الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر الثاني

الفرق بين المسألة الأُصولية والقاعدة الفقهية

قد عرفت أنّ المسألة الأُصولية عبارة عن القاعدة الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية ، وعلى هذا فالمسألة الأُصولية تتميّز بالخصوصيات التالية :

١. انّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية أو الوظيفة العملية.

٢. أنّها لا تختص بباب دون باب ، كحجية خبر الواحد التي يُستند إليها في عامّة الأبواب.

٣. انّها لا تتضمّن حكماً شرعياً ولا وظيفة عملية ، بل يستنبط منها الحكم الشرعي والوظيفة العملية.

وأمّا القاعدة الفقهية فهي تمتاز بميزتين :

١. انّها تشتمل على حكم شرعي كلّي أو منتزع من عدّة أحكام ، والأوّل كقاعدة الطهارة والثاني كقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

٤١

٢. لا تجري في عامة الأبواب بل تختص بباب أو بأبواب معدودة ، كقاعدة الطهارة وقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

وهذه الميزة الثانية هي الغالبة خرجت منها قاعدتا نفي الضرر والحرج فانّهما تعمّان جميع أبواب الفقه.

وأمّا المسألة الفقهية فهي ما يبحث فيها عن أحكام الموضوعات الخاصة كطهارة الماء ونجاسة الدم ، وربما يبحث فيها عن ماهية الموضوعات كماهية الصلاة وأجزائها وموانعها وشرائطها.

هذا هو المختار عندنا وربما تذكر هنا ضابطتان أُخريان :

إحداهما للشيخ الأنصاري ، والأُخرى للمحقّق العراقي تطلبان من محلّهما. (١)

__________________

(١) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المحصول : ٤٣ / ١.

٤٢

الأمر الثالث

في الوضع

لا شكّ انّ الإنسان العارف باللسان ، إذا سمع لفظ «الماء» ينتقل إلى معناه ، أعني : الجسم السيّال الرطب ، إنّما الكلام في سبب الانتقال ، فهنا احتمالان :

١. وجود الرابطة الذاتية بين اللفظ والمعنى التي تكون سبباً لحضور المعنى. لكنّه احتمال ساقط إذ لازم ذلك ، حضور المعنى لكلّ من سمع اللفظ سواء كان عارفاً باللسان أم لا.

٢. انّ سبب الحضور ، هو وضع الواضع اللفظ للمعنى ، وبما انّ الوضع أمر اعتباري تكون العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى كذلك غير انّهم اختلفوا في تفسير حقيقة ذلك الأمر الاعتباري.

فذهب المحقّق النهاوندي (المتوفّى ١٣١٧ ه‍) إلى أنّ حقيقة الوضع ليس إلّا التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وتبعه عدّة من الأعلام منهم المحقّق الخوئي ، قال : الوضع عبارة عن الالتزام النفسي بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص. (١)

يلاحظ عليه : مضافاً إلى استلزامه أن يكون كلّ مستعمل واضعاً لصدق

__________________

(١) أجود التقريرات : ١٢ / ١ ولاحظ المحاضرات : ٤٨ / ١.

٤٣

حدّه عليه : أنّ التّعهد ، أو الالتزام النفسي غير داخل في حقيقة الوضع ، بل هو من دواعيه ، الخارجة عن حقيقة الشيء ، فيكفي في تحقّق الوضع «جعل اللّفظ في مقابل المعنى» بداعي الانتقال إليه عند التكلّم كما هو الحال في سائر الدوال كالعلامات الرائجة لإدارة المرور ، فلا فرق بين وضع الألفاظ ونصب العلامة على رأس الفرسخ ، فالوضع في الجميع على نسق واحد ، فليس عمل ناصب العلامة على رأس الفرسخ إلّا وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه من دون تعهّد منه.

ويدلّ على ذلك انّ الملموس في المجامع العلمية المختصة لوضع الألفاظ للمعاني المستحدثة ، غير ذاك فانّ الأخصّائيّين من علماء اللغة ، ليس لهم شأن إلّا تعيين الألفاظ في مقابل المعاني ، ولا يخطر ببالهم عند الوضع غير هذا ، وأمّا التزام الواضع بأنّه متى أراد تفهيم المعنى ، يتكلّم بهذا اللّفظ فهو من دواعي الوضع وليس نفسَه ولا جزءه.

فالحقّ أن يقال : إنّ وضع الألفاظ للمعاني ، أمر اعتباري يُعلم كنهه من حال سائر العلامات والدوال التي تضعها إدارة المرور للانتقال إلى وظائف خاصة ، ككون الدخول في الشارع مجازاً أو ممنوعاً ، فإنّ ماهية جعل تلك الدوال ليس إلّا جعلها للانتقال إلى مقاصد خاصة ، فيكون وضع الألفاظ أيضاً من هذه المقولة ، ويعرف بأنّها «جعل اللفظ في مقابل المعنى» بداعي الانتقال إليه عند سماعه ؛ أو تعينه علامة على المعنى بسبب كثرة الاستعمال. والأوّل كما في الوضع التعييني ، والثاني كما في الوضع التعيّني.

ثمّ إنّ وضع اللفظ في مقابل المعنى أو استعماله فيه بداعي الوضع كما إذا قال : ائتني بولدي الحسن بداعي تسميته به عمل اختياري صادر من الفاعل المختار الذي لا يرجِّح أحد الطرفين إلّا بمرجّح. وامّا ما هو المرجّح لاختيار لفظ

٤٤

خاص على سائر الألفاظ فيختلف حسب اختلاف المقامات.

لكن التتبع يكشف عن انّه يُستند في تسمية الحيوانات إلى أصواتها كالهدهد ، والبوم ، والحمام ، والعصفور ، والهرة. كما يستند في حكاية الأفعال والحركات إلى أصواتها كالدقّ والدكّ والشقّ والكسْر ، والصرير ، والدَّويّ والنهيق. ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنّ كلّ إنسان في الأدوار السالفة ، كان ينتخب لإبراز ما في ضميره ألفاظاً يرى مناسبة خيالية أو وهمية بينها وبين معانيها ، كالمشابهة في الشكل والهيئة وغير ذلك من المناسبات ، فها هو لفظ الهيولى يستعمله العرف الخاص في الموجود المُخيف والمَهيب لمناسبة يرى بين اللّفظ والمعنى.

وقد جرّبنا ذلك في بعض الأطفال فرأيناهم يخترعون لبعض الأشياء والمعاني عند الحكاية عنها ألفاظاً مهملة ، لمناسبة خيالية بينهما عندهم ، وربما يكون هذا هو السرّ لتكثّر الألفاظ وتكامل اللغة من دون أن يكون هناك وضع تعييني ، ولعلّ هذا هو مقصود من قال بوجود العلقة بين اللفظ والمعنى لا ما هو المعروف عن قائلها من رابطة ذاتيّة بينهما فلاحظ.

في أقسام الوضع

إذا كان الوضع بمعنى «جعل اللّفظ في مقابل المعنى» فلا بدّ حينَه من تصوّر اللفظ أوّلاً ، والمعنى ثانياً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فله أقسام :

١. الوضع العام والموضوع له العام

وهو أن يتصوّر المعنى الكلّي بلا واسطة ويضع اللّفظ عليه ، كوضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق.

٢. الوضع الخاص والموضوع له الخاص

وهو أن يتصوّر المعنى الجزئي مباشرة ويضع اللّفظ عليه كما في الأعلام.

٤٥

٣. الوضع العام والموضوع له الخاص

وهو أن يتصوّر المعنى الجزئي من خلال العنوان الكلّي المنطبق عليه ، كتصوّر المعاني الجزئية للابتداء من خلال تصوّر مفهوم الابتداء الكلّي ويضع اللّفظ على مصاديقه.

٤. الوضع الخاص والموضوع له العام

وهو أن يتصوّر المعنى الكلّي من خلال تصوّر الفرد ويضع اللّفظ على المعنى الكلّي.

لا شكّ في وقوع الأوّلين ، إنّما الكلام في الثالث والرابع فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى إمكان الثالث وامتناع الرابع ، وقال في وجههما ما هذا توضيحه :

إنّ العام باعتبار انّه كلي يصلح لأن يكون مرآة لأفراده وآلة للحاظ مصاديقه لوضوح كون العام حاكياً عن المصاديق التي تحته وعندئذ يصحّ أن يتصور الواضع المفهوم العام ويجعله مرآة لأفراده التي يشملها ثمّ يضع اللفظ بإزاء تلك الأفراد.

مثلاً : إذا تصوّر الواضع «المفرد المذكر» على النحو الكلّي من دون لحاظ الخصوصيات ومشخصات الأفراد ، ثمّ وضع لفظ «هذا» لكلّ فرد ومصداق من ذلك الكلي فعندئذ يكون الوضع عاماً لكون الملحوظ عاماً والموضوع له خاصاً لانّ المفروض انّه عبارة عن الأفراد الخارجية والمصاديق العينيّة.

هذا في الوضع العام والموضوع له الخاص ، وأمّا القسم الآخر أي الوضع الخاص والموضوع له العام ، فوجه امتناعه انّ الملحوظ إذا كان خاصاً (كزيد) فهو بما انّه متشخص بخصوصيات ، لا يصدق إلّا على مصداق واحد ولا يحكي عن المعنى العام ، حتّى يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى العام.

مثلاً : إذا تصوّر الواضع مفهوم «زيد» الذي هو علم لشخص معيّن فلا يتصور أن يضع لفظ الإنسان إزاء المعنى العام كالحيوان الناطق بواسطة ذلك

٤٦

الملحوظ الخاصّ لانّه لا يحكي عن المعنى العام حتّى يوضع اللفظ له ، ومن المعلوم انّ الواضع ما لم يتصور الموضوع له بنحو من الأنحاء لا يمكن له أن يضع اللفظ بإزائه.

يلاحظ عليه : بانّ الخاص بما هو خاص كما لا يكون مرآة للعام ولا يمكن تصوره من خلال تصور الخاص ، كذلك لا يمكن تصور الخاص من خلال تصوّر العام وذلك لأنّ العام لم يوضع إلّا لنفس الحقيقة المعرّاة من كلّ قيد وشرط ، فعندئذ كيف يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات والجزئيات؟ فإنّ المرآتية فرع الوضع والمفروض انّه وضع للمعرّاة عن الخصوصية.

وبذلك ظهر انّه لا فرق بين الثالث والرابع في امتناع الحكاية والمرآتية ، فالعام لسعته لا يحكي عن الجزئيات ، والخاص لضيقه لا يحكي عن الحقيقة المجرّدة المعرّاة عن كلّ قيد.

والحقّ أن يقال : إنّ القسمين مشتركان في الامتناع على وجه وفي الإمكان على نحو آخر ، فلو قلنا بأنّه يشترط أن يكون الملحوظ عند الوضع حاكياً عن الموضوع له ، ومرآة له فهو غير ممكن في القسمين لما عرفت انّ عنوان العام كالإنسان لا يحكي إلّا عن حيثية الإنسانية دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيات لخروجها عن حريم المعنى الكلي ، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له.

كما انّ عنوان الخاص كزيد بما انّه متشخّص في فرد خاص لا يمكن أن يكشف عن الماهية المعرّاة المجرّدة.

وأمّا لو قلنا بأنّه يكفي في الوضع ، الانتقال إلى الموضوع له بأي نحو تحقّق فالظاهر إمكان كليهما ، فإنّ الانتقال من تصوّر العام إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس أمر ممكن ، فإنّ التداعي ليس رهن الحكاية بل ربما ينتقل الإنسان من

٤٧

الضدّ إلى الضدّ الآخر.

والظاهر انّه لا يتوقف الوضع على الحكاية والمرآتية بل يكفي العنوان الإجمالي المشير إلى الموضوع له فيكون القسمان كالأوّلين من الأقسام الممكنة.

انقسام الوضع إلى شخصيّ ونوعيّ

قد تقدّم انّ الوضع يتوقّف على لحاظ اللّفظ أوّلاً ولحاظ المعنى ثانياً ، وقد عرفت الثاني على وجه التفصيل ، وأمّا الأوّل فربما يكون اللّفظ ملحوظاً بشخصه ، فيكون الوضع شخصياً كوضع الأعلام ، وربما يكون ملحوظاً بعنوان كلّي ينطبق عليه وعلى غيره فيكون الوضع نوعياً وهذا كأسماء الفاعلين والمفعولين وغيرهما. فانّ هيئة الفاعل وضعت لمن قام به الفعل بنحو من الأنحاء ، ولكن الموضوع ليس هو الهيئة الشخصية القائمة بمادة «فعل» بل الهيئة النوعية المتحقّقة فيها وفي غيرها ، وذلك لأنّ إحضار تمام المواد عند وضع الهيئة أمر صعب للغاية فتوضع الهيئة في ضمن مادة خاصة كفاعل ونحوه ولكن يراد منه كلّ ما كان على هذه الهيئة في ضمن أيّة مادّة تحققت.

٤٨

الأمر الرابع

في المعاني الحرفية

يقع الكلام في الحروف في موضعين :

١. ما هو معانيها ومفاهيمها؟

٢. في كيفية وضعها.

أمّا الأوّل فقد عُرِّف المعنى الحرفي بما ذكره ابن الحاجب في «كافيته» حيث قال : الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، والحرف ما دلّ على معنى في غيره.

والمراد من قوله «ما دلّ» هو اللفظ ، والضمير في كلّ من : «في نفسه» و «في غيره» يرجع إلى المعنى ، وانّه في حدّ ذاته على قسمين :

قسم يكون مفهوماً محصَّلاً في نفسه ، لا يتوقّف تصوّره في الذهن إلى معنى آخر.

وقسم يكون مفهوماً متحقّقاً في الذهن بتبع غيره.

«فمعاني الأسماء معان مستقلة ملحوظة بذواتها ، ومعاني الحروف معان آلية حيث إنّها تلحظ بنحو الآلية والمرآتية لملاحظة غيرها».

توضيحه : إنّ الغاية من وضع الألفاظ سواء أكان بالوضع التعييني أو التعيّني ، هي رفع الحاجة وإظهار ما يقوم في النفس من المفاهيم والمعاني التي ينتقل إليها الذهن من طرق الحواس وغيرها من أدوات المعرفة ولمّا كانت النشأة

٤٩

الخارجية على أقسام ، كانت المفاهيم المتّخذة منها على غرارها ، ذاتَ أقسام.

إنّ الإنسان إذا أجال نظره في صحيفة الوجود يجد انّ ثمّة أقساماً من الحقائق :

الأوّل : ما هو مستقل ذاتاً وماهية ، كما هو مستقل خارجاً ووجوداً ، كالجواهر كلّها. وهذا ما يعبر عنه ب «ما وجوده في نفسه لنفسه» ويشير قولهم : «في نفسه» إلى كونها ذات مفاهيم مستقلة ، كما يشير قولهم : «لنفسه» إلى كونها غير ناعتة على خلاف الأعراض المتأصّلة.

الثاني : ما هو مستقل ذاتاً وماهية ، غير مستقل خارجاً ووجوداً وهذا كالأعراض مثل البياض والسواد ، فانّ لكلّ مفهوماً مستقلاً ، فيعرّف الأوّل بأنّه نور مفرّق لنور البصر ، والثاني بأنّه نور قابض لنور البصر لكنّه غير مستقل في عالم الوجود حيث لا يوجد إلّا في الموضوع.

الثالث : ما هو غير مستقل ذاتاً ووجوداً ، فهو اندكاكيّ المعنى كما هو اندكاكيّ الوجود ، فمفهومه فان في غيره كما أنّ وجوده في الخارج كذلك. وهذا ما يسمّى ب «الوجود الرابط» و «المعنى الحرفي» فهو لا يتصوّر إلّا تبعاً للمعنى الاسمي ، كما لا يتحقّق إلّا مندكاً في الغير ، وهذا نظير قولنا : زيد في الدار ، فكلّ من «زيد» و «الدار» من المعاني الاسمية أمّا كونه فيها من المعاني الحرفية ، إذ لا يتصوّر الكون إلّا مضافاً إلى زيد والدار ، كما لا يتحقّق إلّا بهما ، فالكون قائم بهما تصوّراً وخارجاً ، ولو أردنا إضفاء الاستقلالية لهذا المعنى الحرفي لزم انسلاخه عن حقيقته ، فالمعنى الحرفي من أضعف مراتب الوجود.

وبما انّ وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصوّره ، والمعاني الحرفية لا يمكن تصوّرها وإلّا لا نسلخ عن المعنى الحرفي وانقلب إلى المعنى الاسمي ، فيُحتال في مقام الوضع ، بملاحظة المعاني الاسمية كالابتداء والانتهاء ويوضع اللّفظ لا

٥٠

بإزائها بل بإزاء مصاديقها الخارجية التي هي معان حرفية.

فلفظة «مِن» موضوعة لمصداق الابتداء لا لمفهوم الابتداء الكلّي وإلّا ينقلب المعنى الحرفي اسمياً ، فالمحكيّ بلفظة «من» في قولك : «سرت من الكوفة إلى البصرة» ليس هو مفهوم الابتداء بل مصداقه الخارجي الذي لا يتحقّق إلّا بطرفيها ، أعني : «السير» و «الكوفة». (١)

نعم هناك حروف ربما لا تنطبق عليها ما ذكرنا من الضابطة ، وهذا نحو «واو» الاستئناف و «تاء» التأنيث في «ضربتْ» و «قد» في الفعل الماضي ، فالأولى عدّها علامات لا حروفاً.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الثاني ، أعني كيفية وضعها ، فقد ظهر ممّا ذكرنا انّ وضع الحروف من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، فانّ الواضع لاحظ المعنى الاسمي ، فوضع اللّفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية.

فإن قلت : إذا كان الملحوظ معنى اسمياً فلا بدّ أن يكون مصداقه أيضاً كذلك ، فحينئذ كيف يصحّ أن يقال «انّ الواضع لاحظ المعنى الاسمي ووضع اللفظ بإزاء مصاديقه التي هي معان حرفية مع انّ مصداق كلّ شيء بحسبه.

قلت : انّ المعاني الاسمية على قسمين :

١. ما يتمتع بالاستقلال تصوراً ومصداقاً ، لحاظاً وتطبيقاً وذلك كاسماء الأجناس مثل الإنسان فله مفهوم مستقل كما انّ له مصداقاً كذلك عند التطبيق على الخارج.

__________________

(١) وما ذكرناه هو المعروف بين الأُدباء في معاني الحروف ، وهناك نظريات أُخرى كنظرية المحقّق الرضي في شرح الكافية : ١٠ ، ط مصر ، التي اختارها المحقّق الخراساني ، ونظرية المحقّق صاحب الحاشية ، ونظرية المحقّق النائيني وتلميذه المحقّق الخوئي وقد بسطنا الكلام في نقد هذه النظريات في محاضراتنا المدونة باسم «المحصول» : ٦٢ / ٦٨١.

٥١

٢. ما يتمتع بالاستقلال في مقام التصور واللحاظ دون التطبيق على الخارج وذلك كمفهوم الابتداء أو الانتهاء فانّهما من المفاهيم الاسمية فيخبر عنهما كما يخبر بهما ويقال : الابتداء خبر من الانتهاء ، ولكنّهما عند التطبيق لا ينطبقان إلّا على الموجود القائم بالغير المندك فيه ، من السير والقراءة والكتابة وغيرها وهذه خصيصة هذا القسم من المعاني الاسمية.

فالابتداء عند اللحاظ والتصور يتجلى بصورة مفهوم اسمي وعند التطبيق على الخارج يتحقّق في معنى قائم بالغير ، كالابتداء المندك في السير إلى البصرة وغيره.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا حاول الواضع أن يضع لفظاً لمصاديق الابتداء والانتهاء فلا محيص له من تصور تلك المصاديق ولو إجمالاً فعندئذ يلاحظ تلك المصاديق من خلال ذينك المفهومين الاسميين ويقول : وضعت لفظة «مِن» أو لفظة» إلى» لما ينطبق عليه لفظ الابتداء أو يصدق عليه الانتهاء في الخارج.

فاتضح بما ذكرنا أمران :

١. انّه ربما يكون المفهوم اسمياً ، وما ينطبق عليه معنى حرفياً.

٢. انّ الواضع في وضع الحروف يلاحظ الحقائق الحرفية من خلال المفاهيم الاسمية.

ثمّ إنّ المعاني الحرفية على قسمين :

١. معان حاكية. ٢. معان ايجادية.

فالقسم الأوّل يحكي عن معنى متحقق في الخارج ، مثل قولك : سر من البصرة إلى الكوفة.

والقسم الثاني موجد للمعنى بنفس الاستعمال ، كالنداء والخطاب في قولك : يا زيد أو قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

٥٢

الأمر الخامس

في علامات الوضع

ذكر المشهور لتمييز الحقيقة عن المجاز علامات نذكر منها ما يلي :

الأوّل : التبادر

إنّ سبق المعنى من اللّفظ إلى الذهن بلا قرينة ، دليل على أنّه هو الموضوع له ، والمعنى المجازي وإن كان ينسبق إليه أحياناً لكنّه يتبادر بمعونة القرينة.

وقد أُشكِل على كون التبادر علامة الوضع بالدور وحاصله :

انّ العلم بالوضع متوقّف على التبادر ، وهو متوقّف على العلم بالوضع ، إذ لو لا العلم بأنّ اللّفظ موضوع لذلك المعنى ، لما تبادر.

والجواب : انّ المراد من التبادر في المقام ، هو التبادر عند المستعلم الذي هو من أهل اللسان وقد نشأ بينهم منذ نُعومة أظفاره إلى أنّ شبّ وشاب ، وعندئذ العلم التفصيلي بالوضع موقوف على التبادر عند ذاك الشخص ، ولكنّ التبادر عنده غير موقوف على ذلك العلم التفصيلي ، بل يكفي العلم الإجمالي الارتكازي للوضع حيث إنّ المستعلم من أهل اللغة ، له علم بالوضع منذ نشأ بين أهل اللّسان وإن لم يكن ملتفتاً إلى علمه هذا وبالجملة : العلم التفصيلي بالوضع موقوف على التبادر ، والتبادر موقوف على العلم الارتكازي الحاصل للإنسان

٥٣

الناشئ بين أهل اللغة من لدن صباه وإن كان غير ملتفت إلى علمه بالوضع.

وهذا النوع من العلم الإجمالي لا صلة له بالعلم الإجمالي المبحوث عنه في باب البراءة والاشتغال.

هذا إذا كانت الحجّة للمستعلم تبادرَ نفسه الذي هو من أهل اللسان وأمّا إذا كانت الحجّة للمستعلم ، تبادرَ الغير فهو كما إذا كان المستعلم من غير أهل اللسان ورأى أنّه كلّما يطلق الماء يتبادر عند بعض أهل اللسان ، الرطب السيّال ، فهو أيضاً غير مستلزم للدور ، لأنّ العلم التفصيلي للمستعلم متوقّف على التبادر بين بعض أهل اللسان ، والتبادر لديه يتوقّف على علمه الارتكازي بكون اللّفظ موضوعاً لذلك المعنى. ويحصل ذلك العلم الارتكازي له بنشوئه بين أهل اللسان منذ صباه. (١)

الثاني : صحة الحمل

إنّ من علامات الوضع صحّة الحمل ، توضيحه :

__________________

(١) وربما يجاب عن الدور بأنّه لا محل له أساساً ، لأنّه مبني على افتراض انّ انتقال الذهن إلى المعنى من اللّفظ فرع العلم بالوضع مع أنّه فرع نفس الوضع أي وجود عملية القرن الأكيد بين تصوّر اللّفظ وتصوّر المعنى في ذهن الشخص ، فالطفل الرضيع الذي اقترنت عنده كلمة «ماما» برؤية أُمّه ، يكفي نفس هذا الاقتران الأكيد ليتصوّر أُمّه عند ما يسمع كلمة «ماما» مع أنّه ليس عالماً بالوضع إذ لا يعرف معنى الوضع. ١ يلاحظ عليه : أنّه ليس شيئاً جديداً بل هو عبارة أُخرى عن العلم الارتكازي بالوضع ، فإنّ مرجع اقتران كلمة «ماما» برؤية الأُمّ ، في حياته إلى علمه الارتكازي بالوضع فانّ التقارن الممتد بين لفظ «ماما» ورؤية الأُمّ ، يورث الملازمة بينهما عند الطفل فإذا سمع الأوّل من دون الرؤية ينتقل إلى الثانية بلا اختيار ، وهذا هو المراد من العلم الارتكازي بالوضع.

١. دروس في علم الأُصول ، الحلقة الثانية : ٨٦.

٥٤

إنّ الحمل على قسمين :

١. حمل أوّلي ذاتي ، وهو عبارة عن الوحدة بين المحمول والموضوع مفهوماً ، كما إذا قيل : الحيوان الناطق إنسان.

٢. حمل شائع صناعي ، وهو عبارة عن اختلاف الموضوع والمحمول مفهوماً والاتحاد مصداقاً ووجوداً ، كما إذا قلنا : زيد إنسان.

إذا أردنا أن نتعرف على أنّ لفظ الإنسان هل هو موضوع للحيوان الناطق ، فنجعل المعنى موضوعاً ، واللّفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً ، فنقول : الحيوان الناطق إنسان ، فنستكشف عن صحّة الحمل مفهوماً ، كون الثاني موضوعاً للمعنى المفروض ، أعني : الحيوان الناطق. وبعبارة أُخرى : نجعل ما نتصوّر انّه معنى ، موضوعاً للقضية وننظر إليه بما انّه معنى محض ليس معه لفظ ، ونجعل اللّفظ الذي نريد تبيين معناه محمولاً ، فيقال : الحيوان المفترس ، أسد.

هذا إذا كان اللّفظ والمعنى متميّزين كما في المثالين ، وأمّا إذا لم يكن كذلك كما في المترادفات التي يصلح أن يكون كلّ مبيّناً وموضحاً للآخر ، فيجعل المعلوم موضوعاً والمبهم محمولاً ، ويقال : المطر هو الغيث وإن جاز العكس.

فكما أنّ صحّة الحمل آية الوضع ، فكذلك صحّة السلب آية عدمه ، كما إذا قال : الرجل الشجاع ليس بأسد.

هذا كلّه حول الحمل الأوّلي ، وأمّا الحمل الشائع الصناعي فيجعل المصداق موضوعاً واللفظ الذي بصدد استعلام حاله محمولاً ويقال : زيد إنسان ، لكنّه لا يثبت به كون الموضوع هو الموضوع له للمحمول ، وإنّما يُثبت كونه من مصاديق المعنى الذي وضع له المحمول.

فتحصل من ذلك انّ الحمل الأوّلي يثبت كون المعنى هو الموضوع له ، لكن الحمل الثاني يثبت انّه مصداق للمعنى الذي وضع له اللّفظ.

٥٥

ثمّ إنّه أورد على كون صحّة الحمل علامة بأُمور نذكر منها أمرين أحدهما في المتن والآخر في الهامش :

الأوّل : انّ الاستكشاف والاستعلام حاصل من التبادر الحاصل من تصوّر الموضوع السابق على الحمل ، فيكون إسناده إلى الحمل في غير محلّه. (١) يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه إنّما يرد إذا كان المستعلم عن طريق صحّة الحمل من أهل اللسان ، فيتقدم التبادر عنده على صحّة الحمل دون ما إذا لم يكن من أهله فليس عنده تبادر حتى يتقدم على صحة الحمل ، ومن صحّ عنده الحمل ، بما انّه ليس بصدد استكشاف المعنى ، غافل عن تبادره.

وثانياً : سلمنا انّ المستعلم من أهل اللسان لكنّه إنّما يرد إذا كان زمان الاستكشاف مقارناً لزمان الحمل فيسبقه التبادر ويغني عن غيره. وأمّا إذا كان زمان الحمل مقدماً على زمان الاستكشاف كما إذا ألقى محاضرة واشتملت على أحد الحملين من دون أن يكون بصدد استكشاف المعنى الموضوع له ، ثمّ صار بصدد الاستكشاف فرجع إلى خطاباته ومحاضراته ورأى أنّ حمل المحمول بما له من المعنى الارتكازي على الموضوع متلائم جداً ، فيستكشف انّ الموضوع الذي حمل عليه اللّفظ ، هو المعنى الحقيقي. (٢)

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٥٨ / ١.

(٢) الثاني : ما يقال انّ صحّة الحمل إنّما تكون علامة على كون المحمول عليه ، هو نفس المعنى المراد في المحمول أو مصداق المعنى المراد ، امّا انّ هذا المعنى المراد في جانب المحمول هل هو معنى حقيقي للّفظ أو مجازي؟ فلا سبيل إلى تعيين ذلك عن طريق صحّة الحمل ، بل لا بدّ أن يرجع الإنسان إلى مرتكزاته لكي يعيّن ذلك.(١)

يلاحظ عليه : هذا الشرط أنّ كون المعنى المراد في جانب المحمول معنى حقيقي ، حاصل وذلك من خلال كون الحمل عارياً عن كلّ شرط ويكفي هذا في كون المعنى حقيقياً ، بخلاف المعنى المجازي فلا يصحّ الحمل إلّا مع شرطين :

٥٦

الثالث : الاطراد

الاطراد هو العلامة الثالثة وقد قرر بالنحو التالي :

إذا اطرد استعمال لفظ في أفراد كلّي بحيثية خاصة ، كرجل باعتبار الرجولية في زيد وعمرو مع القطع بعدم تعدّد الوضع ، استكشف منه وجود علاقة الوضع بينها وبين ذاك الكلّي ، وعلم أنّه موضوع للطبيعي من المعنى.

واحتمال كونه مجازاً لأجل وجود العلاقة ، مدفوع بعدم الاطراد في علائق المجاز ، فانّ علاقة الجزء والكلّ ليست مطردة بشهادة انّه يصحّ استعمال «العين» في المراقب ولا يصحّ استعمال الشعر فيه ، ويصحّ استعمال اللسان في الوكيل دون الصدر فيه وغير ذلك.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بما هذا توضيحه :

١. انّ المجاز وإن لم يطرد في نوع علائقه ومطلق المشابهة ، إلّا أنّه في خصوص ما يصحّ معه الاستعمال في المجاز مطرد كالحقيقة ، فاستعمال الجزء في الكلّ مطرد في خصوص ما إذا كان للجزء دور خاص في المورد ، كالمراقبة في العين ، والتبيين في اللسان ، والعمل في اليد. (١)

__________________

ـ الأوّل : وجود الادّعاء المصحّح للاستعمال ، وانّ هذا هذا أو من مصاديقه.

الثاني : كون المقام مناسباً لإعمال الادّعاء دون ما إذا لم يكن.

وهذان الشرطان متوفران في قوله سبحانه : ((وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف : ٣١) حيث تخيّل للنساء الجالسات انّ فتى امرأة العزيز قد ارتقى من الجمال بمكان صيَّره ملكاً. وبما انّ المفروض كون الحمل فاقداً لكلّ من الشرطين يثبت كون المعنى المراد في جانب المحمول معنى حقيقياً.

١. دروس في علم الأُصول : الحلقة الثانية : ٨٧.

(١) كفاية الأُصول : ٢٨ / ١ ٢٩.

٥٧

يلاحظ عليه : أنّ المجاز غير مطرد حتى في صنف العلاقة الذي وصفه لما عرفت من أنّ صحّة المجاز وراء العلاقة قائمة بأمرين :

أ. حسن الادّعاء.

ب. كون المقام مناسباً لإظهار هذا الادّعاء.

وعلى ذلك فالمجاز غير مطرد حتى في صنف العلائق بل يتوقّف مضافاً إلى صنف العلاقة على توفُّر الشرطين المذكورين ولذا لا يصحّ استعمال الأسد في الرجل الأبخر لعدم حسن الادّعاء ، كما لا يصحّ نداء الرجل الشجاع بلفظ يا أسد إذا لم يكن المقام مناسباً لإظهار الادّعاء كما إذا كان النداء لأجل تناول وجبة طعام.

هذا كلّه حول تقرير القوم.

ولكنّ التحقيق انّ العلامة المفيدة التي يدور عليها كشف الحقيقة وتمييزها عن المجاز هو هذه العلامة ولكنّ القوم أنار الله برهانهم لم يعطوا للمسألة حق النظر ، ولو أمعنوا فيها لأذعنوا بأنّه من أنجع العلائم وأشملها ، وذلك انّ الجاهل باللغة إذا أراد أن يعرف معاني اللغات الأجنبية من أهل اللسان ، فليس له طريق إلّا الاستماع في مقامات مختلفة لمحمولات عديدة على موضوع واحد ، كما إذا رأى أنّ الفقيه يقول : الماء طاهر ومطهّر ، أو قليل أو كثير ، والكيمياوي يقول : الماء رطب سيال ، والفيزياوي يقول : الماء لا لون له ، ورأى اطراده في الموضوع الخاص ، يحدس انّ اللفظ موضوع على ما استعمل فيه في هذه الموارد ، لأنّ المصحّح : إمّا الوضع أو العلاقة ، والثاني لا اطراد فيه والمفروض انّه مطرد فتعين الأوّل.

وهذا هو الطريق الرائج في تحصيل معاني اللغات ، وعلى ذلك بُني منهج التفسير البياني في تحقيق كلمات الذكر الحكيم ، حيث يتتبَّع موارد استعمال اللفظ

٥٨

في القرآن إلى استخراج المعنى الحقيقي له.

وقد ذكرنا لذلك مثالاً في الموجز (١) فلاحظ.

الرابع : تنصيص أهل اللغة

قد ذكروا انّ تنصيص أهل اللغة من أسباب التعرّف على الوضع وتمييز الحقيقة عن المجاز.

وقد استشكل عليه بانّ ديدن أهل اللغة بيان المستعمل فيه لا الموضوع له ، فترى أنّهم يذكرون للفظة القضاء معاني عشرة وللوحي معاني كثيرة مع أنّهما ليسا من المشترك اللفظي ، فلا يكون تنصيص أهل اللغة علامة للوضع.

أقول : إنّ علماء الأُصول لم يُولوا هذا الموضوع أهمية نظيره في الاطراد ، ويعلم ذلك من خلال النقاط التالية :

١. انّ المعاجم والقواميس ليست على نحو واحد ، فليس الجميع على ما وصفوه من ذكر موارد الاستعمال ، بل هناك مَنْ تطرّق إلى تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي ، والمعنى الأصلي عن المعاني المتفرعة منه ، وقد ألّف على هذا المنوال كتاب المقاييس لأحمد بن زكريا (المتوفّى ٣٩٥ ه‍) وأساس البلاغة للزمخشري (المتوفّى ٥٣٨ ه‍) ، فالكتابان يعدّان من أحسن ما أُلّف في هذا الباب.

٢. انّ الإمعان في المعاجم المعروفة المتداولة التي تتكفل لبيان موارد الاستعمال ربما يوصل الإنسان الذكي إلى تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي شريطة أن يكون له ذوق لغوي وفطانة خاصة ، مثلاً : إذا رجع إلى «القاموس» يرى انّه ذكر للفظ القضاء معاني عشرة وللوحي معاني متنوعة ، لكن لو أمعن النظر

__________________

(١) الموجز : ١٣١٢.

٥٩

يقف على أنّ الجميع صور مختلفة لمعنى واحد وهو إتقان العمل ، في مورد القضاء ، والإفهام بخفاء في مورد الوحي ، والباقي صور لهذين المعنيين ، ولذلك يجب على الفقيه ، ممارسة المعاجم ومطالعتها مع ما فيها من الخلل كمطالعة الكتب الفقهية والأُصولية حتى يخالط علمُ اللغة دمَه ولحمَه ، عندئذ يتسنّى له القضاء في اللغة ويميّز المعنى الحقيقي عن المجازي كما هو ديدن الأوائل من علمائنا كالصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي والطبرسي ، فكانوا ذوي باع طويل في اللغة قبل أن يكونوا فقهاء.

٣. انّ الأوائل من مدوني اللغة كالخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفّى ١٧٠ ه‍) والجوهري (المتوفّى ٢٩٩ ه‍) قد أخذوا كثيراً من المعاني من ألسن سكّان البوادي الذين قطنوا الجزيرة العربية ، فإذا أخبر الخليل في كتاب العين عما سمعه من سكان البوادي ، يُصدَّق كما يصدَّق قوله في النحو والصرف والعروض وغيرها من العلوم العربية.

٦٠