفَ ، وشكَّ فريقٌ من أصحابه ولَجَؤوا إِلى المسالمةِ ودَعَوْه إِليها : « ويَلَكم إِنّ هذهِ خديعة ، وما يُريدُ القَومُ القرآن ، لأنّهم ليسوا باهلِ قرآني ، فاتّقوا اللّهَ وامضُوا على بصائرِكم في قتالِهم ، فإِنْ لم تفعلوا تفرّقتْ بكم السبُلُ ، ونَدِمتم حيثُ (٣) لا تنفعُكم النّدامةً » (٤) فكانَ الأمرُ كما قالَ ، وكفرَ القومُ بعدَ التّحكيمِ ، ونَدِموا على ما فَرَطَ منهم في الإجابةِ إِليه ، وتفرّقتْ بهم السُّبُلُ ، وكانَ عاقبتهم الدَّمار.

وقالَ عليه‌السلام وهومتوجِّهٌ إِلى قتالِ الخوارج : « لولا أنّني أخافُ

ــــــــــــــــــ

(١) الاداوة : اناء يحمل يستفاد من مائه في التطهير. « الصحاح ـ ادا ـ ٦ : ٢٢٦٦ ».

(٢) اخرجه الكشي في اختيار معرفة الرجال ١ : ٥٦ / ٣١٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٣ ( ط / ح ).

(٣) في « م » و « ح » : حين.

(٤) ذكر الديلمي في الارشاد : ٢٥٥ نحوه ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٨ : ٥٩٣ ( ط / ح ).

٣١٦

أن تتكلوا وتتركوا العملَ لأخبرتُكم بما قضاه اللّهُ على لسانِ نبيًه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن قاتلَ هؤلاءِ القومَ مستبصِراً بضلالتهِم ، وإنّ فيهم لَرجلاً مَوْدُوْنَُ (١) اليدِ ، له كثَدْي المرأةِ ، هم شرُّ الخَلقِ والخليقةِ ، قاتِلهُم أقربُ الخلقِ إلى الله وسيلة » ولم يكنِ المُخْدَجً معروفاً في القومِ ، فلمّا قُتلوا جعلَ عليه‌السلام يطلًبُه في القتلى ويقولُ : « واللّهِ ما كَذَبْت ولا كُذِبْت » حتّى وُجِدَ في القومِ ، فشُقَّ قميصُهُ (٢) فكانَ على كتفهِ سِلْعَةٌ (٣) كثَدْي المرأةِ ، عليها شَعَراتٌ إذا جُذِبَتِ انجذبَ (٤) كتفُه معَها ، وإذا تُرِكَتْ رجعَ كتفُه إِلى موضعِه. فلما وجدَه كبر ثمّ قالَ : « إِنّ في هذا لَعبرةً لمنِ استبصرَ » (٥).

فصل

وروى أصحابُ السيرة عن جُندب بنِ عبدِاللهِ الأزْدِيِّ قالَ : شَهِدتُ معَ عليٍّ عليه‌السلام الجَمَلَ وصِفَيْنَ لاَ أشُكُّ في قتالِ من قاتَله ، حتى نزلْنا النهروَانَ فدخلني شكّ وقلتُ : قُراؤنا وخِيارُنا نقتلهُم!؟ إِنّ هذا لأمرٌ عظيمٌ. فخرجت غُدْوَةً أمشي ومعي إداوةُ ماءٍ حتّى برزتُ عنُِ (٦)

ــــــــــــــــــ

(١) المودون : القصير العنق والالواح واليدين الناقص الخلق الضيق المنكبين « القاموس ـ ودن ـ ٤ : ٢٧٥ ».

(٢) في « م » وهامش « ش » : عن قميصه.

(٣) السلعة : هي غدة تظهر بين الجلد واللحم اذا غمزت باليد تحركت « النهاية ٢ : ٣٨٩ ».

(٤) في « م » وهامش « ش » : انجذبت.

(٥) اشار الى نحوه ابو يعلى في مسنده ١ : ٣٧١ ، ٣٧٤ ، ٤٢١ ، وابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ٢٧٦ ، ونقله المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٣ / ٢.

(٦) في « م » وهامش « ش » : من.

٣١٧

الصًّفوفِ ، فرَكَزتُ رُمحي ووضعتُ تُرسي إليه واستترت منَ الشّمس ، فإِنّي لَجالسٌ حتّى وردَ علي أميرُ المؤمنينَ عليه‌السلام فقالَ لي : « يا أخا الأزدُ (١) ، أمعَكَ طَهورٌ؟ » قلت : نعم ، فناولتُه الإداوةَ ، فمض حتّى لم أرَهُ ثمّ أَقبلَ وقد تَطَهَّرَ فَجَلَسَ في ظِلِّ التُرْسِ ، فإِذا فارسٌ يَسألُ عنه ، فقلتُ : يا أميرَ المؤمنينَ هذا فارسٌ يُريدُكَ ، قالَ : « فأشِرْ إِليه » فأشرتُ إِليه فجاءَ فقالَ : يا أميرَالمؤمنينَ قد عبرَالقومً وقد قطعوا النّهرَ ، فقالَ : « كلّا ما عبروا » قالَ : بلى واللّهِ لقد فعلوا ، قالَ : « كلّا ما فعلوا » قالَ : فإِنّه لكذلكَ إذ جاءَ آخرُ فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ قد عبرَ القومُ ، قالَ : « كلا ما عبروا » قالَ : والله ما جئتًكَ حتّى رأيت الرّاياتِ في ذلكَ الجانبِ والأثقالَ ، قال : « واللّهِ ما فعلوا ، وِإنّه لَمصرعُهم ومُهراقُ دمائهم » ثمّ نهضَ ونهضتُ معه.

فقلتُ في نفسي : الحمدُ للهِّ الّذي بصّرني هذا الرّجلَ ، وعرّفني أمرَه ، هذا أحدُ رجلينِ : إِمّا رجلٌ كذّابٌ جريء أوعلى بيِّنةٍ من ربِّه وعهدٍ من نبيِّه ، اللّهمّ إِنّي أُعطيك عهداً تسألني عنه يومَ القيامِة ، إن أنا وجدتُ القومَ قد عبروا أنْ أكونَ أوّلَ من يقاتلُه وأوّلَ من يَطعنُ بالرُّمحِ في عينهِ ، وِانْ كانوا لم يَعبروا ( أنْ أُقيمَ ) (٢) على المناجزةِ والقتالِ. فدُفِعْنا إِلى الصُّفوفِ فوَجَدْنا الرّاياتِ والأثقالَ كما هي ، قالَ : فأخذَ بقَفايَ ودَفعَني ثمّ قالَ : « يا أخا الأزْدُ (٣) ، أتبينِّ لكً الأمرُ؟ » قلتُ : أجلْ يا أميرَالمؤمنينَ ، قالَ : « فشأْنكَ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : أزد.

(٢) في هامش « ش » و « م » نسخة ثانية : ان اُتِم ، وفي متن « ش » هكذا : اَثِم ، واثبتنا ما في نسخة « م » ونسخة من هامش « ش ».

(٣) في هامش « ش » نسخة اخرى : اخا أزد.

٣١٨

بعدوِّكَ » فقتلتُ رجلاً ، ثم قتلتُ اخرَ ، ثمّ اختلفتُ أنا ورجلٌ آخر أضربُه ويَضرِبُني فوَقعْنا جميعاً ، فاحتملني أصحابي فأفقتُ حينَ أفقتُ وقد فَرغَ القومُُ (١).

وهذا حديثٌ مشهورٌ شائعٌ بينَ نَقَلةِ الآثارِ ، وقد أخبرَ به الرّجلُ عن نفسِه في عهدِ أميرِ المؤمنين عليه‌السلام وبعدَه ، فلم يَدفعْه عنه دافع ولا أنكرَ صدقَه فيه مُنكِر ، وفيه إِخبارٌ بالغيب ، وِابانةٌ عن علمِ الضّميرِ ومعرفة ما في النَفوسِ ، والايةُ باهرةٌ فيه لا يُعادِلهُا إِلاّ ما ساواها في معناها من عظيمِ المعجزِوجليلِ البرهانِ.

فصل

ومن ذلكَ ما تواترتْ به الرِّواياتُ من نعيِه عليه‌السلام نفسَه قبلَ وفاتِه ، والخبرِ عنِ الحادثِ في قتلِه ، وأنه يَخرجُ منَ الدُّنيا شهيداً بضربةٍ في رأْسهِ يَخضِب دمُها لحيتَه ، فكانَ الأمرُ في ذلكَ كما قالَ.

فمنَ اللفظِ الّذي رواه الرواة في ذلكَ قولُه عليه‌السلام : « واللهِ لتُخْضبَنَّ هذهِ من هذا » ووضع يدَه على رأْسِه ولحيتهِ (٢).

وقولهُ عليه‌السلام : « واللهِ لَيَخْضِبَنَّها من فوقِها » وأومأَ إِلى شيبتهِ « ما

ــــــــــــــــــ

(١) الكافي ١ : ٢٨٠ / ٢ نحوه ، وكذا كنز العمال ١١ : ٢٨٩ عن الطبراني في الوسيط ، وابن ابي الحديد في شرح النهج ٢ : ١ ٢٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤١ : ٢٨٤ / ٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ : ٣٤ ، الغارات ٢ : ٤٤٣ ، الكنى للدولابي : ١٤٣ ، الاستيعاب ٣ : ٦١.

٣١٩

يَحبِسُ أشقاها!؟ » (١).

وقولُه عليه‌السلام : « ما يَمنعُ أشقاها أن يَخضِبَها من فوقِها بدم؟! » (٢).

ًوقولُه عليه‌السلام : « أتاكم شهر رمضانَ ، وهوسيد الشهور وأوّلُ السّنةِ ، وفيه تَدورُ رَحَى السُّلطانِ ، ألا وانّكم حاجُّوا العام صفّاً واحداً ، وآيةُ ذلكَ أنّي لستُ فيكم » فكانَ أصحابُه يقولونَ : إِنّه يَنعى إِلينا نفسَه (٣) ، فضُرِبَ عليه‌السلام في ليلةِ تسعَ عَشرةَ ، ومضى في ليلةِ إِحدى وعشرينَ من ذلكَ الشّهرِ.

ومنها ما رواه الثِّقات عنه : أنّه كانَ يُفطِرُ في هذا الشّهرِ ليلةً عندَ الحسنِ ، وليلةً عندَ الحسينِ ، وليلةً عندَ ابنِ عبّاسُ (٤) ، لا يَزيدُ على ثلاثِ لُقَمٍ ، فقالَ له أحدُ ولديه ـ الحسنُ أو الحسينُ عليهما‌السلام ـ في ذلكَ ، فقالَ : « يا بُنيَّ ، يأْتي أمرُ اللّهِ وأنا خَميصٌ ، إِنّما هي ليلة أو ليلتانِ » فاُصيبَ منَ الليلُِ (٥).

ومنها ما رواه أصحابُ الأثارِ : أنّ الجَعْدَ بنَ بَعْجَةُ (٦) ـ رجلاً منَ

ــــــــــــــــــ

(١) الغارات ٢ : ٤٤٤.

(٢) الغارات ١ : ٣٠ ، الاستيعاب ٣ : ٦١.

(٣) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٢ : ١٩٣ / ٩.

(٤) في هامش « ش » و « م » نسخة اخرى : عبدالله بن جعفر. وهو الاولى ، انظر اوائل الارشاد.

(٥) اخرجه الخوارزمي في المناقب : ٣٩٢ / ٤١٠ ، وابن الأثير في اُسد الغابة ٤ : ٣٥ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة : ١٣٩ ، وانظر مصادر اُخرى في أوائل الكتاب في فصل آخر من الاخبار التي جاءت بنعيه.

(٦) في « ش » و « م » : نعجة ، وفي هامشها : بعجة وليس منهم نعجة.

٣٢٠