الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

معَسْكَره ، حتّى لا يَبقى في المدينة عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله من يَختلف في الرئاسة ، ويَطْمَع في التقدّم على الناس بم الإمارة ، ويستتِبُّ الأمرُلمن استخلفه من بعده ، ولا يُنازِعُه في حقّه مُنازع ، فعَقَد له الإمرةَ على من ذكرناه.

وجدَّ عليه وآله السلام في إخراجهم ، فأمَرَ أًسامةَ بالبرُوز (١) عن المدينة بمُعَسكره إلى الجُرْف (٢) ، وحَثَ الناسَ على الخروج إليه والمسير معه ، وحَذَّرَهم من التَلَوّم والإبطاء عنه.

فبينا هو في ذلك إذ عَرَضت له الشَّكاةُ التي تُوُفّي فيها ، فلمّا أَحَسَّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام واتَّبعَه جماعةٌ من الناس وتَوَجَّه إلى البقيع ، فقال لمن تَبعَه : « إنّني قد أُمِرْتُ بالاستغفار لأهل البقيع » فانطَلَقوا معه حتّى وَقَف بين أظهرهم فقال عليه‌السلام : « السَّلامُ عليكم يا أهلَ القُبور ، ليَهْنِئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقْبَلَت الفِتَن كقِطَع الليل المُظْلِم يَتْبَع أولَها آخرُها » ثمّ استَغْفَر لأهل البَقيع طويلاً ، وأقْبَل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : « إنّ جبرئيل عليه‌السلام كان يَعْرِض عليّ القرآن كلّ سنة مَرّة ، وقد عَرَضه عليّ العامَ مرّتين ، ولا أراه إلاّ لحضور أجَلي ».

ثمّ قال : « يا عليّ ، إنّي خُيّرتُ بين خزائن الدنيا والخلُود فيها أو الجنّة ، فاخترتُ لقاءَ ربي والجنّة ، فإذا أنا متّ فَاغسِلني واستُرعَورتي ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بالخروج.

(٢) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. « معجم البلدان ٢ : ١٢٨ ».

١٨١

فإنّه لا يَراها أحدٌ إلاّ أكْمِهَ ».

ثمّ عاد إلى منزله عليه وآله السلام فَمَكَث ثلاثةَ أيّامٍ مَوعوكاً ، ثمّ خَرَج إلى المسجد معَصوبَ الرأس ، معتمِداً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بيُمنى يَدَيْه ، وعلى الفَضْل بن عبّاس باليَد الأخرى ، حتّى صَعِد المِنْبرَ فجلس عليه ، ثمّ قال : « معاشِرَ الناس ، قد حان منّي خفوفٌ من بين أظهركم ، فمن كان له عندي عِدَةٌ فليَأْتنِي أُعْطِه إيّاها ، ومن كان له عَلَيّ دينٌ فليُخْبِرني به.

معاشِرَ الناس ، ليس بين الله وبين أحدٍ شيءٌ يُعطيه به خيراً أو يَصْرِفُ به عنه شرّاً إلاّ العمل.

أيّها الناس ، لا يَدَّعي مُدَّعٍ ولا يَتَمَنّى متَمَنٍّ ، والذي بعثني بالحقّ لايُنَجِّي إلاّ عمل مع رحمة ولوعَصَيْتُ لهَوَيْتُ ، اللهمّ هل بلّغت؟ ».

ثمّ نزل فصَلّى بالناس صلاةً خفيفةً ودخل بيتَه ، وكان إذ ذاك بيت أُمّ سَلَمة رضي الله عنها فأقام به يوماً أويومين.

فجاءت عائشة إليها تسألُها ان تَنْقله إلى بيتها لتتولّى تعليلَه ، وسألتْ أزواجَ النبي عليه واله السلام في ذلك فأذِنَّ لها ، فانتَقَل صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى البيت الذي أسكنه عائشة ، واستمَرَّ به المرضُ أيّاماً وثقل عليه‌السلام.

فجاء بِلال عند صَلاة الصبح ورسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مغمورٌ بالمَرَض فنادى : الصلاة يَرْحَمكم الله ، فأُوذن رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بندائه ، فقال : « يُصلّي بالناس بعضُهم فإنّني مشغولٌ بنفسي ».

فقالت عائشة : مُروا أبا بكر ، وقالت حَفْصةُ : مُروا عُمر.

١٨٢

فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سَمِع كلامَهما ورأى حِرصَ كلّ واحدة منهما على التَنْويه بأبيها وافتتانهما بذلك ورسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيٌّ! : « اُكْفُفْنَ فإنكنَّ صُوَيْحِباتُ يوسُف » (١) ثمّ قام عليه وآله السلام مُبادراً خَوفاً من تقدّم أحد الرجلين ، وقد كان أَمَرهما عليه‌السلام بالخروج إلى اُسامة ، ولم يكن عنده أنّهما قد تخلّفا.

فلمّا سَمِع من عائشة وحَفْصة ما سَمِع ، عَلِمَ أنّهما مُتأخِّران عن أمره ، فبَدَر لِكَفِّ الفِتنة وإزالة الشُبهة ، فقام عليه‌السلام ـ وانّه لا يستقلُّ على الأرض من الضَعف ـ فأخَذ بيده عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والفَضْل بن عبّاس فاعتمدهما ورجلاه تَخُطّان الأرض من الضعف.

فلمّا خرج إلى المسجد وَجَد أبا بكرٍ قد سَبَق إلى المحراب ، فأومأ إليه بيده أن تاَخَّرْ عنه ، فتأخَّرَ أبو بكرٍ وقام رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامه فكَبَّرفابتدأ الصلاةَ التي كان قد ابتدأ بها أبو بكرِ ولم يَبْن على ما مَضى من فِعاله.

فلمّا سَلَّمَ انصرَفَ إلى منزله واستدعى أبا بكر وعُمر وجماعة ممّن حضر المسجدَ من المسلمين ثمّ قال : « ألم آمُر أن تُنَفذوا جَيْشَ اُسامة؟! » قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : « فِلمَ تَاَخَّرتم عن أمري؟ » فقال أبو بكر : إنّني كنتُ خرجتُ ثم غدْت لأجدِّدَ (٢) بك عهداً. وقال عُمر : يا

ــــــــــــــــــ

(١) رواه البخاري في صحيحه ١ : ١٧٢ب ٤٦ ، ومسلم في صحيحه ١ : ٣١٣ / ٩٤ ، ٩٥ ، ١٠١ ، والبيهقي في دلائل النبوة ٧ : ١٨٦.

(٢) في « م » و « ح » وهامش « ش » : لا حدث.

١٨٣

رسولَ الله ، لم أخْرُج لأنّني لم احِب أن أسأل عنك الركْبَ. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فانفذُوا جَيْشَ أُسامة فانفذوا جَيْشَ اُسامة » يُكَررها ثلاث مرات. ثمّ أُغمِيَ عليه من التَعَب الذي لَحِقه والأسَف ، فمكث هنَيْهَة مُغمىً عليه ، وبكى المسلمون وارتفع النَحيبُ من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حَضرَ من المسلمين (١).

فأفاق عليه واله السلام فنظر إليهم ، ثمّ قال : « اِيتوني بدواة وكَتِف ، أكتُبْ لكم كتاباً لا تَضِلّوا بعده أبداً » ثمّ اغمِيَ عليه ، فقام بعضُ من حضر يلتمس دَواةً وكَتِفاً فقال له عمر : اِرجع ، فإنّه يَهْجُر!!! فرجع. ونَدِم من حَضَره على ماكان منهم من التضجيع (٢) في إحضار الدَواة والكَتِف ، فتلاوموا بينهم فقالوا : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، لقد أشفَقْنا من خلاف رسول اللّه.

فلمّا أفاق صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعضُهم : ألا نأتيك بكَتِفٍ يا رسول اللّه ودَواةٍ؟ فقال : « أبعدَ الذي قلتم!! لا ، ولكنَّني أُوصيكم باهلِ بيتي خيراً » ثمّ أعْرَضَ بوجهه عن القوم فنَهَضوا ، وبقي عنده العبّاس والفضل وعليّ بن أبي طالب وأهل بيته خاصّة.

فقال له العبّاس : يا رسولَ اللّه ، إن يكن هذا الأمرُ فينا مستقِرّاً بعدَك فَبشِّرنا ، وإن كنتَ تَعلم أنّا نُغْلَبَ عليه فأوْصِ بنا ، فقال : « أنتم المُستضعَفون من بعدي » وأصْمْتَ ، فنَهَض القومُ وهم يَبكون قد

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : من اهل بيته.

(٢) التضجيع في الأمر : التقصيرفيه. « الصحاح ـ ضجع ـ ٣ : ١٢٤٨ ».

١٨٤

أيِسوا (١) من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا خَرَجوا من عنده قال عليه‌السلام : « اُرددُوا عليّ أخي علي بن أبي طالب وعمّي » فأنْفَذوا مَنْ دَعاهما فحضرا ، فلمّا استقر بهما المجلسُ قال رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عبّاس يا عمَّ رسول اللّه ، تَقْبلُ وصيَّتي وتنجِزُ عِدَتي وتَقضي عنّي ديني؟ » فقال العبّاس : يا رسولَ اللّه ، عمُّك شيخٌ كبير ذو عيالٍ كثير ، وأنت تُباري الريحَ سَخاء وكَرَماً ، وعليكَ وعد لا يَنْهض به عمُّك.

فأَقْبَل على أميرِ المؤمنين عليه‌السلام فقال له : « يا أخي ، تَقْبَلُ وَصيّتي وتنجِزُ عِدَتي وتَقْضي عَنّي دَيني وتَقوم بأمر أهلي من بعدي؟ » قال : نعم يا رسولَ الله. فقال له : « اُدْنُ منّي » فدنا منه فضَمَّه إليه ، ثمّ نَزَع خاتمَه من يده فقال له : « خُذْ هذا فضَعْه في يدك » ودعا بسيفه ودِرْعه وجميعَ لامته فدَفَعِ ذلك إليه ، والتَمَس عِصابةً كان يَشًدُّها على بَطنه إذا لبِسَ سِلاحه وخرَجَ إلى الحَرب ، فجِيء بها إليه فدَفَعها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : « اِمْضِ على اسم الله إلى منزلك ».

فلمّا كان من الغَد حُجِب الناسُ عنه وثَقلَ في مرضه ، وكان أميرُ المؤمنين لا يُفارِقه إلاّ لضرورةٍ ، فقام في بعض شؤونه ، فأفاق عليه‌السلام إفاقةً فافتقد علياً عليه‌السلام فقال ـ وأزواجُه حولَه ـ : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » وعاوده الضعفُ فأُصْمِتَ ، فقالت عائشة : اُدعوا له أبا بكرٍ ، فدُعِيَ فدَخَلَ عليه فقَعَدَ عند رأسه ، فلمّا فَتَح عينهَ نظَرَإليه

ــــــــــــــــــ

(١) « م » : يئسوا.

١٨٥

وأعْرَض عنه بوجَهه ، فقام أبو بكرٍ وقال : لو كان له إليَ حاجةٌ لأفْضى بها إلي. فلمّا خرج أعادَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله القولَ ثانيةً وقال : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت حَفْصَة : اُدعوا له عُمر ، فدُعِي فلما حَضَر رآه النبي عليه‌السلام فأعْرضَ عنه فانصرف.

ثمّ قال : عليه‌السلام : « اُدعوا لي أخي وصاحبي » فقالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها : اُدعوا له علياً فإنّه لا يُريد غيرهَ ، فدُعِيَ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فلمّا دنا منه أومأ اليه فأكَبَّ عليه فناجاه رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله طويلاً ، ثمّ قامَ فَجَلَس ناحيةً حتّى أغْفَى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له الناسُ : ما الذي أوْعَزَ إليك يا أبا الحسن؟ فقال : « عَلَّمني ألفَ بابٍ ، فَتَح لي كلُّ بابٍ ألفَ بابٍ ، ووَصّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله ».

ثم ثَقُلَ عليه‌السلام وحَضَره الموتُ وأمير المؤمنين عليه‌السلام حاضرٌ عنده. فلمّا قَرُبَ خروجُ نفسه قال له : « ضَعْ رأسي يا عليّ في حجْرك ، فقد جاء أمرُ اللّه عزّ وجلّ فإذا فاضَتْ نفسي فتناوَلْها بيدك وامسَحْ بها وجهَك ، ثمّ وَجِّهْني إلى القِبلة وتولَّ أمري وصَلّ عليَّ أوّلَ الناس ، ولا تُفارِقْني حتّى تُواريَني في رمسي ، واستعِنْ بالله تعالى » فأخَذ عليّ عليه‌السلام رأسَه فوَضَعه في حجْره فأُغمِيَ عليه ، فاكبَّت فاطمةُ عليها‌السلام تَنْظُر في وجهه وتَنْدُبه وتَبكي وتقول :

« وأبيضُ يُستسقَى الغَمامُ بوجهه

ثِمالُ (١) اليَتامى عِصمةٌ للأرامِل »

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : ربيع. والثمال : الغياث « الصحاح ـ ثمل ـ ٤ : ١٦٤٩ ».

١٨٦

ففَتَح رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عَيْنَيْه وقال بصوتٍ ضَئيلٍ : « يا بُنَيّةَ ، هذا قولُ عمّك أبي طالب ، لا تَقُوليه ، ولكن قُولي : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ألرُّسُلُ اَفَاِنْ مَاتَ اَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى اَعْقَابِكُمْ ) (١) » فبكتْ طويلاً فأومأ إليها بالدُنُوّ منه ، فدَنَتْ فأسرَّ إليها شيئاً تَهَلَّل له وجهُها.

ثمَّ قضى عليه‌السلام ويدُ أمير المؤمنين عليه‌السلام اليُمنى تحتَ حَنَكه ففاضتْ نفسُه عليه‌السلام فيها ، فرَفَعها إلى وجهه فمَسَحَه بها ، ثمّ وَجَّهَه وغَمَّضَه ومَدَّ عليه إزارَه واشتغَل بالنظرفي أمره.

فجاءت الرواية : أنّه قيل لفاطمة عليها‌السلام : ما الّذي أَسَرَّ إليك رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فسُرِيَ عنكِ ما كنتِ عليه من الحَزَن والقَلَق بوفاته؟ قالت : « إنّه خَبَّرني أنّني أوَّلُ أهل بيته لُحوقاً به ، وأنه لن تطولَ المدّة بي بعده حتّى أدركَه ، فسُرِيَ ذلك عنّي » (٢).

ولمّا أراد أميرُ المؤمنين عليه‌السلام غَسْلَه صلوات الله عليه استَدْعى الفَضْل بن عبّاس ، فامره أن يُناوِله الماءَ لغَسْله ـ بعد أن عَصَبَ عَيْنَيه ـ ثمّ شَقَّ قميصَه من قِبَل جَيْبه حتّى بَلَغ به إلى سُرَّته ، وتولّى عليه‌السلام غَسْلَه وتَحنيطَه وتكفينَه ، والفَضْلَ يُعاطيه الماءَ ويُعينه عليه ، فلمّا فَرَغَ من غَسْله وتجهيزه تقدَّم فصَلَّى عليه وحدَه لم

ــــــــــــــــــ

(١) آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٢) الطبقات الكبرى ٢ : ١٩٣ ، ٢٤٧ ، صحيح البخاري ٦ : ١٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٩٠٤ ، مسند أحمد ٦ : ٧٧ ، ٢٤٠ ، ٢٨٢ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٦١.

١٨٧

يَشْرَكه معه أحدٌ في الصلاة عليه.

وكان المسلمون في المسجد يَخُوضون فيمن يَؤُمُّهم في الصلاة عليه وأين يُدْفَن؟! فخرج إليهم أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فقال لهم : « إنَّ رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إمامُنا حيّاً وميتاً ، فيَدْخلُ إليه فوجٌ فوجٌ منكم فيُصَلّون عليه بغير إمام وينصرفون ، وإنّ الله تعالى لم يَقْبِض نبيّاً في مكان إلاّ وقد ارتضاه لرمْسه فيه ، وإنّي دافنه في حُجْرَته التي قُبِضَ فيها » فسَلَّم القومُ لذلك ورَضُوا به.

ولمّا صَلّى المسلمون عليه أنْفَذَ العبّاسَ بن عبد المطّلب برجل إلى أبي عبَيْدة بن الجَرّاح وكان يَحْفِرُ لأهل مكّة ويُضَرِّح (١) وكان ذلك عادةَ أهل مكّة ، وأنفذ إلى زيد بن سَهْل وكان يَحْفِر لأهل المدينة ويَلْحَد ، واستدعاهما وقال : « اللّهمّ خِرْ لنبيّك ». فوجد أبو طَلْحة زيد ابن سَهل فقيل له : احتفر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحفَر له لَحْداً ، ودخل أميرً المؤمنين عليه‌السلام والعبّاسُ بن عبد المطّلب والفَضْلُ بن العبّاس واسامةُ بن زيد ليتولّوْا دفنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي ، إنّا نُذَكِّركُ اللّهَ وحقَّنا اليوم من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذهب ، أدخِل منّا رجلاً يكون لنا به حظٌ من مُواراة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . فقال : « ليَدْخُل أوْس بن خَوْلي » وكان بَدْرِيّاً فاضلاً من بني عَوْف من الخَزْرَج ، فلمّا دخل قال له علي عليه‌السلام : « اِنزِل القبر » فنزل ووضع أميرُ المؤمنين عليه‌السلام رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على يديه ودَلاّه في

ــــــــــــــــــ

(١) الضريح : الشق في وسط القبر ، واللحد في الجانب « الصحاح ـ ضرح ـ ١ : ٣٨٦ ».

١٨٨

حُفْرَته فلمّاحَصَل في الأرض قال له : « اُخْرُج » فخرج ، ونزَل علي بن أبي طالب عليه‌السلام القبر فكشَف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووَضَع خَدَّه على الأرض مُوَجَّهاً إلى القبلة على يمينه ، ثمّ وَضَعَ عليه اللبَن وهالَ عليه التراب.

وكان ذلك في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من هجرته وهو اِبنُ ثلاث وستّين سنة.

ولم يَحْضر دفنَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أَكثرُ الناس ، لِما جرى بين المهاجرين والأنصار من التشاجر في أمر الخلافة ، وفات أكثرَهم إلصلاةُ عليه لذلك ، وأصبَحَتْ فاطمة عليها‌السلام تنادي : « واسُوْءَ صباحاه » فسَمِعها أبو بكرٍ فقال لها : إِنّ صباحكِ لصباح سُوْء. واغتنم القومُ الفُرصة لشُغْل علي بن أبي طالب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع بني هاشم عنهم بمصابهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتبادروا إلى ولاية الأَمر ، واتّفق لأَبي بكرِ ما اتّفق لاختلافِ الأنصار فيما بينهم ، وكراهةِ الطلقاء والمؤلّفة قلوبهُم من تأخُّر الأَمر حتّى يَفْرغ بنو هاشم ، فيستقرّ الأمرُ مقرَّه ، فبايعوا أبا بكرٍ لحضوره المكانَ ، وكانت أسباب معروفة تيسر منها للقوم ما رامُوه ، ليس هذا الكتاب موضعَ ذكرها فنَشرح القولَ فيها على التفصيل.

وقد جاءت الرواية : أنّه لمّا تَمّ لأبي بكرٍ ما تَمّ وبايَعه من بايَع ، جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يُسوِّي قبرَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمِسحاةٍ في يده فقال له : إِنّ القومَ قد بايَعوا أبا بكر ، ووقعت الخَذْلة في الأنصار لاختلافهم ، وبَدَر الطلقاءُ بالعقد

١٨٩

للرجل خوفاً من إدراككم الأمر. فوضع طَرَف المسحاة في الأرض ويدُه عليها ثمّ قال : بسْمِ اللّهِ آلرحمنِ الرحيمِ ( ألم* اَحَسِبَ ألناسُ اَنْ يُتْرَكوُا اَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ألَّذينَ مِنْ قَبْلِهمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله ألِّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَ الْكَاذِبينَ * اَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ ألسَيِّئاتِ اَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمونَ ) (١) (٢).

وقد كان أبوسفيان جاء إلى باب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليٌّ والعباسُ مُتَوفَران على النظر في أمره فنادى :

بني هاشم لا تُطمِعوا الناسَ فيكمُ

ولا سيّما تَيْمُ بن مُرّة أو عَدِيّ

فما الاّمرُإلاّ فيكمُ وإليكمُ

وليس لها إلاّ أبوحسنٍ علي

أبا حَسَنٍ فاشدُدْ بها كفَّ حازمٍ

فإنّكَ بالأمر الذي يُرْتَجى مَليّ

ثمّ نادى بأعلى صوته : يا بني هاشم ، يا بني عبد مَناف ، أرَضِيتم أن يليَ عليكم أبو فَصِيْل الرَذْل بن الرَذْل ، أما واللّه لئن شئِتم لأمْلأنّها خَيْلاًَ ورجلاً. فناداه أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اِرجِع يا با سُفيان ، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول ، وما زلتَ تَكيد الإسلامَ وأهلَه ، ونحن مَشاغيلٌ برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى كلّ امرىءٍ ما اكتسب وهو وليُّ ما احتقب » فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني اُميّةَ مجتمعين فيه فحرَّضَهم على الأمرفلم يَنْهَضوا له. وكانت فتنةٌ عمّت وبليّة شملت وأسباب سوء اتّفقت ، تمكّن بها

ــــــــــــــــــ

(١) العنكبوت ٢٩ : ا ـ ٤.

(٢) نقله الحويزي في تفسير نور الثقلين ٤ : ١٤٩ / ١١.

١٩٠

الشيطانُ وتعاون فيها أهلُ الإفك والعًدوان ، فتخاذل في إنكارها أهلُ الإيمان ، وكان ذلك تأويلُ قول اللّه عزّ اسمه : ( وَاتَقوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذين ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة ) (١).

فصل

وفيما عددناه من مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الذي تقدّم ذكره من ذلك فِى حجّة الوداع ، أدلُّ دليل على تخصّصه عليه‌السلام فيها بما لم يَشْرَكه فيه أحدٌ من الأنام ، إذ كان كلّ واحد منه باباً من الفضل قائماً بنفسه ، غيرَ محتاج في معناه إلى سواه.

ألا ترى أنَ تحقّقَه عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه إلى أن توفّاه الله يقتضي فضله في الدين والقُربى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأعمال المرضِيّة الموجِبة لسكونه إليه ، وتعويلِه في أمره عليه ، وانقطاعِه عن الكافّة في تدبير نفسه إليه ، واختصاصه من مودّته بما لم يَشْرَكه فيه من عداه ، ثمّ وصيّتِه إليه بما وصّاه بعد أن عَرَض ذلك على غيره فأباه ، وتحمُّلِه أعباءَ حقوقه فيه وضمانِه للقيام به وأداءِ الأمانة فيما تولاّه ، وتخصُّصهِ بأُخوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصُحبتهِ المرضيّة حين دعاه ، وإيداعِه من علوم الدين ما أفرده به ممّن سواه ، وتولّي غسلَه وجهازَه إلى اللّه ، وسبقِ الكافّة إلى الصلاة عليه وتقدُّمِهم في ذلك لِمنزلته عنده وعند الله تعالى ، ودلالةِ الاُمة على كيفية

ــــــــــــــــــ

(١) الأنفال ٨ : ٢٥.

١٩١

الصلاة عليه ، وقد التبس الأمرً عليهم في ذلك ، وإرشاده لهم إلى موضع دفنه ، مع الاختلاف الذي كان بينهم فيه ، فانقادوا إلى ما دعاهم إليه من ذلك ورآه ، فصار بذلك كلّه أوحداً في فضله ، وأكمَلَ به من مآثره في الإسلام ما ابتدأه في أوَّله إلى وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحَصَل له به نظامُ الفضائل على الاتّساق ، ولم يتخلَّلْ شيئاً من أعماله في الدين فتور (١) ، ولا شانَ فضلَه عليه‌السلام فيما عددناه قصورٌ عن غايةٍ في مناقب الإيمان وفضائل الإسلام ، وهذا لاحِقٌ بالمعجز الباهر الخارق للعادات ، وهو ممّا لا يوُجَد مثلُه إلاّ لنبيٍّ مُرْسَل أو مَلَك مقرَّب ومن لَحِقَ بهما في دَرَج الفضائل عند الله تعالى ، إذ كانت العادة جارية فيمن عدا الأصناف الثلاثة بخلاف ذلك ، على الاتفاق من ذوي العقول ، والألْسُن والعادات. واللّه نسأل التوفيقَ وبه نعتصم من الضَلال.

فصل

فأما الأَخبارُ التي جاءت بالباهر من قضاياه عليه‌السلام في الدين ، وأحكامه التي افتقر إليه في علمها كافّةُ المؤمنين ، بعد الذي أثبتناه من جملة الوارد في تقدّمه في العلم ، وتبريزِه على الجماعة بالمعرفة والفهم ، وفَزَعِ علماء الصحابة إليه فيما اَعْضَل من ذلك ، والتجائِهم إليه فيه وتسليمِهم له القضاء به ، فهي أكثرُمن أن تُحصى وأجلُّ من أن تُتعاطى ، وأنا مُورِدٌ منها جملةً تدلّ على ما بعدها إن شاء اللّه.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش ». شوب.

١٩٢

فمن ذلك ما رواه نَقلةُ الاثار من العامّة والخاصّة في قضاياه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ فصوَّبه فيها ، وحَكَم له بالحقّ فيما قضاه ، ودعا له بخير وأثنى عليه به ، وأبانه بالفضل في ذلك مِن الكافة ، ودَلَّ به على استحقاقه الأمرَ من بعده ، ووجوب تقدّمه على من سواه في مقام الإمامة ، كما تضمّن ذلك التنزيلُ فيما دلّ علَى معناه وعُرِف به ما حواه التأويل ، حيث يقول الله عزّ اسمه : ( اَفَمَنْ يَهْدِي اِلَى الْحَقِّ أحقُّ اَنْ يُتَّبَعَ اَمَّن لا يَهِدِي اِلاّ أنْ يُهْدى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (١) وقوله تعالى ذكره : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ألَّذينَ يَعْلَمُونَ وَألَّذينَ لا يَعْلَمُونَ اِنماَ يَتَذَكرُ أُولُوا الالْبَاب ) (٢) وقوله تعالى سبحانه في قصّة آدم عليه‌السلام وقد قالت الملائكةَ : ( اَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيهَا وَيسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدس لَكَ قَالَ إِني اَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ* وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَهَا ثَم عَرَضَهُمْ عَلَى اْلمَلائِكَةِ فَقَالَ أنْبِؤُني باَسْمَاءِ هؤُلاَءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ* قَالوُا ْسبحانك لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلًّمْتَنَا اِنّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ * قَالَ يَا آدَمُ اَنْبِئْهُمْ باَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا اَنْبَأهُمْ بِاَسْمَائِهِمْ قَالَ اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّي اَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وألارْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كًنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) (٣).

فنَبَّه الله سبحانه الملائكةَ على أنّ آدم أحقُّ بالخلافة منهم ، لأنّه أعلمُ منهم بالأسماء وأفضلُهم في علم الأنباء.

ــــــــــــــــــ

(١) يونس ١٠ : ٣٥.

(٢) الزمر ٣٩ : ٩.

(٣) البقرة ٢ : ٣٠ ـ ٣٣.

١٩٣

وقال جلّ ذكره في قصّة طالوت : ( وَقَالَ لهَمْ نَبِيّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالوتَ مَلِكآَ قَالُوا اَنّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنا وَنَحْن أحَقٌّ بِالمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ اِنَّ الله اصْطَفَاة عَلَيْكمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فيِ الْعِلْمِ والْجِسْمِ وَاللّهُ يؤتيِ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللّه وَاسِعٌ عَليم ) (١).

فجعل جهةَ حقّه في التقدم عليهم ما زاده اللّهُ من البسطة في العلم والجسم ، واصطفاءهُ إيّاه على كافّتهم بذلك ، فكانت هذه الآيات موافقةً لدلائل العقول في أنّ الأعلمَ أحقُّ بالتقدّم في محلّ الإمامة ممّن لا يُساويه في العلم ، ودلّت على وجوب تقدّم أميرالمؤمنين عليه‌السلام على كافّة المسلمين في خلافةِ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامةِ الأمّة لتقدّمه عليهم في العلم والحِكمة ، وقصُورهم عن منزلته في ذلك.

فصل

فممّا جاءت به الرواية في قضاياه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيٌّ موجودٌ ، أنّه لمّا أراد رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تقليدَه قضاءَ اليمن ، وإِنفاذه إِليهم ليُعلِّمهم الأحكامَ ويعُرِّفَهم (٢) الحلالَ من الحرام ، ويحكُم فيهِم بأحكام القرآن ، قال له أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « تُنْفِذُني (٣)

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ٢٤٧.

(٢) في « م » : يبيّن لهم.

(٣) في « م » وهامش « ش » : تندبني.

١٩٤

يا رسولَ الله للقضاء وأنا شابٌّ ولا علم لي بكلِّ القضاء » فقال له : « اُدْنُ منّي » فدنا منه فضرب على صدره بيده ، وقال : « اللّهمّ اهدِ قلبه وثبِّت لسانه » قال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « فما شَكَكْتُ في قضاءٍ بين اثنين بعد ذلك المقام » (١).

ولمّا استقرّت به الدار باليمن ، ونظر فيما نَدَبه إِليه رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من القضاء والحكم بين المسلمين ، رفعَ إليه رجلان بينهما جاريةٌ يَملكان رِقَّها على السواء ، قد جَهِلا حظرَ وطْئها فوَطِئاها معاً في طُهْر واحد على ظنّ منهما جواز ذلك لقرب عهدهما بالإسلام وقلّةِ معرفتهما بما تضمّنته الشريعةُ من الأحكام ، فحَمَلتْ الجاريةُ ووَضَعَتْ غلاماً ، فاختصما إليه فيه ، فقَرَعَ على الغلام باسميهما فخرجت القرعةُ لأحدهما فألحقَ الغلامَ به ، وألزَمه نصفَ قيمته لأنّه كان عبداً لشريكه ، وقال : « لو عَلِمتُ أنَّكما أقدمتُما على ما فعلتماه بعد الحجّة عليكما بحَظْره لَبالغتُ في عقوبتكما » وبَلَغَ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه القضيةُ فأَمضاها ، وأقرَّ الحكمَ بها في الإسلامِ ، وقال : « الحمدُ للّه الذي جَعَل فينا ـ أهلَ البيت ـ من يَقضي على سنن داود عليه‌السلام وسبيله في القضاء » يعني القضاء بالإلهام الذي هوفي معنى الوَحي ، ونزولِ النصّ به أن لو نَزَلَ على الصريح (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) روي باختلاف يسير في الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٧ ، مسند أحمد ١ : ١٣٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٤ ، أنساب الأشراف ٢ : ١٠١ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٦٨ و ٣٢٣ ، تأريخ بغداد ١٢ : ٤٤٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٠ : ٢٤٤.

(٢) روي نحوه في الكافي ٥ : ٤٩١ ، الفقيه ٣ : ٥٤ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٨ ، مصباح الأنوار : ١٨٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٣.

١٩٥

ثم رُفِع إِليه عليه‌السلام وهو باليَمَن في خبر زبيةٍ (١) حفِرت للأَسد فوقع فيها ، فغدا الناسُ ينظرون إِليه ، فوقف على شفير الزُبْية رجلٌ فزلَّت قدمُه فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بثالث وتعلّق الثالث بالرابع ، فوقعوا في الزُبية فدَقَّهم الأَسد وهلكوا جميعاً ، فقضى عليه‌السلام أَنّ الأَوّلَ فريسةُ الأَسد وعليه ثلثُ الدِيَة للثاني ، وعلى الثاني ثُلثا الدِيَة للثالث ، وعلى الثالث الدِيَةُ كاملةً للرابع. وانتهى الخبرُ بذلك إِلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزّوجلّ فوقَ عرشه » (٢).

ثمّ رُفِع إليه خبرُ جارية حَمَلت جاريةً على عاتقها عَبَثاً ولعِباً ، فجاءت جاريةٌ أُخرى فقَرَصتِ الحاملةَ فقَفَزَت (٣) لقَرْصَتها فوَقَعتِ الراكبةُ فاندقَّتْ عنقها وهَلَكتْ ، فقضى عليه‌السلام على القارِصة بثُلثِ الدِيَة ، وعلى القامِصة (٤) بثُلُثها ، وأسقط الثُلثَ الباقي بقُموص الراكبة لركوب الواقِعة (٥) عَبَثاً القامِصَةَ. وبلغ الخبرً بذلك إِلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمضاه وشَهِد له بالصواب به (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) الزبية : حفرة يحفرونها في مكان عال ليصطادوا بها الأسد. « الصحاح ـ زبى ـ ٦ : ٢٣٦٦ ».

(٢) الكافي ٧ : ٢٨٦ / ٣ ، الفقيه ٤ : ٢٧٨ / ٨٦ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٣٩ / ٩٥١ ، المقنعة : ٧٥٠ ، مصباح الأنوار : ١٨٢ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، و ٣٧٨ ، باختلاف يسير.

(٣) في هامش « ش » و « م » : « فقَعَصَتْ ».

(٤) والقامصة : النافرة الضاربة برجليها. قال ابن الأثير : ومنه حديث علي « أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية اثلاثاً ». النهاية ـ قمص ـ ٤ : ١٠٨ ، ـ قرص ـ ٤ : ٤٠.

(٥) في هامش « ش » : الواقصة ، والوقص : كسر العنق. « النهاية ـ وقص ـ ٥ : ٢١٤ ».

(٦) المقنعة : ٧٥٠ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، وروي باختلاف في تقسيم الديات

١٩٦

وقضى عليه‌السلام في قوم وَقَع عليهم حائطٌ فقَتَلهم ، وكان في جمإعتهم امرأةٌ مملوكةٌ وأُخرى حُرّة ، وكان للحُرّة ولدٌ طِفلٌ من حُرٍّ ، وللجارية المملوكةِ ولدٌ طفلٌ من مملوكٍ ، فلم يُعْرَف الحُرُّ ـ من الطفلين ـ من المملوك ، فقَرَع بينهما وحَكَم بالحُرّية لمن خَرَج سهم الحرية عليه منهما ، وحكم بالرِّقِّ لمن خرج عليه سهمُ الرِّقّ منهما ، ثمّ أَعتقه وجعله مولاه وحَكَم في ميراثهما بالحكم في الحرّ ومولاه. فأَمضى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه هذا القضاء وصَوَّبه حسبَ إِمضائه ما أَسلفنا ذكرَه ووصفنا ه (١).

فصل

وجاءت الآثار أنَّ رجلين اختصما إِلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بَقَرة قتلت حِماراً ، فقال أحدُهما : يا رسول الله ، بقرةُ هذا الرجل قتلَتْ حماري. فقال رسولُ الله عليه وآله السلام : « اِذهبا إِلى أبي بكبر فاسألاه عن ذلك » فجاءا الى أبي بكرٍ وقَصّا عليه قصَّتهما ، فقال : كيف تركتما رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجئتُماني؟ قالا : هوأمَرَنا بذلك ، فقال لهما : بَهيمةٌ قتلت بَهيمةً ، لاشيء على رَبّها.

فعادا إِلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبراه بذلك فقال لهما : « امضِيا

ــــــــــــــــــ

أنصافاً لا أثلاثاً في الفقيه ٤ : ١٢٥ ، تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٤١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٣٩٣.

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ١٦ / ٣٥٧.

١٩٧

إلى عُمَر بن الخَطّاب وقصّا عليه قِصّتَكما واسألاه القضاءَ في ذلك » فذهبا إليه وقَصّا عليه قِصَّتهما ، فقال لهما : كيف تركتُما رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وجئتماني؟ قالا : هو أَمَرَنا بذلك ، قال : فكيف لم يأَمُرْكما بالمصير إِلى أبي بكر؟ قالا : قد أَمَرَنا بذلك فصِرْنا إِليه. فقال : ما الذي قال لكما في هذه القضية (١)؟ قالا له : كيت وكيت ، قال : ما أَرى فيها إلاّ ما رأى أبو بكر.

فعادا إِلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخَبَّراه الخبرَ ، فقال : « إذهَبا إِلى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ليقضِيَ بينكما » فذهبا إِليه فقصّا عليه قِصّتَهما ، فقال عليه‌السلام : « إن كانت البقرةُ دخلت على الحمارفي مأمنه ، فعلى ربها قيمةُ الحمار لصاحبه ، وِان كان الحمارُ دخل على البقرة في مأمنها فقتلته ، فلا غُرْم على صاحبها » فعادا إِلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبراه بقضيّته بينهما ، فقال عليه وآله السلام : « لقد قض عليُّ بن أبي طالب بينكما بقضاء الله عزّ اسمه ، ثمّ قال : الحمدُ للّه الذي جَعَل فينا ـ أهلَ البيت ـ من يَقضي على سنَن داود في القضاء » (٢).

وقد روى بعضُ العامة أنَّ هذه القضية كانت من أمير المؤمنين عليه‌السلام بين الرجلين باليمن ، وروى بعضُهم حسبَ ما قدّمناه ، وأمثالُ ذلك كثيرة ، وإنّما الغرضُ في ايراد موجَزٍ منه على الاختصار.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : القصة.

(٢) روي باختلاف يسير في الكافي ٧ : ٣٥٢ / ٧ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤ ، وباختلاف في ألفاظه في تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٢٩ / ٣٤ ، وفضائل شاذان : ١٦٧ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠٤ : ٢ / ٤٠٠.

١٩٨

فصل

في ذكرمختصرمن قضائه عليه‌السلام في إِمارة أبي بكر

ابن أبي قُحَافة

فمن ذلك ما جاء الخبرُ به عن رجال من العامّة والخاصّة : أنّ رجلاً رُفِع إِلى أَبي بكر وقد شرَب الخمر ، فأَراد أَن يُقيم عليه الحَدّ فقال له : إِنّني شَرِبتها ولا علمَ لي بتحريمها ، لأنّي نشأتُ بين قومٍ يستحلّونها ، ولم أعْلم بتحريمها حتّى الآن .. فارتجّ (١) على أبي بكر الأمرُ بالحكم عليه ، ولم يَعْلَم وجهَ القضاء فيه ، فأشارعليه بعضُ من حضره أن يَستخبر أميرَ المؤمنين عليه‌السلام عن الحكم في ذلك ، فأرسل إِليه من سأله عنه ، فقال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « مُرْ ثِقتين من رجال المسلمين يَطًوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار ، ويُناشدانهم الله هل فيهم أحدٌ تلا عليه آيةَ التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فإِن شَهِدَ بذلك رَجلان منهم فأقِمْ الحَدَّ عليه ، وِان لمَ يْشَهد أحدٌ بذلك فاستتِبْه وخَلِّ سبيلَه » ففعل ذلك أبو بكر ، فلم يَشْهَد عليه أحدٌ من المهاجرين والأنصار أنّه تلا عليه آيةَ التحريم ، ولا أخبره عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فاستتابه أبو بكر وخلّى سبيله ، وسلَّم لعليّ عليه‌السلام في القضاء

ــــــــــــــــــ

(١) اُرْتِجَ عليه وارتُجّ عليه : استبهم عليه. « لسان العرب ـ رتج ـ ٢ : ٢٨٠ ».

١٩٩

به (١).

وروَوْا : أَنّ أَبا بكر سُئل عن قوله تعالى : ، ( وَفَاكِهَةً وَأَباً ) (٢) فلم يعرِف معنى الأبّ في القرآن ، وقال : أَيُّ سَماء تُظِلّني وأَيِّ (٣) أَرض تُقِلّني أَم كيف أَصنع إِن قلتُ في كتاب اللّه تعالى بما لا أَعلم ، أَمّا الفاكهة فنَعْرِفها ، وأما الأبُّ فاللّه أعلمُ به. فبلغ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام مقالُه في ذلك ، فقال : عليه‌السلام : « يا سبحان اللّه ، أما عَلِمَ أنَّ الأبَّ هو الكَلأَ والمَرعى ، وأنَّ قوله عزّ اسمه : ( وَفَاكِهَةً وَأباً ) اعتداد من الله سبحانه بإِنعامه على خلقه فيما غذّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تُحيى به أنفسُهم وتَقُوم به أجسادُهم » (٤).

وسُئِل أبو بكر عن الكَلالة فقال : أقول فيها برأيي ، فإِن أصبت فمن الله ، وِإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان. فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين عليه‌السلام فقال : « ما أغناه عن الرأي في هذا المكان! أما عَلِم أنّ الكَلالة هم الإخْوَة والأخوات من قبَل الأب والأمّ ، ومن قِبَل الأب على انفراده ، ومن قِبَل الامّ أيضاً على حِدَتها ، قال اللّه عزّ قائلاً :

ــــــــــــــــــ

(١) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٦ ، و ٢٤٩ / ٤ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٩٤ / ٣٦١ ، خصائص الرضي : ٨١ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٦ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ١٥٩ / ١٣.

(٢) عبس ٨٠ : ٣١.

(٣) في هامش « ش » : أم أي.

(٤) ذكر صدره ابن شهرآشوب في مناقبه ٢ : ٣٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ : ٣١٧ عن فضائل أبو عبيد وعبد بن جميل ، ونقله البحراني في تفسير البرهان ٤ : ٤٢٩ / ١ ، والحويزي في تفسير نور الثقلين ٥ : ١٤ / ٥١١ ، والعلامة المجلسي في البحار ٧٩ : ١٣ / ١٥٩.

٢٠٠