الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

رَسُولِهِ وَعلىَ الْمُؤْمِنينَ ) (١) يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومن ثبت معه من بني هاشم يومئذٍ وهم ثمانية ـ أمير المؤمنين تاسعهم ـ :

العَباسُ بن عبدِ المطّلب عن يمين رسول اللّه.

والفَضْلُ بن العباس بن عبد المطلب عن يساره.

وأبوسفيان بن الحارث مُمْسِكٌ بسَرْجه عند ثَفَر (٢) بَغْلتَه.

وأميرُ المؤمنين عليه‌السلام بين يَدَيْه بالسيف.

ونَوْفَلُ بن الحارث ، ورَبيعةُ بن الحارثِ ، وعبدالله بن الزُبَير بن عبد المطلب ، وعُتْبةٌ ومُعَتِّبٌ ابنا أبي لَهَبٍ حوله.

وقد وَلَت الكافَةُ مُدبِرين سوى من ذكرناه ، وفي ذلك يقول مالكُ بن عُبادة الغافقي :

لم يُواسِ النبيَّ غيرُ بَني ها

شِم عند السُيوف يومَ حُنَيْن

هَرَبَ الناسُ غيرَتسعةِ رَهْطٍ

فهُمُ يَهْتِفون بالناس أيْن

ثُمَّ قامُوامع النبي على المَوْ

تِ فآبوا ْزيناً لنا غيرَ شَينْ

وثَوئ أيمنُ الأمين من القَوْ

مِ شَهيداً فاعتاضَ قُرَّةَ عَيْن

وقال العبّاسُ بن عبد المطّلب رضي‌الله‌عنه في هذا المقام :

نَصرَنا رسولَ الله في الحَرْب تسعة

وقَدْ فَرّ مَنْ قَدْ فَرَّ عنه فأقْشَعُوا

ــــــــــــــــــ

(١) التوبة ٩ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الثفر : السير الذي في مؤخر السرج « لسان العرب ـ ثفر ـ ٤ : ١٠٥ ».

١٤١

وَقَوْلي إذا ما الفَضْل شَدََّ بسَيْفه

عَلَى القَوْم أُخرى ـ يا بُنيَّ ـ ليَرْجعُوا

وعاشرنا لاقَى الحِمامَ بنَفْسه

لما نالَه في اللهِ لا يَتَوَجَّع

يعني به أَيْمَنَ بن أُمّ أَيْمَن.

ولمّا رأى رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هزيمةَ القوم عنه ، قال للعبّاس رضي‌الله‌عنه ـ وكان رجلاً جَهْوَرِيّاً صَيّتاً ـ : « نادِ في القوم وذَكِّرْهم العَهْد » فنادى العّباسُ بأعلى صوته : يا أهلَ بَيْعَةِ الشجرة (١) ، يا اصحابَ سورة البقرة (٢) إلى أين تَفِرّون؟ اُذْكُروا العهدَ الذي عاهدتم (٣) عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقومُ على وُجوهِهم قد وَلَّوْا مُدْبِرين ، وكانت ليلةً ظَلماء ، ورسولُ الله في الوادي والمشركون قد خَرَجُوا عليه من شِعاب الوادِي وجَنَباته ومَضايِقِه مُصْلِتين بسيوفهم وعمدهم وقِسيّهم.

قالوا : فنظَرَرسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس ببعض وجهه في الظَلْماء ، فأضاءَ كأنّه القمرُ ليلةَ البَدْر. ثمّ نادى المسلمين : « أينَ ما عاهدتم اللّه عليه؟ » فأسمع أوّلهُم وآخِرهم ، فلم يَسْمَعْها رجلٌ إلاّ رَمى بنفسه إلى الأرض ، فانحدَرُوا إلى حيث كانوا من الوادي ، حتّى لحِقوا بالعدو فواقعوه.

قالوا : وأقبل رجلٌ من هَوازِن على جَمَل له أحمر ، بيده رايةٌ سوداء في رأس رُمْحٍ طويلٍ أمامَ القوم ، إذا أدرك ظَفَراً من المسلمين

ــــــــــــــــــ

( ١ ، ٢ ) في هامش « ش » و « م » : « الشجرتْ ـ البقَرَتْ ، كذا قال وهو وقف على التاء دون الهاءِ ».

(٣) في الاصل : عاهَدَكم. وما أثبتناه من نسخة العلامة المجلسي في البحار.

١٤٢

اكَبَّ عليهم ، وإذا فاتَه الناسُ رَفَعه لمَن ؤراءه من المشركين فاتَّبعوه ، وهو يرتجز ويقول :

أنَا أبو جَرْوَلَ لا بَراح

حتّى نُبيحَ القومَ (١) أو نُباح

فصمِد له أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فضرب عَجُز بَعيره فصَرَعه ، ثم ضربه فقَطَّره (٢) ، ثم قال :

قدعَلِم القومُ لدى الصَباح

أنّي في الهَيْجاء ذو نِصاح

فكانت هزيمةُ المشركين بقَتْل أبي جَرْوَل لعنه الله.

ثمّ التأم المسلمون وصَفّوا للعدو ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللّهم إنّك أَذَقْتَ أوّلَ قريشٍ نكالاً فأَذِقْ آخِرَها نوالاً » وتجالَدَ المسلمون والمشركون ، فلمّا رآهم النبيُّ عليه واله السلام قام في رِكابَيْ سَرْجِهِ حتّى أشرف على جماعتهم وقال : « الآن حَمِيَ الوطيس (٣) :

أَنَا النبيُّ لأ كَذِب

أَنَا ابنُ عَبدِ المُطَّلِب »

فما كان بأسرع مِن أن وَلّى القومُ ادبارَهم ، وجيءَ بالأَسْرى إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مُكَتَّفِين.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : اليوم ، هكذا.

(٢) قطَره : ألقاه على أحد جانبيه ، أسقطه. « الصحاح ـ قطر ـ ٢ : ٧٩٦ ».

(٣) حمي الوطيس : هي كلمة لِم تسمع الاّ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهومن فصيح الكلام ، قال الأصمعي : يضرب مثلاً للأمر اذا اشتد. « لسان العرب ـ وطس ـ ٦ : ٢٥٥ ».

١٤٣

ولمّا قَتَل أمير المؤمنين عليه‌السلام أبا جَرْوَل وخُذِلَ القومُ لقتله ، وَضَع المسلمون سيوفهم فيهم ، وأميرُ المؤمنين عليه‌السلام يَقْدُمهم حتّى قتل أربعين رجلاً من القوم ، ثمّ كانت الهزيمة والأَسْر حينئذٍ ، وكان أبو سفيان صَخْر بن حَرْب بن اُميّة في هذه الغَزاة ، فانهزم في جُملة من انهزم من المسلمين.

فرُوِي عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال : لَقيت أبي منهزماً مع بني أبيه من أهل مكّة ، فصِحْت به : يا بن حرب واللّه ما صبرتَ مع ابن عمِّك ، ولا قاتلتَ عن دينك ، ولا كَفَفْتَ هؤلاء الأَعرابَ عن حريمك. فقال : مَنْ أنت؟ فقلت : معاوية ، قال : ابن هِند؟ قلت : نعم. قال : بأبي أنت واُمي ، ثمَّ وَقَف فاجتمع معه أناسٌ من أهل مكّة ، وانضممتُ إليهم ثمّ حَمَلنْا على القوم فضَعْضَعْناهم ، وما زال المسلمون يَقْتلُون المشركين ويَأسرون منهم حتّى ارتفع النهار ، فأمر رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكَفّ عنه ونادى : أنْ لا يُقْتَلَ أسيرٌ من القوم.

وكانت ئذَيْلٌ بَعَثَتْ رجلاً يقال له ابنُ الأكْوَع (١) أيامَ الفتح عيناً على النبي عليه‌السلام حتّى عَلِمَ عِلْمه ، فجاء إلى هُذَيْل بخَبَره فاُسِر يوم حُنَين ، فمرّ به عُمَر بن الخطاب ، فلمّا رآه أَقْبَلَ على رجل من الأنصار وقال : عَدوّ اللّه الذي كان عَيْناً علينا ، ها هو أسيرٌ فاقتُلْه ، فضَرَب الأنصاريُ عنقَه ، وبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكَرِهَهُ وقال : « ألم آمرُكم ألاّ تَقْتلوا أسيراً! ».

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » وهامش « م » : ابن الأنوع.

١٤٤

وقُتِل بعده جَميلُ بن مَعْمَر بن زهَير وهو أسير.

فبَعَث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الأنصار وهو مغْضَب فقال : « ماحَمَلَكم على قَتْله ، وقد جاءكم الرسولُ ألاّ تقتلوا أسيراً؟ » فقالوا : إنّما قَتَلْنا بقول عمر. فأعرض رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى كلّمه عُمَيْربن وَهْب في الصَفْح عن ذلك.

وقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غنائمَ حُنَين في قريش خاصّة ، وأجْزَلَ القِسْمَ للمؤلّفة قلوبهُم كأبي سفيان بن حَرْب ، وعِكْرِمة بن أبي جهل ، وصَفوان بن أُميّة ، والحارث بن هِشام ، وسُهَيْل ابن عَمرو ، وزُهَير بن أبي أُميّة ، وعبداللة بن أبي اُميّة ، ومعُاوية بن أبي سفيان ، وهِشام بن المُغيرة ، والأَقرع بن حابس ، وعُيَيْنة بن حِصْن في امثالهم.

وقيل : إنّه جَعَل للأنصار شيئاً يسيراً ، وأعطى الجمهورَ لمن سميناه ، فغَضِبَ قومٌ من الأنصار لذلك ، وبلغ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم مقالٌ سَخِطَه ، فنادى فيهم فاجتمعوا ثم قال لهم : « اجْلُسوا ، ولا يَقْعُد معكم أحدٌ من غيركم » فلمّا قَعَدوا جاء النبي عليه‌السلام يَتْبَعُه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام حتّى جَلَس وَسْطهم ، فقال لهم : « إنّي سائلُكم عن أمرٍ فاجيبوني عنه » فقالوا : قل يا رسولَ الله ، قال : « ألستُم كُنتم ضالين فهداكم الله بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله. قال : « ألم تكونوا على شَفا حُفرة من النار ، فأَنْقَذَكم اللّهُ بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةً ولرسوله. قال : « ألم تكونوا قليلاً فكَثَّركَم اللّهُ بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله. قال : « ألم تكونوا أعداءً فألَّفَ اللهُ

١٤٥

بين قلوبكم بي؟ » قالوا : بلى ، فللّه المنّةُ ولرسوله.

ثمّ سكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هُنَيْهَةً ثمّ قال : « ألأ تُجيبوني بما عندكم؟ » قالوا : بمَ نُجيعُك فِداك آباؤُنا وامّهاتنا ، قد أجبناك بانّ لك الفضلَ والمَنَّ والطَوْلَ عَلينا. قال : « أَمَ لوشئتُم لقلتم : وأنتَ قد كنتَ جِئْتَنا طَريداً فآويناك ، وجئتَنا خائِفاً فآمنّاك ، وجئتَنا مُكَذَّباً فصَدَّقناك ».

فارتفعَتْ أصواتُهم بالبُكاء وقام شيوخُهم وساداتُهم إليه فَقَّبلوا يدَيْه ورِجْلَيْه ، ثُم قالوا : رَضِينا باللّه وعنه ، وبرسوله وعنه ، وهذه أموالُنا بين يَدَيْك ، فإن شِئْتَ فاقْسِمْها على قومك ، وإنّما قال مَنْ قال منّا على غير وَغْر صدرٍ (١) وغِلٍّ في قلب ، ولكنّهم ظَنُّوا سُخْطاً عليهم وتقصيراً بهم ، وقد استغْفروا اللّه من ذنوبهم ، فاستغفِرلهم يا رسولَ اللّه. فقال النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللهمَّ اغْفِرْ للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار. يا معشرَ الأنصار ، أما تَرْضَوْن أن يرجِعَ غيركم بالشاة والنِعَم ، وتَرْجِعون أنتم وفي سَهْمِكم رسولُ الله؟ » قالوا : بلى رَضِينا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الأنصارُ كِرشي وعَيْبَتي (٢) ، لو سَلَكَ الناسُ وادياً وسَلَكتِ الأنصارُ شِعْباً ، لسلكتُ شِعْبَ الأنصار ، اللّهم اغفِر للأنصار ».

وقد كان رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى العبّاسَ بن مِرْداس أربعاً من الإبل يومئذ فسخِطها ، وانشأ يقول :

ــــــــــــــــــ

(١) وغر الصدر : الضغن والعداوة. « الصحاح ـ وغر ـ ٢ : ٨٤٦ ».

(٢) في الحديث : « الأنصار كرشي وعيبتي » أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته والذين يعتمد عليهم في اُموره. « النهاية ٤ : ١٦٣ ».

١٤٦

( أتجعَلُ نَهبي ) (١) ونَهْبَ العُبَيـْ

ــدِ (٢) بَيْنَ عُيَيْنَة والأقْرَع

فما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ

يَفوقان شَيْخي في المَجْمَعِ

وماكنتُ دونَ أمرِئٍ منهما

ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يرْفَع

فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قولهُ فاستحَضرَه وقال له : « أنتَ القائل :

أتجعَل نَهْبي ونَهْبَ العبيـ

ـدِ بين الأقْرَع وعُيَيْنَة »

فقال له أبو بكر : بأبي أنت واُمّي ، لستَ بشاعر ، قال : « وكيف؟ » قال ، قال : بين عُيَيْنَة والأقْرَع.

فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « قُمْ ـ يا عليّ ـ إليّه فاقطَعْ لسانه » (٣).

قال : فقال العبّاس بن مِرداس : فواللّه لَهذه الكَلِمة كانت أشدَّ عَلَيً من يَوم خَثْعَم ، حين أتونا في ديارنا. فأخَذَ بيدي عليّ بن أبي طالب فانطَلَقَ بي ، ولو أرى أنَ أحداً يُخَلّصنى منه لدعوتُه ، فقلت : يا

ــــــــــــــــــ

(١) في سيرة ابن هشام ٤ : ١٣٢ ، ومغازي الواقدي ٣ : ٩٤٧ ، والطبري ٣ : ٩١ « فأصبح نهبي ».

(٢) العُبيد : كزبير ، فرس. « القاموس المحيط ـ عبد ـ ١ : ٣١١ ».

(٣) جاء في حاشية « ش » و « م » ما لفظه : ذكروا لما قال النبي عليه‌السلام : « اقطعوا عني لسانه » قام عمر بن الخطاب فأهوى إلى شفرة كانت في وسطه ليسلها فيقطع بها لسانه ، فقال النبي عليه‌السلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « قُم أنت فاقطع لسانه » أو كما قال.

١٤٧

عليّ ، إنّك لقَاطعٌ لساني؟ قال : « إنّي لمُمْضٍ فيك ما أُمرتُ ».

قال : ثمَّ مَضى بي ، فقلت : يا عليّ إنّك لقَاطعٌ لساني؟ قال : « إنّي لممضٍ فيك ما اُمِرْت » ، قال : فما زال بي حتّى أدْخَلَني الحَظائر (١) ، فقال لي : « اعتَدّ ما بينَ أربع إلى مائة » قال ، قلت : بأبي أنتم واُمّي ، ما أكْرَمَكم وَألْحَمكم وأَعْلَمكم!.

قال : فقال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاكَ أربعاً وجَعَلك مع المهاجرين ، فإن شئت فخُذْها ، وإن شئتَ فخِذِ المائة وكُنْ مع أهل المائة ».

قال ، قلتُ : أَشرِ عَلَيّ ، قال : « فإني امُرُكَ أن تاخُذَ ما أعطاك وترضى ».

قلت : فإنّي أفعل.

فصل

ولمّا قَسم رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله غنائمَ حنَين ، أَقْبلَ رجلٌ طُوال أدَم أجنأ (٢) ، بين عَيْنَيه أثرُ السجود ، فسلّم ولم يَخُصَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال : قد رأيتُك وما صنعتَ في هذه الغنائم. قال : « وكيف رأيتَ؟ » قال : لم أرَك عَدَلْتَ. فغَضِبَ رسولُ الله صلّى اللّه عليه

ــــــــــــــــــ

(١) الحظائر : جمع حظيرة ، وهي ما يعمل للإبل من شجر يقيها الحرّ والبرد. « مجمع البحرين ـ حظر ـ ٣ : ٢٧٣ ».

(٢) الأجنأ : الأحدب. « لسان العرب ـ جنأ ـ ١ : ٥٠ ».

١٤٨

وآله وقال : « ويلكَ ، إذا لم يكن العدلُ عندي فعندَ من يكون! ».

فقال المسلمون : ألأ نَقْتُله؟ فقال : « دعوه سَيكونُ له أتباعٌ يَمْرقُون من الدين كما يَمْرُق السهم من الرَّمِيَة ، يَقْتُلُهم اللهُ على يد أحبِّ الخلق إليه من بعدي ».

فقَتله أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فيمن قَتَل يومَ النهروان من الخَوارج.

فصل

فانظر الان إلى مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الغَزاة ، وتامَّلها وفَكِّرْ في معانيها ، تَجدْه عليه‌السلام قد تَوَلّى كلَّ فضلٍ كان فيها ، واختصّ من ذلك بما لم يَشْركه فيه أحدٌ من الأُمّة.

وذلك أنّه عليه‌السلام ثَبَتَ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند انهزامِ كافّةِ الناس ، إلاّ النَفَر الذين كان ثبوتُهم بثبوته عليه‌السلام.

وذلك أنّا قد أحَطْنا عِلْماً بتقدُّمه عليه‌السلام في الشَجاعة والبَأْس والصَبر والنَجْدة ، على العبّاس والفَضْل ـ ابنِه ـ وأبي سُفيان بن الحارِث ، والنَفَر الباقين ، لظُهُورِ أمره في المقامات التي لم يَحْضَرْها أحدٌ منهم ، واشتهارِ خبره في مُنازَلَةِ الأقران وَقتْل الأبطال ، ولم يًعْرَف لأحدٍ من هؤلاء مقامٌ من مقاماته ، ولا قتَيل عُزِيَ إليهم بالذِكر.

فعلِمَ بذلك أنَّ ثبوتَهم كان به عليه‌السلام ، ولولاه كانت

١٤٩

الجنايةُ على الدين لا تُتَلافى ، وأنَّ بَمقامه ذلك المَقام وصَبرِه مع النبي عليه واله السلام كان رجوعُ المسلمين إلى الحَرْب وتشجُّعِهم في لقاء العدُوّ.

ثمّ كان مِن قَتْله أبا جَرْوَل متقدّمَ المشركين ، ما كان هو السببَ في هَزيمة القوم وظَفَرِ المسلمين بهم ، وكان مِن قَتْله عليه‌السلام الاربعين الذين تَوَلّى قَتْلهم الوهنُ على المشركين وسببُ خذلانهم وهلعهم ، وظفر المسلمين بهم ، وكان من بليَةِ المتقدم عليه في مقام الخِلافة من بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عانَ المسلمينَ بإعجابه بالكَثْرة ، فكانت هَزيمتُهم بسبب ذلك ، أوكان أحدٌ أسبابها.

ثُمّ كان من صاحبه في قتل الأسْرى من القوم ، وقد نَهَن النبيُ عليه واله السلام عن قتلهم ، ما ارتكَبَ به عظيمَ الخلاف للّه تعالى ولرسوله ، حتّى أَغْضَبه ذلك وآسَفَه فأنكره وأكبره.

وكان من صَلاح أمر الأنصار بمَعونته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جمعهم وخِطابهم ، ما قَويَ به الدين وزال به الخوفُ من الفتنة التي أظلّت القومُ بسبب القسمة ، فساهم رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل ذلك وشَرِكَه فيه دون من سواه.

وتولّىّ من أمر العبّاس بن مِرداس ما كان سببَ استقرار الإيمان في قلبه ، وزَوال الرَيْب في الدين من نفسه ، والانقيادِ إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والطاعة لأمره والرضا بحكمه.

ثمّ جَعَل رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الحُكْمَ على المُعتِرض في قضائه عَلماً على حقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام في فعاله ، وصوابه في

١٥٠

حرُوبه ، ونَبّه على وجوب طاعته وحَظْرِمعصيته ، وأنَّ الحَقَّ في حَيِّزه وجَنْبَتِه ، وشَهِدَ له بأنّه خيرُ الخليقة.

وهذا يُباين ما كان من خُصومة الغاصبين لمقامه من الفِعال ، ويُضادُّ ما كانوا عليه من الأعمال ، ويُخْرِجُهم من الفَضْل إلى النَقْص الذي يُوبِقُ صاحبَه ـ أو يكاد ـ فضلاً عن سُمُوّه على أعمال المُخْلِصين في تلك الغَزاة وقُرْبهم بالجهاد الذي تَوَلَّوه ، فبانوا به ممن ذكرناه بالتقصير الذي وصفناه.

فصل

ولمّا فَضَّ اللّه تعالى جمعَ المشركين بحُنَين ، تفرّقوا فِرْقتين : فأخَذَتِ الأعرابُ ومن تَبِعهم إلى أوْطاس (١) ، وأخَذَتْ ثَقيف ومن تَبِعها إلى الطائف. فبعَثَ النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامرٍ الأشعريّ إلى أوْطاس في جماعة منهم أبو موسى الأشعري ، وبَعَث أبا سفيانَ صَخْرَ بنَ حَرْبٍ إلى الطائف.

فاما أبو عامر فإنّه تقدّم بالراية وقاتل حتّى قُتِل ، فقال المسلمون لأبي موسى : أنت ابنُ عَمّ الأمير وقد قُتِل ، فخُذِ الرايةَ حتّى نقاتِل دونَها ، فاخذها أبو موسى ، فقاتل المسلمًون حتّى فَتَح اللهُ عليهم.

وأما أبوسفيان فإنّه لَقِيَتْه ثقيف فضَرَبوه على وجهه ، فانهزم ورَجَعَ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : بَعَثْتَني مع قومٍ لا يُرْقَعُ بهم

ــــــــــــــــــ

(١) أوطاس : وادٍ في ديار هَوازن كانت فيه وَقعة حُنَين. « معجم البلدان ١ : ٢٨١ ».

١٥١

الدِلاء من هُذَيل والأعراب ، فما أغْنَوا عنيّ شيئاً ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه.

ثمّ سار بنفسهِ إلى الطائف ، فحاصرهم أَيّاماً ، وأنفَذَ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام في خَيْل ، وأمَرَهُ أن يَطَأ ما وَجَد ، ويكْسِرَ كلَّ صَنَمٍ وَجَده.

فخَرَج حتى لَقِيَتْه خيلُ خَثْعم في جمع كثير ، فبرزَ له رجل من القوم يُقال له شِهاب ، في غَبْش الصبح ، فقال : هل من مبارز؟ فقال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « من له؟ » فلم يَقُمْ احدٌ ، فقام اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام فوثب ابو العاص بن الرَبيع زوجُ بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : تُكْفاه أيها الأمير ، فقال : « لا ، ولكن إنْ قُتِلْت فانت على الناس » فبرز إليه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام وهو يقول :

« إِنَّ على كُلِّ رئيسٍ حَقّا

أنْ يُرْوِيَ الصَعْدَة (١) أوْتًدَقّا (٢) »

ثمّ ضربه فقتله ، ومَضى في تلك الخَيْل حتّى كَسَر الأصنام ، وعاد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مُحاصر لأهل الطائِف.

فلمّا رآه النبي عليه وآله السلام كبَّر للفتح ، وأخَذَ بيده فخلا به وناجاه طويلاً.

ــــــــــــــــــ

(١) الصعدة : القناة المستوية من منبتها لا تحتاج إلى تعديل. انظر « الصحاح ـ صعد ـ ٢ : ٤٩٨ ».

(٢) في هامش « م » : تَنْدَقّا.

١٥٢

فروى عبدُ الرحمن بن سَيابَة والأجْلَح ـ جميعاً ـ عن أبي الزُبَير ، عن جابر بن عبداللّه الأنصاريّ : أنّ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خلا بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يومَ الطائف ، أتاه عُمر بن الخَطّاب فقال : أتناجيه دوننا وتَخْلُو به دوننا؟ فقال : « يا عُمَر ، ما أنا اِنْتَجَيْتُه ، بل الله انتجاه » (١).

قال : فأعْرَض عُمر وهو يقول : هذا كما قلتَ لنا قبلَ الحُدَيْبِيّة : ( لَتَدْخُلُنَّ اْلمَسْجدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللّهُ آمِنين ) (٢) فلم نَدْخُله وصُدِدْنا عنه ، فناداه النبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم أَقُلْ إنَّكم تدخُلونه في ذلك العام! » (٣).

ثمّ خرج من حِصْن الطائف نافع بن غَيْلان بن مُعْتِب في خَيْلٍ من ثَقيفٍ ، فلَقِيَه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام بَبطْن وَجٍّ (٤) فقَتَله ، وانهزم المشركون ولَحِقَ القومَ الرعبُ ، فنزل منهم جماعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلَموا ، وكان حِصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الطائفَ بِضْعَةَ عشريوماً.

ــــــــــــــــــ

(١) روي باختلاف يسير في سنن الترمذي ٥ : ٣٠٣ ، تأريخ بغداد ٧ : ٤٠٢ ، مناقب المغازلي : ١٢٤ ، اُسد الغابة ٤ : ٢٧ ، كفاية الطالب : ٣٢٧.

(٢) الفتح ٤٨ : ٢٧.

(٣) إعلام الورى : ١٢٤ ، وانظر قطع منه في سنن الترمذي ٥ : ٦٣٩ / ٣٧٢٦. جامع الاصول ٨ : ٦٥٨ / ٦٥٠٥ ، تاريخ بغداد ٧ : ٤٠٢ ، مناقب المغازلي : ١٢٤ / ١٦٣ ، كفاية الطالب : ٣٢٧ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٧ ، مصباح الانوار : ٨٨ ، كنز العمال ١١ : ٦٢٥ / ٣٣٠٩٨ عن الترمذي والطبراني.

(٤) وَجّ : الطائف. « معجم البلدان ٥ : ٣٦١ ».

١٥٣

فصل

وهذه الغَزاةُ أيضاً ممّا خَصَّ اللّه تعالى فيها أميرَ المؤمنين عليه‌السلام بما انفرد به من كافّة الناس ، وكان الفتحُ فيها على يده ، وقَتْلِ من قُتِلَ من خَثْعم به ، دون سواه ، وحَصَل له من المناجاة التي أضافها رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اللّه ـ عزّ اسمه ـ ما ظَهَربه من فضله وخصوصيّته من الله عزّوجلّ بما بان به من كافّة الخلق ، وكان من عدوّه فيها ما دَلّ على باطنه وكشَفَ اللّهُ تعالى به عن حقيقة سرِه وضَميره ، وفي ذلك عِبْره لأولي الألباب.

فصل

ثم كانت غَزاة تَبوك ، فاوحى اللهُ تبارك وتعالى اسمه إلى نبيه صلّى اللة عليه واله : أن يَسيرَ إليها بنفسه ، ويستنفِرَ الناسَ للخروج معه ، وأعلمه أنّه لا يحتاجُ فيها إلى حَرْب ، ولا يمنى بقتال عدُوٍّ ، وأنّ الأمورَ تنقادُ له بغير سَيف ، وتَعَبَّدهَ بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم ، ليتميّزوا بذلك وتظَهرَ سرائرهُم.

فاستنفرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بِلاد الروم ، وقد أيْنَعَتْ ثمارهم واشتدَّ القَيْظُ عليهم ، فابطأ أكثرهُم عن طاعته ، رغبةً في العاجل ، وحِرصاً على المعيشة وإصلاحِها ، وخوفاً من شدّة القَيْظ

١٥٤

وبُعْدِ المسافة (١) ولقاءِ العدوّ ، ثمّ نهض بعضُهم على استثقال للنهوض ، وتخلّف آخرون.

ولما أراد رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخروجَ استخلف أميرَ المؤمنين عليه‌السلام في أهله وولده وأزواجه ومهاجره ، وقال له ، « يا عليُّ إنّ المدينةَ لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بك ».

وذلك أنّه عليه‌السلام عَلِم من خُبث نيّات الأعراب ، وكثيرٍ من أهل مكّة ومَن حولها ، ممّن غَزاهم وسَفكَ دماءهم ، فأشْفَقَ أن يَطلبُوا المدينةَ عند نَأيه عنها وحصُولهِ ببلاد الروم أو نحوها ، فمتى لم يكنْ فيها من يقومُ مَقامه ، لم يُؤْمَنْ مِن مَعَرَّتهم ، وإيقاع الفَساد في دار هِجرته ، والتخطّي إلى ما يَشين أهلَه ومُخَلَّفِيه.

وعَلِم علهيه السلام أنّه لا يقوم مقامَه في إرهاب العدُوّ وحراسة دار الهجرة وحِياطَة من فيها ، إلاّ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً ، ونَصَّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جلياً.

وذلك فيما تظاهرت به الرواية أنَّ أهلَ النفاق لمّا عَلِموا باستخلاف رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام على المدينة ، حَسَدُوه لذلك وعَظُم عليهم مُقامُه فيها بعد خروجه ، وعلِموا أنها تَنْحَرِس به ، ولا يكون للعدوّ فيها مَطْمَع ، فساءهم ذلك ، وكانوا يؤثرون خروجَه معه ، لِما يَرجُونه من وقوع الفَساد والاختلاط عند نأيِ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المدينة ، وخُلُوّها من مرهوب مخوفٍ يَحرُسُها.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : الشقة.

١٥٥

وغَبطوه عليه‌السلام على الرفاهيّة والدَعَةِ بمُقامه في أهله ، وتكلّفِ من خرج منهم المشاقَّ بالسفر والخَطَر.

فأرجَفوا به عليه‌السلام وقالوا : لَمْ يستخلفه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إكراماً له وإجلالاًَ ومودّةً ، وإنّما خَلّفه استثقالاً له. فبَهَتوه بهذا الإرجاف كبَهْتِ قُريش للنبي عليه وآله السلام بالجنَّة تارةً ، وبالشعر أُخرى ، وبالسِحر مرّة ، وبالكِهانة اُخرى. وهم يعَلَمون ضِدَّ ذلك ونقيضَه ، كما عَلِم المنافقون ضِدَّ ما أرجفوا به على أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلافَه ، وأَنّ النبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أخصّ الناس بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان هو أحبَّ الناس إليه وأسعدَهم عنده وأفضلَهم لديه.

فلمّا بلغَ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام إرجافُ المنافقين به ، أراد تكذيبَهم وإظهارَ فَضيحتهم ، فلَحِق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « يا رسولَ الله ، إنّ المنافقين يَزْعًمون أنّك إنّما خَلَّفْتَني استثقالاً ومَقْتاً! فقال له رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اِرجِع يا أخي إلى مكانك ، فإنّ المدينَة لا تَصْلَحُ إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ».

فتضمّن هذا القول من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصَّه عليه بالإمامة ، وإبانته عن الكافّة بالخلافة ، ودلّ به على فضلٍ لم يَشْرَكه فيه سواه ، وأوجَب له به عليه‌السلام جميعَ منازل هارون من موسى ، إلاّ ما خصّه العُرْف من الاخُوّة واستثناه هو عليه‌السلام من النبوّة.

١٥٦

ألا ترى أنّه عليه وآله السلام جَعَل له كافّةَ منازل هارون من موسى ، إلاّ المستثنى منها لفظاً أوعقلًا. وقد علم كلُّ من تأمَّلَ معانيَ القران ، وتصفّح الروايات والأخبار ، أنّ هارون عليه‌السلام كان أخَا موسى لأبيه وأُمهِ وشريكَه في أمره ، ووزيرَه على نبوّته وتبليغِه رسالات ربّه ، وأنّ الله تعالى شَدَّ به أزرَه ، وأنّه كان خليفتَه على قومه ، وكان له من الإمامة عليهم وفَرْضِ الطاعةِ كإمامتهُ وفَرْضِ طاعته ، وأنّه كان أحبَ قومه (١) إليه وأفضلَهم لديه.

قال الله عزّ وجل حاكياً عن موسى عليه‌السلام : ( قَالَ رَبِّ أشْرَحْ لي صَدْرِي * ويسِّرْلِي أمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةَ مِنْ لِسَاني* يَفْقَهُوا قَوْلي * وَاجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ اَهْلي * هَارُونَ اَخِي * اُشْدُدْ بِهِ اَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ في اَمرِي ) (٢) فأجابَ اللّه تعالى مسألتَه وأعطاه سُؤْلَهُ في ذلك واُمنيته ، حيث يقول : ( قَدْ اُوتيتَ سُؤْلَكَ يَا موسى ) (٣) وقال حاكياً عن موسى عليه‌السلام : ( وَقَالَ مُوسى لأخيهِ هَارُونَ اخْلًفْني فِي قَوْمِي وَاَصْلحْ وَلاَ تَتبِعْ سَبِيلَ اْلمفسْدِينَ ) (٤).

فلما جًعَل النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً عليه‌السلام منه بمنزلة هارون من موسى ، أوجَب له بذلك جميعَ ما عَدَدناه ، إلاّ ما خصَّه العُرْفُ من الأخُوّهَ واستثناه من النُبؤَة لفظاً.

وهذه فضيلةٌ لم يشرَك فيها أحدٌ من الخلق أميرَ المؤمنين عليه

ــــــــــــــــــ

(١) هامش « ش » و « م » : الخلق.

(٢) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٢.

(٣) طه ٢٠ : ٣٦.

(٤) الأعراف ٧ : ١٤٢.

١٥٧

السلام ولا ساواه في معناها ولا قاربه فيها على حال ، ولو عَلِم اللّه تعالى أنَّ بنبيّه عليه‌السلام في هذه الغَزاة حاجةً إلى الحرب والأنصار ، لمَا أذِنَ له في تخليفِ أميرالمؤمنين عليه‌السلام عنه حَسَب ما قدّمناه ، بل عَلِم أنّ المصلحةَ في استخلافه ، وأنً إقامتَه في دار هِجرته مُقامه أفضلُ الأعمال ، فدبَّر الخلقَ والدين بما قضاه في ذلك وأمضاه ، على ما بيّناه وشرحناه.

فصل

ولمّا عاد رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من تَبوك إلى المدينة قَدِم عليه عَمروبن معدي كَرب فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أسلِمْ ـ يا عَمرو ـ يًؤْمِنْك الله من الفَزَع الأكبر » فقال : يا محمّد ، وما الفَزَع الأكبر ، فإنّي لا أَفْزَع!؟ فقال : « يا عَمرو ، إنّه ليس ممّا تَحْسِب وتَظُنّ ، إنّ الناس يُصاحُ بهم صَيحةً واحدةً ، فلا يَبْقى ميتٌ إلاّ نُشِر ولا حيٌّ إلاّ مات ، إلا ما شاء اللّه ، ثمّ يُصاحُ بهِم صيحةً اُخرى ، فيُنْشَر من مات ويُصَفّون جميعاً ، وتنشَقُّ السماء وتَهُدُّ الأرض وتَخِرُّ الجبال ، وتَزْفِرُ النيران (١) وتَرْمي بمثل الجبال شَرَراً ، فلا يَبقى ذو روحٍ إلاّ انخلع قلبُه وذَكَرَذَنْبَه وشُغِل بنفسه ، إلاّ ما شاء اللّه ، فأين أنت ـ يا عمرو ـ من هذا؟ » قال : ألا إنّي أسمَع أمراً عظيماً ، فآمَنَ باللّه ورسوله ، وآمَنَ معه من قومه ناسٌ ، ورَجَعوا إلى قومهم.

ثمّ إنّ عَمرو بن معدِي كَرب نَظَر الى أُبيّ بن عَثْعَثَ الخَثْعميّ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : النار.

١٥٨

فأخذ برَقبته ، ثمّ جاء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أعدِني على هذا الفاجر الذي قَتَل والدي ، فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أَهْدَرَ الإسلامُ ما كان في الجاهليّة » فانصرف عَمرو مَرتدّاً فأغار على قومٍ من بني الحارث بن كَعْب ومَض إلى قومه ، فاستدعى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأمّره على المهاجرين ، وأنفذه إلى بني زًبَيد ، وأرسل خالد بن الوليد في طائفة من الأعراب وأمَرَه أن يقصد الجُعفي (١) ، فإذا التقَيا فأميرُ الناس عليُّ بن أبي طالب. فسار أمير المؤمنين واستعمل على مُقدِّمته خالدَ بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مُقدِّمته أبا موسى الأشْعَريّ.

فأما جُعفيّ فإنّها لَمّا سَمِعَتْ بالجيش افترقَتْ فِرقتين؟ فذهبت فِرقةٌ إلى اليمن ، وانضمَتْ (٢) الفرقةُ الأخرى إلى بني زُبيْد ، فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين عليه‌السلام فكتب إلى خالد بن الوَليد : أنْ قِفْ حيثُ أَدرككَ رسولي.

فلم يَقِفْ ، فكتب إلى خالد بن سَعيد : تَعَرَّضْ له حتى تَحْبِسَه.

فاعترض له خالد حتّى حَبَسه ، وأدركه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فعَنَّفه على خلافه ، ثمّ سارحتّى لَقِيَ بني زُبَيد بوادٍ يُقال له كُشر (٣).

فلمّا رآه بنو زُبَيد قالوا لعمرو : كيف أنت ـ يابا ثور ـ إذا لِقيَك هذا الغلامُ القُرَشيّ فأخذ منك الأتاوة (٤)؟ قال : سيعلم إن لقيني.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : جعفي أبو قبيلة ، والقبيلة يقال لها : جعفي ، ومن الناس من يظن أنه جعف وهوخطأ.

(٢) في « م » وهامش « ش » : وانصبّت.

(٣) كُشر : بوزن زفرة من نواحي صنعاء اليمن. « معجم البلدان ٤ : ٤٦٢ ».

(٤) الأتاوة : الخراج. « لسان العرب ـ اتى ـ ١٤ : ١٧ ».

١٥٩

قال : وخرج عَمرو فقال : هل من مبارز؟ فنهض إليه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فقام خالدُ بن سعيد فقال له : دَعْني يا باالحسن بأبي أنت وأُمي أُبارزه. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن كنتَ تَرى أنَّ لي عليك طاعةً فقِفْ مكانك » فوقف ، ثمّ بَرَزَ (١) إليه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فصاح به صيحةً فانهزم عَمرو وقُتِل أخوه وابنُ أخيه وأخِذَتْ امرأتُه رُكانَةُ بنت سَلامة ، وسبيَ منهم نِسوانٌ ، وانصرف أميرُ المؤمنين عليه‌السلام وخَلَّف على بني زُبَيد خالد بن سعيد ليقبضَ صدقاتهم ، ويُؤمِنَ من عاد إليه من هُرّابهم مُسلماً.

فرجع عَمرو بن مَعدي كَرب واستأذن على خالد بن سعيد ، فأذن له فعاد إلى الأسلام ، وكلّمه في امرأتِه وولده ، فوهبهم له.

وقد كان عَمرو لمّا وَقَفَ بباب خالد بن سعيد وَجَدَ جَزوراً قد نُحِرَتْ ، فجَمَعَ قوائِمَها ثمّ ضربها بسيفه فقَطَعَهاجميعاً ، وكان يُسمّى سيفُه الصَمْصامة.

فلمّا وَهَبَ له خالدٌ بن سعيد امرأتَه وولدَه وهب له عَمرو الصَمْصامَة.

وكان أميرُ المؤمنين عليه‌السلام قد اصطَفى من السَبْي جاريةً ، فبعث خالدُ بن الوَليد بُرَيدةَ الأسْلَميّ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : تَقدّمْ الجيشَ إليه فأَعْلِمه ما فَعَل عليٌّ من اصطفائه الجاريةَ من الخُمس لنفسه ، وقَعْ فيه.

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : خرج.

١٦٠