الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

قال له : « فَضَعْ يدي عليها » فمحاها رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، وقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « ستُدعى إلى مثلِها فتُجيب وأنت على مَضَض ».

ثمّ تممّ أمير المؤمنين عليه‌السلام الكتاب.

ولما تمّ الصلحُ نحر رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هديَه في مكانه.

فكان نظام تدبير هذه الغَزاة مُعَلَّقاً بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان ما جرى فيها من البيعة وصفِّ الناس للحرب ثمّ الهُدنةِ والكتاب كلّهِ لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان فيما هيّأه اللّه تعالى له من ذلكَ حقْن الدماء وصلاح أمر الإسلام.

وقد روى الناسُ له عليه‌السلام في هذه الغَزاة ـ بعد الذي ذكرناه ـ فضيلتين اختَصَّ بهما ، وانضافا إلى فضائله العِظام ومناقبه الجِسام :

فروى إبراهيم بن عُمَر ، عن رجاله ، عن ( فايد مولى عبداللّه بن سالم ) (١) قال : لمّا خرج رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمرة (٢) الحدَيْبيّة نزل الجُحْفَة فلم يجِد بها ماءً ، فبعث سعدَ بن مالك بالرَوايا ، حتَّى إذا كان غيرَبعيد رَجَع سعدٌ بالرَوايا فقال : يا رسولَ اللّه ، ما أستطيع أن أمضي ، لقد وقفَتْ قَدَماي رُعباً من القوم فقال له النبي عليه وآله
ــــــــــــــــــ

(١) في متن النسخ والبحار : قائد ، وفي هامش « ش » و « م » عن نسخة : فائد ، والمظنون صحة فائد فانه أشهر من قائد ، وقد أورد الخبر في الاصابة في باب الفاء في ترجمة فائد مولى عبدالله بن سلام وقال : أخرج له المفيد بن النعمان الرافضي في مناقب علي حديثاً.

(٢) في « م » وهامش « ش » : غزو.

١٢١

السلام : « اِجْلِس ».

ثمّ بعث رجلاً آخر ، فخرج بالرَوايا حتى إذا كان بالمكان الذي انتهى اليه الأوّل رجع ، فقال له النبيّ عليه‌السلام : « لمَ رجعت؟ » فقال : والّذي بَعَثك بالحقّ ما استطعتُ أن أمضِيَ رُعباً.

فدعا رسولُ الله أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهما فأرسله بالرَوايا ، وخرج السُقاة وهم لا يَشُكّون في رجوعه ، لما رأوا من رجوع (١) من تقدّمه.

فخرج عليّ عليه‌السلام بالرَوايا حتّى وَرَد الحَرار (٢) فاستقى ، ثم أقبل بها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولها زَجَل (٣).

فكبّرالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعا له بخير (٤).

وفي هذه الغَزاة أقبل سُهَيل بن عَمْرو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : يا محمّد إنّ أرقّاءَنا لَحِقوا بك فاردُدهم علينا. فغَضِبَ رسولُ الله عليه‌السلام حتّى تبيّن الغضبً في وجهه ، ثمّ قال : « لَتَنتهُنَّ ـ يا معشر قريش ـ أو ليَبْعَثَنَّ الله عليكم رجلاً امتحَنَ اللة قلبَه للإيمان ، يَضْرِب رِقابَكم على الدين ».

فقال بعض من حضر : يا رسولَ الله ، أبو بكر ذلك الرجل؟ قال : « لا » قيل : فعُمَر قال : « لا ، ولكنّه خاصف النعل في الحُجرة » فتبادر

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : من جزع.

(٢) الحرار : جمع حرّة ، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة. « الصحاح ـ حرر ـ ٢ : ٦٢٦ ».

(٣) الزَجَل : رفع الصوت الطرب. « لسان العرب ـ زجل ـ ١١ : ٣٠٢ ».

(٤) الاصابة في معرفة الصحابة ٣ : ١٩٩ عن المؤلّف ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ٨٨ باختلاف يسير ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار٢٠ : ٣٥٩.

١٢٢

الناسُ إلى الحُجرة يَنْظُرَون ، مَن الرجل؟ فإذا هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وروى هذا الحديث جماعةٌ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالوا فيه : إنّ علياً قصّ هذه القصّة ، ثمّ قال : « سَمِعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من كَذَبَ عليَّ مُتعقَداً فلَيَتَبَوّأ مقعدَه من النار » (١).

وكان الذي أصلَحَه أميرُ المؤمنين من نعل النبي صلّى الله عليهما شِسْعَها (٢) ، فإنّه كان انْقطَعَ فخَصَف موضِعَه وأصلحه.

وروى إسماعيل بن عليّ العَمّي ، عن نائل بن نَجِيح (٣) ، عن عَمْرو بن شمرٍ ، عن جابر بن يزيد ، عن أبي جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « انقَطَع شِسْعُ نعلِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فَدَفَعها إلى عليّ عليه‌السلام يُصلِحُها ، ثمّ مشى في نَعل واحدةَ غَلْوةً (٤) ـ أونحوها ـ وأقبل على أصحابه فقال : إنّ منكم من يُقاتِل على التأويل كما ( قاتل معي (٥) على التنزيل ».

فقال أبو بكر : أنا ذاك ، يا رسول اللّه؟ قال : « لا » فقال عمر :

ــــــــــــــــــ

(١) روي في كفاية الطالب : ٩٦ ، مصباح الأنوار : ١٢١ ، وباختلاف يسير في سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ، إعلام الورى : ١٩١ ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ٤ : ٢٩٨ ، تاريخ بغداد ١ : ١٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٣٦٠.

(٢) شسع النعل : ما يدخل بين الاصبعين في النعل العربي ممتدّاً على ظهر القدم.

« مجمع البحرين ـ شسع ـ ٤ : ٣٥٣ ».

(٣) ضبطه في متن « ش » و « م » مكبراً ، وفي هامشهما مصغراً بضم النون ، ونجيح مكبراً أشهر.

(٤) الغلوة : مقدار رمية سهم. « الصحاح ـ غلا ـ ٦ : ٢٤٤٨ ».

(٥) في هامش « ش » : قاتلت.

١٢٣

فانا يا رسول اللّه؟ قال : « لا » فأمْسَكَ القومً ونَظَر بعضُهم إلى بعض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكنّه خاصف النعل ـ وأومأ إلى عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام ـ وإنّه المُقاتل على التأويل إذا تُرِكَتْ سنّتي ونُبذَتْ ، وحُرّف كتابُ اللّه ، وتكلّم في الدين من ليس له ذلك ، فيُقَاتلهم علي عليه‌السلام على إحياء دين اللّه عزّ وجلّ » (١).

فصل

ثمّ تلت الحُدَيبيةَ خَيْبُر ، وكان الفتحُ فيها لأمير المؤمنين عليه‌السلام بلا ارتياب ، وظَهَر من فضله في هذه الغَزاة ( ما اجتمع على نقله ) (٢) الرُواة ، وتفرّد فيها من المناقب بما لم يَشْركه فيه أحدٌ من الناس.

فروى محمّد بن يحيى الأزْدِيّ ، عن مَسْعَدة بن اليَسَع وعُبَيْدالله (٣) ابن عبد الرحيم ، عن عبد المَلِك بن هِشام ومحمّد بن إسحاق وغيرهم من أصحاب الآثار قالوا : لمّا دنا رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خَيبر ، قال للناس : « قِفُوا » فوقف الناسُ ، فرَفَع يدَيْه إلى السماء وقال : « اللهمّ ربَّ السماوات السبع وما أظْلَلن ، وربَّ الأرضينَ السبع وما

ــــــــــــــــــ

(١) ورد نحوه في مسند أبي يعلى الموصلي ٢ : ٣٤١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٢ ، مسند أحمد ٣ : ٨٢ ، شرح نهج البلاغة الحديدي ٣ : ٢٠٦.

(٢) في هامش « ش » و « م » : ما اجمع عليه نقلة.

(٣) كذا في متن النسخ ، وفي هامش « ش » : عبدالله واخره علامة ( ج ) ، وفي هامش « م » : عبدالله وآخر الكلمة مخروق.

١٢٤

أقْلَلن ، وربَّ الشَياطين وما أضْلَلن ، أسالك خيرَ (١) هذه القَرْية وخيرَما فيها ، وأعوذُ بك من شرّها وشرّ ما فيها « ثمّ نزل تحت شجرةٍ ( في المكان ) (٢) فأقام وأقمنا بقية يومنا ومِن غده (٣).

فلمّا كان نصفَ النهار نادانا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاجتمعنا إليه فإذا عنده رجلٌ جالسٌ ، فقال : « إنّ هذا جاءني وأنا نائم ، فسَلَّ سيفي وقال : يا محمّد ، مَن يَمْنَعك منّي اليوم! قلت : الله يَمْنَعني منك ، فشامَ السيف (٤) وهو جالس كما تَرَوْن لا حَراك به » فقلنا : يا رسولَ الله ، لعلّ في عقله شيئاً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم دَعُوه » ثمّ صَرَفه ولم يُعاقبه.

وحاصر رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خَيبرَبضعاً وعشرين ليلةً ؛ وكانت الرايةُ يومئذ لأمير المؤمنين عليه‌السلام فَلَحِقَه رَمَدٌ أعجزه عن الحرب ، وكان المسلمون يناوَشون (٥) اليهودَ من بين أيدي حصُونهم وجَنَباتِها.

فلمّا كان ذات يوم فتحوا الباب ، وقد كانوا خَنْدَقوا على أنفسهم ، وخرج مَرْحَب برِجْلهِ يتعرّض (٦) للحرب ، فدعا رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر فقال له : « خذُ الرايةَ » فأخذها ـ في جَمع من المهاجرين ـ

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : من خير.

(٢) في « ش » و « م » : من المكان ، وما اثبتناه من هامشهما.

(٣) المغازي ٢ : ٦٤٢ ، السيرة النبوية ٣ : ٣٤٣ ، مجمع البيان ٩ : ١١٩ ، دلائل النبوة ٤ : ٢٠٤ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢١ : ١٤ / ١١.

(٤) شام السيف : أغمده. « الصحاح ـ شيم ـ ٥ : ١٩٦٣ ».

(٥) في « ش » : يتناوشون.

(٦) في هامش « ش » : فتعرض.

١٢٥

فاجتهد ولم يُغنِ شيئاً ، فعاد يُؤَنّب القومَ الذين اتّبعُوه ويُؤَنّبونه.

فلمّا كان من الغد تعرض لها عمر ، فساربها غيرَبعيد ، ثمّ رجع يُجبِّن أصحابه ويجبِّنونه.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليست هذه الرايةُ لمن حَمَلها ، جيئوني بعليّ بن أبي طالب » فقيل له : إنّه أرمَد ، فقال : « أرونيه تروني رجلاً يُحِبّ الله ورسولَه ويُحبّه الله ورسولُه ، يَأخُذُها بحقّها ليس بفرارِ ».

فجاؤوا بعلي عليه‌السلام يَقودونه إِليه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما تَشتكي يا علي؟ قال : رَمَدٌ ما أُبْصِرُمعه ، وصُداعٌ برأسي ، فقال له : اِجلس وضَعْ رأسَك على فَخذِي » ففعل عليّ عليه‌السلام ذلك ، فدعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتَفَل في يده فمسحها على عَيْنَيه (١) ورأسه ، فانفتحَتْ عَيْناه وسَكَن ما كان يجِده من الصُداع ، وقال في دعائه له : « اللهم قِه الحرَّ والبَرْد » وأعطاه الرايةَ ـ وكانت رايةً بيضاء ـ وقال له : « خذ الراية وامضِ بها ، فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرُعب مبثوث في صدور القوم ، واعلم ـ يا علي ـ أنهم يَجدون في كتابهم : أنّ الذي يُدَمّرعليهم إسمه الِيا (٢) ، فإذا لقيتَهم فقل : أنا علي ، فإنّهم يُخْذَلون إن شاء اللّه ».

قال عليّ عليه‌السلام : « فمَضَيتُ بها حتّى أتيتُ الحصونَ ، فخَرَج مَرْحب وعليه مغْفَر وحجرقد ثقَّبه (٣) مِثل البيضة على رأسه ، وهو

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : عينه.

(٢) في هامش « ش » و « م » : إِيليا.

(٣) في هامش « ش » و « م » نَقَبهُ.

١٢٦

يرتجز ويقول :

قد عَلِمَتْ خَيبرأنّي مَرْحَبُ

شاكٍ سِلاحي بَطَل مُجَرَّبُ

فقلت :

أنا الذي سَمَّتنْي أًمّي حَيْدَرة

لَيثٌ لِغاباتٍ (١) شديدٌ قَسْوَرة

أَكيلُكم بالسَيف كَيل السَنْدَرة (٢)

فاختلفنا ضربَتين ، فبَدَرْتُه فضربتُه فَقَددْت الحَجَر والمِغْفَر ورأسَه حتّى وَقع السيفً في أضراسه وخَرّ صَريعاً ».

وجاء في الحديث أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا قال : « أنا عليّ ابن أبي طالب » قال حَبْر من أحبار القوم : غُلِبْتم وما أُنْزِل على موسى (٣). فدخل قلوبَهم من الرُعب ما لم يُمكِنْهم معه الاستيطانُ به.

ولمّا قَتَل أميرُ المؤمنين عليه‌السلام مَرْحَباً ، رجع من كان معه وأغلَقوا بابَ الحِصْن عليهم دونه ، فصار أميرُ المؤمنين عليه‌السلام إليه فعالجَهُ حتّى فَتَحه ، وأكثرُ الناس من جانب الخَندق لم يَعْبُروا معه ، فأخذ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام بابَ الحِصْن فجعله على الخَنْدَق جِسْراً لهم حتى عَبَروا وظَفِروا بالحِصْن ونالوا الغنائم.

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : كريهات.

(٢) في هامش « ش » و « م » : عبل الذراعين شديد القصرة. والسندرة : مكيال ضخم. « الصحاح ـ سدر ـ ٢ : ٦٨٠ ».

(٣) اخرج نحوه في السيرة النبوية ٣ : ٣٤٩.

١٢٧

فلما انصرفوا من الحُصون ، أخذه أميرُ المؤمنين بيُمْناه فدحا به أذرُعاً من الأرض ، وكان البابُ يُغْلِقه عشرون رجلاً منهم.

ولمّا فَتَحَ أميرُ المؤمنين عليه‌السلام الحِصْن وقَتَل مَرْحَباً ، وأغْنَمَ اللّه المسلمين أموالهَم ، استأذن حَسّان بن ثابت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول شعراً. فقال له : « قُلْ ».

فأنشأ يقول :

وكان عليٌ أَرْمَدَ العينِ يَبْتَغي

دَواءً فلمّا لم يُحِسَّ مُداوِيا

شفاهُ رسولُ الله مِنه بتَفْلةٍ

فبُورِكَ مَرْقِيّاً وبُوركَ راقِيا

وقال سأُعْطِي الرايةَ اليومَ صارِماً

كَمِيّاً مُحبّاً للرسولِ مُوالِيا (١)

يُحبُّ إلهي والإلهُ يُحبّه

به يَفْتَحً اللّه الحصُونَ الأوابيا

فأصْفى بِها دونَ البَرِيّة كُلِّها

عَلِيّاً وسمّاه الوزيرَ المُؤاخيَا

وقد رَوى أصحابُ الاثار عن الحسن بن صالح ، عن الأعْمَش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبداللّه الجَدَليّ قال : سَمِعتُ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام يقول : « لمّا عالجتُ بابَ خَيْبرَجَعَلْتُه مجَنّاً لي وقاتلتُ القومَ فلمّا أخزاهم اللّه وَضَعتُ البابَ على حِصْنهم طريقاً ، ثمّ رَميتُ به في خَندقهم ؛ فقال له رجل : لقد حَمَلْتَ منه ثقلاً! فقال : ما كان إلاّ مثلَ جُنَّتي التي في يَدي في غيرذلك المقام » (٢).

وذكر أصحابُ السِير : أنّ المسلمين لمّا انصرفوا من خَيْبر راموا

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : مواسياً.

(٢) نقله العلامة المجلسي في البحار ٢١ : ١٦. وذكر ذيله في المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٦٨.

١٢٨

حَمْل الباب فلم يُقِله (١) منهم إلاّ سبعون رجلاً (٢).

وفي حَمل أميرالمؤمنين عليه‌السلام الباب يقول الشاعر :

إنّ امرءاً حمل الرِتاج (٣) بخَيبر

يومَ اليهودِ بقدرهٍ لَمؤيد

حَمَل الرِتاجَ رتاجَ باب قَمُوصها (٤)

والمسلمون وأهلً خيبر شُهَّدُ (٥)

فَرَمى به ولقد تًكَلَّفَ رَدَّهُ

سبعون شخصاً كلّهم متشدّد

رَدّوه بعدَ مَشقَةٍ وتكلُّفٍ (٧)

ومَقالِ بعضِهم لبعض اٍردُدوا (٨)

فصل

ثمّ تلا غَزاة خَيْبَرمواقِفُ لم تَجْرِمجرى ما تقدّمها فنَصْمِد

ــــــــــــــــــ

(١) يقلّه : يحمله. « المصباح المنير ٢ : ٥١٤ ».

(٢) اُنظر : دلائل النبوّة ٤ : ٢١٢ ، مجمع البيان ٩ : ١٢١ ، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٢٩٣.

(٣) الرتاج : الباب العظيم. « الصحاح ـ رتج ـ ١ : ٣١٧ ».

(٤) القموص : جبل بخيبر عليه حصن أبي الحقيق اليهودي. « معجم البلدان ٤ : ٣٩٨ ».

(٥) في هامش « ش » : حُشدُ.

(٦) في هامش « ش » و « م » : سبعون كلهُم له يتشدد.

(٧) في « م » وهامش « ش » : وتعتّب.

(٨) بعد هذه الأبيات في « ش » و « م » سطور اُخر ، ولكن في هامش « ص » صرح بانه : « لم يكن في نسخة الشيخ المفيد » وقريب منه في هامش « م ». وهي :

وفيه أيضاً قال الشاعر من شُعراء الشيعة يَمْدَح أميرَ المؤمنين عليه‌السلام ويهَجْو أعداء‌ه ، على ما رواه أبو محمّد الحسن بن محمّد بن جمهور ، قال : قرأت على أبي عُثمان المازني :

بَعثَ النبيُّ برايةٍ مَنصورةٍ

عُمَربنَ حَنْتَمةَ الدِّلامَ (أ) الأدلما

ــــــــــــــــــ

(أ) الدلمة : اللون الأسود. اُنظر « ألصحاح ـ دلم ـ ٥ : ١٩٢٠ ».

١٢٩

لذكرها ، وأكثرها كان بُعوثاً لم يَشْهَدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا كان الاهتمامُ بها كالاهتمام بما سَلَف ، لضعف العدوّ ، وغَناء بعض المسلمين عن غيرهم فيها ، فأضْرَبنا عن تَعدادها ، وإن كان لأمير المؤمنين عليه‌السلام في جميعها حظّ وافر من قول أو عمل.

ثمّ كانت غَزاة الفتح ، وهي التي تَوَطّد (١) أمرُ الإسلام بها ، وتَمَهّد الدين بما منّ اللّه تعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها ، وقد كان الوعدُ تقدَّمَ في قوله عزّ اسمه : ( اِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ) (٢) إلى آخر

ــــــــــــــــــ

فمضى بها حتى إذا بَرَزوا له

دونَ القَموصِ ثنى وهابَ وأحْجما

فأتى النبي برايةٍ مردودةٍ

ألاّ تَخوِّفَ عارَها فَتَذَمّما

فبكى النبي لها وأنَّبَهُ بها

ودعا أمرأً حسنَ البصيرةِ مُقْدِما

فغدا بها في فَيْلَقٍ ودعا له

ألاّ يَصُدَّ بها وألّا يُهْزَما

فَزَوى اليهودَ إلى القَمُوصِ وقد كَسا

كَبْشَ الكتيبة ذا غِرارٍ (أ) مُخْذِما (ب)

وثنى بناسٍ بعده فقَراهم

طُلْسَ (ج) الذُئابِ وكل نَسْرٍ قَشْعَما (د)

ساطَ (هـ) الإلهُ بحب آلِ محمّدٍ

وبحُبِّ مَن والاهمِ مِنّي الدَما

في أبيات اُخر.

(١) في هامش « ش » و « م » : توطّأ.

(٢) النصر ١١٠ : ١.

ــــــــــــــــــ

( أ ) الغرار : حدّ السيف. « ألصحاح ـ غرر ـ ٢ : ٧٦٨ »

( ب ) المخذم : السيف ألقاطع. « الصحاح ـ خذم ـ ٥ : ١٩١٠ ».

( ج ) طلس : جمع أطلس ، وهو الذئب الذي في لونه غبرة إلى السواد. « الصحاح ـ طلس ـ ٣ : ٩٤٤ ».

( د ) ألقشعم : النسر ألمسن. « الصحاح ـ قشعم ـ ٥ : ٢٠١٢ ».

( هـ ) ساط : خلط الشيء بعضه ببعض. « الصحاح ـ سوط ـ ٣ : ١١٣٥ ».

١٣٠

السورة ، وقوله تعالى قبلها بمدّة طويلة : ( لتدخلنّ اْلمَسْجدَ الْحَرَامَ انْ شَاءَ اللّهُ امِنينَ مُحلِّقينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ) (١).

فكانت الأعيُنُ إليها مُمْتَدّة ، والرِقاب إليها مَتَطاوِلة ، ودَبَر رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر فيها بكتمان مسيره إلى مكّة ، وسَتْرِعزيمته على مراده بأهلها ، وسأل الله ـ عزّ اسمه ـ أن يَطْوِيَ خبرَه عن أهل مكّة حتّى يَبْغَتَهم بدخولها ، فكان المُؤْتَمنُ على هذا السرّ والموُدعَ له ـ من بين الجماعة ـ أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فكان الشريكَ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرأي ، ثمّ نَماه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جماعة من بعدُ ، واستَتَبَّ الأمرُ فيه على أحوال كان أميرُ المؤمنين عليه‌السلام في جميعها متفرّداً من الفضل بما لم يَشْرَكه فيه غيرهُ من الناس.

فمن ذلك أنّه لمّا كتب حاطِبُ بن أبي بَلْتَعة ـ وكان من أهل مكّة ، وقد شَهِد بَدْراً مع رسول اللّه ـ كتاباً إلى أهل مكّة يُطْلِعهُم على سرّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسيرإليهم جاء الوحيُ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما صنَعَ وبنفوذ كتاب حاطِب إلى القوم فتلافى ذلك رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولو لم يَتَلافَه به لفسد التدبيرُ الذي بتمامه كان نصر المسلمين.

وقد مضى الخبرُ في هذه القصة فيما تقدّم ، فلا حاجة بنا إلى إعادته.

ــــــــــــــــــ

(١) الفتح ٤٨ : ٢٧.

١٣١

فصل

ولمّا دخل أبو سفيان المدينةَ لتجديد العهد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين قريش ، عندما كان من بني بكْرِفي خُزاعة وقتلهِم من قتلوا منها ، فقَصَد أبو سفيانَ ليتلافى الفارطَ من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول اللة صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، وأَشْفَقَ ممّا حلّ بهم يوم الفتح. فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّمه فى ذلك ، فلم يَرْدُدْ عليه جواباً.

فقام من عنده ، فلَقِيه (١) ابو بكر فتشبًثَ به وظنّ أنّه يُوصِله إلى بغْيته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله كلامَه له ، فقال : ما أَنا بفاعل. لعلم أبي بكر بأنّ سؤاله في ذلك لا يُغني شيئاً.

فظنّ أبوسفيان بعمر بن الخطاب ما ظنّه بأبي بكر فكلّمه في ذلك ، فدفعه بغِلظةٍ وفَظاظَةٍ كادت أن تفسِدَ الرَّأيَ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعدل (٢) إلى بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام فاستأذن عليه ، فأذِن له وعنده فاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فقال له : يا علي ، إنّك أمسُّ القوم بي رَحِماً ، وأقربهُم منّي قرابةً ، وقد جئتُك فلا أَرجِعَنّ كما جئتُ خائباً ، إشفَعْ لي إلى رسول الله فيما قصدتُه. فقال له : « ويْحَكَ ـ يا باسفيان ـ لقد عَزَم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : فاستقبله.

(٢) في « ح » وهامش « ش » و « م » : فغدا.

١٣٢

أمرٍ ما نستطيع أن نُكَلِّمَه فيه » فالتفتَ أبو سفيان إلى فاطمة عليها‌السلام ، فقال لها : يا بنتَ محمّد هل لكِ أن تَأمُري ابنَيْك (١) أن يُجِيرا بين الناس فيكونا سيدَي العرب إلى آخر الدهر. فقالت : « ما بَلَغ بنَيّاي أن يُجِيرا بين الناس ، وما يُجير أحدٌ على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ».

فتحيّر أبو سفيان ( وسُقِطَ في يده ) (٢) ، ثمّ أقبل على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا با الحسن ، أرى الأمورَ قد التبستْ عَلَيّ فانصَحْ لي (٣). فقال له أميرُ المؤمنين : « ما أرى شيئاً يُغني عنك ولكنّك سيّدُ بني كِنانة فقُمْ فأجِرْ بين الناس ، ثمّ اِلحَقْ بأرضك » قال : فترى ذلك مُغنياً عنّي شيئاً؟ قال : « لا والله ما أظُنّ ولكنّي لا أجِدُ لك غيرَ ذلك ».

فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيّها الناس ، إنّي قد أَجَرْت بين الناس. ثمّ رَكِبَ بعيرَه فانطلق.

فلمّا قَدِمَ على قريش قالوا : ما وراءَك؟ قال : جئتُ محمّداً فكلّمتُه ، فواللّه ما رَدّ عليّ شيئاً ، ثمّ جئتُ ابن أبي قحافَة فلم أَجِد فيه خيراً ، ثمّ لَقِيتُ ابنَ الخطاب فوجدته فَظّاً غليظاً لا خيرَ فيه ، ثم أتيت علياً فوجدتُه ألين القوم لي ، وقد أشارعليَّ بشيء فصنعتُه ، واللّه ما أدري يُغني عنّي شيئاَ أم لا ، فقالوا : بما أمَرك؟ قال : أمرني أن

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : بنيّيك.

(٢) في هامش « ش » : أسقط.

(٣) في « م » و « ح » وهامش « ش » : فانصحني.

١٣٣

أُجِيرَ بين الناس ففعلت : فقالوا له : فهل أجاز ذلك محمّد؟ قال : لا. قالوا : ويلك واللّه ما زاد الرجل على أن لَعِبَ بك ، فما يُغني عنك؟ قال أبو سفيان : لا واللّه ما وَجَدتُ غيرَ ذلك.

وكان الذي فعله أميرُ المؤمنين عليه‌السلام بأبي سفيان من أصوب رأيٍ لتمام أمر المسلمين وأصحّ تدبير ، وبه تَمّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القوم ما تمَّ.

ألا ترى أنَّه عليه‌السلام صَدَق أبا سفيان عن الحال ، ثمّ لان له بعضَ اللين حتّى خَرَج عن المدينة وهو يَظُنُّ أنّه على شيء ، فانقطع بخروجه على تلك الحال موادُّ كيده التي كان يتشعَّثُ بها الأمرُعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وذلك أنّه لوخرج آئِساً حَسَب ما أيْأسَه الرجلان ، لتجدَّدَ للقوم من الرأي في حَربه عليه‌السلام والتحرّزمنه ما لم يخطر لهم ببال ، مع مجيء أبي سفيان إليهم بما جاء ، أوكان يقيم بالمدينة على التمحّل لتمام مراده بالاستشفاع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتجدّدُ بذلك أمرٌ يَصُدّ النبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قَصد قريش ، أويُثَبِّطه عنهم تثبيطاً يفوته معه المرادُ ، فكان التوفيقُ من اللّه تعالى مقارناً لرأي أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما رآه من تدبير الأمر مع أبي سفيان ، حتى انتظَمَ بذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من فتح مكةّ ما أراد

فصل

ولما أمَرَ رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سعدَ بن عُبادة بدخول

١٣٤

مكّة بالراية ، غَلظ على القوم وأظهَرَ ما في نفسه من الحنَق عليهم ، ودخل وهو يقول :

اَليومُ يومُ المَلْحَمه

اَليومُ تـُسبَى (١) الحُرمه


فسَمِعَها العباسُ رضي‌الله‌عنه فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما تَسْمَعُ يا رسولَ اللّه ما يقولُ سَعدُ بن عُبادة؟ إنّي لا امَنُ أن يكونَ له في قريش صَوْلةٌ. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « أدركْ ـ يا علي ـ سَعداً فخُذ الرايةَ منه ، وكُنْ أنت الذي يَدْخُلُ بها مكّة » فأدركه أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فأخَذَها منه ، ولم يَمْتَنعْ عليه سعدٌ من دفعها.

فكان تلافي الفارط من سَعد في هذا الأمر بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولم يَرَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً من المهاجرين والأنصار يَصْلَح لأخذ الراية من سيّد الأنصار سوى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعَلِمَ أنَّه لو رام ذلك غيره لامتَنَع سَعدٌ عليه (٢) ، فكان في امتناعه فسادُ التدبير واختلافُ الكلمة بين الأنصار والمهاجرين ، ولمّا لم يكن سعدٌ يَخفِضُ جَناحَه لأحدٍ من المسلمين وكافّةِ الناس سوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن وجهَ الرأي تَوَلّي رسولِ الله عليه‌السلام أَخْذَ الرايةَ منه بنفسه ، وَلّى ذلك من يَقوُم مقامَه ولا يتميَّزُ عنه ، ولا

ــــــــــــــــــ

(١) في « ش » : تستحل ، وما أثبتناه من « م » وهامش « ش ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : منه.

١٣٥

يَعْظُمُ أحدٌ من المقُرّين بالملّة عن الطاعة له ، ولا يَراه دونه في الرتبة.

وفي هذا من الفضل الذي تَخَصّصَ به أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ما لم يَشركه فيه أحدٌ ، ولا ساواه في نظيرٍ له مساوٍ ، وكان عِلْمُ اللّه تعالى ورسوله عليه‌السلام في تَمام المصلحة بإنفاذ أمير المؤمنين عليه‌السلام دونَ غيره ، ما كَشَفَ عن اصطفائه لجسيم (١) الأُمور ، كما كان عِلْمُ اللّهِ تعالى فيمن اختارَه للنُبوّة وكمالِ المصلحة ببِعْثته (٢) كاشفاً عن كونهم أفضلَ الخلق أجمعين.

فصل

وكان عهدُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المسلمين عند توجّهه إلى مكّة ، ألاّ يقتُلُوا بها إلاّ من قاتلهم ، وامَنَ من تعلق بأستار الكعبة سوى نفر كانوا يُؤذونه صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم : مِقْيَسُ بن صُبابة وابنُ خَطَل عبد العُزّى وابن أبي سَرْح وقَيْنَتان كانتا تُغَنّيان بهجاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبمراثي أهل بدر ، فقتل أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إحدى القَيْنَتين وأفلَتَتِ الأخرى ، حتّى استوْمِن لها بعد ، فضَرَبها فرسٌ بالأبطح في إمارة عُمربن الخطّاب فقتلها. وقَتَل أميرُ المؤمنين عليه‌السلام الحُوَيْرِث بن نُقَيذ بن

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : لِحَسْم.

(٢) في هامش « ش » و « م » : ببعثه.

١٣٦

كَعْب (١) ، وكان ممّن يؤُذي رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة.

وبَلَغَه عليه‌السلام أنّ أُختَه أًمَّ هانئ قد آوتْ ناساً من بني مَخزُوم ، منهم : الحارث بن هِشام وقَيْسُ بن السائب ، فقصد عليه‌السلام نحوَ دارها مُقَنّعاً بالحديد ، فنادى : « أَخْرِجوا من آوَيْتُم » قال : فجعلوا يَذْرُقون ـ والله ـ كما تَذْرُق الحبارى خوفاً منه.

فخَرَجَتْ اُمُّ هانئ ـ وهي لا تَعرِفه ـ فقالت : يا عبدَالله ، أنا اُمّ هانئ بنتُ عمِّ رسول اللّه واُختُ عليّ بن أبي طالب انصَرِفْ عن داري.

فقال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « أخْرِجوهم » فقالت : واللّه لأَشكُوَنّك إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنَزَع المِغْفَر عن رأسه فعَرَفَتْه ، فجاءَتْ تَشْتَدّ حتى التزَمَتْه وقالت : فَدَيْتُك ، حَلَفْتُ لأشكُوَنَّك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لها : « إذهَبي فَبرِّي قَسَمَك فإنّه بأعلى الوادي ».

قالت أمّ هانئ : فجئتُ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في قُبّةٍ يغتسل ، وفاطمة عليها‌السلام تَسْتُرُه ، فلمّا سَمِعَ رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلامي قال : « مَرْحَباً بكِ يا اُمّ هانئ وأَهلاً » قلت : بأبي أنت واُمّي ، أشكُو إليك ما لقِيتُ من عليّ اليوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « قد أَجَرت من أجرتِ » فقالت فاطمة عليها

ــــــــــــــــــ

(١) في طبقات ابن سعد ٢ : ١٣٦ ، وانساب الاشراف ١ : ٣٥٧ ، الحويرث بن نُقَيذ ، وفي سيرة ابن هشام ٤ : ٥٢ ، وتاريخ الطبري ٣ : ٥٩ الحْوَيرِث بن نُقَيْذ بن وهب بن عَبْد بن قصي.

١٣٧

السلام : « إنّما جئتِ يا اُمّ هانئ تَشْتَكين عليّاً في أنّه أخافَ أعداءَ الله وأعداءَ رسوله! » فقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قد شَكَر اللّه لعليّ سعيَه ، وأَجَرْتُ من أجارتْ اُمّ هانئ لمكانِها من علىّ بن أبي طالب ».

ولمّا دخل رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد ، وَجَد فيه ثلاثمائة وستّين صَنَماً ، بعضُها مشدودٌ ببعض بالرَصاص ، فقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « أعطِني يا عليّ كفّاً من الحَصى » فقَبَض له أميرُ المؤمنين كَفّاً فنَاوَله ، فرماها به وهو يقول : ( قُلْ جاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا ) (١) فما بَقَيِ منها صنمٌ إلا خَرَّ لوجهه ، ثمّ أَمَرَ بها فأُخْرِجَتْ من المسجد فطُرِحَتْ وكًسِرتْ.

فصل

وفيما ذكرناه من أعمال أمير المؤمنين عليه‌السلام في قَتْل من قَتَل من أعداء اللّه بمكَة ، وإخافةِ من أخاف ، ومعونةِ (٢) رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تطهير المسجد من الأصنام ، وشدّةِ باسه في اللّه ، وقطع الأرحام في طاعة اللّه أدلُّ دليلٍ على تخصّصه من الفضل بما لم يكن لأَحدٍ منهم سهمٌ فيه ، حَسَبَ ما قدّمناه.

ــــــــــــــــــ

(١) الاسراء ١٧ : ٨١.

(٢) في « ش » و « م » : تقوية ، وما أثبتناه من هامشهما.

١٣٨

فصل

ثمّ اتصل بفتح مكّة إنفاذُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدَ بن الوَليد إلى بني جَذِيمة بن عامر ـ وكانوا بالغُمَيْصاء (١) ـ يدعوهم إلى الله عزّوجلّ ، وإنّما أنفذه (٢) إليهم للترة (٣) التي كانت بينه وبينهم.

وذلك أنّهم كانوا أصابوا في الجاهلية نِسوةً من بني المُغيرة ، وقَتَلوا الفاكِهَ بنَ المُغيرة ـ عمَّ خالد بن الوليد ـ وقَتَلوا عَوْفأ ـ أبا عبد الرحمن ابن عَوْف ـ فأنفذه رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، وأنفذ معه عبد الرحمن بن عَوْف للتِرَة أيضاً التي كانت بينه وبينهم ، ولولا ذلك ما راى رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خالداً أهلاً للإمارة على المسلمين. فكان من أمره ما قدّمنا ذكرَه ، وخالف فيه عَهْدَ الله وعَهْدَ رسوله ، وعَمِلَ فيه على سُنّة الجاهلية ، واطَّرَحَ حكم الإسلام وراءَ ظَهْره ، فبَرأ رسولُ الله صلّى الله لا عليه واله من صَنيعه ، وتلافى فارطَه بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد شَرَحنا من ذلك فيما سلف ما يغني عن تكراره في هذا المكان.

ــــــــــــــــــ

(١) الغميصاء : موضع في بادية العرب قرب مكّة كان يسكنه بنوجَذِيمة بن عامربن عبدمَناة بن كِنانة الذين أوقع بهم خالد بن الوليد عام الفتح فقال رسول اللّه صلى اللة عليه وآله : « اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد » ووداهم على يدي علي بن أبي طالب. « معجم البلدان ٤ : ٢١٤ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : نفّذ.

(٣) التِّرة : الثأر. « مجمع البحرين ـ وتر ـ ٣ : ٥٠٨ ».

١٣٩

فصل

ثمّ كانت غَزاة حنَين ، استظهَرَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها بكِثرة الجَمْع ، فَخَرج عليه‌السلام متوجّهاً إلى القوم في عشرة الاف من المسلمين ، فظَنَّ أكثرُهم أنّهم لن يُغْلَبوا لمِا شاهَدوه من جمعهم وكثرة عُدَّتِهم وسِلاحهم ، وأعْجَب أبا بكر الكثرةَ يومَئذٍ فقال : لن نُغلب اليوم من قلة ، فكان الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّوه ، وعانهم (١) أبوبكر بعجبه بهم.

فلمّا التقَوْا مع المشركين لم يَلْبَثوا حتى انهزموا بأجمَعِهم ، فلم يَبْقَ منهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ عشرةُ أنفس : تسعةٌ من بني هاشم خاصّةً ، وعاشرُهم أيمنُ بن أُمّ ايمَن ، فقًتِل أَيْمَن رحمه‌الله وثبت تسعة النفر الهاشميّون حتى ثابَ إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان انهزم ، فرجعوا أوّلاً فأوّلاً ، حتى تلاحَقوا ، وكانت الكَرة لهم على المشركين.

وفي ذلك أنزل الله تعالى وفي إعجاب أبي بكر بالكثرة : ( وَيَوْمَ حنين اِذْ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتكُمْ فَلَمْ تغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرينَ * ثُمَّ أنْزَلَ أللّهُ سَكِينَتهُ عَلى

ــــــــــــــــــ

(١) عانه : أصابه بالعين ، وهو أثر عين الحاسد في المنظور. أنظر « الصحاح ـ عين ـ ٦ : ٢١٧١ ».

١٤٠