الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

فسار بُرَيدة حتى انتهى إلى باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلَقِيه عُمر بن الخطّاب فسأله عن حال غَزوتهم وعن الذي أقْدَمَه ، فأخبره أنّه إنّما جاء ليَقَعَ في عليّ ، وذكر له اصطفاءه الجاريةَ من الخُمس لنفسه ، فقال له عُمَر : اِمضِ لمِا جئتَ له ، فإنَّه سيَغْضَبُ لابنته ممّا صَنَعَ عليّ. فدخل بُرَيدةُ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه كتابٌ من خالد بما أرْسَلَ به برَيدة ، فجعل يَقْرؤُه ووجهُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتغيّر ، فقال بُرَيدةُ : يا رسولَ الله ، إنّك إن رَخَصْتَ للناس في مثل هذا ذَهَب فَيْؤُهم ، فقال له النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وَيْحكَ ـ يا بُرَيْدَة ـ أحْدَثْتَ نِفاقاً! إنَ عليَّ بن أبي طالب يَحِلُّ له من الفَيء ما يَحِلُّ لي ، إنَّ عليَّ بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك ، وخيرُمن أُخَلّف من بعدي لكافّة أُمّتي ، يا بُرَيدة ، اِحذَرْ أن تُبغضَ علياً فيُبْغِضَك الله ».

قال بُرَيدة : فتمنّيتُ أنّ الأرضَ انشقَت بي فسُخْتُ فيها ، وقلتُ : أعوذ بالله من لسَخَط الله وسَخَط رسوله ، يا رسولَ الله ، استغفر لي فلن أُبْغِضَ علياً أبداً ، ولا أقولُ فيه إلاّ خيراً. فاستغْفَرَ له النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فصل

وفي هذه الغَزاة من المنقبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما لا يُماثلها منقبةٌ لأحد سواه ، والفتحُ فيها كان على يديه خاصّةً ، وظَهَرَ من فضله ومُشاركته للنبي عليهما‌السلام فيما أحلّه اللّه تعالى له من الفَيء ،

١٦١

واختصاصِه من ذلك بما لم يكن لغيره من الناس ، وبانَ من مودّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفضيلهِ إيّاه ما كان خفيّاً على من لا علم له بذلك ، وكان من تَحذيره بُرَيدة وغيرَه من بُغضه وعَداوته وحَثّه له على مودّته وولايته ورَدّ كيد اعدائه في نُحورهم ، ما دلّ على أنّه أفضلُ البريّة عند اللّه تعالى وعنده وأحقُّهم بمَقامه (١) من بعده ، وأخصّهم به في نفسه ، وآثرهُم عنده.

فصل

ثمّ كانت غَزاة السلسلة ، وذلك أنَّ أعرابياً جاء إلى النبي عليه وآله السلام فجَثا بين يدَيْه وقال له : جئتُك لأنْصَحَ لك. قال : « وما نصيحتُك؟ » قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بواديَ الرَمْل ، وعَمِلوا على أن يًبَيّتُوك بالمدينة. ووَصَفهم له.

فأمر النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُنادى بالصلاة جامعة ، فاجتَمَعَ المسلمون فصَعِدَ المِنْبَر ، فحمد الله وأثنىَ عليه ، ثمّ قال : « أيّها الناسُ ، إنّ هذا عدوُّ اللّه وعدوُّكم قد عَمِل على تبييتكم ، فمَنْ لهم؟ » فقام جماعةٌ من أهل الصُفّة ، فقالوا : نحن نَخْرج إليهم ـ يا رسولُ الله ـ فولِّ علينا مَنْ شئتَ. فأقْرَعَ بينهم ، فخرجتِ القُرْعةُ على ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم ، فاستدعى أبا بكر فقال له : « خُذ الراية (٢)

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وها مش « ش » : بمكانه.

(٢) في « م » وهامش « ش » : اللواء.

١٦٢

وامضِ الى بَني سلَيْم فإنّهم قريبٌ من الحَرَّة » فمضى ومعه القوم حتّى قارب أرضَهم ، فكانت كثيرةَ الحجارة والشجر ، وهم ببَطْن الوادي ، والمنحدَرُ إليه صعبٌ.

فلمّا صار أبو بكر إلى الوادي وأراد الانحدار خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، وانهزم أبوبكرمن القوم.

فلمّا وَرَدوا (١) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عَقَد لعُمَر بن الخَطّاب وبعثه إليهم ، فكَمنوا له تحت الحجارة والشجر ، فلمّا ذهب ليَهْبِط خرجوا إليه فهزموه.

فساء رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : اِبعَثْني ـ يا رسولَ الله ـ إليهم ، فإنّ الحربَ خُدعةٌ ، ولَعَلّي أخْدَعُهم. فأنفذه مع جماعة ووصّاه ، فلما صار الى الوادي خرجوا إليه فهزموه ، وقَتَلوا من أصحابه جماعةً.

ومكث رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّاماً يدَعُو عليهم ، ثمّ دعا اميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فعَقَد له ، ثمّ قال : « أرسلتُه كرّاراً غيرَ فَرّار » ورفع يديه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إن كنتَ تَعلم أنّي رسولُك ، فاحفَظني فيه وافعَلْ به وإفعَلْ » فدعا له ما شاء الله.

وخَرَج عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وخَرَج رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتشييعه ، وبَلَغ معه الى مسجد الأحزاب ، وعليّ عليه

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : قدموا.

١٦٣

السلام على فرَس أشْقَرَ مَهْلوب (١) ، عليه بُردان يمانيان ، وفي يده قَناةٌ خَطِية (٢) ، فَشَيَّعه رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنفذَ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعُمَر وعَمرو بن العاص ، فسار بهم عليه‌السلام نحوَ العراق مُتَنكّبْاً للطريق حتّى ظَنّوا أنّه يُريد بهم غيرَذلك الوجه ، ثمّ أخَذَ بهم على مَحَجَّة غامِضة ، فسار بهم حتّى استقبل الوادي من فمه ، وكان يَسيرُ الليل وَيكْمن النهار.

فلمّا قَرب من الوادي أمر أصحابَه أنَ يكْعَموا (٣) الخيلَ ، ووَقَفَهم مكاناً وقال : « لا تَبْرحوا » وانتبذ أمامَهم فأقامَ ناحيةً منهم.

فلمّا رأى عَمرو بن العاص ما صَنَع لم يَشُكَّ أنَ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر : أنا أعلم بهذه البلاد من عليّ ، وفيها ما هوأشدُّ علينا من بني سُلَيْم ، وهي الضِباع والذِئاب ، وإن خرجَتْ علينا خشيتُ أن تُقَطِّعنا ، فكَلِّمْه يَخْلُ عنّا نَعْلو الوادي.

قال : فانطَلَق أبو بكر فكلَّمَه فاطال ، فلم يُجِبْه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام حرفاً واحداً ، فرَجَعَ إليهم فقال : لا والله ما أجابَني حرفاً.

فقال عَمرو بن العاص لعُمَر بن الخَطّاب : أنتَ أقوى عليه ، فانطلق عمَر فخاطبه فصَنَع به مثلَ ما صَنَع بأبي بكر ، فرَجَع إليهم

ــــــــــــــــــ

(١) المهلوب : هو المقصوص شعر الهلب ، وهو الذنب. « القاموس المحيط ١ : ١٤٠ ».

(٢) الخط : موضع باليمامة ، وهو خط هجر ، تنسب إليه الرماح الخطَية ، لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوّم به. « الصحاح ـ خطط ـ ٣ : ١١٢٣ ».

(٣) كعم بعيره أو فرسه : شدّ فمه كي لا يظهر منه صوت. اُنظر « الصحاح ـ كعم ـ ٥ : ٢٠٢٣ ».

١٦٤

فأخبرَهم أنّه لم يُجبه.

فقال عَمرو بن العاص : إنّه لا ينبغي أن نُضَيِّعَ أنْفسَنا ، اِنطلقوا بنا نعلو الوادي ، فقال له المسلمون : لا والله لا نَفْعَل ، أمَرَنا رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن نَسْمَعَ لِعَليٍّ ونُطيع ، فَنتْرُك أمرَه ونسمَعُ لك ونُطيعُ؟!

فلم يزالوا كذلك حتى احسَّ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام الفجرَ ، فكَبَس (١) القومَ وهم غارّون (٢) ، فأمكنهُ الله منهم ، ونزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَالْعَادِيَاتِ ضبْحاً ... ) (٣) إلى آخرالسورة ، فبَشَّرَ النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابَه بالفتح ، وأمرهم أن يستَقْبِلوا أميرَ المؤمنين عليه‌السلام فاستقبَلوه ، والنبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَقْدًمُهم فقاموا له صَفّين.

فلمّا بَصُرَ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تَرَجَّل عن فرسه ، فقال له النبي عليه وآله السلام : « اِرْكَبْ فإنّ الله ورسولَه راضيان عنك » فبكى أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فَرَحاً ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا عليّ ، لولا أنّني أُشْفِقُ أن تقولَ فيك طوائفُ من اُمتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلتُ فيك اليومَ مَقالاً لا تَمُرُّ بملأٍ من الناس إلاّ أخذوا الترابَ من تحت قدَمَيْك ».

ــــــــــــــــــ

(١) كَبَسُوا دار فلان : أغاروا عليه فجأة. « الصحاح ـ كبس ـ ٣ : ٩٦٩ ».

(٢) أي غافلون.

(٣) العاديات ١٠٠ : ١.

١٦٥

فصل

فكان الفتحُ في هذه الغَزاة لأَمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّةً ، بعد أن كان من غيره فيها من الإفساد ما كان ، واختصَّ عليه‌السلام من مَديح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها بفضائل لم يَحْصُل منها شيءٌ لغيره وبان له من المنقبة فيها ما لم يَشْرَكه فيه سواء.

فصل

ولما انتشرالإسلامُ بعد الفتح وما وَلِيَه من الغَزَوات المذكورة وقَويَ سلطانُه ، وفدَ الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الوُفودُ ، فمنهم مَن أسلمَ ومنهم مَن استأمَنَ ليعوُدَ إلى قومه برأيه عليه‌السلام فيهم.

وكان في مَن وَفَدَ عليه أبو حارثة اُسْقُف نَجران في ثلاثين رجلاً من النصارى ، منهم العاقِب والسيد وعبدُ المسيح ، فقَدِموا المدينةَ وقت (١) صلاة العصر ، وعليهم لباسً الديباج والصُلُب ، فصار إليهم اليهود وتساءلوا بينهم فقالت النصارى لهم : لستُم على شيء ، وقالت لهم اليهود : لستم على شيء ، وفي ذلك أنزل الله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ ، النَّصَارئ عَلى شيَء وَقَالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ الْيَهوُدُ عَلى

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : عند.

١٦٦

شَيء ... ) (١) إلى آخر الأية.

فلمّا صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العصرَتوجّهوا إليه يَقْدُمًهم الأسقُف ، فقال له : يا محمّد ، ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبي عليه وآله السلام : « عبدٌ لله اصطفاهُ وانتَجَبَه » فقال الأسْقف : أتَعْرِفُ له ـ يا محمّد ـ أباً ولده؟ فقال النبي عليه وآله السلام : « لم يَكُنْ عن نكاح فيكونُ له والد » قال : فكيف قلت : إِنَّه عبد مخلوق ، وأنت لم تَرَ عبداً مخلوقاً إلاّ عن نكاح وله والد؟ فانزل اللهُ تعالى الايات من سورة آل عمران إلى قوله :

( إنَ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ ادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *الْحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلاتَكُنْ مِنَ المُمْتَرين * فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدعُ اَبْنَاءَنَا وَابنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَانفُسَنَا وَانفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبينَ ) (٢) فتلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على النصارى ، ودعاهم إلى المباهلة ، وقال : « إنّ الله عزًّ اسمه أخبَرَني أنّ العذابَ يَنْزِلُ على المُبْطِل عقيبَ المباهلة ، ويُبَينِّ الحقَّ من الباطل بذلك » فاجتمع الأسْقُف مع عبد المسيح والعاقب على المشورة ، فاتّفق رأيُهم على استنظاره إلى صَبيحةِ غدٍ من يومهم ذلك.

فلمّا رجعوا إلى رِحالهم قال لهم الأسْقُف : انْظُروا محمّداً في غَدٍ ، فان غَدا بولده واهله فاحذَروا مباهلته ، وإن غدا باصحابه فباهلوه ،

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١١٣.

(٢) آل عمران ٣ : ٥٩ ـ ٦١.

١٦٧

فإنّه على غيرشيء.

فلمّا كان من الغد جاء النبي عليه وآله السلام آخذاً بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يَمشِيان وفاطمة ـ صلوات الله عليهم ـ تَمشي خلفَه ، وخرج النصارى يَقْدُمُهم أُسْقُفهم.

فلمّا رأى النبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقبل بمن معه ، سأَل عنهم ، فقيل له : هذا ابنُ عمّه عليّ بن أبي طالب وهو صِهره وأبو ولده وأحبُّ الخلق إليه ، وهذان الطفلان ابنا بنته من عليِّ وهما من أحبِّ الخلق إليه ، وهذه الجاريةُ بنتُه فاطمة أعزُّ الناس عليه وَأقربُهم إلى قلبه.

فنَظَر الأسْقُف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم : انظُروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليُباهِلَ بهم واثقاً بحقّه ، والله ما جاء بهم وهويتخوّف الحجةَ عليه ، فاحذَروا مباهلته ، والله لولا مكانُ قَيْصَر لأسلمت له ، ولكن صالحوه على ما يتفق بينكم وبينه ، وارْجِعُوا إلى بلادكم وارتَؤُوا لأنفسكم ، فقالوا له : رأيُنا لرأيك تَبَعٌ ، فقال الأسْقًف : يا با القاسم إنّا لا نُباهِلك ولكنّا نصالِحُك ، فصالحنا على ما نَنْهَضُ به.

فصالحهم النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ألفَيْ حُلّة من حُلَل الأواقي قيمةَ كلّ حُلةٍ أربعون درهماً جياداً ، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك ، وكتب لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً بما صالحهم عليه ، وكان الكتاب :

١٦٨

بسم الله الَّرحمن الَّرحيم

هذا كتابٌ من محمّدٍ النبي رسولِ الله لنَجْران وحاشيتها ، في كلّ صَفراء وبَيضاء وثَمرَةٍ ورقيقٍ ، لا يُؤْخَذُ منه شيءّ منهم غيرُ ألْفَيْ حُلّةٍ من حُلَلَِ الأواقِي ثمنُ (١) كلّ حُلّةٍ أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، يُؤَدّون ألفاً منها في صَفَرٍ ، وألفاً منها في رجب ، وعليهم أربعون ديناراً مثواةَ رسولي ممّا فوقَ ذلك ، وعليهم في كلّ حَدَثٍ يكون باليمن من كلّ ذي عَدْنٍ عاريةٌ مضمونةٌ ثلاثون دِرعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جَمَلاً عاريةٌ مضمونةٌ ، لهم بذلك جوارُ الله وذمّةُ ( محمّد بن عبدالله ) (٢) ، فمن أكل الرِبا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة.

وأخذ القومُ الكتابَ وانصرفوا.

فصل

وفي قصة أهل نَجران بيان عن فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام مع ما فيه من الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعجز الدال على نبوته.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : قيمة.

(٢) في « م » : رسول الله.

١٦٩

ألا ترى إلى اعترافِ النصارى له بالنبوّة ، وقطعِهِ عليه‌السلام على امتناعهم من المباهلة ، وعلمِهم بأنّهم لو باهلوه لَحَلّ بهم العذابُ ، وثقتِه عليه وآله السلام بالظفربهم والفَلَجِ بالحُجَّة عليهم.

وأنّ الله تعالى حَكَم في آية المباهلة لأَمير المؤمنين عليه‌السلام بانّه نفسُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاشفاً بذلك عن بلوغه نِهاية (١) الفضل ، ومساواتِه للنبي عليه واله السلام في الكمال والعِصمة من الاثام ، وأن اللهَ جلّ ذكره جَعَله وزوجتَه وولَديْه ـ مع تقارب سنّهما ـ حجّةً لنبيه عليه وآله السلام وبرهاناً على دينه ، ونَصَّ على الحُكْم بأنّ الحسن والحسين أبناؤه ، وأنّ فاطمةَ عليها‌السلام نساؤه المتوجِّهُ إليهن الذكر والخطاب في الدعاء الى المباهلة والاحتجاج ، وهذا فضلٌ لم يَشْركهم فيه أحدٌ من الأُمّة ، ولا قاربَهم فيه ولا ماثَلهم في معناه ، وهو لاحِقٌ بما تقدّم من مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام الخاصّة له ، على ما ذكرناه.

فصل

ثمّ تلا وَفْدَ نَجْران من القصص المُنْبِئَة عن فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وتَخَصُّصِه من المناقب بما بان به من كافّة العباد ، حجةً الوداع وما جرى فيها من الأقاصيص ، وكان فيها لأمير المؤمنين عليه‌السلام من جليل المقامات. فمن ذلك أنّ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : غاية.

١٧٠

كان قد أنفذَه عليه‌السلام إلى اليمن ليخمِّسَ زكاتها (١) ، ويَقْبِضَ ما وافق عليه أهلُ نجران من الحُلَل والعَينْ وغيرِذلك ، فتوجّه عليه‌السلام لما نَدَبه إليه رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنجزه ممتثلاً فيه أمره مسارعاً إلى طاعته ، ولم يَأْتَمِنْ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً غيرَه على ما ائتمَنه عليه من ذلك ، ولا رأى في القوم من يَصْلَحُ للقيام به سواه ، فأقامه عليه‌السلام مقامَ نفسه في ذلك واستَنابَه فيه ، مطمئناً إِليه ، ساكناً إلى نُهوضه بأعباء ما كَلَّفه فيه.

ثمّ اراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التوجه للحجّ وأداء فَرْض الله تعالى عليه فيه ، فأذَّنَ في الناس به ، وبَلَغَتْ دعوتُه عليه‌السلام أقاصِيَ بلاد الإسلام ، فتجهَّزَ الناسُ للخروج وتأهَّبوا معه ، وحَضَرَ المدينةَ من ضَواحيها ومِنْ حَوْلها وبفربِ منها خلقٌ كثيرٌ ، وتهيَّأؤا للخروج معه ، فخرج النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة ، وكاتَبَ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام بالتوجه إلى الحجّ من اليمن ولمِ يَذْكُرْ له نوعَ الحجّ الذي قد عَزَمَ عليه ، وخَرَجَ عليه وآله السلام قارِناً للحجّ بسِياق الهَدْي ، وأحْرَمَ من ذِي الحُلَيْفَة (٢) وأحْرَمَ الناسُ معه ، ولبّى (٣) عليه‌السلام من عند المِيل الذي بالبَيْداء ، فاتَّصل ما بين الحرمين بالتَلبِيَة حتّى انتهى إلى كُرَاعِ الغَمِيم (٤) ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : رِكازها.

(٢) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال أوسبعة ، وفيها ميقات أهل المدينة. « معجم البلدان ٢ : ٢٩٥ ».

(٣) لبّى اي رفَع صوتَه بالتَلبية.

(٤) كراع الغميم : واد في طريق المدينة إلى مكة المكرمة. « معجم البلدان ٤ : ٤٤٣ ».

١٧١

وكان الناسُ معه ركباناً ومُشاةً ، فشَقًّ على المُشاة المسيرُ ، وأجْهَدَهم السيرُ والتعبُ به ، فشَكَوْا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستحْمَلُوه فأعلَمَهمُ أنه لا يَجدُ لهم ظَهْراً ، وأمَرَهم أن يَشُدًّوا على أوساطهم يخلِطوا الرَمَلَ (١) بالنَسًل (٢) ، ففَعَلوا ذلك واستَراحوا إليه ، وخَرَجَ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام بمن معه من العَسْكَر الذي كان صَحِبَه إلى اليمن ، ومعه الحُلَلُ التي أخَذَها من أهل نَجران.

فلمّا قارَبَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة مِن طريق المدينة ، قارَبَها أميرُ المؤمنين عليه‌السلام من طريق اليمن ، وتقدَّمَ الجَيشَ للقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخَلَّفَ عليهم رجلاً منهم ، فأدرك النبيَّ عليه وآله السلام وقد أشرَفَ على مكّة ، فسلَّم وخَبَّرهَ بما صنع وبقَبْض ما قَبَض ، وأنّه سارع للقائه أمامَ الجَيش ، فسُرَّ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وابتَهَج بلقائه وقال له : « بما أهْلَلْت يا عليّ؟ فقال له : يا رسولَ الله ، إنّك لم تكْتُبْ إليّ باهلالك ولا عَرَّفْتَنِيه (٣) فَعَقَدْتُ نيتي بنيّتِك ؛ وقلتُ : اللهمّ إهلالاً كإهلال نبيك ، وسُقْتُ معي من البدن أربعاً وثلاثين بدنَةً ، فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر ، فقد سُقْت أنا سِتّاً وستّين ، وأنت شريكي في حَجّي ومناسكي وهَدْيي ، فأقِمْ على إحرامك وعُدْ إلى جَيشك فعَجِّل بهم إليَّ حتّى نجتمع بمكّة إن شاء الله ».

ــــــــــــــــــ

(١) الرَمَل : الهرولة. « الصحاح ـ رمل ـ ٤ : ١٧١٣ ».

(٢) النسل : الركض بسرعة. انظر « الصحاح ـ نسل ـ ٥ : ١٨٣٠ ».

(٣) في « م » وهامش « ش » : عرفته.

١٧٢

فودَّعه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام وعاد إلى جيشه ، فَلقيَهم عن قُربٍ فوجدهم قد لَبِسُوا الحُلَلَ التي كانت معهم ، فأنكر ذلك عليهم ، وقال للذي كان استخلفه فيهم : « وَيلك ، ما دعاك إلى أن تًعْطِيَهم الحُلَلَ من قبل أن نَدْفَعَها إلى النبي عليه وآله السلام ولم أكُنْ أَذِنْتُ لك في ذلك؟ » فقال : سَألوني أن يتجمّلوا بها ويحرمُوا فيها ثمّ يردّونَها عليّ. فانتزعها أميرُ المؤمنين عليه‌السلام من القوم وشدَّها في الأعْدال فاضطَغنوا لذلك عليه.

فلمّا دخلوا مكّةَ كَثُرَتْ شكايتهم من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأَمَرَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديه فنادى في الناس : « اِرْفَعوا ألسنتَكم عن عليّ بن أبي طالب ، فإنه خَشِنٌ في ذات الله عزّوجلّ ، غيرُ مُداهِنٍ في دينه » فكفَّ الناسُ عن ذِكره ، وعَلِمُوا مَكانَه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسَخَطَه على من رام الغَمِيْزَةَ فيه. فأقام أميرُ المؤمنين عليه‌السلام على إحرامه تأسّياً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان قد خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرٌ من المسلمين بغير سِياق هَدْي. فأنزل الله عزّ ذكره ( وَاَتِمًّوا الْحَج وَالْعُمْرَة للّهِ ) (١) فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دَخَلَت العًمرةُ في الحجّ ـ وشَبَّك بين أصابع إحدى يَدَيْه بالأخرى ـ إلى يوم القيامة » ثم قال عليه وآله السلام : « لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْي » ثمّ أمَرَ مناديَه فنادى : مَنْ لم يَسُقْ منكم هَدْياً فليُحِلّ ولْيَجْعَلها عُمْرَةً ، ومن ساق منكم هَدْياً فليُقِمْ على إحرامه. فأطاع بعضُ الناس

ــــــــــــــــــ

(١) البقرة ٢ : ١٩٦.

١٧٣

في ذلك وخالف بعضٌ ، وجَرَت خُطوبٌ بينهم فيه ، وقال منهم قائلون : إنَ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشْعَث أغْبر ، ونَلْبِسُ الثياب ونَقْربُ النساءَ وندهن!.

وقال بعضُهم : أَما تَستحيون أن تخرُجوا ورؤسُكم تَقْطُر من الغُسل ، ورسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على إحرامه!.

فأنكر رسولُ الله على من خالف في ذلك وقال : « لولا أنّي سُقْتُ الهَدْي لأَحللتُ وجعلتُها عُمرةً ، فمن لم يَسُقْ هدياً فليُحِلّ » فرجع قومٌ وأقام آخرون على الخلاف.

وكان فيمن أقام على الخلاف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عُمَر بن الخَطّاب ، فاستدعاه رسول الله عليه وآله السلام وقال له : « ما لِي أراك ـ يا عُمَر ـ مُحرِماً أَسُقتَ هَدْياً؟! » قال : لم أسُقْ ، قال : « فلِمَ لا تُحِلّ وقد أمرتُ من لم يَسق الهَدْي بالإحلال؟ » فقال : والله يا رسولَ الله لا أَحْلَلتُ وأنتَ مُحرمٌ ، فقال له النبي عليه وآله السلام : « إنّكَ لن تُؤْمن بها حتّى تموت ».

فلذلك اقام على إنكار مُتعة الحجّ ، حتّى رَقى المِنْبرَ في إمارته فنهى عنها نَهياً مجدداً (١) وتوعّد عليها بالعقاب.

ولمّا قضى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نُسُكَه أشرك علياً عليه‌السلام في هَدْيه ، وقَفَل إلى المدينة وهو معه والمسلمون ، حتّى انتهى إلى الموضع المعروف بغَدير خُمّ ، وليس بموضع إذ ذاك للنزول لعدم الماء

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » و « م » : مجرداً ، واثبتنا ما في هامش « ش » ونسخة العلامة المجلسي.

١٧٤

فيه والمرعى ، فنَزَل صلى‌الله‌عليه‌وآله في الموضع ونَزَل المسلمون معه.

وكان سببُ نزوله في هذا المكان نزولَ القرآن عليه بنَصْبه أميرَ المؤمنين عليه‌السلام خليفةً في الاُمّة من بعده ، وقد كان تَقَدَّم الوحيُ إليه في ذلك من غيرتوقيتٍ له فأخَّرَه لحضُور وقتٍ يَأْمَنُ فيه الاختلافُ منهم عليه ، وعَلِمَ اللهُ سبحانه أنّه إن تجاوز غديرَ خُمّ انفصل عنه كثيرٌ من الناس إلى بلادهم وأماكنهم وبواديهم ، فأراد اللهُ تعالى أن يَجْمعَهم لسِماع النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام تأكيداً للحُجّة عليهم فيه. فأنْزَل جلّت عظمته عليه : ( يَا اَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغْ مَا اُنْزِلَ اليْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (١) يعني في استخلاف عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام والنصّ بالإمامة عليه ( وَاِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٢) فأكَّد به الفرضَ عليه بذلك ، وخوَّفَه من تأخيرالأمرِ فيه ، وضمِنَ له العِصمةَ ومَنْعَ الناس منه.

فنزل رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المكانَ الذي ذكرناه ، لما وَصَفناه من الأمر له بذلك وشرحناه ، وَنَزَلَ المسلمون حوله ، وكان يوماً قائظاً شديد الحَرّ ، فأمر عليه‌السلام بدَوْحاتٍ هناك فقُمَّ ما تحتها ، وأمر بجمع الرِحال في ذلك المكان ، ووَضْعِ بعضها على بعض ، ثمَّ أمَرَ مناديه فنادى في الناس بالصلاة. فاجتمعوا من رِحالهم إليه ، وإنَّ أكثرَهم ليلُفُّ رداءه على قدمَيْه من شدّة الرَمْضاء. فلمّا اجتمعوا صَعِدَ عليه واله السلام على تلك الرِحال حتى صار في ذِرْوَتها ، ودَعا أميرَ المؤمنين عليه‌السلام فرَقى معه حتّى قام عن يمينه ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ، ٢ ) المائدة ٥ : ٦٧.

١٧٥

ثمَّ خَطَبَ للناس فحَمَد الله وأثنى عليه ، ووَعَظَ فابلغ في الموعظة ، ونَعى إلى الأُمّة نفسَه ، فقال عليه وآله السلام : « إني قد دُعِيْت ويُوشِك أن أُجِيب ، وقد حان مني خفوفٌ (١) من بين أظْهُركم ، وإنّي مُخلِّفٌ فيكم ما إن تَمَسّكتم به لن تَضِلّوا أبداً (٢) : كتاب الله وعترتي أهلَ بيتي ، وإنَّهما لن يَفْتَرِقا حتّى يَرِدا عَليَّ الحوضَ ».

ثمّ نادى بأعلى صوته : (٣) « ألَسْتُ أولى بكم منكم بأنفسكم؟ » فقالوا : اللّهم بلى ، فقال لهم على النَسَق ، وقد أخذ بضَبْعَيْ (٤) أميرِالمؤمنين عليه‌السلام فرَفَعَهما حتّى رُئيَ بياضُ إِبْطَيْهما وقال : « فَمَنْ كُنتُ مَوْلاه فهذا عليٌّ مَوْلاه ، اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عَاداه ، وانْصر من نَصَره ، واخْذُل من خَذَله ».

ثمَّ نَزَل صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكان وقت الظَهيرة ـ فصَلّى ركعتين ، ثمّ زالتِ الشمس فأَذَّن مُؤَذنُه لصلاة الفَرْض فصَلّى بهم الظهر ، وجَلَس صلى‌الله‌عليه‌وآله في خَيمته ، وأمَرعلياً أن يَجْلِس في خَيمةٍ له بازائه ، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنَؤوه بالمَقام ، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين ، ففعل الناسُ ذلك كلُّهم ، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ، ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ.

ــــــــــــــــــ

(١) يقال خف القوم خفوفاً : أي قلوا ، وهي كناية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ارتحاله من الدنيا. انظر « الصحاح ـ خفف ـ ٤ : ١٣٥٣ ».

(٢) أبداً : ليس في « ش » و « ح » وأثبتناها من « م » وهذا الموضع منها بخط متأخرعن زمن نسخها.

(٣) في « م » زيادة : أيها الناس. وهذا القطعة من النسخة : بخط متاخر عن زمن نسخها.

(٤) الضّبْع : بسكون الباء ، وسط العضد ، وقيل : هوما تحت الإبط. « النهاية ـ ضبع ـ ٣ : ٧٣ ».

١٧٦

وكان ممّن أطْنَبَ في تَهنئته بالمَقام عُمَر بن الخَطّاب فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال : بَخٍ بَخٍ يا عليّ ، أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ.

وجاء حَسّان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا رسولَ اللهِ ، إئْذَن لي أن أقول في هذا المقام ما يَرضاه الله؟ فقال له : « قل يا حَسّان على اسم الله » فوَقَف على نَشَزٍ (١) من الأرض ، وتَطاول المسلمون لسماع كلامه ، فأنشأ يقول :

يُناديهمُ يومَ الغَديرِ نَبيُّهُمْ

بخُمٍّ وأسمِعْ بالرسولِ مُنادِيا

وقالَ : فمَنْ مَولاكم ووَلِيّكم؟

فقالوُا ولم يَبدُوا هُناك التعادِيا

إلهًك مَوْلانا وأنْتَ وَليّنا

ولَنْ تَجِدن مِنّا لكَ اليومَ عاصِيا

فقال له : قُمْ يا عليّ فإِنّني

رَضيتُك مِنْ بَعدي إِماماً وهادِيا

فَمَنْ كُنْتُ مَولاه فَهذا وَلِيُّه

فُكُونُوا لَهُ أنصارَصِدْقٍ موالِيا

هُناكَ دَعا : اللّهُمَّ والِ وَلِيَّه

وَكُنْ لِلّذي عادى عَلِيّاً مُعادِيا

فقال له رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تَزال ـ يا حَسّان ـ مُؤيّداً بروحِ القدُسُ ما نَصَرْتَنا بلِسانك ».

وإنّما اشترط رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدعاء له ، لعلمه بعاقبة أمره في الخِلاف ، ولو عَلِمَ سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الأطلاق ، ومثلُ ذلك ما اشترط اللهُ تعالى في مدح أزواج النبي عليه‌السلام ، ولم يَمْدَحْهُنَّ بغير اشتراط ، لعلمه أنَّ منهنّ من يتغيّر بعد

ــــــــــــــــــ

(١) النَّشز : المرتفع من الأرض. « النهاية ـ نشز ـ ٥ : ٥٥ ».

١٧٧

الحال عن الصلاح الذي يُستَحَقّ عليه المدحُ والإكرامُ ، فقال عزّ قائلاً : ( يَا نِسَاءَ ألنّبِيّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ ألنِسَاءِ إن اتَّقَيْتُنَ ) (١) ولم يَجْعَلهن في ذلك حسبَ ما جَعَلَ أهلَ بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في محلّ الأكرام والمِدْحَة ، حيث بَذَلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير ، فأنزل اللهُ سبحانه وتعالى في عليّ بن أبي طالب وفاطمةَ والحسنِ والحسين عليهم‌السلام وقد آثَروا على أنفسهم مع الخَصاصة التي كانت بهم ، فقال جلّ قائلاً : ( وَيُطْعِمونَ الطَعَامَ عَلى حُبّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَاَسيراً * اِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكورأَ * اِنّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقاهًمُ الله شَرَ ذَلِكَ أليَوْم وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صبروا جنّة وَحَريراً ) (٢) فقَطَعَ لهم بالجزاء ، ولم يَشْتَرِط لهم كما اشتَرط لغيرهم ، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيّناه.

فصل

فكان في حَجّة الوداع من فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي اختصّ به ما شَرَحناه ، وانفرد فيه من المنقبة الجليلة بما ذكرناه ، فكان شريكَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّه وهَدْيه ومناسكه ، ووَفَّقه اللهُ تعالى لمساواة نبيه عليه وآله السلام في نيّته ، ووِفاقه في عبادته ،

ــــــــــــــــــ

(١) الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٨ ـ ١٢.

١٧٨

وظَهَرمن مكانه عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله وجليلِ محلّه عند الله سبحانه ما نوَّه به في مِدْحَته ، فأوْجَبَ به فَرْضَ طاعته على الخلائق واختصاصه بخلافته ، والتصريح منه بالدعوة إلى اتباعه والنهي عن مخالفته ، والدعاء لمن اقتدى به في الدين وقام بنصرته ، والدعاء على من خالفه ، واللعن لمن بارَزه بعداوته. وكَشَفَ بذلك عن كونه أفضلَ خلق الله تعالى وأجلَّ بريّته ، وهذا ممّا لم يَشْرَكه ـ أيضاً ـ فيه أحدٌ من الأُمّة ، ولا تعرض (١) منه بفضل يُقاربه على شبهةٍ لمن ظنّه ، أو بصيرة لمن عرَف المعنى في حقيقته ، والله المحمود.

فصل

ثمّ كان ممّا أَكَّدَ له الفضلَ وتخصّصه منه بجليل رتبته ، ما تَلا حجّةَ الوداع من الأُمور المُتَجدِّدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأحداثِ التي اتّفقت ( بقضاء الله وقدره ) (٢).

وذلك أنه عليه واله السلام تَحَقَّق من دُنُوّ أجله ما كان ( قَدَّم الذِكرَ ) (٣) به لأمتّه ، فَجَعَل عليه‌السلام يَقوم مَقاماً بعد مَقام في المسلمين يُحذِّرُهم من الفتنةِ بعده والخلافِ عليه ، ويُؤكِّد وَصاتَهم بالتمسك بسنته والاجتماع عليها والوفاق ، ويحُثُّهم على الاقتداء

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : تَعَوَّض.

(٢) في هامش « ش » : بعون الله وقدرته.

(٣) في هامش « ش » : تقدم الذكر.

١٧٩

بعِترته والطاعة لهم والنصرة والحِراسة ، والاعتصام بهم في الدين ، ويَزْجُرهم عن الخلاف والارتداد. فكان فيما ذكره من ذلك عليه وآله السلام ما جاءت به الرواة على اتفاق واجتماع من قوله عليه‌السلام :

« أيّها الناس ، إنّي فَرَطُكم وأنتم واردون عليَّ الحوض ، ألا وانّي سائلُكم عن الثقلين ، فانظُروا كيف تَخْلُفوني فيهما ، فإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يَلْقَياني ، وسألتُ ربّي ذلك فأعطانيه ، ألا وإِنّي قد تَرَكتُهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فَلا تَسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تُقَصِّروا عنهم فتَهْلِكوا ، ولا تعَلِّموهم فإنّهم أعلم منكمَ.

أيّها الناس ، لا ألفِينّكم بعدي تَرجِعون كُفّاراً يَضرب بعضُكم رقابَ بعض ، فتَلقَوْني في كَتيبةٍ كمَجَرّ السيل الجرّار ( ألا وان عليّ بن أبي طالب أخي ) (١) ووصيّي ، يُقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيِله » (٢).

فكان عليه وآله السلام يَقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه.

ثمّ إنّه عَقَد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرةَ ، ونَدَبه أن يَخْرُجَ بجمهور الأُمّة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيهُ عليه‌السلام على إخراج جماعة من متقدّمي المهاجرين والأنصار في

ــــــــــــــــــ

(١) في نسخة « ش » : الا علي بن ابي طالب فانه اخي ، وفي « م » وهامش « ش » : او علي بن ابي طالب فانه اخي ، واثبتنا مافي نسخة العلامة المجلسي

(٢) وردت قطع من الحديث في الطبقات الكبرى ٢ : ١٩٤ ، تأريخ اليعقوبي ٢ : ١١١ و ١١٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ ، مسند أبي يعلى ٢ : ٢٩٧ ، ٣٠٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ ، مصباح الأنوار : ٢٨٥. ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٢ : ٤٦٥ / ١٩.

١٨٠