الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتيكُمْ في الْكَلالَةِ إِن امْرُؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولدِّ وله اُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرثُهَا اِنْ لَمْ يَكُنْ لَهاَ ولد ) (١) وقال جلّت عظمته : ( وَاِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أًوِ امْرَاَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ اُخْتٌ فَلِكلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ فَاِن كانوا اَكْثَرَ مِن ذَلِك فَهُمْ شُركاءُ في الثُلُثِ ) (٢) (٣).

وجاءت ألروايةُ : أَنّ بعضَ أَحبار اليهود جاء إِلى أَبي بكر فقال : أَنت خليفةُ نبيّ هذه الأمة؟ فقال له : نعم ، فقال : فإِنّا نَجِدُ في التوراة أَنّ خلفاءَ الأَنبياء أَعلمُ أُممهم ، فخبرني عن الله تعالى أَين هو في السماء أَم في الأَرض؟ فقال له ابو بكر : في الَسّماء على العرش ، فقال اليهودي : فأَرَى الأَرضَ خاليةً منه ، وأَراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أَبو بكر : هذا كلامُ الزَنادقة ، اُغرُبْ عنّي وإلاّ قتلتُك. فولّى الحَبْر متعجّباً يستهزئ بالإسلام ، فاستقبله أَميرُ المؤمنين عليه‌السلام فقال له : « يا يهودي ، قد عرفتُ ما سألتَ عنه ، وما أُجِبتَ به ، وانّا نقول : إنّ الله جلّ وعزّ أيَّن الأَيْنَ فلا أين له ، وجلّ عن أن يحوِيَه مكان ، وهو في كلّ مكان بغيرمماسّة ولا مُجاوَرة ، يحُيط علماً بما فيها ولا يخلوشيءٌ منها من تدبيره ، وإِنّي مُخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يُصَدِّق ما ذكرتُه لك ، فان عرفتَه أتؤمِنُ به؟ » قال اليهوديُ : نعم ، قال : « ألستم تَجِدون في بعض كتبكم أنَ موسى بن عِمران عليه‌السلام كان ذاتَ يوم جالساً إِذ جاءه مَلَكٌ من المَشرق ، فقال له موسى : من أين أَقبلت؟ قال : من عند الله عزّ

ــــــــــــــــــ

(١) النساء ٤ : ١٧٦.

(٢) النساء ٤ : ١٢.

(٣) سنن الدارمي ٢ : ٣٦٥ ، الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ١٦١ ، وشرح النهج ١٧ : ٢٠١ ، وفيها صدر الحديث ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٤٤ / ١٣.

٢٠١

وجلّ ، ثمّ جاءه مَلَك من المَغرب فقال له : من أين جئتَ؟ قال : من عند الله ، وجاءه مَلَك آخر ، فقال : قد جئتُك من السماء السابعة من عند الله تعالى ، وجاءه مَلَك آخر فقال : قد جئتُك من الأرض السابعة السُفلى من عند الله عزّ اسمه ، فقال موسى عليه‌السلام : سبحانَ من لا يخَلو منه مكانٌ ، ولا يكون إلى مكان أقربَ من مكان » فقال اليهودي : ( أشهد أَنَ هذا هو ) (١) الحق ، وأنك أحقُّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه (٢).

وأمثالُ هذه الأَخبار كثيرة.

فصل

في ذكر ما جاء من قضاياه عليه‌السلام في

إمارة عُمَر بن الخَطّاب

فمن ذلك ما جاءت به العامّة والخاصّة في قصّة قُدامَة بن مَظْعُون وقد شَرِب الخمرَ فأراد عمرُ أن يَحُدّه ، فقال له قُدامة : إِنّه لا يجب عليَّ الحَدُّ ، لأنَّ الله تعالى يقول : ( لَيْسَ عَلَى ألَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ألصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فيما طَعِموا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلوا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : أشهد أن لا إله إلآ هو ، هذا هو.

(٢) الاحتجاج ١ : ٢٠٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٤٨.

٢٠٢

الصَّالِحَاتِ ثَمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ) (١) فدرأ عمرُ عنه الحدّ ، فبَلَغ ذلك أميرَ المؤمنين عليه‌السلام فمشى إِلى عُمَر فقال له : « لمَ تَرَكْتَ إِقامةَ الحدّ على قُدامة في شُربه الخمر؟ » فقال له : إِنّه تلا عليّ الآية ، وتلاها عمر على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « ليس قًدامَة من أَهل هذه الاية ، ولا مَنْ سَلَك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللهُ عزّوجلّ ، إِنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون حراماً ، فاردُدْ قُدامة واستَتِبْه ممّا قال ، فإن تاب فأَقِمْ عليه الحدّ ، وإِن لم يَتُبْ فاقتًله فقد خَرَج عن المِلّة » فاستيقظ عُمَر لذلك ، وعرف قُدامة الخبر ، فأظهر التوبةَ والإقلاع ، فدرأَ عمر عنه القتلَ ، ولم يَدْرِ كيف يَحُدّه. فقال لأمير المؤمنين : أَشر عليَّ في حدّه ، فقال : « حدّه ثمانين ، إِنّ شاربَ الخمر إِذا شَرِبها سَكر ، وإِذا سَكَر هذى ، وإذا هَذى افترى » فَجَلده عمر ثمانين وصار إِلى قوله في ذلك (٢).

وروَوْا : أنَّ مجنونة على عهد عمر فَجَر بها رجلٌ ، فقامت البيّنةُ عليها بذلك ، فأمر عمر بجلدها الحَدّ ، فمُرّ بها على أمير المؤمنين عليه‌السلام لتُجْلَد فقال : « ما بالُ مجنونة آل فلان تعتل (٣)؟ » فقيل له : أنّ رجلاً فجَر بها وهَرَب ، وقامت البيّنةُ عليها ، فأمر عمر بجلدها ، فقال لهم : « رُدّوها إليه وقولوا له : أما علمتُ أنّ هذه مجنونةُ آل فلان! وأنّ النبيَّ صلّى الله

ــــــــــــــــــ

(١) المائدة ٥ : ٩٣.

(٢) روي نحوه في الكافي ٧ : ٢١٥ / ١٠ ، التهذيب ١٠ : ٩٣ ، تفسير العياشي ١ : ٣٤١ / ١٨٩ ، علل الشرائع : ٥٣٩ / ٧ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٦٦ ، والدر المنثور ٣ : ١٦١ ولم يذكرا اسم قدامة بن مظعون ، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٠ : ٢٤٩ / ٤٣ ، ٧٩ : ١٥٩ / ١٤.

(٣) تعتل : تجذب جذباً عنيفاً. « الصحاح ـ عتل ـ ٥ : ١٧٥٨ ».

٢٠٣

عليه وآله قال : رُفع القلمُ عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق! إِنّها مغلوبةٌ على عقلها ونفسها » ، فرُدّت إِلى عمر ، وقيل له ما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : فرّج اللهُ عنه لقد كدتُ أَن أَهْلكَ في جَلدْها. ودرأ عنهأ الحَد (١).

وروَوْا : أَنّه أتي بحاملٍ قد زنت فأَمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هَبْ لك سبيلٌ عليها ، أيّ سبيل لك على ما في بطنها!؟ والله تعالى يقول : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرى ) (٢) » فقال عمر : لا عِشْتُ لمُعضلةٍ لا يكون لها أبو حسنِ ، ثمّ قال : فما أَصنع بها؟ قال : « اِحتَطْ عليها حتّى تَلِد ، فإِذا وَلَدتْ ووَجَدتَ لولدِها من يكفلُه فأقِم الحدَّ عليها » فسُرّي بذلك عن عمر وعوّل في الحكم به على أميرِ المؤمنين عليه‌السلام (٣).

وروَوْا : أنه استدعى امرأةً تتحدّثُ عندها الرجال ، فلمّا جاءها رسلُه فزعت وارتاعت وخرجت معهم ، فأملصت (٤) فوقع إِلى الأرض ولدُها يَسْتهِلّ ثمّ مات ، فبلغ عمر ذلك فجمع أصحابَ رسول الله

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٦٦ ، وروي نحوه في مسند أحمد ١ : ١٥٤ ، سنن أبي داود ٤ : ١٤٠ ، مسند أبي يعلى ١ : ٤٤٠ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٥٩ ، سنن الدارقطني ٣ : ١٣٨ / ١٧٣ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٦٤ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٦٧ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٧٩ : ٨٨ / ٦.

(٢) الانعام ٦ : ١٦٤ ، الإسراء ١٧ : ١٥ ، فاطر٣٥ : ١٨ ، الزمر ٣٩ : ٧.

(٣) روي باختصار في الاختصاص : ١١١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٢ ، كفاية الطالب : ٢٢٧ ، إرشاد القلوب : ٢١٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ٤٩ / ٣٥.

(٤) أملصت المرأة بولدها؟ أسقطته. « الصحاح ـ ملص ـ ٣ : ١٠٥٧ ».

٢٠٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله وسألهم عن الحكم في ذلك ، فقالوا بأجمعهم : نراك مؤدِّباً ولم ترِد إلاّ خيراً ولا شيءَ عليك في ذلك. وأميرُ المؤمنين عليه‌السلام جالس لا يتكلّم في ذلك ، فقال له عمر : ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ قال : « قد سمعتَ ما قالوا » قال : فما تقول أنت؟ قال : « قد قال القومُ ما سمعتَ » قال : أقسمت عليك لتقولَنَّ ما عندك ، قال : « إِن كان القوم قاربوك فقد غَشّوك ، وإن كانوا ارتؤوا فقد قَصّروا ، الديةُ على عاقِلتك لأنَّ قتلَ الصبي خطأ تعلّق بك » فقال : أَنت والله نَصَحْتَني من بينهم ، والله لا تبرَح حتى تُجزِّئ الديةَ على بني عَديّ ، ففعل ذلك أميرُ المؤمنين عليه‌السلام (١).

وروَوْا : أنَّ امرأتين تنازعَتا على عهد عمر في طفلٍ ادّعته كلُّ واحدة منهما ولداً لها بغيربيّنة ، ولم يُنازِعهما فيه غيرُهما ، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفَزِعَ فيه إِلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوَّفهما فأقامتا على التنازع والاختلاف ، فقال عليه‌السلام عند تماديهما في النزاع : « ايتوني بمنْشار » فقالت له المرأتان : ما تصنع؟ فقال : « أقُدّه نصفين ، لكَلّ واحدة منكما نصفه » فسكتت احداهما وقالت الاخرى : الله الله يا أَبا الحسن ، إِن كان لا بُدَّ من ذلك فقد سمحتُ به لها ، فقال : « الله اكبر ، هذا ابنك دونها ، ولو كان ابنها لرقَّت عليه وأشفقَتْ » فاعترفتِ المرأة الأخرى بأنَّ الحقّ

ــــــــــــــــــ

(١) رواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٦ ، ونحوه في أنساب الأشراف ٢ : ١٨٧ ، الكافي ٧ : ٣٧٤ / ١١ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٣١٢ / ١١٦٥ ، شرح نهج البلاغة ١ : ١٧٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٩٤ / ٣١.

٢٠٥

مع صاحبتها والولدُ لها دونه ، فسُرِي عن عمر ودعا لأمير المؤمنين عليه‌السلام بما فَرّج عنه في القضاء (١).

ورُوِي عن يونس ، عن الحسن : أن عمر أُتي بامرأةٍ قد وَلَدت لستة أشهر فهمَّ برجمها ، فقال له أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « إِنْ خاصمتك بكتاب الله خَصَمْتُك ، إِنّ الله عزّ اسمه يقول : ( وَحَمْلهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (٢) ويقول تعالى : ( وَاْلوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ اَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن لمِنْ اَرَادَ اَنْ يُتِمَّ آلرَّضَاعَةَ ) (٣) فإِذا تَمّمت المرأة الرَضاعة سنتين ، وكان حَمله وفصاله ثلاثين شهراً ، كان الحمَل منها ستة أشهر » فخلّى عمر سبيلَ المرأة وثبت الحكم بذلك ، يعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنه إِلى يومنا هذا (٤).

وروَوْا : أنَّ امراةً شَهِد عليها الشهودُ أَنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يَطؤها ليس ببعلٍ لها ، فأمر عمر برَجمها وكانت ذات بَعْل ، فقالت : اللهم إِنّك تعلم أني بريئة ، فغضب عمر وقال : وتَجْرَح الشهودَ أَيضاً ، قال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « رُدّوها واسألوها ، فلعلّ لها عُذراً » فرُدَّت وسُئلت عن حالها فقالت : كان لأهلي إِبل فخرجتُ في إِبل أَهلي وحَمَلْتُ معي ماء ولم يكن في إِبلي لَبنٌ ، وخرج معي

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٧ ، ونحوه في فضائل شاذان : ٦٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٢ / ٢٦.

(٢) الأحقاف ٤٦ : ١٥.

(٣) البقرة ٢ : ٢٣٣.

(٤) روي نحوه في الدر المنثور ١ : ٢٨٨ ، و ٦ : ٤٠ ، سنن سعيد بن منصور ٢ : ٦٦ ، السنن الكبرى ٧ : ٤٤٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٥ ، ونقله الحويزي في تفسير نور الثقلين ٥ : ١٤ / ١٩ ، والعلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٢ / ٢٧.

٢٠٦

خليطُنا وكانت في إِبله لبنٌ ، فنَفِذَ مائي ، فاستسقيتهُ فأبى أن يسقِيَني حتّى أُمكَنَه من نفسي ، فأبيتُ ، فلمّا كادت نفسي تخْرُج أمكنتهُ من نفسي كُرْهاً. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الله أكبر ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (١) » فلمّا سَمِع ذلك عمر خلّى سبيلها (٢).

فصل

وِممَّا جَاءَ عَنْه عليه‌السلام في مَعنْى القَضَاءِ وصَوَاب الرَّأْي ، وإِرْشَادِ القَوْمِ إِلى مَصَالِحِهِمْ وَتَدَارُكِ مَا كَادَ يَفْسُدْ بهِمْ (٣) لَولاَ تَنْبيْهُهُ عَلى وَجْهِ الرَّأْي فِيْه ؛ مَا حَدَثَ بِهِ شَبَابَةُ بْنً سَوَّار ، عن أَبي بَكْر الهُذًليّ قال : سَمِعْتُ رِجَالاً مَنْ عُلَمَائنا يقولون : تَكاتَبَتِ الأعاجِمُ مِنْ أَهْلِ هَمَذانَ وأهلِ الرَّيِّ وأهل أَصْفَهانَ وقوْمِسَ (٤) ونَهَاوَنْدَ ، وأرْسَلَ بعضُهُمْ إلى بعضٍ : أَنَّ مَلِكَ العَرَب الذَّي جاءَ بدينِهِمْ وأخْرَجَ كِتابَهًمْ قد هَلَكَ ـ يَعْنُوْنَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وانهُ مَلَكَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١٧٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٦٩ ، وروي نحوه في تفسير العياشي ١ : ٧٤ ، الفقيه ٤ : ٢٥ : التهذيب ١٠ : ٤٩ / ١٨٦ ، كنز العمال ٥ : ٤٥٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٣ / ذح ٢٧ ، و ٧٩ ، ٥٠ / ٣٦.

(٣) في « م » وهامش « ش » : يفسدهم.

(٤) قومِسُ : تعريب كومس ، وهي كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن وقرى ومزارع ، وهي في ذيل جبال طبرستان ، وقصبتها المشهورة دامغان وهي بين الري ونيسابور ، ومن مدنها المشهورة بسطام وبيار وبعض يدخل فيها سمنان. « معجم البلدان ٤ : ٤١٤ ».

٢٠٧

رَجُل مُلْكاً يَسِيْراً ثمَّ هَلَكَ ـ يعنون أَبا بكر ـ وَقامَ بعده آخَرُ قَدْ طالَ عُمُرُهُ حتّى تَنَاولكُمْ في بلادِكُمْ وأَغْزَاكُمْ جُنُودَهُ ـ يعنون عُمَرَ بنَ الخَطَّاب ـ وأنه غيرمنتهٍ عَنكم حتى تُخرجوا من في بلادكم من جنوده ، وتخرجوا إليه فتغزوه في بلاده ، فتعاقدوا على هذا وتعاهدوا عليه.

فلمّا انتَهى الخَبَرُ إِلى مَنْ بِالكُوْفَةِ مِنَ المُسْلمين أَنهوه إلى عمربن الخَطّاب ، فلمّا انتهى إليه الخبر فزع عمر لذلك فزعاً شديداً ، ثمّ أتى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : معاشر المهاجرين والأَنصار ، إِنّ الشيطان قد جمع لكم جُموعاً ، وأقبل بها ليطفئ نور الله ، أَلا إِن أهل همذان وأهل اصفهان والري وقُومِس ونهاوند مختلفة أَلسنتُها وأَلوانها وأَديانُها ، قد تعاهَدوا وتعاقدوا أن يُخرجوا من بلادهم إخوانكم من المسلمين ، ويخرجوا إِليكم فيغزُوكم في بلادكمْ ، فأَشيروا عليَّ وأَوجِزوا ولا تُطنبوا في القول ، فإِنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام.

فتكلّموا ، فقام طلحة بن عبيدالله ـ وكان من خطباء قريش ـ فحمد الله وأَثنى عليه ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، قد حَنَكَتْك الأُمور ، وجَرَّستك (١) الدهور ، وعَجَمَتك البلايا ، وأَحكمتك التجارب ، وأَنت مُبارَك الأَمر ، ميمون النقيبة ، قد وليت فخَبَرت واختبرت وخُبِرت ، فلم تنكشف من عواقب قضاء الله إلاّ عن خيار ، فاحضر هذا الأَمر برأيك ولا تَغِب عنه. ثمّ جلس.

فقاك عمر : تكلّموا ، فقام عثمان بن عَفّان فحمد الله وأَثنى عليه

ــــــــــــــــــ

(١) جَرّسته الأمور. جربته وأحكمته. « الصحاح ـ جرس ـ ٣ : ٩١٣ ».

٢٠٨

ثمّ قال : أما بعد ـ يا أمير المؤمنين ـ فإِنّي أرى أن تُشْخِص أهلَ الشام من شامهم ، وأهلَ اليمن من يمنهم ، وتسير أنت فِى أهل هذين الحرمين وأهل المصرين الكوفة والبصرة ، فتلقى جمع المشركين بجمع المؤمنين ، فإِنّك ـ يا أمير المؤمنين ـ لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقيةً ، ولا تُمَتَّع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، فاحضره برأيك ولا تغب عنه. ثمّ جلس.

فقال عمر : تكلّموا ، فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : « الحمد للّه ـ حتّى تم التحميد والثناء على الله والصلاهَ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثمّ قال : أما بعد ، فانَكَ إِن أشخَصْتَ أهلَ الشام من شامهم ، سارىَ الروم إِلى ذَراريهم ؛ وإِن أشخصْتَ أهل اليمن من يمنهم ، سارت الحبشة إِلى ذَراريهم ؛ وإِن أشخصتَ مَنْ بهذين الحرمين ، انتقضتِ العُرْب عليك من أطرافها وأكنافها ، حتى يكون ما تدع وراء ظهرك من عيالات العرب أهمّ إِليك ممّا بين يديك. وأما ذكرُك كثرةَ العجم ورَهبتك من جُموعهم ، فإِنّا لم نكن نُقاتل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكثرة ، وإنّما كُنّا نقاتل بالنصر ، وأمّا ما بلغك من اجتماعهم على المسير إِلى المسلمين ، فإِنّ الله لمسيرهم أكره منك لذلك ، وهو أولى بتغيير ما يكره ، وِانّ الأعاجم إِذا نظروا إِليك قالوا : هذا رجل العرب ، فإِن قطعتموه فقد قطعتم العرب ، فكان أشدّ لكَلَبهم ، وكنت قد ألّبتهم على نفسك ، وأمدّهم من لم يكن يُمدّهم. ولكنّي أرى أن تقر هؤلاء في أمصارهم ، وتكتب إِلى أهل البصرة فليتفرّقوا على ثلاث فرق : فلتَقمْ فرقةٌ منهم على ذراريهم حَرَساً لهم ، ولتَقمْ فرقةٌ في أهل عهدهم لئلا ينتقِضوا ، ولتسِرْ

٢٠٩

فرقةٌ منهم إِلى إِخوانهم مدداً لهم » فقال عمر : أجل هذا الرأي ، وقد كنتُ أُحب أن أُتابع عليه. وجعل يكرّر قول أمير المؤمنين عليه‌السلام وينسِقه إِعجاباً به واختياراً له (١).

قال الشيخ المفيد رضي‌الله‌عنه : فانظروا ـ أيّدكم الله ـ إلى هذا الموقف الذي يُنبئ بفضل الرأي إِذ تنازعه أولو الألباب والعلم ، وتأمّلوا التوفيقَ الذي قرن الله به أمير المؤمنين عليه‌السلام في الأحوال كلّها ، وفزع القوم إِليه في المعْضِل من الأمور ، وأضيفوا ذلك إِلى ما أثبتناه عنه من القضاء في الدين الذي أعجز متقدّمي القوم حتّى اضطرّوا في علمه إِليه ، تجدوه من باب المعجز الذي قدّمناه ، والله وليّ التوفيق.

فهذا طرف من موجز الأخبار فيما قضى به أمير المؤمنين عليه‌السلام في إِمارة عمر بن الخَطّاب ، وله مثل ذلك في إمارة عثمان بن عفان.

فصل

فمن ذلك ما رواه نقلة الآثارمن العامّة والخاصّة : أن امرأَة نكحها شيخٌ كبير فحملت ، فزعم الشيخ أنّه لم يصل إِليها وأنكر حملها ، فالتبس الأمر على عثمان ، وسأل المرأة هل اقتضّك الشيخ؟ وكانت

ــــــــــــــــــ

(١) انظر : تاريخ الطبري ٤ : ١٢٤ ، الفتوح لابن اعثم ١ : ٢٨٧ ـ ٢٩٢ بتفصيل ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٣ / ٢٨.

٢١٠

بكراً فقالت : لا ، فقال عثمان : أقيموا الحَدَّ عليها. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إِنّ للمرأة سَمّين : سمّ المحيض وسمّ البول ، فلعلّ الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سمّ المحيض فحملت منه ، فاسألوا الرجل عن ذلك » فسئل فقال : قد كنت أُنزل الماء في قُبُلها من غير وصول إِليها بالاقتضاض ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الحمل له والولد ولده ، وأرى عقوبته على الإنكار له » فصار عثمان إِلى قضائه بذلك وتعجّب منه (١).

وروَوْا : أنّ رجلاً كانت له سريّة فأولدها ، ثمّ اعتزلها وأنكحها عبداً له ، ثمّ توفّي السيد فَعُتِقَتْ بملك ابنها لها ، فورث ولدُها زوجَها ، ثمّ توفّي الأبن فورثت من ولدها زوجَها ، فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول : هذا عبدي ، ويقول : هي امرأتي ولستُ مفرجاً عنها ، فقال عثمان : هذه قضية مشكلة ، وأمير المؤمنين حاضر فقال : « سلوها هل جامعها بعد ميراثها له؟ » فقالت : لا ، فقال : « لو أعلم أنّه فعل ذلك لعذّبته ، إِذهبي فإِنه عبدك ليس له عليك سبيل ، إن شئت أن تسترقيه أوتعتقيه أو تبيعيه فذاك لك » (١).

وروَوْا : أَنّ مكاتبة زنت على عهد عثمان وقد عُتِق منها ثلاثة أرباع ، فسأل عثمان أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : « يُجْلَد منها بحساب الحُريّة ، ويجْلد منها بحساب الرِقّ ».

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٦ / ٢٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ضمن ح ٢٩.

٢١١

وسأل زيد بن ثابت فقال : تُجْلد بحساب الرِقّ ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : كيف تُجْلد بحساب الرق وقد عُتِق منها ثلاثة أرباعها؟ وهَلا جَلَدْتَها بحساب الحرية فإِنّها فيها أكثر! » فقال زيد : لو كان ذلك كذلك لوجب توريثُها بحساب الحُرّية فيها ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أجل ذلك واجب » فأُفحِم زيد ، وخالف عثمان أمير المؤمنين عليه‌السلام وصار إِلى قول زيد ، ولم يُصْغِ إلى ما قال بعد ظهور الحجّة عليه (١) ، وأمثال ذلك ممّا يطول بذكره الكتاب ، وينتشر به الخطاب.

فصل

وكان من قضاياه عليه‌السلام بعد بيعة العامّة له ومضي عثمان ابن عَفّان على ما رواه أهل النقل من حملة الآثار : أنّ امرأةً ولدت على فراش زوجها ولداً له بدنان ورأسان على حَقْوٍ (٢) واحد ، فالتبس الأمر على أهله أهو واحد أم اثنان؟ فصاروا إِلى أمير المؤمنين عليه‌السلام يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه ، فقال لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اعتبروه إِذا نام ثمّ أنبهوا أحد البدنين والرأسين ، فإِن انتبها جميعاً معاً في حالة واحدة فهما إِنسان واحد ، وإن استيقظ أحدهما والاخر نائم ، فهما

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ذح ٢٩ و ٧٩ ، ٥٠ / ٣٧.

(٢) الحقو : الخصر ومحل شد الإزار. « الصحاح ـ حقا ـ ٦ : ٢٣١٧ ».

٢١٢

اثنان وحقّهما من الميراث حقّ اثنين » (١).

وروى الحسن بن علي العبدي ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ ابن نُباتَة قال : بينا شرَيح في مجلس القضاء إِذ جاءه شخص فقال : يا أبا أُميّة أخْلِني فإِنّ لي حاجة ، قال فأمر من حوله أن يخِفّوا عنه ، فانصرفوا وبقي خاصّةُ من حضر ، فقال له : اذكر حاجتك ، فقال : يا أبا أمية إِنّ لي ما للرجال وما للنساء ، فما الَحكم عندك فيَّ أرجلٌ أنا أم امرأة؟ فقال له : قد سمعت من أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك قضيةً أنا أذكرها ، خبّرني عن البول من أيّ الفرجين يخرج؟ قال الشخص : من كليهما ، قال : فمن أيّهما ينقطع؟ قال : منهما معاً ، فتعجّب شُرَيح ، فقال الشخص : سأُورد عليك من امري ما هو أعجب ، قال شُرَيح : وما ذاك؟ قال : زوّجني أبي على أنّني امرأة فحملت من الزوج ، وابتعطَ جاريةً تخدمني فأفضيت إِليها فحملت منّي.

قال : فضرب شرَيح إِحدى يدَيْه على الاخرى متعجّباً وقال : هذا أمر لا بد من إِنهائه إِلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا علم لي بالحكم فيه. فقام وتبعه الشخص ومن حضرمعه حتّى دخل على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقصّ عليه القصّة ، فدعا أميرُ المؤمنين عليه‌السلام بالشخص فساله عمّا حكاه شُرَيح فأقرّ به ، فقال له : « ومن زوجك؟ » قال : فلان ابن فلان ، وهو حاضر في المصر ، فدُعي وسئل عمّا قال : فقال : صدق ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لأنت أجرأ من صائد الأسد ، حين تقدم على هذا الحال » ثمّ دعا قنبراً مولاه فقال :

ــــــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٧ / ٤٠ ، و ١٠٤ : ٣٥٤ / ٣.

٢١٣

« أدخل هذا الشخص بيتاً ومعه أربع نسوة من العدول ، ومرهن بتجريده وعَدّ أضلاعه بعد الاستيثاق من ستر فرجه » فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، ما آمن على هذا الشخص الرجال والنساء ، فأمر أن يشدّ عليه تُبّان (١) وأخلاه في بيت ، ثمّ ولجه فعدّ أضلاعه ، فكانت من الجانب الأيسر سبعة ، ومن الجانب الأيمن ثمانية ، فقال : « هذا رجل » وأمر بطمّ (٢) شعره ، وألبسه القلنسوة والنعلين والرداء ، وفرّق بينه وبين الزوج (٣).

وروى بعض أهل النقل : انّه لمّا ادّعى الشخص ما ادّعاه من الفرجين ، أمر أمير المؤمنين عليه‌السلام عدلين من المسلمين أن يَحْضرا بيتا خالياً ، وأحْضَرَ الشخصَ معهما ، وأمر بنصب مِرآتين : أحدهما مقابلة لفرج الشخص والأخرى مقابلة للمرآة الاُخرى ، وأمر الشخصَ بالكشف عن عورته في مقابلة المراة حيث لا يراه العدلان ، وأمر العدلين بالنظر في المرآة المقابلة لها ، فلمّا تحقّق العدلان صحّةَ ما ادّعاه الشخص من الفرجين ، اعْتُبر حالُه بعدّ أضلاعه ، فلمّا ألحقه بالرجال أهْمَلَ قولَه في ادعاء الحمل وألغاه ولم يَعْمَل به ، وجعل حمل الجارية منه وألحقه به (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) التُبّان : سراويل صغيرة مقدار شبر ، ليستر العورة المغلظة فقط. « الصحاح ـ تبن ـ ٥ : ٢٠٨٦ ».

(٢) طم الشعر : قصّه. « الصحاح ـ طمم ـ ١٩٧٦ ».

(٣) روي نحوه في أخبار القضاة ٢ : ١٩٧ ، دعائم الإسلام ٢ : ٢٨٧ ، الفقيه ٤ : ٢٣٨ / ٧٦٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٦ ، مناقب الخوارزمي : ١٠١ / ١٠٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٨ / و ١٠٤ : ٣٥٣ / ١.

(٤) مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٧٦ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٩ ، و ١٠٤ :

٢١٤

وروَوْا : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام دخل ذات يوم المسجد ، فوجد شابّاً حَدَثاً يبكي وحوله قوم ، فسأل أميرالمؤمنين عليه‌السلام عنه ، فقال : إِنّ شُرَيحاً قضى عليَّ بقضية لم يُنْصِفْني فيها ، قال : « وما شأنُك؟ » قال : إِنّ هؤلاء النفر ـ وأومأ إِلى نفر حضُور ـ أخرجوا أبي معهم في سفر ، فرجعوا ولم يَرْجع ، فسألتهُم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله الذي استصحبه ، فقالوا : ما نَعْرِف له مالاً ، فاستحلفهم شريح وتقدّم إِليّ بترك التعرّض لهم.

فقال أَمير المؤمنين عليه‌السلام لقَنْبَر : « إِجمع القوم وادعُ لي شُرَط الخميس » (١) ثمّ جلس ودعا النفر والحَدَث معهم ، فسأله عمّا قال ، فأعاد الدعوى وجعل يَبْكي ويقول : أنا والله أتّهمهم على أبي يا أمير المؤمنين ، فإِنّهم احتالوا عليه حتى أخرجوه معهم ، وطَمِعُوا في ماله. فسأل أمير المؤمنين عليه‌السلام القوم ، فقالوا كما قالوا لشريح : مات الرجل ولا نعرف له مالاً ، فنظر في وجوههم ثمّ قال لهم : « ماذا؟ أتظنّون أني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى! إِنّي إذاً لقليل العلم ».

ثمّ أمربهم أن يُفَرَّقوا ، فَفُرِّقوا في المسجد ، وأُقيم كلُّ رجل منهم إِلى جانب أُسطوانة من أساطين المسجد ، ثم دعا عُبَيْدالله بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له : « اجلس » ثمّ دعا واحداً منهم فقال له : « أخبرني ولا تَرْفَع صوتَك ، في أيّ يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم؟ » فقال : في يوم كذا وكذا ، فقال لعبيدالله : « أُكتب » ثم قال

ــــــــــــــــــ

٣٥٤ / ٢.

(١) في هامش « ش » و « م » : شرط الخميس كانوا خمسة آلاف رجل ، اشترطوا مع أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يقاتلوا دونه حتى يقتلوا.

٢١٥

له : « في أيّ شهر كان؟ » قال : في شهر كذا ، قال : « أُكتب » ثمّ قال : « في أيّ سنة؟ » قال : في سنة كذا ، فكتب عُبَيْدالله ذلك ، قال : « فبأيّ مرضٍ مات؟ » قال : بمرض كذا ، قال : « ففي أيّ منزل مات؟ » قال : في موضع كذا ، قال : « من غَسَله وكفّنه؟ » قال : فلان ، قال : « فبمَ كَفَّنتموه؟ » قال : بكذا ، قال : « فمن صلّى عليه؟ » قال : فلان ، قال : « فمن أدخله القبر؟ » قال : فلان ، وعُبَيْدالله بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه ، فلمّا انتهى إقرارُه إِلى دفنه ، كبّر أمير المؤمنين عليه‌السلام تكبيرةً سَمِعها أهلُ المسجد ، ثمّ أمر بالرجل فرُدّ إلى مكانه.

ودعا بآخر من القوم فأجلسه بالقرب منه ، ثُمّ سأله عمّا سأل الأول عنه ، فأجاب بما خالف الأوّلَ في الكلام كلِّه. وعُبَيْدالله بن أبي رافع يكتب ذلك ، فلمّا فرغ من سؤاله كبّرتكبيرةً سَمِعها أهلُ المسجد ، ثمّ أمر بالرجلين جميعاً أن يُخْرَجا عن المسجد نحو الحَبْس (١) ، فيوقَفَ بهما على بابه.

ئمّ دعا بثالث فسأله عمّا سأل الرجلين فحكى خلافَ ما قالا ، وأثبِتَ ذلك عنه ، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبَيْه.

ودعا برابع من القوم فاضطرب قولُه ولجلج ، فوعَظه وخَوَّفه فاعترف أنّه وأصحابه قتلوا الرجل وأخذوا ماله ، وأنّهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقُرب من الكوفة ، فكبّرأميرُ المؤمنين عليه‌السلام وأمر به إِلى السِجْن.

واستدعى واحداً من القوم فقال له : « زَعَمْتَ أنّ الرجل مات

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : السجن.

٢١٦

حتفَ أَنفه وقد قتلتَه ، اصْدُقني عن حالك ، وإلاّ نكّلت بك ، فقد وَضَحَ لي الحقّ في قِصّتكم » فاعترف من قتل الرجل بما اعترف به صاحبه ، ثمّ دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل وسقط في أَيَديهم ، واتّفقت كلِمتُهم على قتل الرجل وأَخذ ماله. فأمر من مضى مع بعضهم إلى موضع المال الذي دفنوه ، فاستخرجه منه وسلّمه إلى الغلام ابنِ الرجل المقتول ، ثمّ قال له : « ما الذي تريد؟ قد عرفكت ما صنع القوم بأبيك » قال : أُريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عزّوجلّ ، وقد عفوتُ عن دمائهم في الدنيا ، فدرأ عنهم أَميرُ المؤمنين عليه‌السلام حدَّ القتلِ وأنهكهم عقوبةً.

فقال شريح : يا أميرَ المؤمنين كيف هذا الحكم؟ فقال له : « إِنّ داود عليه‌السلام مَرّ بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم : يا ماتَ الدين قال : والغلامُ يُجيبهم ، فدنا داودُ عليه‌السلام منهم فقال له : يا غلامُ ما اسمك؟ قال : اسمي ماتَ الدين ، قال له داود : ومن سمّاك بهذا الاسم؟ قال : أُمّي ، فقال له داود عليه‌السلام : وأين أُمّك؟ قال : في منزلها ، فقال داود عليه‌السلام : اِنطلق بنا إلى أمّك ، فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها فخرجت ، فقال : يا أَمة الله ما اسم ابنك هذا؟ قالت : اسمُه ماتَ الدين ، قال لها داود : من سمّاه بهذا الاسم؟ قالت : أبوه قال : وما كان سبب ذلك؟ قالت : إنّه خرج في سفر له ومعه قوم ، وأنا حامل بهذا الغلام ، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي معهم ، فسألتُهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله فقالوا : ما ترك مالاً ، فقلت لهم : فهل وصّاكم بوصيةٍ؟ قالوا : زعم أنّكِ حُبلى ، فإن ولدتِ جاريةً أو غلاماً فسمّيه ماتَ الدين ، فسمّيته كما

٢١٧

وصّى ولم أُحِبّ خلافَه ، فقال لها داود عليه‌السلام : فهل تَعرِفين القوم؟ قالت : نعم ، قال لها داود : اِنطلقي مع هؤلاء ـ يعني قوماً بين يديه ـ فاستخرجيهم من منازلهم ، فلمّا حضروه حكم فيهم بهذه الحكومة ، فثبت عليهم الدم ، واستخرج منهم المال ، ثمّ قال لها : يا أَمةَ الله سمّي ابنَك هذا بعاشَ الدين » (١).

ورووا : أن امرأة هَويت غلاماً فراوَدَتْه عن نفسه فامتنع الغلامُ ، فمضت وأَخذت بيضةً فألقست بياضها على ثوبها ، ثمّ عَلِقَتْ بالغلام ورَفعَتْه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالت : إِنّ هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني ، ثمّ أخذت ثيابها فأرَت بياضَ البيض وقالت : هذا ماؤه على ثوبي ، فجعل الغلام يبكي ويبرأ ممّا ادّعته وَيحلف ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لقنبر : « مُرْ من يغلي ماءً حتى تشتدّ حرارتُه ، ثمّ لتأتني به على حاله » فجِيء بالماء ، فقال : « ألقوه على ثوب المرأة » فألقوه عليه فاجتمع بياض البيض والتأم ، فأمر بأخذه ودفعه إلى رجلين من أصحابه فقال : « تَطَعّماه والفظاه » فتطعّماه فوجداه بيضاً ، فأمر بتخلية الغلام وجلد المرأة عقوبةً على ادعائها الباطل (٢).

وروى الحسن بن محبوب قال : حدّثني عبد الرحمن بن الحجاج

ــــــــــــــــــ

(١) روي نحوه في الكافي ٧ : ٣٧١ / ٨ ، الفقيه ٣ : ١٥ / ٤٠ ، التهذيب ٦ : ٣١٦ / ٨٧٥ مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٧٩ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٥٩.

(٢) كنز الفوائد ٢ : ١٨٣ ، ونحوه في الكافي ٧ : ٤٢٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠٤ / ٨٤٨ ، خصائص الرضي : ٨٢ وفيها : في زمن خلافة عمر ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٣ / ٣١.

٢١٨

قال : سمعت ابن أَبي ليلى يقول : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام بقضيةٍ ما سبقه إليها أَحد ، وذلك أَنَّ رجلين اصطحبا في سفرفجلسا يتغدّيان ، فأخرج أَحدُهما خمسةَ أَرْغِفَة وأخْرج الاخَرُ ثلاثَةَ ارغفة ، فمرَّ بهما رجلٌ فسلّم فقالا له : الغداء ، فجلس معهما يأكل ، فلمّا فَرَغ من أَكله رمى إليهما ثمانيةَ دراهم وقال لهما : هذه عوَضٌ عمّا أَكلتُ من طعامكما ، فاختصما وقال صاحب الثلاثة : هذه نصفان بيننا ، وقال صاحبُ الخمسة : بل لي خمسة ولك ثلاثة ، فارتفعا إِلى أميرالمؤمنين عليه‌السلام وقصّا عليه القِصّة ، فقال لهما : « هذا أَمرٌ فيه دَناءة ، والخُصومة غيرُ جميلة فيه ، والصلح أَحسن » فقال صاحبُ الثلاثة الأَرغفة : لست أَرضى إلاّ بمُرّ القضاء ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فإِذا كنتَ لا ترضى إلاّ بمُرّ القضاء ، فإن لك واحداً من ثمانية ولصاحبك سبعة » فقال : سبحانَ الله ، كيف صار هذا هكذا؟ فقال له : « أُخبرك ، أليس كان لك ثلاثة أرغفة؟ » قال : بلى ، قال : « ولصاحبك خمسة أرغفة » قال : بلى ، قال : « فهذه أربعة وعشرون ثُلثاً ، أكلمت أنتَ ثمانية ، وصاحبك ثمانية ، والضيف ثمانية ، فلما أعطاكم الثمانية كان لصاحبك سبعة ، ولك واحد » فانصرف الرجلان على بصيرة من أمرهما في القَضيّة (١).

وروى علماءُ السيرة : أنّ أربعةَ نَفرٍ شَرِبوا المُسْكِر على عَهْد أمير المؤمنين عليه‌السلام فسَكِروا فتباعجوا بالسَكاكين ، فنال الجِراحُ كلَّ

ــــــــــــــــــ

(١) روي نحوه في الكافي ٧ : ٤٢٧ / ١٠ ، الفقيه ٣ : ٢٣ / ٦٤ ، الاختصاص : ١٠٧ ، التهذيب ٦ : ٢٩٠ / ٨٠٥ ، كنز الفوائد ٢ : ٦٩ ، الاستيعاب ٣ : ٤١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٥٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٣ / ٣٢.

٢١٩

واحدٍ منهم ، ورُفِع خبرُهم إِلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأمر بحبسهم حتى يفيقوا ، فمات في الحبس منهم اثنان وبقي منهم اثنان ، فجاء قوم الاثنين إِلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقالوا : أقِدْنا من هذين النفسين فإِنّهما قتلا صاحبَيْنا ، فقال لهم : « وما علمكم بذلك؟ ولعلّ كلّ واحد منهما قتل صاحبه » فقالوا : لا ندري ، فاحكُمْ فيها بما علّمك الله ، فقال عليه‌السلام : « دِيَة المقتولَيْن على قبائل الأربعة بعد مُقاصّة الحيَّيْن منها بدية جِراحهما » (١).

فكان ذلك هو الحكم الذي لا طريق إلى الحقّ في القضاء سواه ، ألا ترى أنّه لأ بَيّنة على القاتل تُفْرِده من المقتول ، ولا بَيّنة على العَمْد في القتل ، فلذلك كان القضاء فيه على حكم الخطأ في القتل ، واللَّبس في القاتل دون المقتول.

وروَوْا : أنّ ستةَ نَفر نزلوا في الفرات فتغاطّوا فيها لَعِباً ، فغَرِق واحد منهم ، فشَهِد اثنان على ثلاثةٍ منهم أنّهم غرّقوه ، وشَهد الثلاثة على الاثنين أنّهما غَرّقاه ، فقض عليه‌السلام بالدية أخماساً على الخمسة النفر ، ثلاثةٌ منها على الاثنين بحساب الشهادة عليهما ، وخُمسان على الثلاثة بحساب الشهادة أيضاً. ولم يكن في ذلك قضيّة أحقّ بالصواب ممّا قضى به عليه‌السلام (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) ذكره باختلاف يسير في الفقيه ٤ : ٨٧ / ٢٨٠ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٤٠ / ٩٥٥ ، وأورد نحوه في مناقب ال أبي طالب ٢ : ٣٨٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٦٤ / ٣٣ ، ١٠٤ : ٣٩٤ / ٣٤.

(٢) روي باختلاف يسير في الكافي ٧ : ٢٨٤ / ٦ ، الفقيه ٤ : ٨٦ / ٢٧٧ ، تهذيب الاحكام ١٠ : ٢٣٩ / ٩٥٣ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٨٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار

٢٢٠