الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

وأوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة (عليهم‌السلام) واعتمد على فن الكلام ، وعلى أُصول الفقه المبنيّين على الأفكار العقلية المتداولة بين العامة ، محمد بن أحمد ابن الجنيد العامل بالقياس ، وحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتكلم ، ولما أظهر الشيخ المفيد حسنَ الظن بتصانيفهما بين أصحابه منهم السيد الأجل المرتضى ، وشيخ الطائفة شاعت طريقتهما بين متأخري أصحابنا ، حتى وصلت النوبة إلى العلّامة الحلّي ، فالتزم في تصانيفه أكثرَ القواعد الأُصولية من العامة ، ثمّ تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ علي رحمهم‌الله تعالى. (١)

أقول : الأخبارية منهج مبتدع ، ولم يكن بين علماء الشيعة إلى زمان ظهورها منهجان متقابلان متضادان في مجال الفروع باسم المنهج الأُصولي والأخباري حتى يكون لكل منهج مبادئ مستقلة يناقض أحدهما الآخر ، بل كان الجميع على خطّ واحد ، وكان الاختلاف في لون الخدمة وكيفية أداء الوظيفة.

يقول شيخنا البحراني : إنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المجتهدين والمحدّثين مع أنّه لم يرتفع بينهم مثل هذا الخلاف ولم يطعن أحد منهم على الآخر بالاتصاف بهذه الأوصاف وإن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل. (٢)

والعجب انّ الشيخ الاسترابادي (رحمه‌الله) استدلّ على انقسام علماء الإمامية إلى أخباريّين وأُصوليّين بأمرين :

١. ما ذكره شارح المواقف ، حيث قال :

كانت الإمامية أوّلاً على مذهب أئمّتهم حتى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّب متأخّروهم إلى المعتزلة وإلى الأخباريين ، وما ذكره الشهرستاني في أوّل

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٤٤ ، الطبعة الحجريّة.

(٢) الحدائق الناضرة : ١٦٧ / ١٧٠١ ، المقدمة الثانية عشرة.

٢١

كتاب الملل والنحل : من أنّ الإمامية كانوا في الأوّل على مذهب أئمّتهم في الأُصول ثمّ اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم حتى تمادى بهم الزمان ، فاختارت كلّ فرقة طريقة ، فصارت الإمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية وإمّا تفضيلية ، بعضها أخبارية مشبِّهة وإمّا سلفية.

٢. ما ذكره العلّامة في «نهاية الوصول إلى علم الأُصول» عند البحث عن جواز العمل بخبر الواحد ، فقال :

أمّا الإمامية فالأخباريون منهم لم يعولوا في أُصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد ، والأُصوليّون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه.

لكن كلا الشاهدين أجنبيان عمّا يرومه الأمين.

أمّا الشاهد الأوّل : فقد نقله بالمعنى ، ولو نقل النصّ بلفظه لظهر للقارئ الكريم ما رامه شارح المواقف ، وإليك نصه : ... وتشعب متأخّروهم إلى «المعتزلة» : إمّا وعيدية أو تفضيلية (ظ. تفضلية) وإلى «أخبارية» يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة ، وهؤلاء ينقسمون إلى «مشبّهة» يجرون المتشابهات على أنّ المراد بها ظواهرها ، و «سلفية» يعتقدون أنّ ما أراد الله بها حقّ بلا تشبيه كما عليه السلف وإلى ملتحقة بالفرقة الضالة».

وبالتأمل في نصّ كتاب المواقف يظهر فساد الاستنتاج ، وذلك لأنّ مسلك الأخبارية الذي ابتدعه الشيخ الأمين ليس إلّا مسلكاً فقهياً قوامه عدم حجّية ظواهر الكتاب أوّلاً ، ولزوم العمل بالأخبار قاطبة من دون إمعان النظر في الاسناد ، وعلاج التعارض بالحمل على التقية وغيرها ثانياً ، وعدم حجّية العقل في استنباط الأحكام ثالثاً.

٢٢

وما ذكره شارح «المواقف» و «الشهرستاني» من تقسيم الشيعة إلى أخبارية وغيرها راجع إلى المسائل العقائدية دون الفقهية ، فعلى ما ذكراه فالشيعة تشعّبت في تفسير الصفات الخبرية كاليد والاستواء والوجه وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار بل الآيات إلى طوائف ثلاث : مشبِّهة ، وسلفية ، وملتحقة بالفرق الضالة.

والحكم بأنّ ما ذكره شارح المواقف راجع إلى المسلك الذي ابتدعه الاسترآبادي عجيب جداً مع اختلافهما في موضوع البحث ، فأين العمل بظواهر الأخبار في صفاته سبحانه ، عن الأخبارية التي ابتدعها الأمين الاسترآبادي في سبيل استخراج الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة ، مضافاً إلى أنّ مسلكه مبني على أسس وقوائم لم تكن معروفة عند غيره.

وأمّا الشاهد الثاني أعني ما ذكره العلّامة ، فهو أيضاً لا يمتُّ بصلة إلى مسلك الأخبارية المبتدَع ، بل هو راجع إلى مسألة خلافية بين علماء الإمامية منذ زمن بعيد ، وهو هل الخبر الواحد حجّة في الأُصول كما هو حجّة في الفروع أو لا؟ فالمحدّثون والذين سبروا غور الأخبار ، ذهبوا إلى القول الأوّل ، والأُصوليون الذين حكَّموا العقل في مجال العقائد قالوا بالثاني.

فالأخباري في كلام العلّامة هو ما يمارس الخبر ويدوّنه شأن كل محدّث ، لا من يسلك مسلك الأخباريّين في استنباط الأحكام الشرعية.

إنّ هذه الفكرة الخاطئة الشاذة عن الكتاب والسنّة وإجماع الأصحاب الأوائل شغلت بال العلماء من أصحابنا ما يقرب من قرنين ، وأضحت تلك البرهة فترة ركود الأُصول وتألق نجم الأخبارية ، فترى أنّ أكثر مؤلّفاتهم تعلو عليها صبغة الأخبارية ، وهم بين متطرِّف كالأمين الاسترابادي ، ومعتدل كالشيخ يوسف البحراني (المتوفّى ١١٨٦ ه‍) صاحب الحدائق الناضرة.

٢٣

ومن سوء الحظ انّ النزاع بين أصحاب المسلكين لم يقتصر على نطاق المحافل العلمية ، بل تسرّب إلى الأوساط العامة والمجتمعات ، فأُريقت دماء طاهرة وهتكت أعراض من جرّاء ذلك ، وقتل فيها الشيخ أبو أحمد الشريف محمد بن عبد النبي المحدِّث النيسابوري المعروف بميرزا محمد الأخباري (١٢٣٣١١٧٨ ه‍) لمّا تجاهر بذمِّ الأُصوليين قاطبة والنيل منهم ، فلقي حتفه عند هجوم العامة عليه عن عمر يناهز ٥٥ عاماً.

بالرغم من الهجوم العنيف الذي شنّه الأمين الأسترآبادي وأتباعه على الحركة الأُصولية ، نرى أنّ هناك من أخذ بزمام الحركة بتأليف كتب استطاعت حينها أن تصمد بوجه الأخبارية وتذود عن كيانها وقاموا بمحاولات :

١٥. الفاضل التوني (المتوفّى ١٠٧١ ه‍)

هو عبد الله بن محمد التوني البشروي. وصفه الحر العاملي بقوله : عالم ، فاضل ، ماهر ، فقيه ، صنّف «الوافية» في أُصول الفقه فرغ منها عام ١٠٥٩ ه‍ ، وقد طبعت وانتشرت وله حاشية على معالم الأُصول.

١٦. حسين الخوانساري (المتوفّى ١٠٩٨ ه‍)

هو المحقّق الجليل السيد حسين بن محمد الخوانساري مؤلّف كتاب «مشارق الشموس في شرح الدروس» وكتابه هذا يشتمل على أغلب القواعد الأُصولية والضوابط الاجتهادية ، طرح فيه أفكاراً أُصولية بلون فلسفي.

١٧. محمد الشيرواني (المتوفّى ١٠٩٨ ه‍)

هو محمد بن الحسن الشيرواني.

له تعاليق على «المعالم» ومصنّفات جمة ، مثل حاشية على «شرح المطالع»

٢٤

وأُخرى على «شرح المختصر» للعضدي.

١٨. جمال الدين الخوانساري (المتوفّى عام ١١٢١ ه‍ أو ١١٢٥)

هو المحقق الكبير جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري ، له تعليقة على شرح مختصر الأُصول للعضدي كما هو مذكور في ترجمته.

وهذه الكتب المؤلفة في فترة انقضاض الحركة الأخبارية على المدرسة الأُصولية مهّدت لظهور حركة أُصولية جديدة تبنّاها المحقّق الوحيد البهبهاني (١١١٨ ١٢٠٦ ه‍) الذي فتح بأفكاره آفاقاً جديدة في علم الأُصول.

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى التي طواها علم الأُصول وحان استعراض المرحلة الثانية التي هي مرحلة الإبداع والابتكار.

المرحلة الثانية مرحلة الإبداع والابتكار

ابتدأت هذه المرحلة من عصر المحقّق البهبهاني وامتدت إلى يومنا هذا ، مع ما لها من أدوار مختلفة ، وإليك بيانها :

١٩. المحقق البهبهاني (١١١٨ ١٢٠٦ ه‍)

كان للأُستاذ الأكبر الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني دور فعال في إخماد نائرة الفتنة ، بالرد القاطع على الأخباريين ، وتزييف أفكارهم ، وتربية جيل من العلماء والمفكّرين على أُسس مستقاة من الكتاب والسنّة والعقل الصريح ، واتّفاق الأصحاب ، واستطاع أن يشيِّدَ للأُصولِ أركاناً جديدةً ، ودعامات رصينة ، فنهض بالأُصول من خموله الذي دام قرنين ، مذعناً بانتهاء عصر الركود وابتداء عصر التطور والابتكار.

٢٥

وبلغت تصانيفه ١٠٣ ما بين رسائل مختصرة وكتب مفصّلة ، منها : الرسائل الأُصولية ، إبطال القياس ؛ إثبات التحسين والتقبيح العقليين ؛ الاجتهاد والتقليد ، والفوائد الحائرية ، وغيرها.

وبذر البذرة الأُولى لهذه المرحلة التي تلقّفها العلماء بعده بالرعاية حتى أينعت وأثمرت ثمارها على أيدي أساطين من العلماء في غضون الأدوار : وبها امتازت هذه المرحلة عمّا سبقها من المرحلة الأُولى :

الدور الأوّل : (دور الانفتاح)

ابتدأ هذا الدور بنخبة من تلامذة الوحيد البهبهاني وفي طليعتهم :

٢٠. جعفر كاشف الغطاء (١١٥٦ ١٢٢٨ ه‍)

هو الشيخ الأكبر جعفر بن خضر بن يحيى النجفي المعروف بكاشف الغطاء ، تلمّذ عند : الشيخ محمد مهدي الفتوني ، والمحقّق البهبهاني.

قال عنه شيخنا الطهراني : وهو من الشخصيات العلمية النادرة المثيل ، وانّ القلم لقاصر عن وصفه وتحديد مكانته وإن بلغ الغاية في التحليل ، وفي شهرته وسطوع فضله غنى عن إطراء الواصفين.

ومن جملة تصانيفه «كشف الغطاء» ، و «غاية المأمول في علم الأُصول». (١)

٢١. أبو القاسم القمي (١١٥١ ١٢٣١ ه‍)

هو أبو القاسم محمد حسن الجيلاني القمي ، تلمّذ عند : المحقّق البهبهاني ، والشيخ محمد مهدي الفتوني ، ومحمد باقر الهزار جريبي.

__________________

(١) الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة : ٢٤٨ / ١ برقم ٥٠٦.

٢٦

حطّ الرحال في قم ، وعكف فيها على التدريس والتصنيف حتى أصبح من كبار المحقّقين وأعاظم الفقهاء المتبحّرين ، واشتهر أمره وطار صيته ولقب بالمحقّق القمي.

من تصانيفه الأُصولية «القوانين».

٢٢. السيد علي الطباطبائي (١٢٣١١١٦١ ه‍)

هو السيد علي بن محمد بن علي الطباطبائي ، يعرفه الرجالي الحائري بقوله : ثقة ، عالم ، جليل القدر ، وحيد العصر ، ومن تآليفه في الأُصول : «رسالة في الإجماع والاستصحاب» ، وتعليقة على معالم الدين ، وتعليقة على مبادئ الوصول إلى علم الأُصول. (١)

الدور الثاني : (دور النضوج)

ابتدأ هذا الدور بتلاميذ خرّيجي مدرسة البهبهاني ، فقاموا بوضع صياغة جديدة للأُسس الأُصولية من منظار جديد وعلى رأسهم :

٢٣. محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني (المتوفّى ١٢٤٨ ه‍)

هو محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني عالم جليل ، محقّق ، له : «شرح الوافية» ، و «شرح طهارة الوافي» من تقرير أُستاذه بحر العلوم ، و «حاشية على المعالم».(٢)

٢٤. شريف العلماء (المتوفّى ١٢٤٥ ه‍)

هو الشيخ الجليل محمد شريف الآملي المازندراني المعروف بشريف العلماء ،

__________________

(١) راجع ترجمته في مقدّمة كتاب «رياض المسائل» الذي طبع عام ١٤١٢ ه‍.

(٢) أعيان الشيعة : ١٩٨ / ٩.

٢٧

وكفى به فخراً انّ الشيخ مرتضى الأنصاري ذلك النجم اللامع في سماء الأُصول ، ممّن استسقى من فيّاض علمه ، وقد بقيت من آثاره العلمية رسالة «جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء الشرط».

٢٥. محمد حسين بن عبد الرحيم الاصفهاني (المتوفّى ١٢٦١ ه‍)

الفقيه الأُصولي الشهير ، أخذ عن أخيه الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين ، وعن الشيخ علي بن الشيخ جعفر ، قطن كربلاء فرحل إليه الطلاب.

له مؤلفات في الأُصول ، منها : «الفصول» وهو من كتب القراءة في هذا الفن ، أورد فيه مطالب القوانين وحلّها واعترض عليها ، وهو مشهور. (١)

الدور الثالث : (دور التكامل)

بلغ فيه علم الأُصول الذروةَ في التحقيق والتعميق والبحث وتطرّقت إليه مسائل جديدة لم تكن مألوفة فيما سبق ، ويُعتبر الشيخ مرتضى الأنصاري هو البطل المِقْدام في هذا الحقل حيث استطاع بعقليّته الفذّة أن يشيّد أركاناً جديدة لعلم الأُصول بلغ بها قمةَ التطور والتكامل.

وأنت إذا قارنت المؤلفات الأُصولية في هذه البرهة مع ما ألّف في المرحلة الأُولى وحتى مستهلّ المرحلة الثانية تجد بينهما بوناً شاسعاً يُتراءى في بادئ النظر كعلمين ، وما هذا إلّا بفضل التطور والتكامل الذي طرأ على بِنْية الأُصول بيد هذا العبقري الفذّ ولم يزل ينبوعه فيّاضاً إلى يومنا هذا.

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٢٣٣ / ٩.

٢٨

٢٦. مرتضى الأنصاري (١٢١٤ ١٢٨١ ه‍)

هو مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري ، مؤسس النهضة الأُصولية المعاصرة ، قرأ أوائل عمره على عمّه الشيخ حسين من وجوه علماء دزفول ، ثمّ مكث في كربلاء وتلمّذ عند السيد محمد المجاهد وشريف العلماء ، ثمّ عزم على الطواف في البلاد للقاء علمائها ، فخرج إلى خراسان مارّاً بكاشان حيث فاز بلقاء النراقي صاحب المناهج وتلمذ عنده نحو ثلاث سنين ، ثمّ إلى أصفهان ، ثمّ إلى دزفول ، ومنها إلى النجف ، فحط الرحال فيها ، وقد انتهت الرئاسة العلمية فيها آنذاك إلى الشيخ علي بن الشيخ جعفر وصاحب الجواهر ، فتلمذ عندهما إلى أن انتهت إليه الرئاسة الإمامية العامة بعد وفاتهما ، وكان مجلس درسه يغص بالفقهاء ، وقد تخرّج به أكثر الفحول من بعده ، مثل : الميرزا الشيرازي ، والميرزا الرشتي ، والسيد حسين الكوهكمري ، والمامقاني ، والخراساني. وقد ذاع صيته وانتشرت آثاره في الآفاق.

أمّا مصنّفاته الأُصولية فيعد كتابه «فرائد الأُصول» من أهم الكتب الأُصولية التي عوّل عليها قاطبة الأُصوليين من الإمامية في كلّ زمان ومكان ، وهذا الكتاب يضم في طياته خمس رسائل أُصولية هي :

١. أحكام القطع.

٢. رسالة حجّية الظنّ.

٣. أصل البراءة والاشتغال.

٤. الاستصحاب.

٥. التعادل والترجيح.

وقد طبعت مراراً ، وعلق عليها مشاهير العلماء بعده ، أخص منهم بالذكر :

٢٩

موسى التبريزي ، والشيخ حسناً الآشتياني ، والشيخ محمد حسن المامقاني ، والشيخ محمد كاظم الخراساني ، والشيخ محمد رضا الهمداني. (١)

إنّ عصر الشيخ الأنصاري كوّن منعطفاً رائعاً في تاريخ علم الأُصول ، وقد تخرّج في مدرسته مئات المحقّقين ، وأُلّفت عشرات الكتب في الأُصول التي تحمل في طياتها الفكر الأُصولي الذي صاغه الأنصاري ، وهذه الكتب بين تأليف مستقل أو تعليقة أو تحشية على فرائد الشيخ الأنصاري ، أو على كفاية الأُصول لتلميذه المحقّق الخراساني ، أو بين تقرير يمليه الأُستاذ ويكتبه التلميذ أثناء الدرس أو خارجه.

وبما انّ الإفاضة في هذا المجال على ما هو حقّه تورث الإطناب ، فلنقتصر على سرد أسماء المشاهير من الأُصوليين في هذا العصر اعتماداً على ما فصلنا ترجمتهم وترجمة تلاميذهم إلى نهاية القرن الرابع عشر في آخر موسوعة طبقات الفقهاء.

وخرج من مدرسته العديد من الفطاحل والعباقرة ، وأخص بالذكر منهم :

٢٧. السيد المجدّد الشيرازي (١٢٢٤ ١٣١٢ ه‍)

هو السيد محمد حسن بن محمود بن إسماعيل الحسيني الشيرازي ، كان فقيهاً ، عالماً ، ماهراً ، محقّقاً ، مدقّقاً ، ورعاً ، تقياً ، انتهت إليه رئاسة الإمامية العامة في عصره ، وطار صيته واشتهر ذكره ووصلت رسائله التقليدية وفتاواه إلى جميع الأصقاع.

من مؤلّفاته الأُصولية : رسالة في اجتماع الأمر والنهي ، وتلخيص إفادات

__________________

(١) أعيان الشيعة : ١١٧ / ١٠ ١١٨.

٣٠

أُستاذه الأنصاري ، ورسالة في المشتق. (١)

٢٨. محمد كاظم الخراساني (١٢٥٥ ١٣٢٩ ه‍)

هو المحقّق الكبير الشيخ محمّد كاظم الخراساني الهروي ، مؤلّف كتاب «كفاية الأُصول» ويُعدّ كتابه هذا محور البحوث الأُصولية في الحوزات العلمية إلى يومنا هذا.

وقد تخرّج على يديه ، نخبة من رجال الفكر والعلماء البارعين في علم الأُصول.

٢٩. الميرزا حسين النائيني (١٣٥٥١٢٧٤ ه‍)

المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني له محاضرات قيّمة في الأُصول وقد دوّن آراءه تلميذه البارع الشيخ محمد علي الكاظمي (١٣٠٩ ١٣٦٥ ه‍) وقد نشرت باسم «فوائد الأُصول» ، كما دوّن تلك الآراء أيضاً تلميذه الآخر المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي ونشرت باسم «أجود التقريرات».

٣٠. عبد الكريم الحائري (١٢٧٤ ١٣٥٥ ه‍)

هو الشيخ الكبير عبد الكريم بن محمد جعفر الحائري اليزدي مؤسس الحوزة العلمية في قم المحمية ، وشيخنا هذا ضمّ إلى عمله وفقهه الجمّ حصافة في العقل ودراية في الحياة ، مؤلّف كتاب «درر الفوائد» وكان محوراً لمحاضراته التي كان يلقيها على طلاب الحوزة العلمية ، وتخرج على يديه نخبة من الفطاحل وجيل من الأعاظم لو قام باحث بتدوين أسمائهم وسيرتهم لخرج بكتاب مفرد كبير.

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٣٠٤ / ٥.

٣١

٣١. ضياء الدين العراقي (١٣٦١١٢٧٨ ه‍)

الأُستاذ الكبير الشيخ ضياء الدين العراقي صاحب كتاب «المقالات في علم الأُصول» وقد دون أفكاره العلّامة الحجّة الشيخ محمد تقي البروجردي ونشرها تحت عنوان «نهاية الأفكار» طبعت في ثلاثة أجزاء ، والعالم البارع الشيخ هاشم الآملي (١٤١٢١٣٢٢ ه‍) في كتاب «بدائع الأفكار».

٣٢. محمد حسين الاصفهاني (١٣٦١١٢٩٦ ه‍)

المحقّق الكبير الشيخ محمّد حسين الأصفهاني من أعاظم تلاميذ المحقّق الخراساني ، وقد تخرّج عليه طليعة من العلماء ، منهم : المحقّق العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي (١٤٠١١٣٢١ ه‍) والسيد المحقّق محمد هادي الميلاني (١٣٩٥١٣١٣ ه‍) ومن مصنفاته كتاب «نهاية الدراية في التعليقة على الكفاية» طبعت في أجزاء ثلاثة.

٣٣. السيّد محمد الحجّة الكوهكمري (١٣٠١ ١٣٧٢ ه‍)

أُستاذنا الكبير والفقيه البارع السيد محمّد الحجّة الكوهكمري تخرج على أعلام عصره في النجف الأشرف كالسيد الطباطبائي اليزدي وشيخ الشريعة الاصفهاني والمحقّق النائيني. لعب دوراً كبيراً في تنشيط حوزتي النجف وقم وتخرّج على يده العديد من الفقهاء والمجتهدين. ودوّن غير واحد من تلاميذه آراءه وأفكاره وأخصّ بالذكر سماحة آية الله الحاج علي الصافي الكلبايكاني فقد نشر ما تلقى عنه تحت عنوان «المحجة في تقريرات الحجّة».

٣٢

٣٤. السيد حسين البروجردي (١٣٩٢ ١٣٨٠ ه‍)

هو السيد حسين البروجردي الطباطبائي سيد مشايخنا العظام تخرج على أعلام عصره في النجف الأشرف وتردد كثيراً إلى أندية دروس المحقّق الخراساني ونال منه إجازة الاجتهاد (عام ١٣٢٨ ه‍) ، وللسيّد البروجردي دور كبير في تنقيح مباني الاجتهاد وأُصول الفقه والرجال ، وقد حضرنا درسه سنين طوالاً وكتبنا شيئاً من تقريراته وله تعليقة على كفاية الأُصول في جزءين لم تر النور.

٣٥. السيّد روح الله الموسوي الخميني (١٣٢٠ ١٤٠٩ ه‍)

المجاهد الكبير قائد الثورة الإسلامية المباركة والذاب عن حياض الإسلام بقلمه ولسانه وما أُوتي من حول وقوة السيّد روح الله بن السيد مصطفى الخميني فقد ربى جيلاً كبيراً في الجامعة الإسلامية ودرّس الأُصول دورة بعد دورة. وقد برز بقلمه الشريف «مناهج الوصول إلى علم الأُصول» في المباحث اللفظية ، و «الرسائل» في المباحث العقلية ، إلى غير ذلك وقد قمنا بتدوين محاضراته الأُصولية ونشرناها تحت عنوان «تهذيب الأُصول» عام ١٣٧٥ ١٣٨٣. وله على الإسلام والمسلمين أياد بيضاء تشكر.

٣٦. السيد أبو القاسم الخوئي (١٣١٧ ١٤١١ ه‍)

هو السيّد أبو القاسم بن السيد علي أكبر الخوئي أحد المراجع العظام وزعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف. تخرج على يديه جيل كبير من الفضلاء والمحقّقين ، وقد ألقى محاضرات في الأُصول سنين عديدة حتى تجاوزت دوراته عن الخمس. ودوّنت آراؤه عن طريق تلامذته وانتشرت بعنوانات مختلفة ، وقد تألّق نجمه في علم الأُصول منذ شبابه إلى أوان رحيله.

٣٣

هذه إلماعة عابرة إلى تاريخ أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية وقد اقتصرنا في ذلك على أعلام العصر في كلّ قرن ، ولو قمنا بترجمة كلّ من له دور في تنشيط هذا العلم لأحوج الأمر إلى تأليف مفرد.

وفي الختام أرفع أسمى آيات الاعتذار إلى المشايخ الّذين لعبوا دوراً فعالاً في تصعيد نشاط الحركة الأُصولية ولم أُوفق لذكر أسمائهم وتقدير جهودهم والعذر عند كرام الناس مقبول.

* * *

ثمّ إنّ كتابنا هذا يشتمل على مقدمة ومقاصد ، والمقدّمة على أُمور ، وإليك الخوض فيها واحداً تلو الآخر :

٣٤

٣٥
٣٦

الأمر الأوّل

في تعريف علم الأُصول وبيان موضوعه

ومسائله وغايته

قد جرى ديدن العلماء في مقدّمة الكتاب على التعرض لأُمور أربعة :

١. تعريف العلم ، ٢. بيان موضوعه ، ٣. الإلماع إلى مسائله ، ٤. والإشارة إلى غايته.

أمّا الأوّل : فقد عُرّف علم الأُصول بتعاريف أدقّها هي : «القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع كبرى لاستنباط الأحكام الكلية الفرعية الإلهية ، أو الوظيفة العملية».

والمراد ب «القواعد الآلية» هو ما ينظر بها إلى الحكم الشرعي وتكون ذريعة إلى استنباطه ؛ فخرجت القواعد الفقهية ، فانّها تتضمن نفس الحكم الشرعي ، ولا ينظر بها إلى حكم شرعي آخر بل هي ممّا ينظر فيها. (١)

كما أنّه دخل بقولنا : «يمكن» الظنون غير المعتبرة كالقياس والاستحسان

__________________

(١) والأوّل كقولنا : خبر الواحد حجّة ، فيقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي بخبر زرارة على وجوب شيء أو حرمته.

والثاني كقولنا : كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر وهو يتضمن نفس الحكم الشرعي وسيوافيك التفصيل في الأمر الثاني.

٣٧

والظن الانسدادي ، فإنّ الجميع قواعد أُصولية تصلح لأن تقع في طريق الاستنباط ، لكن أحجم الشارع عن إعمالها.

وخرج بقولنا : «تقع كبرى» مسائلُ سائر العلوم التي ليس لها هذا الشأن.

كما دخل بقولنا : «الوظيفة العملية» ما إذا انتهى المجتهد إلى استنباط الوظيفة الفعلية ، لا استنباط الحكم الشرعي ، كما هو الحال في حكم العقل بالبراءة عند الشك في أصل التكليف ، وحكمه بالاحتياط عند العلم بالتكليف والشك في المكلّف به فكلا الحكمين ، أعني : البراءة والاحتياط في الموردين وظيفة عملية لدى الشك ، لا حكم شرعيّ.

بقي في المقام علم اللغة الذي ربما يقع في طريق الاستنباط كالعلم بمعنى «الصعيد و «المفازة» و «الوطن» ، فربما يقال : إنّه يخرج بقيد الآليّة ، فإنّه ليس آلة للاستنباط وإن كان ربما يترتب عليه فانّ الغاية من علم اللغة أوسع من ذلك بكثير.

ويمكن أن يقال بعدم دخوله في التعريف حتّى يحتاج إلى الخروج إذ ليس في علم اللغة «قواعد» كلّية بل هو علم كافل لبيان معاني المفردات ، ولا يوصف مثل ذلك بالقواعد.

وبما انّ مضامين سائر القيود المأخوذة في التعريف واضحة نترك البحث فيها روماً للاختصار.

وأمّا الثّاني : فقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في بيان موضوع ذلك العلم ، والنظر الحاسم عندنا هو انّ موضوعه : «الحجّة في الفقه».

فنقول إيضاحاً : قد اشتهر بينهم انّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية.

فالشيء الذي يبحث في العلم عن خصائصه وآثاره المطلوبة منه ، هو

٣٨

الموضوع ، والخصائص والآثار المترتبة على ذلك الشيء هي العوارض وإليك بعض الأمثلة :

١. انّ موضوع علم الطب هو البدن ، والخصائص والآثار المطلوبة منه هي عوارضه من الصحة والمرض.

٢. انّ موضوع علم النحو هو الكلمة والكلام ، والآثار المترتبة عليه من الرفع والنصب والجر هي العوارض المترتبة عليها.

٣. انّ موضوع العلم الطبيعي هو الجسم والآثار المترتبة عليه ، أعني : الحركة والسكون ، والحرارة والبرودة وغيرهما هي العوارض الطارئة عليه. إلى غير ذلك من العلوم.

وعلى ضوء ذلك فعلم الأُصول كسائر العلوم له موضوع ، وموضوعه هو الحجّة في الفقه ، ويمكن استكشاف ذلك (كون موضوعه هو الحجّة في الفقه) من امعان النظر في الغرض المطلوب من ذلك العلم ، فانّ الغاية القصوى للفقيه هو معرفة الحجج الشرعية أو العقلية سواء أكانت حجّة شرعية للحكم الشرعي أم حجّة للوظيفة العملية كما في مورد الأُصول فيصبح موضوع ذلك العلم هو الحجّة في الفقه.

وأمّا عوارضه أي الخصائص والآثار المترتبة عليه فهي عبارة عن البحث عن تفاصيلها وحدودها وخصوصياتها ، حيث إنّ الفقيه يعلم بوجود حجّة بينه وبين ربّه لكن لا يعلم بخصوصياتها على وجه التفصيل فيبحث عن تشخّص «الحجّة في الفقه» بخبر الواحد أو بالشهرة أو بالإجماع أو بالسيرة أو بالأُصول العملية ، فتعيناتها وخصوصياتها هي عوارضها ، والبحث فيها يتكفله علم الأُصول.

وبالجملة العلم بالحجّة الإجمالية بيننا وبين ربّنا لا يُسمن ولا يغني من جوع

٣٩

ما لم تُعلم حدودها وتعيّناتها ، فالعلم الذي يقوم بهذه المهمّة هو علم الأُصول حيث يُحدِّد ويعيِّن حدودَ ذلك الموضوع وخصوصياته وتعيّناته بإحدى الحجج ، كما أنّه ربما ينفي تعيّنها وتحددها بأُمور أُخرى كالقياس والاستحسان.

فتلخص من ذلك انّ الموضوع هو «الحجّة في الفقه» بوجه مطلق غير متعيّن الحدود والخصوصيات ، وأمّا العوارض فهي ما يُخرج الموضوع عن الإطلاق ويحدده ويقيده بإحدى الخصوصيات.

وأنت إذا تفحّصت المسائل الأُصولية تقف على أنّ روح البحث في جميعها يرجع إلى تعيين الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية ، وما من مسألة من المسائل الأُصولية إلّا ويحتج بها على أحد الأمرين بنحو من الاحتجاج.

وأمّا الثالث أعني مسائله فقد تبين ممّا ذكرنا ، فإنّها عبارة عن المحمولات (العوارض) التي تعرض للموضوع أي الحجّة في الفقه على وجه الإطلاق ، فالخصوصيات المحمولة على الموضوع من كونها خبر الواحد أو الاستصحاب أو غير ذلك هي مسائل ذلك العلم. (١)

وإن شئت قلت : انّ الحجّة في الفقه بوصف الإطلاق هي الموضوع ، وتعيناتها وتشخصاتها بإحدى الخصوصيات هي المسألة.

وأمّا الرابع أعني غايته فقد تبين ممّا ذكرنا فانّ غاية ذلك العلم هي تحصيل ملكة استنباط الحجج على الأحكام أو الوظيفة العمليّة.

__________________

(١) فانّ الحق انّ المسائل عبارة عن نفس المحمولات المنتسبة إلى موضوعاتها في مقابل من يقول بانّها عبارة عن المركب من الموضوع والمحمول والنسبة. والتفصيل موكول إلى محلّه.

٤٠