الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

متلبّساً بالمبدإ الذي بين مصاديقه جامع حقيقي دون من كان متلبّساً وزال عنه المبدأ ، الذي ليس بين مصاديقه إلّا جامع انتزاعي.

وهذا بخلاف القول بالأعم فالموضوع هو الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ. ويكفي وجود نسبة ما بين الذات والمبدأ.

دليل القول بوضع المشتق للمتلبّس

وقد استدلّ على القول بوضعه للمتلبّس بوجوه ، ذكرنا بعضها في الموجز (١) غير انّ أمتن الأدلّة هي ما يلي :

انّ مفهوم المشتق ليس هو تلوُّن الذات (زيد) بأنحاء النسب حتى يكون الركن الوطيد هو الذات سواء أبقي المبدأ أم انقضى ، بل مفهومه هو تلوّن المبدأ بأنحاء النسب وانّ المشتقات عامة منتزعة عن المبدأ باعتبار الوان النسب الحاصلة بينه وبين الذات ، فتارة يلاحظ المبدأ بما انّه منتسب إلى الذات بالصدور عنها (كاسم الفاعل) ، وأُخرى بالوقوع عليها (كاسم المفعول) ، وثالثة بالثبوت فيها كما في الصفة المشبهة ، ورابعة بكونها واقعاً فيها له زماناً ومكاناً ، وعلى ذلك فالمشتق هو المبدأ الملحوظ مع الذات بنسبة خاصة ومضاف إليها نحو إضافة ، وما هذا شأنه يكون هو المحور ، لا الذات ، فالنسب المختلفة المتداولة تصاغ من المبدأ عند الإضافة إلى الذات.

وإن شئت قلت : إنّ واقع الصيغ المختلفة عبارة عن جعل المبدأ في قوالب مختلفة ، فكأنّ المعاني تتوارد على المبدأ ، وهو الذي يتجلّى بصور أشكال مختلفة وليس واقعُ الصيغ جعلَ الذات في أشكال مختلفة ، فإذا كان هذا هو واقع الصيغ

__________________

(١) الموجز : ٢٨ ، ٢٩.

٨١

فكيف يمكن أن تصدق الصيغة مع عدم المبدأ؟

ويدلّ على ذلك انّ علماء الصرف والاشتقاق يحولون المبدأ (المصدر) إلى صور لا الذات إلى صيغ.

وعلى ذلك فلا مناص من التحفظ على المبدأ في صدق الصيغة.

نعم لما كان المبنى عند المشهور هو تلوّن الذات وتلبسها بأنواع النسب أخذوا يستدلّون عليها بالتبادر وصحّة السلب عمّن انقضى عنه المبدأ. والأولى إقامة البرهان حسب ما عرفت.

استدلّ القائل بالأعم بوجوه ثلاثة :

الأوّل التبادر

المتبادر من المشتق مطلق من تلبس بالمبدإ سواء أكان باقياً أم لا.

يلاحظ عليه : أنّ المتبادر هو المتلبّس لا الأعم ، فإذا قيل لا تصلِّ خلف الفاسق ، يتبادر المتلبس به حين الاقتداء لا من كان متلبّساً وانقضى عنه المبدأ قبل الاقتداء.

الثاني : صحّة الحمل

نرى بالوجدان انّه يصحّ حمل المقتول والمضروب على من قتل وضرب وانقضى عنه المبدأ ثانياً.

يلاحظ عليه : بأنّ هذه الصفات تحمل على الذات باعتبار اتحادها مع المبدأ في ظرف من الظروف.

وبتعبير آخر انّ الحمل بلحاظ حال التلبّس والجري خصوصاً في المقتول ، فإنّ عدم كونه قابلاً للتكرار قرينة على أنّ الإطلاق بلحاظ حال التلبّس والجري ،

٨٢

ومثله السارق والزاني فانّ عدم كونهما قابلين للاستمرار قرينة على أنّ الإطلاق بهذا اللحاظ.

الثالث : استدلال الإمام (عليه‌السلام)

استدل الإمام بقوله سبحانه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) على عدم صلاحية من عبد وثناً أو صنماً أو أشرك بالله طرفة عين للخلافة والإمامة وإن أسلم بعد ذلك. وقال (عليه‌السلام) : الظلم وضع الشيء في غير موضعه وأعظم الظلم الشرك بالله ، قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢). (٣)

ثمّ إنّ الاستدلال مبني على صغرى مسلّمة وكبرى قرآنية.

أمّا الصغرى : هؤلاء كانوا ظالمين عند التصدّي.

وأمّا الكبرى : والظالمون لا تنالهم الإمامة.

فينتج : هؤلاء لا تنالهم الإمامة.

وإنّما تصحّ الصغرى إذا قلنا بوضع المشتق للأعمّ ، حتّى يصحّ عدّهم من الظالمين حين التصدّي للخلافة وإلّا تبقى الكبرى بلا صغرى.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال على عدم الصلاحية للإمامة يصحّ على كلا القولين.

أمّا على الأعم فواضح ، لأنّهم على هذا القول ظالمون عند التصدّي حقيقة.

وأمّا على القول الثاني ، فوجه الاستدلال ليس مبنيّاً على كونهم من مصاديق الظالمين حين التصدّي ، بل على أساس آخر وهو انّ الإمامة منصب إلهي خطير ،

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) لقمان : ١٣.

(٣) البرهان في تفسير القرآن : ١٤٩ / ١.

٨٣

لأنّ صاحبها يتصرّف في النفوس والأعراض والأموال ، فالمتصدّي لهذا المنصب يجب أن يبتعد عن ألوان الشرك وقبائح الأعمال طيلة عمره ، لأنّ الناس يتنفّرون من مقترفي هذه الأعمال وإن طابوا وطهروا.

فالاستدلال ليس مبنياً على الظهور الوضعي بل مبني بقرينة المقام وعظمة المنصب على أنّ الممنوع هو المتلبّس بالظلم آناً ما سواء أبَقي عليه أم لا.

ثمّ إنّ هناك تحليلاً دقيقاً لبعض أساطين العلم وحاصله : انّ الناس بحسب التقسيم العقلي على أربعة أقسام :

من كان ظالماً في جميع عمره ، ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أوّل عمره دون آخره ، ومن هو بالعكس.

هذا وإبراهيم أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأوّل والرابع من ذرّيته ، فيبقى القسمان الآخران ، وقد نفى الله أحدهما ، وهو الذي يكون ظالماً في أوّل عمره دون آخره ، فبقي الآخر وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره.

تطبيقات

إنّ البحث عن كون المشتق موضوعاً للمتلبّس أو للأعم ليس عديم الثمرة ، وإليك بعض ما يترتب عليه.

١. قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام): «لا يصلّينّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا ، والأعرابي لا يؤم المهاجرين». (١)

٢. عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : في المرأة إذا ماتت وليس معها امرأة تغسّلها ، قال :

__________________

(١) الوسائل : ٥ ، الباب ١٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٦.

٨٤

«يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسّلها إلى المرافق». (١) فلو قلنا بكون المشتق حقيقة في المنقضي يجوز للزوج المطلق لها ، التغسيل عند فقد المماثل.

وربما يمثل كما مرّ في صدر البحث بالماء المشمَّس أو المسخّن ، ولكن الوارد في لسان الأدلّة ، التعبير عنه بصيغة الفعل لا بصيغة المشتق ، فقد ورد عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «الماء الذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به ، ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنّه يورث البرص». (٢)

* * *

هذه أُمور تسعة بحث فيها علماء الأُصول في مقدّمة كتبهم ، وبما انّها كانت ذات فوائد حجة ، تعرضت لها بمزيد من التفصيل.

وأمّا البحث في المجاز والاشتراك والترادف أو البحث في بساطة مفهوم المشتق وتركّبه ، فقد ضربنا عنها صفحاً ، لما تقدّم بعضها في الموجز ، وعدم مساس بعض آخر كالأخير بفن الاستنباط. فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا. (٣)

__________________

(١) الوسائل : ٢ ، الباب ٢٤ من أبواب غسل الميت ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل : ١ ، الباب ٦ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

(٣) راجع المحصول : الجزء الأوّل.

٨٥
٨٦

المقصد الأوّل

في الأوامر

التشريع الإسلامي في الكتاب والسنّة يدور حول الأوامر والنواهي ، وقد أولى الأُصوليون لهما أهمية خاصة وعقدوا لكلّ منهما مقصداً خاصاً ، وبما انّا قد استوفينا البحث في بعض ما يرجع إليهما في الموجز ، نأتي في المقام ما أوجزناه فيه أو لم نتعرض له ويأتي كلّ ذلك في ضمن فصول :

الفصل الأوّل : في دلالة صيغة الأمر على الوجوب

الفصل الثاني : دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

الفصل الثالث : أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر

الفصل الرابع : في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين

الفصل الخامس : الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء

الفصل السادس : في المقدّمة ، أقسامها وأحكامها

الفصل السابع : في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري

الفصل الثامن : في تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط

الفصل التاسع : في تقسيم الواجب المطلق إلى منجَّز ومعلَّق

الفصل العاشر : في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

الفصل الحادي عشر : متعلّق الأوامر

الفصل الثاني عشر : التخيير بين الأقلّ والأكثر

٨٧
٨٨

الفصل الأوّل

في دلالة صيغة الأمر على الوجوب

من البحوث المهمة هي تحقيق مفاد صيغة الأمر وانّها هل هي موضوعة للوجوب أو للأعم منه ومن الندب؟ والمشهور عند الأُصوليّين دلالتها على الوجوب على نحو يأتي ، ولتحقيق ذلك نقدّم بحثاً في تبيين حقيقة الوجوب والندب والآراء المطروحة في هذا الصدد.

لا شكّ انّ الوجوب والندب من أقسام البعث الإنشائي ، وإنّما الكلام فيما يحصل به امتياز أحدهما عن الآخر ، فقيل فيه وجوه :

أ : الوجوب هو البعث الإنشائي مع المنع من الترك ، والندب هو البعث الإنشائي لا مع المنع من الترك.

يلاحظ عليه : أنّ المتبادر من الوجوب والندب هو الحتمية وعدمها ، وما ذكره تحليل عقلي لهذين المعنيين البسيطين وليسا بموضوع له لهذين اللفظين.

ب : الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عند مخالفته ، والاستحباب هو الطلب غير الموجب له.

يلاحظ عليه : أنّ الاستحقاق وعدمه من آثارهما بعد تحقّقهما ، والكلام في المقام في مقوّماتها ، والمقوّم يجب أن يكون مقارناً لا متأخّراً.

٨٩

ج : الوجوب هو البعث المسبوق بالإرادة الشديدة ، والندب هو البعث المسبوق بإرادة غير شديدة ، وذلك انّ البعث الإنشائي فعل اختياري للنفس فلا بدّ في تحقّقه من سبق إرادة تكوينية ، فهي تختلف شدّة وقوّة حسب اختلاف الغايات والأغراض والمصالح في لزوم إحرازها وعدمه. فالذي يميّز الوجوب عن الندب المشتركين في البعث ، إنّما هو نشوء البعث عن الإرادة الشديدة أو الضعيفة ، وهذا هو المختار.

هذا كلّه في امتيازهما حسب الثبوت ، وأمّا امتيازهما حسب الإثبات فإنّما يحصل بالمقارنات ، فإذا كان إنشاء البعث مقروناً بصوت عال وحركات خاصة تدلّ على عدم رضا المولى بتركه فينتزع منه الوجوب ، وإذا كان مقارناً بما يفيد عكس ذلك ينتزع منه الندب.

إلى هنا تبيّن مفاد الوجوب والندب ثبوتاً وإثباتاً وانّ التفاوت بينهما ثبوتاً يرجع إلى شدّة الإرادة وضعفها ، وإثباتاً إلى المقارنات الحاكية عن أحدهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى صلب الموضوع ، أي دلالة الصيغة على الوجوب ، فنقول : إذا تبيّن أحد الأمرين من خلال المقارنات في مقام الإثبات فيُتبع ، إنّما الكلام فيما إذا لم يتبيّن أحد الأمرين ، وكان الكلام مجرّداً عن المقارنات فالمعروف هو تبادر الوجوب ، واختلفت كلمتهم في سبب التبادر.

١. ذهب بعضهم إلى أنّ الصيغة تدلّ على الوجوب دلالة لفظية.

يلاحظ عليه : أنّ الهيئة وضعت لإنشاء البعث وهو مشترك بين الوجوب والندب ، فكيف تدلّ على الوجوب دلالة لفظية.

٩٠

٢. انصراف صيغة الأمر إلى الوجوب

يلاحظ عليه : أنّ الانصراف إمّا لكثرة الوجود أو لكثرة الاستعمال ، وكلا الأمرين موجودان في جانب الندب أيضاً.

٣. كون الصيغة كاشفة عند العقلاء عن الإرادة الحتمية.

يلاحظ عليه : أنّ الكشف لا يمكن أن يكون إلّا بملاك ، والملاك إمّا كونه موضوعاً للوجوب ، أو الانصراف ، أو كونه مقتضى مقدّمات الحكمة ؛ والأوّلان غير تامّين كما عرفت ، والثالث يعود إلى الوجه الرابع الذي نتلوه عليك.

٤. انّ مقتضى مقدّمات الحكمة هو حمل الصيغة على الوجوب وحاصله : انّ الإرادة الوجوبية تفترق عن الإرادة الندبية بالشدة ، فانّها ليست شيئاً سوى الإرادة ، وأمّا الإرادة الندبية فهي تفترق عن الوجوبية بالضعف وهو غير الإرادة ، فالإرادة الوجوبية إرادة خالصة ، بخلاف الإرادة الندبية فإنّها محدودة بحدّ خاص (الضعف) فتكون الإرادة الندبية أمراً ممزوجاً منها ومن غيرها ، وعلى هذا فإطلاق الكلام كاف في مقام الدلالة على الإرادة الوجوبية إذ لا حدّ لها ليفتقر المتكلّم في مقام إفادته إلى بيان ذلك الحدّ ، بخلاف الإرادة الندبية فانّ الحدّ ليس من سنخ المحدود فيفتقر إلى تقييد الكلام به. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره غفلة عن حقيقة التشكيك ، فهي عبارة عمّا يكون ما به التفاوت نفس ما به الاشتراك ، وعلى ذلك فالضعف أيضاً مثل الشدة من سنخ المحدود (الإرادة) وليس الضعف أمراً وجوديّاً منضمّاً إلى النور كما أنّ الشدّة كذلك ، بل النور الضعيف مثل النور القوي ، نور ، لا انّه نور وضعف ، كما أنّ

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٢١٤ / ١.

٩١

القوي ليس نوراً وقوة ، فصار القيدان على منوال واحد في لزوم البيان إذا كان المتكلّم في مقامه.

٥. كون مطلق الأمر موضوعاً لوجوب الإطاعة عند العقل ، واستحقاق العقوبة عند الترك ما لم يحرز كون الطلب ندبياً. وهذا معنى كون الأمر ظاهراً في الوجوب.

وبعبارة أُخرى : وظيفة المولى هي إنشاء البعث وإصدار الأمر ، وأمّا بيان أنّه للوجوب أو الندب فهو ليس من وظائفه. بل على العبد السعي ، فإن تبيّن له أحدهما عمل على طبق ما تبيّن ، وإلّا عمل على مقتضى حكم العقل وهو أنّ أمر المولى لا يترك بلا جواب ، وهذا هو المختار في وجه حمل الأمر على الوجوب.

٩٢

الفصل الثاني

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

ربما تستعمل الجملة الخبرية في مقام الطلب والبعث ، يقول سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). (١)

وقال سبحانه : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). (٢)

وقال سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ). (٣)

ونرى مثل ذلك في الروايات حيث ورد في أبواب الطهارة والصلاة ، قولهم (عليهم‌السلام): «يغتسل» ، «يعيد الصلاة» ، «يستقبل القبلة» فالجمل الخبرية في هذه الموارد استعملت لداعي البعث ، وإنّما الكلام في كيفية دلالتها على الوجوب وكونها آكد في الدلالة على الوجوب من الأمر بالصّيغة.

توضيحه : انّ الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل بداع البعث يكشف عن شدّة رغبة المولى بالمراد إلى حدّ يراه موجوداً ومحققاً في الخارج حيث يخبر عن وجوده فيكون حاكياً عن الوجوب والإرادة الحتمية.

وأمّا عدم كونها كذباً فانّ ظاهر الكلام وإن كان هو الإخبار ، ولكن جلوس المولى على منصَّة التكليف قرينة على أنّه بصدد البعث واقعاً لا بصدد الإخبار.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) البقرة : ٢٤١.

(٣) البقرة : ٢٣٣.

٩٣

الفصل الثالث (١)

أخذ قصد الامتثال في متعلّق الأمر

إنّ الواجب ينقسم إلى توصلي وتعبّدي ، وانّ التعبّدي يفسر بوجوه ثلاثة :

١. التقرّب بقصد امتثال أمره.

٢. الإتيان لله تبارك وتعالى.

٣. الإتيان بداع التقرّب إليه سبحانه ، لكون الفعل محبوباً له.

ويقابله التوصّلي ، فإذا علمنا أنّ الواجب تعبّدي أو توصّلي فيمتثل على النحو الذي عُلم ، إنّما الكلام فيما إذا شكّ في واجب انّه توصّلي أو تعبّدي ، فهل ثمة أصل لفظي يعوّل عليه كالشكّ في وجوب ردّ السلام حيث إنّ أمره يدور بين كونه توصلياً أو تعبدياً ، يجب قصد أمره حتّى يصدق الامتثال.

مثلاً إذا قال سبحانه : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها). (٢)

فهل مقتضى الإطلاق هو كونه توصّلياً أو لا؟

وهناك أمر يجب إلفات النظر إليه ، وهو انّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ إذا

__________________

(١) هذا الفصل جزء من الفصل الآتي ويعبّر عنه في الكتب الأُصولية كالتالي : إذا دارت صيغة الأمر بين كونه تعبديّاً أو توصليّاً فما هو مقتضى القاعدة؟ وبما أنّه طويل الذيل أفردناه بالبحث.

(٢) النساء : ٨٦.

٩٤

أمكن أخذ الشيء المشكوك اعتباره في متعلّق الأمر ، فإذا خلا منه متعلّقه ، يحكم بعدم اعتباره فيه ، مثلاً إذا شكّ في وجوب السورة في الصلاة فبما أنّه يمكن أخذها في متعلّق الأمر بأن يقول : صلِّ مع السورة ، فيصحّ التمسّك بالإطلاق اللّفظي إذا خلا منها متعلّق الأمر عند الشكّ.

وأمّا إذا تعذّر أخذ المشكوك في متعلّق الأمر فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، لأنّ التمسّك به فرع إمكان أخذه فيه والمفروض أنّه متعذّر.

ثمّ إنّ الأُصوليّين اختلفوا في إمكان أخذ التعبديّة في المتعلّق وعدمه ، فلو أمكن أخذها في متعلّق الأمر ، يصحّ التمسّك بإطلاقه إذا خلا منها ، وإلّا فلا.

فذهب الأكثر إلى إمكان أخذ التعبديّة في متعلّق الأمر ، فإذا شكّ في اعتبارها في المتعلّق يتمسّك بإطلاقه ويحكم بالتوصلية.

وذهب الشيخ الأنصاري إلى امتناع أخذها في متعلّق الأمر ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق المتعلّق وإثبات التوصّلية ، فانّ من شرائط التمسّك بالإطلاق ، إمكان الإتيان بالقيد في متعلّقه والمفروض عدم إمكان أخذ القيد فيه.

ثمّ إنّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ إنّما هو التعبدية بالتفسير الأوّل أي «قصد امتثال الأمر» ، وأمّا التفسيران الآخران للتعبدية ، أعني : الإتيان لله تبارك وتعالى ، أو الإتيان لأجل محبوبية الفعل ، فأخذهما فيه بمكان من الإمكان.

وبعبارة أُخرى : انّ محلّ الخلاف في إمكان الأخذ وعدمه هو أن يأمر المولى بالنحو التالي :

صلّ صلاة الظهر بقصد امتثال أمرها ، وأمّا إذا قال : صلِّ صلاة الظهر لله تبارك وتعالى ، أو لكونها محبوبة لله ، فأخذهما في المتعلّق ممّا لا شبهة فيه.

استدلّ القائلون بامتناع أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه بأُمور نذكر

٩٥

واحداً منها وهو «انّ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر يمتنع أخذه في المتعلّق شطراً أو شرطاً».

توضيحه : انّ ما يتصوّر أخذه في المتعلّق على نحوين :

النحو الأوّل : ما لا صلة للقيد بالأمر ، فسواء أكان هناك أمر أو لا ، يمكن تصوّر القيد ، وتقييد المتعلّق به وهذا كالإيمان في الرقبة ، ويمكن إيجاده مع القيد في الخارج بلا توقّف على الأمر وهذا كالسورة والقنوت في الصلاة فيصحّ في الجميع أخذ القيد بأن يقول : أعتق رقبة مؤمنة ، أو صلّ مع السورة والقنوت ، فإذا أطلق المولى ولم يأخذ القيد في المتعلّق ، استكشف منه عدم مدخليته في الواجب.

النحو الثاني : ما لا يتأتّى إلّا بعد تعلّق الأمر به ، وهذا كقصد امتثال الأمر ، فما لم يكن هناك أمر من المولى لا يمكن للمكلّف إيجاد متعلّقه في الخارج بقصد امتثال أمره.

وهذا النحو من القيد بما أنّه لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في المتعلّق ولا يُستكشف من عدم أخذه ، عدم مدخليّته في المتعلّق.

بعبارة أُخرى : أنّ الأمر يتعلّق بالشيء المقدور قبل الأمر و «الصلاة مع قصد امتثال الأمر» ليست بمقدورة قبل تعلّق الأمر بها ، لكي يتعلّق بها الأمر ويقول : «صلّ مع قصد الأمر». ويُستكشف من عدم أخذه ، عدمُ مدخليته.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ اللازم في صحّة الأمر كون المتعلّق مقدوراً في ظرف الامتثال لا قَبْل الأمر ولا حينه ، وامتثال قصد الأمر وإن كان غير مقدور قبل البعث ، ولكنّه أمر مقدور بعد تعلّق الأمر وفي ظرف الامتثال ، فيصحّ تعلّق الأمر به ، ويستكشف من عدم تعلّقه ، وعدمُ مدخليته وعلى ذلك فمقتضى الإطلاق اللفظي كون الأصل هو التوصّلية إلّا إذا دلّ دليل على خلافها.

٩٦

وثانياً : أنّ مقتضى الإطلاق المقامي أيضاً هو التوصلية.

توضيحه : إنّ الإطلاق على قسمين : إطلاق لفظي ، وإطلاق مقامي.

الإطلاق اللّفظي : عبارة عن خلوّ المتعلّق من القيد ، فيحتج بخلوّ المتعلّق عن القيد على عدم مدخليّته في الواجب ، فمصبُّ الإطلاق اللّفظي هو متعلّق الأمر مع إمكان تقييده. وهذا هو الذي مرّ بيانه

وأمّا الإطلاق المقامي : فحاصله أنّ القيد المشكوك اعتباره في المأمور به إذا كان ممّا يغفل عنه أكثر الناس يجب على المولى التنبيه عليه إذا كان دخيلاً في الغرض ، إمّا بالأخذ في المتعلّق ، أو بالتنبيه عليه بدليل منفصل ، فلو افترضنا امتناع الأوّل ، فإمكان الثاني بمرحلة من الوضوح ، فسكوته حينئذ دليل على عدم المدخليّة.

ثمّ إنّ بعض المحقّقين استدلّ على امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلّق بأنّ قصد الأمر إذا دخل في الواجب كان نفس الأمر قيداً من قيود الواجب ، لأنّ القصد المذكور مضاف إلى نفس «الأمر» ، وإذا لاحظنا الأمر وجدنا انّه ليس اختيارياً للمكلّف (١) كما هو واضح ، وقد ثبت في محلّه انّ القيود المأخوذة في الواجب يجب أن تكون اختيارية. (٢)

يلاحظ عليه : بالنقض أوّلاً : مثلاً إذا قال المولى : صلّ إلى القبلة ، فتكون نفس القبلة من قيود الواجب ، وهي خارجة عن اختيار المكلّف مع انّه جائز بالاتّفاق.

__________________

(١) لأنّه من فعل المولى لا المكلّف ، هذا ما فهمناه من عبارته ، ولعلّ كلامه ناظر إلى ما نقلناه سابقاً من القائلين بالمنع.

(٢) دروس في علم الأُصول : الحلقة الثانية : ٢٦٥.

٩٧

وثانياً بالحلّ ، لأنّ قيد الواجب هو القصد المضاف إلى الأمر على نحو يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً ، فليس نفس الأمر قيداً للواجب ، بل القيد ، القصد المضاف إليه وهو باختيار المكلّف بعد صدور الأمر من المولى. اللهمّ إلّا أن يريد قبل صدوره من المولى فيرجع إلى الوجه السابق.

إلى هنا تبين انّ مقتضى الأصل اللّفظي والإطلاق المقامي هو التوصّلية إلّا أن يدلّ دليل على كون الواجب قُربياً.

مقتضى الأصل العقلي والشرعي

قد ظهر ممّا ذكرنا من جواز التمسّك بالإطلاق اللّفظي أو المقامي ، مقتضى الأصل العملي إذا لم يكن إطلاق لفظي ودليل اجتهادي ، وذلك لأنّ هذا الشرط يقع في عداد سائر الشروط فيجري فيه أصل البراءة العقلية والشرعية كما يجري في غيره.

بل يمكن أن يقال بأنّ المرجع هو البراءة حتّى على القول بامتناع أخذه في المتعلّق ، وذلك لإمكان بيانه بدليل مستقل آخر كما ذكرنا ، فإنّ الممتنع هو البيان في ضمن الأمر الأوّل لا في ضمن الأمر الثاني كما عرفت.

فخرجنا بالنتائج التالية :

١. انّ مقتضى الأصل اللّفظي والإطلاق المقامي هو التوصّلية.

٢. انّ مقتضى الأصل العقلي والشرعي عند عدم وجود الإطلاق هو البراءة العقلية والشرعية.

٩٨

الفصل الرابع

في دوران مفاد صيغة الأمر بين الأمرين

ينقسم مفاد صيغة الأمر إلى كونه نفسياً وغيرياً ، وعينياً وكفائياً ، وتعيينياً وتخييرياً (١) ، فإذا دار الأمر بين أحد القسمين ، فما هو مقتضى الأصل؟ وإليك الأمثلة :

أ : إذا قال : اغتسل للجنابة ، ودار أمر الغسل بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً للصلاة والصوم.

ب : إذا قال : قاتل في سبيل الله ، ودار أمر القتال بين كونه واجباً عينياً وعدم سقوطه بقتال الآخرين أو كفائياً ساقطاً بقتال الآخرين.

ج : إذا قال : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) الذي أُريد منه فريضة الجمعة ودار أمرها بين التعييني وعدم عِدْل له أو التخييري بوجود عِدْل له يسقط بالظهر مثلاً ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة ، ولنأخذها بالبحث والتمحيص.

ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ مقتضى الإطلاق اللّفظي هو الحمل على النفسي والعيني والتعييني ، وذلك لأنّ كلاً من الغيرية والكفائية والتخييرية يحتاج إلى قيد بخلاف مقابلاتها.

__________________

(١) أو تعبديّاً أو توصلياً وقد مرّ البحث عنه في الفصل السابق وقد أوضحنا حال الأقسام في الموجز فلا نعيد.

٩٩

توضيحه : انّ أحد القسمين يحتاج إلى بيان زائد دون الآخر ، فالنفسي غني عن البيان الزائد دون الغيري ، وذلك لأنّ الوجوب النفسي لمّا كان نابعاً من مصالح كامنة في المتعلّق ، كفى إلقاء الحكم على وجه الإطلاق ، ويكون البيان وافياً بما أراد. وأمّا لو كان غيرياً فبما أنّ وجوبه منبعث عن وجوب غيره ، فيجب تقييده بما يفيد ذلك.

وبعبارة أُخرى : أنّ الواجب النفسي في متلقّى العرف هو الإيجاب بلا قيد ، بخلاف الغيري فإنّه الإيجاب مع تقييده بأنّه واجب لغيره ، فلو فرضنا كون المتكلم في مقام بيان تلك الخصوصية ، فالإطلاق كاف في تفهيم الأوّل ، دون الثاني.

ومنه تظهر الحال في دوران الأمر بين العيني والكفائي ، فانّه يكفي في بيان الواجب العيني ، الأمرُ بالشيء والسكوت عن أيّ قيد بخلاف الواجب الكفائي فلا يكفي في بيانه ، الأمر به مع السكوت عن القيد بل يحتاج إلى القيد نظير : ما لم يقم به الآخر ، فالقتال في سبيل الله لو كان واجباً عينياً كفى فيه قول المولى : قاتل في سبيل الله ، ولو كان كفائياً فلا يكفيه ذلك إلّا أن ينضم إليه قيد آخر ، أعني : ما لم يقاتل غيرك.

وإن شئت قلت : إنّ العيني هو الواجب بلا قيد ولا حدّ ، بخلاف الكفائي فانّه الواجب المقيّد المحدود ، فالعيني في متلقّى العرف بلا قيد ، والكفائي مقيّد ، فإذا أمر ولم يأت بالقيد ، يكون كافياً في إفادة المقصود العيني.

ومنه تظهر حال القسم الثالث أي دوران الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً.

فالواجب التعييني هو الواجب بلا أن يكون له عدل ، كالفرائض اليومية ، والواجب التخييري هو الواجب الذي يكون له عدل كخصال كفّارة الإفطار

١٠٠