الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

عِمامتَه من رأسه وعمّمه بها ، وأعطاه سيفه ـ وقال له : « إِمضِ لشأنك » ثم قال : « اللهمّ أعِنْه » فسعى نحو عمرو ومعه جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه‌الله ليَنْظُرَ ما يكون منه ومن عمرو.

فلمّا انتهى أمير المؤمنين عليه‌السلام إليه قال له : « يا عمرو ، إنّك كنتَ في الجاهلية تقول : لا يدعوني أحدٌ إلى ثلاث إلاّ قَبِلتُها أو واحدةَ منها ».

قال : أجل.

قال : « فإني أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول اللّه وأنْ تُسلِمَ لربّ العالمين ».

قال : يا ابن أخ أخّر هذه عنّي.

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أما إنّها خير لك لو أخذتها ».

ثمّ قال : « فها هنا أخرى ».

قال : ما هي؟

قال : « تَرْجِع من حيث جئتَ ».

قال : لا تحدث نساءُ قريش بهذا أبداً.

قال : « فها هنا أخرى ».

قال : ما هي؟

قال : « تَنزلُ فتقاتلني ».

١٠١

فضَحِك عمرو وقال : إنّ هذه الخَصلة ما كنتُ أظُنُ أنّ أحداً من العرب يَرومني عليها ، وإنّي لأكره أن أقتُلَ الرجلَ الكريم مثلك ، وقد كان أبوك لي نديماً.

قال علي عليه‌السلام : « لكنّني احبّ أن أقتلك ، فانزل إن شئت ».

فأسِف (١) عمرو ونزل فضرب وجهَ فرسه ( حتى رجع ) (٢).

فقال جابر بن عبداللّه رحمه‌الله : وثارت بينهما قَتَرة ، فما رأيتُهما وسمعتُ التكبيرتحتها ، فعَلِمتُ أن عليّاً عليه‌السلام قد قتله ، وانكشف أصحابُه حتى طَفَرت خيولهُم الخندقَ ، وتبادر المسلمون حين سَمِعوا التكبيرَ ينظُرون ما صنع القوم ، فوجدوا نَوْفَلَ بن عبدالله في جوف الخندق لم يَنْهضْ به فرسُه ، فجعلوا يَرْمُونه بالحجارة ، فقال لهم : قِتْلَةٌ أجملُ من هذه ، يَنزِل بعضُكم اُقاتله ، فنزل إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام فضربه حتى قتله ، ولَحِق هُبَيرةَ فأعجزه فضرب قَربوسَ سَرْجه وسَقَطَتْ درعٌ كانت عليه ، وفَرّ عِكرِمةُ ، وهرب ضِرارُ بن الخطّاب.

فقال جابر : فما شَبَّهْتُ قتلَ علي عمراً إلاّ بما قَصّ اللّه تعالى من قصّة داود وجالوت ، حيث يقول : ( فَهَزَمُوهُمْ بِاِذْنِ أللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ) (٣) (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) أسف : غضب. « الصحاح ـ أسف ـ ٤ : ١٣٣١ ».

(٢) في هامش « ش » و « م » : حتى يرجع.

(٣) البقرة ٢ : ٢٥١.

(٤) مغازي الواقدي ٢ : ٤٧١ ، إعلام الورى : ١٩٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٤.

١٠٢

وقد روى قَيْس بن الرَبيع قال : حدَّثنا أبو هارون العَبْدي ، عن رَبيعة السَّعدي قال : أتيتُ حًذَيفةَ بن اليَمان فقلت له : يا با عبدالله ، إنّنا لنتحدّثُ عن عليّ عليه‌السلام ومناقبه ، فيقول لنا أهل البصرة : إنكم تُفرِطون في عليّ ، فهل أنت مُحدّثي بحديث فيه؟

فقال حُذَيفة : يا ربيعة ، وما تسألني عن عليّ عليه‌السلام؟ والذي نفسي بيده ، لو وُضِعِ جميعُ أعمال أصحاب محمّد في كفّة الميزان ، منذ بَعَث اللّه محمّداً إلى يوم القيامة (١) ، ووُضِع عملُ عليّ في الكفّةُ الأخرى ، لرَجَحَ عملُ عليّ على جميع أعمالهم.

فقال رَبيعة : هذا الذي لا يُقام له ولا يُقْعَد (٢).

فقال حُذَيفة : يا لُكَع ، وكيف لا يًحْمَل؟! وأين كان أبو بكرٍ وعمر وحُذَيفة وجميعُ أصحاب محمّد يوم عَمرو بن عبدِ وَدٍّ ، وقد دعا إلى المبارَزة!؟ فأحجَمَ الناسُ كلّهُم ما خلا علياً عليه‌السلام فإنّه بَرَز إليه فقتله الله على يديه ، والذي نفس حُذَيفة بيده ، لَعَمَلُه ذلك اليوم أعظمُ أجراً من أعمال أصحاب محمّدٍ إلى يوم القيامة (٣).

وقد روى هِشام بن محمّدٍ (٤) ، عن مَعروف بن خرَّبوذ قال : قال عليّ يوم الخندق :

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : الناس هذا.

(٢) في هامش « ش » و « م » : أي لا يُسمى له ، لأنه لا يدْرَك.

(٣) إعلام الورى : ١٩٥ ، شرح النهج الحديدي ١٩ : ٦٠ ، إرشاد القلوب : ٢٤٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٦.

(٤) هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي كما صرحّ به في هامش « ش » و « م ». لاحظ انساب الاشراف القسم الثاني من الجزء الرابع : ١٢٩ ، طبقات ابن سعد ٤ : ٤٥ ، ٨ : ٣٢.

١٠٣

« أعَلَيّ تَقْتَحِمُ الفوارسُ هكذا

عنّي وعنها خَبِّروا (١) أصحابي

اليومَ تَمْنَعَنُي الفِرارَ حَفيظتي

ومُصَمِّمٌ في الرأس ليس بِنابي

( أرديتُ عَمْرَاً حين أَخلص صَقْلَه ) (٢)

صافي الحَديد مُجَرّبِ قَضّاب

فصَدَدتُ حينَ تَرَكتُه مُتَجَدلاً

كالجِذْع بينَ دَكاَدِكٍ ورَوابي

وعَفَفْتُ عن أثوابه ولَو انّني

كُنْتُ المُقَطَّر بَزّني أثوابي (٣) »

وروى يونس بن بُكَير ، عن محمّد بن إسحاق قال : لما قَتَل عليُّ ابن أبي طالب عليه‌السلام عَمراً أقبل نحوَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجهُه يتهلّل ، فقال له عمر بن الخطّاب : هلاّ سَلَبْتَه ـ يا عليّ ـ دِرعَه؟ فإنّه ليس تكون للعرب دِرْعُ مثلها ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّي استحيتُ أن أكشِفَ عن سوأة ابن عمّي » (٤).

وروى عَمْرو (٥) بن الأزهر ، عن عَمْرو بن عُبَيد ، عن الحسن : أنّ علياً عليه‌السلام لمّا قَتَل عَمرو بن عبدِوَدّ احتزّ رأسَه وحَمَله ، فألقاه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام أبو بكر وعمر ، فقبّلا رأسَ علي

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : اخبروا.

(٢) في « م » وهامش « ش » : أرديت عمراً إذ طغى بمهنّد.

(٣) رويت في هذه الأبيات بزيادة ونقصان في : المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٣ ، دلائل النبوة ٣ : ٤٣٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٣٧ ، الفصول المهمة : ٦١ ، ونقله العلامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٠ : ٢٥٧ و ٢٦٤.

(٤) دلائل النبوّة ٣ : ٤٣٩ ، إرشاد القلوب : ٣٤٥ ، ونحوه في مستدرك النيسابوري ٣ : ٣٣ ، ومجمع البيان ٨ : ٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٠ ٢ : ٢٥٧.

(٥) في النسخ : عمر بن الأزهر ، وفي هامش « م » : عمرو ، وقد وضع عليه علامة « صح » ، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد : عمرو ، وهو الصواب ، اُنظر « تاريخ بغداد ١٢ : ١٩٣ ، لسان الميزان ٤ : ٣٥٣ ، الجرح والتعديل ٦ : ٢٢١ ».

١٠٤

عليه‌السلام (١).

وروى عليّ بن حَكِيْم الأوْديّ قال : سَمِعتُ أبا بكر بن عَيّاش يقول : لقد ضرب عليٌ عليه‌السلام ضربةً ما كان في الإسلام ضربةٌ أعزُّ منها ـ يعني ضربةَ عَمْرو بن عبد وَدّ ـ ولقد ضُرِب عليٌّ ضربةً ما كان في الإسلام أشأم منها ـ يعني ضربةَ ابن مُلْجَم لعنهَ الله ـ (٢).

وفي الأحزاب أنزلّ الله عزّ وجلّ :

( اِذْ جآءُوكمْ مِنْ فَوقِكُمْ وَمِن اَسْفَلَ مِنْكُمْ وَاِذْ زَاغتً الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ اْلقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بآللّهِ آلظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُليَ اْلمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاّ شَدِيداً * وَإذُْ يقولُ اْلمُنَافِقُونَ وَآلَّذينَ فِى قُلُوَبهمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا أللّهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً ـ إلى قوله : ـ وَكَفَى أللّهُ المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ وكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (٣).

فتوجه العتَبُ إليهم والتوبيخ والتقريع والعِتاب ، ولم ينجُ من ذلك أحدٌ ـ باتفاقٍ ـ إلاّ أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، إذ كان الفتحُ له وعلى يديه ، وكان قَتْلُه عَمراً ونَوْفَل بنَ عبدالله سببَ هزيمة المشركين.

وقال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد قتله هؤلاء النَفَر : « الآن

ــــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان ٨ : ٣٤٤ ، شرح النهج الحديديَ ١٩ : ٦٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٢) مناقب ال أبي طالب ٣ : ١٣٨ ، مجمع البيان ٨ : ٣٤٤ ، شرح النهج الحديديَ ١٩ : ٦١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٣) الأحزاب٣٣ : ١٠ ـ ٢٥.

١٠٥

نَغْزُوهم ولا يَغْزُونا » (١).

وقد روى يوسف بن كُلَيب ، ( عن سُفيان ، عن زُبَيد ، عن مرّة ) (٢) وغيره ، عن عبدالله بن مسعود ، أنّه كان يقرأ : ( وَكَفَى الله المُؤْمِنينَ الْقِتَالَ ) بعلي ( وكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (٣).

وفي قتل عمرو يقول حسّان :

أمسى الفَتى عَمروبن عبدٍ يَبتغي

بجُنًوبِ (٤) يَثْرِبَ غارةً لم تُنْظَر

فلقد وجدتَ سُيوفَنا مشهورةً

ولقد وجدتَ جيادَنا لم تُقصِر

ولقد رأيتَ غَداةَ بدرٍ عُصْبةً

ضَرَبوك ضرباً غيرَضربِ المحسر (٥)


ــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٤١ ، مسند أحمد ٤ : ٢٦٢ ، ٦ : ٣٩٤ ، مجمع البيان ٨ : ٣٤٥ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٢) في متن النسخ : قرّة ، وفي هامش « ش » و « م » عن نسخة : مرّة ، وهو الصواب كما سيظهر ، ثم في هامش « ش » و « م » : ( يوسف بن حكيم عن سفيان بن زيد عن مرة ) وعليها علامة ( ع ) ولم يعلم معناها ، وقدوضع في نسخة « ش » علامة ( ج ) تحت كلمة كليب ، وعن التي تليها وفوق ( عن ) علامة النسخة ، وتحت قرّة علامة ( ج ) ، وفي هامش « ش » : كليب بن وبذيلها علامة ، ( ج ) ، وفي هامش « م » كليب بن سفيان وفوقه : ( ج صح ) ، هذا كل ما في النسخ.

والصواب : يوسف بن كليب عن سفيان عن زبيد عن مرّة ، انظر : ميزان الاعتدال. وسفيان هو سفيان الثوري ، وزبيد هو زبيد بن الحارث اليامي ، ومرة هو مرة بن شراحيل الهمداني ، انظر الجرح والتعديل ٣ : ٦٢٣ ، ٨ : ٣٦٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ١١٢ ، ٣ : ٣١١ ، ١٠ : ٨٨.

(٣) الدر المنثور ٦ / ٠ ٥٩ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٣٤ ، شرح النهج الحديدي ١٣ : ٢٨٤ عن ابن عباس ، إرشاد القلوب : ٢٤٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٨٠ ، تأويل الايات ٢ : ٤٥٠ / ١١ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٨.

(٤) جنوب : جمع جنب ، وهو الناحية. « الصحاح ـ جنب ـ ١ : ١٠٠ ».

(٥) في هامش « ش » و « م » : « المُخْسِر : هكذا ». وفي سيرة ابن هشام ٣ : ٢٨١ : الحسّر ، وهو الذي لا درع له.

١٠٦

أصبحتَ لا تُدعى ليوم عظيمةٍ

يا عَمرو أوْ لِجسيم أمر مُنْكَر

ويقال : أنّه لمّا بلغ شعرُحَسّان بني عامرأجابه فَتىً منهم ، فقال يَرُدُ عليه في افتخاره بالأنصار :

كَذَبتم ـ وبيتِ اللّه ـ لم (١) تقْتُلوننا

ولكن بسيف الهاشميّين فافخَروا

بسيف ابنِ عبدالله أحمدَ في الوَغى

بكفّ عليّ نلْتم ذاك فاقصُروا

فلم تَقْتُلوا عَمرَو بنَ عبدٍ ببأسكم (٢)

ولكنّه الكُفءُ (٣) الهِزَبْرُ الغَضَنْفر

عليُّ الذي في الفخر طال بناؤُه (٤)

فلا تُكثِروا (٥) الدعوى علينا فتفخروا (٦)

ببَدرٍ خَرَجتم للبَراز فَرَدَّكم

شيوخُ قريشٍ جَهرةً وتَأَخّروا

فلمّا أتاهم حمزةٌ وعُبَيدةٌ

وجاء عليٌّ بالمُهَنّد يَخْطِر

فقالوا : نعم ، أكفاءُ صِدْقٍ ، فأقبلوا

إليهم سِراعاً إذ بَغَوْا وتَجبروا

فجال عليٌّ جَوْلةً هاشميةً

فدمّرهم لمّا عَتَوا وتَكَبّروا

فليس لكم فَخرٌ علينا بغيرنا

وليس لكم فخرٌ يُعَدّ ويُذْكَر (٧)

وقد روى أحمدُ بن عبد العزيز قال : حدَّثنا سليمان بن أيّوب ، عن أبي الحسن المَدائني قال : لمّا قَتَل عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام عَمرو بنَ عبدِ وَدّ ، نُعِيَ إلى اخته فقالت : من ذا الذي اجترأ عليه؟

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : لا.

(٢) في الاصل : ولا ابنه ، وما اثبتناه من نسخة البحار.

(٣) في هامش « م » : الليث.

(٤) فى هامش « ش » و « م » : رداؤه.

(٥) في هامش « ش » و « م » : تُنْكِروا.

(٦) في « م » وهامش « ش » : فتًحْقَروا.

(٧) الفصول المختارة : ٢٣٨ ، وشعر حسان في السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ٢٨١ ، وشرح النهج الحديدي ١٣ : ٢٩٠ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٥٩.

١٠٧

فقالوا : ابن أبي طالب. فقالت : لم يَعدُ يومَه عَلى يد كُفء كريم ، لا رَقات دَمْعتي إن هَرَقْتها عليه ، قَتَل الأبطالَ وبارز الأقران ، وكانت مَنِيّتُه على ( يد كُفء كريمِ قومه ) (١) ، ما سَمِعت أفخَرمن هذا يا بني عامر ، ثمّ أنشأت تقول :

لوكان قاتلُ عَمروغيرَ قاتله

لكنتُ أبكي عليه آخرَ الأبد

لكنّ قاتلَ عَمروٍ لا يُعاب به

من كان يُدعى قَديماً بيضةَ البلد (٢) (٣)

.

وقالت أيضاً في قتل أخيها ، وذِكْرِ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

أَسَدان في ضِيقِ المَكرّ تَصاولا

وكلاهما كُفء كريم باسل

فتخالسا مُهَجَ النفوس كلاهما

وَسْطَ المَذاد (٤) مخاتِل ومُقاتل

وكلاهما حَضَر القِراعِ حَفيظةً

لم يَثْنِهِ عن ذاك شُغلٌ شاغل

فاذهَبْ ـ علِيٌّ ـ فما ظَفِرْتَ بمثله

قولٌ سديدٌ ليس فيه تحامل

فالثأرعندي ـ ياعليُّ – فليتَني

أدركتُه والعقلُ منّي كامل

ذلّت قريشٌ بعد مقتل فارسٍ

فالذُلّ مُهْلِكها وخِزْيٌ شامل

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : يدكريم قومه.

(٢) بيضة البلد : علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تَريكَة وحدها ليس معها غيرها. « لسان العرب ـ بيض ـ ٧ : ١٢٧ ».

(٣) الفصولَ المختارة : ٢٣٧ ، الفصول المهمّة : ٦٢ باختلاف يسير ، ونحوه في المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٣ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٦٠.

(٤) المذاد : من الذياد وهو الذود والدفع ، والمراد ساحة القتال. اُنظر « الصحاح ـ ذود ـ ٢ : ٤٧١ ».

١٠٨

ثمّ قالت : واللّه لا ثأرت قريش باخي ما حنّت النيب (١) (٢).

فصل

ولما انهزم الأحزاب وولّوا عن المسلمين الدبُر ، عَمِل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على قصد بني قُرَيظة ، وأنفذ أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام إليهم في ثلاثين من الخَزْرَج ، فقال له : « اُنْظُر بني قرَيظة ، هل تَرَكوا (٣) حصونَهم؟ ».

فلمّا شارف سورَهم سَمِع منهم الهُجْر ، فرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فقال : « دَعْهم فإنّ الله سَيُمَكِن منهم ، إنّ الذي أمكنك من عمرو بن عبدِ وَدّ لا يَخْذُلك ، فقِفْ (٤) حتّى يجتمع الناسُ إليك ، وَأَبشِر بنصر الله ، فإنّ الله قد نَصرَني بالرُعب بين يديّ مسيرةَ شهرٍ ».

قال عليّ عليه‌السلام : « فاجتمع الناسُ إليّ وسرتُ حتّى دنوتُ من سورهم ، فأشرَفوا عليَّ فحين رأوني صاح صائحٌ منهم : قدجاءكم قاتل عَمرو ، وقال اخر : قد أقبل إليكم قاتلُ عمرو ، وجعل بعضهم يَصيحُ ببعض ويقولون ذلك ، وألقى الله في قلوبهم الرُعب ، وسَمِعتُ راجزاً يرجز :

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : جمع ناب وهو الإبل المسنّة.

(٢) الفصول المختارة : ٢٣٧ ، وروي باختلاف يسير في الفصول المهمّة : ٦٢ ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٢٠ : ٢٦٠.

(٣) في « ش » و « م » : نزلوا ، وما في المتن من هامش « ش » و « م ».

(٤) في « ش » : فتوقف.

١٠٩

قَتَل في عَمرا

صاد (١) عليٌ صَقْرا

قَصَم عليُّ ظَهْرا

أبرم عليّ أمرا

هَتَك عليٌّ سِتْرا

فقلت : الحمد للّه الذي أظهر الإسلامَ وَقَمَع الشرك ، وكان النبيُ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي حين توجّهتُ إلى بني قُرَيظة : سِرْعَلى بركة اللّه ، فإنّ اللّه قد وَعَدك (٢) أرضَهم وديارَهم ، فسِرتُ مُستيقِناً (٣) لنصر اللّه عزّوجلّ حتّى رَكَزتُ الرايةَ في أصل الحِصْن ، واستقبَلوني في صَياصيهم (٤) يَسُبّون رسولَ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

فلمّا سمِعتُ سبّهم له عليه‌السلام كَرِهتُ أن يَسْمَعه رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعَمِلتُ على الرُجوعِ إليه ، فإذا به عليه‌السلام قد طَلَع ، فناداهم : يا إخوة القِرَدة والخنازير ، إنّا إذا نَزَلنا بساحة قوم فساءَ صَباحُ المنذَرين (٥) فقالوا له : يا أبا القاسم ، ما كنتَ جَهولاً ولا سَبّاباً! فاستحيى رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورَجَع القهقرى قليلاً ».

ثمّ أمر فضُرِبت خَيْمتُه بازاء حُصونهم ، وأقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محاصراً لبني قُرَيظة خمساً وعشرين ليلةً ، حتّى سألوه

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » و « م » : صار.

(٢) في « ش » و « م » : وعدكم ، وما أثبتناه من هامش « ش » و « م ».

(٣) في هامش « ش » و « م » : متيقناً.

(٤) كل شيء اْمتُنع به وتحقَن به فهو صيصة ، ومنه قيل للحصون « الصياصي ». « النهاية ـ صيص ـ ٣ : ٦٧ ».

(٥) اقتباس من قوله تعالى في سورة الصافات ٣٧ : ١٧٧ : ( فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ).

١١٠

النزولَ على حُكم سَعْد بن مُعاذ ، فحكم فيهم (١) سَعدٌ بقتل الرجال ، وسَبي الذَراري والنساء ، وقسمة الأموال.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا سعدُ ، لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقِعة ».

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنزال الرجال منهم ـ وكانوا تسعمائهّ رجل ـ فجيء بهم إلى المدينة ، وقسّم الأموال ، واسترقّ الذراري والنسوان.

ولمّا جيء بالأسارى إلى المدينة حُبسوا في دار من دوربني النجار ، وخًرج رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى موضع السوق اليوم فخندَقَ فيها خنادِق ، وحَضَر أميرُ المؤمنين عليه‌السلام معه والمسلمون ، فأمَر بهم أن يُخْرَجوا ، وتقدّم إلى أمير المؤمنين أن يَضْرِب أعناقهم في الخندق.

فأُخْرِجوا أرسالاً وفيهم حُيَيُّ بن أخْطَب وكَعْبُ بن أَسَد ، وهما ـ إذ ذاك ـ رئيسا القوم ، فقالوا لكَعْب بن أَسَد ، وهم يُذْهَب بهم إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا كَعْب ما تراه يَصْنَع بنا؟ فقال : في كلّ مَوْطنٍ لا تَعْقِلون ، ألا ترون الداعيَ لا يَنْزِعُ ، ومن ذَهَب منكم لا يَرْجِعُ ، هو واللّه القَتل.

وجيء بحييّ بن أخْطَب مجموعةً يداه إلى عُنُقه ، فلمّا نظرإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أما والله ما لُمْتُ نفسي على

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : عليهم.

١١١

عَداوتك ، ولكن من يَخذُل الله يخْذَل.

ثمّ أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس ، إنّه لا بدّ من أمر اللّه ، كتابٌ وقَدَرٌ ومَلحمةٌ كتِبَتْ على بني إسرائيل.

ثمّ اُقيم بين يدي أميرِ المؤمنين علي عليه‌السلام وهويقول : قتْلةٌ شريفة بيد شريفٍ ، فقال له أمير المؤمنين : « إنّ خيارَ الناس يَقتلُون شرارَهم ، وشِرارَ الناس يقتُلون خيارَهم ، فالويلُ لمن قَتَله الأخيار الأشراف ، والسعادة لمن قَتَله الأرذال الكُفّار » فقال : صدقتَ ، لا تَسْلُبني حُلّتي ، قال : « هي أهون عليَّ من ذاك » قال : سَتَرتَني سترك اللّه ، ومَدَ عنقَه فضربها علي عليه‌السلام ولم يَسْلُبه من بينهم.

ثمّ قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام لمن جاء به : « ما كان يقول حُييَّ وهويقادُ إلى الموت؟ » فقال (١) : كان يقول :

لَعَمْرُك مالأمَ ابنُ أخطَبَ نفسَه

ولكنّه من يَخْذُلِ اللّه يُخْذَلِ

لَجاهَد (٢) حتّى بَلّغَ النفسَ جُهْدَها

وحاول يَبْغِي العِزّكُلَّ مُقَلْقَلِ


فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« لقد كان ذا جَدٍّ وجِدٍّ (٣) بكُفره

فِقيدَ إلينا في المَجامع

فَقلّدتُه بالسيف ضربةَ مُحْفَظ (٤)

فصار إلى قعر الجَحيم يُكبَّل


ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و « ح » وهامش « ش » : قالوا.

(٢) في « ح » وهامش « ش » : فجاهد.

(٣) في ، « م » و « ح » وهامش « ش » : حدّ.

(٤) احفظه : أي اغضبه. « القاموس المحيط ـ حفظ ـ ٢ : ٣٩٥ ».

١١٢

فذاك مآب الكافرين ومَنْ يكن

مُطيعاً لأمر الله في الخًلد يُنْزلُ »

واصطفى رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من نسائهم عَمْرَةَ بنتَ خُنافة (١) ، وقَتَل من نسائهم امرأةً واحدةً كانت أرسلَتْ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله حَجَراً ـ وقد جاء باليهود يُناظرهم قَبلَ مُباينتهم له ـ فسلمه الله تعالى من ذلك الحَجَر.

وكان الظفر ببني قُرَيظة ، وفَتْح اللّه على نبيّه عليه‌السلام بأميرِ المؤمنين عليه‌السلام وما كان من قَتْله مَنْ قَتَل منهم ، وما ألقاهُ اللّه عزّوجلّ في قلوبهم من الرُعب منه ، وماثَلَتْ هذه الفضيلةُ ما تَقدّمها من فضائله ، وشابَهَتْ هذه المنقبةُ ما سَلَف ذكرهُ من مناقبه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فصل (٢)

وقد كان من أمير المؤمنين عليه‌السلام في غَزوة وادي الرَمْل ، ويُقال : إِنَّها كانت تًسَمّى بغزوة السَلسلة ، ما حَفِظه العلماء ، ودَوَنه الفقهاء ونَقَله أصحابُ الآثار ، ورواه نَقَلةُ الأخبار ، ممّا يَنضاف إلى‎‎

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » نسخة بدل : خناقة ، ولعل الصواب : ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، اُنظر أُسد الغابة ٥ : ٤٦٠ ، المغازي ٢ : ٥٢٠ ، السيرة الحلبية ٢ : ٣٤٦.

(٢) سقط هذا الفصل من نسخة « ش » و « ح » إلى قوله : « ثم كان من بلائه عليه‌السلام ببني المصطلق » الآتي في ص ١١٨.

١١٣

مناقبه عليه‌السلام في الغزوات ، ويُماثل فضائله في الجهاد ، وما توحّد به في معناه من كافّة العباد.

وذلك أنّ أصحابَ السِيرذكروا : أنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذاتَ يوم جالساً ، إذ جاءه أعرابيٌّ فجَثا بين يديه ، ثمّ قال : اني جئتك لأْنصَحَك ، قال : « وما نصيحتك؟ » قال : قوم من العرب قد عَمِلوا على أن يُثْبتوك (١) بالمدينة ، ووَصَفهم له.

قال : فأمر أميرَ المؤمنين عليه‌السلام أن يُنادي بالصلاة جامعةً ، فاجتمع المسلمون ، فصَعِد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : « أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوَّكم قد (٢) اقبْلَ إليكم ، يَزْعَم أنَّهُ يُثبِتكم (٣) بالمدينة ، فمَنْ للوادي؟ ».

فقام رجل من المهاجرين فقال : أنا له يا رسول الله. فناوله اللواء وضمَّ إليه سبعمائة رجل وقال له : « اِمض على اسم اللّه ».

فمضى فَوافى (٤) القومَ ضَحْوةً ، فقالوا له : مَن الرجل؟ قال : أنا رسول لرسول الله ، إمّا أن تقولوا : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أو لأضْرِبنّكم بالسيف؟ قالوا له : اِرجعْ إلى صاحبك ، فإنّا في جمع لا تقوم له.

فرجع الرجل ، فأخبررسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « م » : يبيتوك.

(٢) نسخة في « م » : وقد.

(٣) في هامش « م » : يبيتكم.

(٤) في هامش « م » : فوافق.

١١٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ للوادي؟ » فقام رجل من المهاجرين فقال : أنا له يا رسولَ الله.

قال : فدَفَع إليه الرايةَ ومضى ، ثمّ عاد بمثل ما عاد به صاحبهُ الأوّل.

فقال رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أينَ عليُّ بن أبي طالب؟ » فقام أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فقال : « أنا ذا يا رسولَ اللّه؟ » قال : « اِمض إلى الوادي » قال : « نعم » وكانت له عِصابة لا يَتَعصّب بها حتّى يَبْعَثَه النبيُّ عليه‌السلام في وجهٍ شديدٍ.

فمضى إلى منزل فاطمة عليها‌السلام ، فالتمس العصابةَ منها؟ فقالت : « أين تُريد ، أين بَعَثَك أبي؟ قال : إلى وادي الرَمْل » فبكَتْ إشفاقاً عليه.

فدخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي على تلك الحال. فقال لها : « ما لكِ تَبكين؟ أتَخافين أن يُقْتَل بعلًك؟ كلاّ ، إن شاءَ اللّه » فقال له علي عليه‌السلام : « لا تَنْفَس (١) عليّ بالجنّة ، يا رسولَ اللّه ».

ثمّ خرج ومعه لِواء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمضى حتى وافى القومَ بسَحَر فأقام حتّى أصبح ، ثمّ صلّى بأصحابه الغَداةَ وصَفَهم صُفوفاً ، واتكأ على سيفه مقبِلاً على العدُوّ ، فقال لهم : « يا هؤلاء ، أنا رسولُ رسول اللّه إليكم ، أن تقولوا لا إله إلاّ الله وأنَ محمّداً عبدُه ورسوله ، وإلاّ ضرَبتُكم بالسيف ».

ــــــــــــــــــ

(١) لا تَنْفَس : لا تبخل : « النهاية ٥ : ٩٧ ».

١١٥

قالوا : اِرجِعْ كما رجَعَ صاحباك.

قال : « أنا أرْجِع؟! لا والله حتى تُسْلِموا أو أضْرِبكم بسيفي هذا ، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبد المُطَّلب ».

فاضطرب القومُ لمّا عَرَفوه ، ثمّ اجترؤوا على مُواقَعته ، فواقعهم عليه‌السلام ، فقتَلَ منهم ستةً أو سبعةً ، وانهزم المشركون ، وظَفِر المسلمون وحازوا الغنائم ، وتوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فروي عن امّ سَلَمة ـ رحمة الله عليها ـ قالت : كان نبيُّ الله عليه‌السلام قائلاً (١) في بيتي إذ انْتَبَهَ فَزَعاً من منامه ، فقلت له : اللّه جارك ، قال : « صدقتِ ، اللّه جاري ، لكنّ هذا جَبرئيل عليه‌السلام يُخبِرني : أنّ علياً قادم » ثمّ خرج إلى الناس فأمَرَهم أن يَسْتَقبلوا علياً عليه‌السلام وقام المسلمون له صَفّين مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلمّا بَصرَ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجّل عن فرسه وأهوى إلى قدمَيْه يُقبّلهما ، فقال له عليه‌السلام : « إرْكَبْ فإنّ اللّه تعالى ورسوله عنك راضيان » فبكى أميرُ المؤمنين عليه‌السلام فَرَحاً ، وانصرف إلى منزله ، وتسلّم المسلمون الغنائمَ.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض من كان معه في الجيش : « كيف رأيتمُ أميرَكم؟ » قالوا : لم نُنِكْر منه شيئاً ، إلاّ أنّه لم يَؤُمَ بنا في صلاة إلاّ قرأ بنا فيها بقُلْ هو الله أحد. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « سأسأله عن ذلك ».

ــــــــــــــــــ

(١) قائلاً : من القيلولة ، وهي نومة نصف النهار. « مجمع البحرين ـ قيل ـ ٥ : ٤٥٩ ».

١١٦

فلمّا جاءه قال له : « لمَ لم تَقْرَأ بهم في فَرائِضك إلاّ بسورة الإخلاص؟ » فقال : « يا رسولَ الله أحبَبْتها » قال له النبي عليه‌السلام : « فإن الله قد أحَبّك كما أحبَبْتَها ».

ثم قال له : « يا عليّ ، لولا أنّني أشْفِقُ أن تقولَ فيك طوائفٌ ما قالت النصَارى في عيسى بن مريم ، لقلتُ فيك اليومَ مَقالاً لا تَمُرّ بملأٍ منهم إلاّ أخَذوا التراب من تحت قَدَمَيْك ».

فصل

فكان الفتح في هذه الغَزاة لأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصّةً ، بعد أن كان من غيره فيها من الإفساد ما كان ، واختصّ عليّ عليه‌السلام من مَديح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بها بفضائل لم يَحْصُل منها شيء لغيره.

وقد ذكر كثيرٌ من أصحاب السيرة (١) : أنَّ في هذه الغَزاة نَزَل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَالْعَادياتِ ضَبْحاً ... ) (٢) إلى آخرها فتضمّنت ذكرَ الحال فيما فعله أميرً المؤمنين عليه‌السلام فيها.

ــــــــــــــــــ

(١) اُنظر : تفسير القمي ٢ : ٤ ٤٣ ، أمالي الطوسي ٢ : ٢١ ، مجمع البيان ٥ : ٥٢٨ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ١٤١.

(٢) العاديات ١٠٠ : ١.

١١٧

فصل

ثمّ كان من بَلائه عليه‌السلام ببني المُصْطَلِق ، ما اشتهر عند العلماء ، وكان الفتح له عليه‌السلام في هذه الغَزاة ، بعد أن اُصيب يومئذ ناسٌ من بني عبد المُطّلب ، فقَتَل أميرُ المؤمنين عليه‌السلام رجلين من القوم وهما مالك وابنه ، وأصاب رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم سَبْياً كثيراً فقَسّمه في المسلمين.

وكان فيمن (١) أصيب يومئذ من السَبايا جُوَيْرِيَة بنت الحارث بن أبي ضِرار ، وكان شعار المسلمين يوم بني المُصطلق : يا منصور أمِت (٢) ، وكان الذي سَبى جُوَيرية أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فجاء بها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاصطفاها النبي عليه‌السلام.

فجاء أبوها إلى النبي عليه‌السلام بعد إسلام بقيّة القوم ، فقال : يا رسولَ اللّه ، إن ابنتي لا تسْبى ، إنّها امرأةٌ كريمةٌ ؛ قال : « اذهب فَخيِّرها » قال : أحسنت (٣) وأجملتَ.

وجاء اليها أبوها فقال لها : يا بُنَيّة لاتَفْضَحي قومَك ، فقالت له : قد اخترتُ الله ورسولَه.

فقال لها أبوها : فعل الله بك وفَعَل ، فاعتقها رسول اللّه صلّى

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » وهامش « ش » : ممن.

(٢) في هامش « ش » و « م » : المنصور كل واحد منهم ، أي نُصِرتَ فاقتل.

(٣) في « م » و « ح » : قد أحسنت.

١١٨

الله عليه وآله وجَعَلها في جملة أزواجه (١).

فصل

ثم تلا بني المُصْطَلِق الحُدَيْبِيَّة ، وكان اللِواء يومئذ إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام كما كان إليه في المشاهد قبلها ، وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صَفّ القوم في الحرب للقتال ما ظهر خبرُه واستفاض ذِكرُه.

وذلك بعد البَيعة التي أخذها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أصحابه والعهود عليهم في الصبر ، وكان أميرُ المؤمنين عليه‌السلام المبايعَ للنساء عن النبي عليه وآله السلام ، وكانت بيعته لهنّ يومئذ أن طَرَحَ ثوباً بينه وبينهنّ ثمّ مسحه بيده ، فكانت مبايَعتهنّ للنبي عليه‌السلام بمَسح الثوب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يَمْسَحُ ثوبَ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ممّايليه.

ولما رأى سُهَيل بنُ عَمْرو توجهَ الأمر عليهم ، ضرَعً إِلى النبي عليه‌السلام في الصلح ، ونَزَل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك ، وأن يَجْعَل أميرَ المؤمنين عليه‌السلام كاتبَه يومئذ والمتولّيَ لعقد الصلح بخطّه.

فقال له النبي عليه وآله السلام : « اُكتب يا عليّ : بسم اللّه الرحمن الرحيم ».

فقال سهيل بن عَمْرو : هذا كتابُ بيننا وبينك يا محمّد ،

ــــــــــــــــــ

(١) في « م » و هامش « ش » و « ح » : نسائه.

١١٩

فافتَتِحْه بما نعْرِفُه (١) ، واكتُب : باسمك اللّهم.

فقال رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين : « اُمْح ما كتبتَ واكتب : باسمك اللّهمّ ».

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لولا طاعتُك يا رسولَ الله لما محوتُ بسم الله الرّحمن الرّحيم » ثمّ محاها وكتب : باسمك اللهمّ.

فقال له النبي عليه‌السلام : « اُكتب : هذا ما قاضى عليه محمّد رسولُ الله سُهَيلَ بن عَمْرو ، ).

فقال سُهَيل : لوأجبتُك في الكتاب الذي بيننا إلى هذا ، لأقررتُ لك بالنبوّة! فسواء شَهدتُ على نفسي بالرضا بذلك أو أطلقتُه من لساني ، اُمْحُ هذا الاسمَ واكتُب : هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله. فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّه والله لَرسول اللّه على رَغْم أنفك ».

فقال سُهَيل : اُكتب اسمَه يَمضِي الشرط.

فقال له أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « ويلك يا سُهَيل ، كُفَّ عن عِنادك ».

فقال له النبي عليه‌السلام : « اُمْحُها يا عليّ ».

فقال : « يا رسولَ اللّه ، إنّ يدي لا تَنطلق بمحو اسمك من النبوّة ».

ــــــــــــــــــ

(١) في هامش « ش » : نعرف.

١٢٠