الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل العاشر

دوران الأمر بين التّخصيص والنسخ

إذا ورد عام وخاص ، وتردّد الخاص بين كونه مخصِّصاً أو ناسخاً أو منسوخاً ، فللمسألة صور :

١. إذا ورد العام والخاص متقارنين.

٢. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

٣. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

٤. إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل بالخاص.

٥. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص.

٦. إذا جهل ورود الخاص ، وأنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟

وإليك تفاصيلها :

١. إذا ورد العام والخاص متقارنين فلا شكّ في أنّ الخاص مخصِّص لا ناسخ ، لأنّ النسخ إنّما يتصوّر بعد حضور وقت العمل بالعام ، وورود الخاص حينه أو بعده والمفروض أنّهما وردا معاً.

٢. إذا ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام ، كما إذا قال المولى يوم الأربعاء : أكرم العلماء يوم الجمعة ، وقال يوم الخميس : لا تكرم فساقهم في ذلك

٢٢١

اليوم ، فهو مخصص لوروده قبل حضور وقت العمل بالعام.

٣. إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما إذا ورد العام في الكتاب أو على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وورد الخاص على لسان الأئمّة (عليهم‌السلام) فمثلاً قال سبحانه : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ). (١)

ومقتضى الآية أنّهنّ يرثْنَ من جميع ما تركه الزوج حتى العقار ، ولكن ورد عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) قوله : «لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً». (٢)

فمقتضى القاعدة هو كون الخاص ناسخاً ، لأنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالعام أزيد من قرن ولكنّه يشكل من وجهين :

الأوّل : إجماع الأُمّة على أنّ النسخ مختص بعصر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأنّ ما لم يُنسخ فهو باق مستمرّ إلى يوم القيامة ، وهذا هو الوجه في عدم كونه ناسخاً.

الثاني : انّه اشتهر «انّه ما من عام إلّا وقد خُصّ» فجعل المخصصات الكثيرة في لسان أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ناسخة يستلزم نسخ أكثر الأحكام ولو في بعض مدلولها.

سؤال : إذا قلنا بأنّ الخاص المتأخر مخصِّص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فقد كانت الآية الشريفة (آية الميراث) رائدة الأُمة أزيد من قرن مع أنّ المقصود الجدي كان على خلافه.

الجواب : انّ المصلحة أوجبت بيان الأحكام تدريجاً ، فالأحكام كلّها كانت مشروعة في عصر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نازلة عليه ، غير أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بَيّن ما بَيّن وأودع ما لم يُبيّن

__________________

(١) النساء : ١٢.

(٢) الوسائل : ١٧ ، الباب ٦ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ٧.

٢٢٢

إمّا لعدم وجود الفرصة السانحة للبيان أو لوجود المصلحة في تأخيره عند أوصيائه والأئمّة المعصومين (عليهم‌السلام) بعده ، وليس تأخير البيان أمراً قبيحاً بالذات حتى لا يغيّر حكمه وإنّما هو بالنسبة إلى القبح ، كالمقتضي ، نظير الكذب ، فلو كان هناك مصلحة غالبة كنجاة المؤمن كان أمراً حسناً.

هذا هو الحقّ الذي يدركه من سبر سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمجتمع الإسلامي.

فأقصى ما في تأخير البيان وقوع المكلّف في المشقة أو تفويت المصلحة ، وكلّها هيّنة إذا اقتضت المصلحة الكبرى تأخير البيان.

٤. إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل بالخاص.

كما إذا قال في أوّل شهر شعبان : لا تكرم العالم الفاسق في شهر رمضان ، ثمّ قال في اليوم الثامن والعشرين من شهر شعبان : أكرم العلماء في شهر رمضان ، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصّصاً للعام المتأخر ، ولا وجه للنسخ ، أي كون العام المتأخر ناسخاً للخاص المتقدّم لما عرفت من عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ (الخاص).

أضف إلى ذلك أنّه يلزم لغوية حكم الخاص في المقام ، وهو لا يصدر من الحكيم العالم بعواقب الأُمور.

٥. إذا ورد العام كذلك لكن بعد حضور وقت العمل بالخاص ، كما إذا ورد قوله : أكرم العلماء في أثناء شهر رمضان ، فمقتضى القاعدة كون العام المتأخّر ناسخاً للخاص المتقدّم لورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، ولا يلزم منه اللغوية لفرض العمل به مدّة نصف شهر.

إلّا أنّه يمكن أن يقال إنّ قلّة النسخ وكثرة التخصيص يجرّنا إلى القول بأنّه من قبيل التخصيص.

٢٢٣

ثمّ الثمرة بين القولين واضحة ، إذ على القول بكون العام ناسخاً يكرم العالم الفاسق في باقي شهر رمضان ، وعلى القول الآخر لا يكرم في النصف الآخر كالنصف الأوّل.

٦. إذا جُهل ورود الخاص ، وأنّه هل ورد قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعد حضوره؟

الظاهر عدم ترتّب ثمرة على القولين ، لأنّه على كلا التقديرين يعمل بالخاص في المستقبل سواء أكان ناسخاً أم مخصصاً.

وأكثر ما ذكرناه فروض علمية ليس بأيدينا من الأدلّة ما يصلح للتمثيل بها ، ولذلك تركنا ذكر بعض الصور الأُخرى.

٢٢٤

خاتمة المطاف

الخطابات الشفاهية

هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين في مجلس التخاطب ، أو تعمّ غيرهم من الغائبين والمعدومين؟ فمثلاً قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١). هل يختص الخطاب فيه بالحاضرين في مجلس التخاطب ، أو يعم الغائبين والمعدومين أيضاً؟

إنّ محلّ النزاع يمكن أن يكون إحدى الجهات التالية :

الجهة الأُولى : هل يصحّ تعلّق التكليف بالمعدومين كتعلّقه بالموجودين سواء كان التكليف وارداً عن طريق الخطاب أو لا؟

الجهة الثانية : هل تصحّ مخاطبة المعدوم أو الغائب عن محل الخطاب بالألفاظ الموضوعة له ، أو بنفس توجيه الكلام إليه أو لا؟

الجهة الثالثة : هل الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب تعمّ المعدوم والغائب أو لا؟

والبحث على الأُوليين عقلي ، وعلى الثالثة لغويّ ، فلنأخذ كلّ واحدة بالبحث.

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٢٢٥

الجهة الأُولى : في صحّة تكليف المعدوم

لا شكّ أنّ المعدوم من حيث إنّه معدوم لا يصحّ تكليفه بتوجيه البعث والزجر الفعليين إليه ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

نعم يمكن إنشاء التكليف على العنوان (لا على الأفراد) الشامل للموجود والغائب والمعدوم إنشاءً بلا بعث ولا زجر فعليّ ليُصبح فعلياً بعد ما وجدت الشرائط وفقدت الموانع بلا حاجة إلى إنشاء جديد.

وعلى هذا فلا مانع من صحّة تكليف المعدوم وشمول التكاليف القرآنية لعامة المكلّفين عَبْرَ القرون.

الجهة الثانية : إمكان خطاب المعدوم

لا شكّ انّه لا يصحّ خطاب المعدوم خطاباً حقيقيّاً لغاية التفهيم والتفهم ، ولكن يمكن تصحيح خطاب المعدوم على النحو الذي مرّ في صحّة تكليف المعدوم ، وذلك بتعلّق الخطاب انشاءً بالعنوان لا بالأفراد ، ففي قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١) تعلّق الخطاب بعنوان الناس وله مصاديق كثيرة عبر الزمان ، فمن كان واجداً للشرائط عند الخطاب يكون الخطاب في حقّه فعليّاً ، ومن كان فاقداً لها يكون الخطاب في حقّه إنشائيّاً ، وسيُصبح فعلياً عند توفّر الشرائط.

وعلى ذلك فلا مانع من شمول الخطابات القرآنية لعامة المكلّفين على النحو الذي حرّرناه.

__________________

(١) البقرة : ٢١.

٢٢٦

الجهة الثالثة : عمومية الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب

وهذا البحث لغوي ، ولكنّه متفرع على كون الخطاب حقيقياً أو إنشائياً.

فعلى الأوّل يختص بالموجودين ، وعلى الثاني يعمّ الموجودين والمعدومين ، وعلى ذلك فقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (١) يعم الموجودين والمعدومين على النحو الذي بيّناه.

ثمرة البحث

تظهر ثمرة البحث في صحّة التمسّك بإطلاقات الكتاب ، فلو شككنا في شرطية شيء أو جزئيته ، فعلى القول باختصاص الخطاب بالحاضرين المشافهين لا يصح لغير المشافه التمسّك بالإطلاق الوارد في الخطاب ، لأنّه أجنبي عنه ، فلا يمكن له الاحتجاج على المولى بإطلاق الخطاب وعدم تقيّده بالجزء والشرط ، وهذا بخلاف ما إذا كان الخطاب عامّاً للمشافه ، وغير المشافه فهما سيّان في مقام التخاطب ، فكما يصحّ للمشافه الاحتجاج بالإطلاق كذلك يصحّ لغيره أيضاً.

تمّ الكلام في المقصد الرابع

والحمد لله

__________________

(١) النساء ١.

٢٢٧
٢٢٨

المقصد الخامس

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في تحديد المطلق والمقيّد

الفصل الثاني : المطلق عقيب التقييد ، حقيقة

الفصل الثالث : في مقومات الإطلاق أو مقدّمات الحكمة

الفصل الرابع : في حمل المطلق على المقيّد

الفصل الخامس : في المجمل والمبين

٢٢٩
٢٣٠

الفصل الأوّل

في تحديد المطلق والمقيّد

قد عُرّف المطلق في ألسنة القدماء من الأُصوليين بانّه : ما دلّ على شائع في جنسه ؛ والمقيّد بخلافه.

والمراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ.

كما انّ المراد من قولهم : «على شائع» هو الفرد الشائع ، المتوفَّر وجودُه من ذلك الجنس ، فخرج العام الاستغراقي والمجموعي حيث إنّ العام يدلّ على جميع الأفراد بنحو العموم والشمول ، كما خرجت الأعلام فانّها لا تدلّ إلّا على الفرد المعيّن.

يلاحظ على التعريف : بانّه ربما يكون مدلول المطلق ، الماهيةَ المطلقة من دون أن تكون فيه رائحة الفرد فضلاً عن كونه متوفراً في جنسه كما في قوله سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (١). فليس التعريف جامعاً.

ولأجل ذلك عدل الشهيد الثاني إلى تعريفه بشكل آخر وقال : إنّه اللفظ الدالّ على الماهية من حيث هي لا بقيد وحدة ولا تعدد. (٢)

يلاحظ عليه : بانّه غير جامع أيضاً لخروج النكرة عن تعريفه إذ ليس مفادها الماهية بما هي هي كما في قوله : جئني برجل.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) زين الدين ، تمهيد القواعد : ٢٢٢.

٢٣١

واعتذر المحقّق الخراساني عن هذه الإشكالات بانّها تعاريف شرح الاسم وليست تعاريف حقيقية.

ويمكن أن يقال انّه لا مساس لهذه التعاريف بالمطلق في علم الأُصول لانّها مبنيّة على كون الإطلاق من المداليل اللفظية فعادوا يفسّرونه بما عرفت ؛ ولكن الحقّ انّ الإطلاق من المداليل العقلية وذلك لوجود الفرق بين العام والمطلق ، فانّ العام مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بموضوع ، على أقسام ثلاثة. فتارة يدلّ لفظه على الشمول على نحو الاستغراق ، وأُخرى على نحو العام المجموعي ، وثالثة على نحو العام البدلي ، كلّ ذلك استلهاماً من اللفظ الموضوع وإن لم يتعلّق به الحكم. وعلى ذلك فالعام بأقسامه الثلاثة من المداليل اللفظية.

وأمّا المطلق فيعتمد في استنباطه على كون المتكلّم حكيماً غير ناقض لغرضه ، إذ لو كان هناك قيد وكان المتكلّم في مقام البيان لجاء به ، وعلى ذلك يكون البحث عن الإطلاق في مباحث الألفاظ بحثاً استطراديّاً لكون مصبِّه هو اللفظ.

إذا عرفت ذلك فالأولى تعريف الإطلاق والتقييد بما يرجع إلى الحكم المتعلّق باللفظ ، ويقال : إذا كان ما وقع تحت دائرة الحكم ، تمامَ الموضوع للحكم بلا حيثية أُخرى فهو مطلق لكونه مرسلاً عن القيد في موضوعيته ، وإلّا فهو مقيد.

فإذا كان هذا هو معنى الإطلاق ، فالمقوم للإطلاق والتقييد هو كون الشيء تمامَ الموضوع للحكم وعدمه ، سواء أكان الموضوع ، دالّا على الماهية المطلقة ، أو على الفرد المتوفَّر وجوده من ذلك الجنس ، أو على الفرد المعين (العلم) إذا كان له أحوال وأوضاع ، كما هو الحال في البيت العتيق ومشاهد الحجّ كعرفات والمزدلفة والصفا والمروة حيث يصحّ التمسّك بإطلاق أدلّة هذه الموضوعات الشخصية.

وبذلك يتبين أنّ الإطلاق والتقييد أمران إضافيان حيث يمكن أن يكون

٢٣٢

الحكم مطلقاً من جانب ومقيّداً من جانب آخر ، كما إذا قال : أكرم إنساناً في المسجد ، فبما انّ الموضوع نفس الإنسان من دون تقييده بصنف فهو مطلق ، وبما انّ الإكرام مقيّد بكونه في المسجد فهو مقيد.

فإذا كان الميزان في الإطلاق والتقييد كون ما وقع تحت دائرة الحكم ، تمام الموضوع من دون فرق بين كونه دالاً على الطبيعة أو الفرد المنتشر أو العلم الشخصي فنحن في غنى عن البحث في مفاهيم «اسم الجنس» و «علمه» و «النكرة» إلى غير ذلك من المباحث التي تطرّق إليها الأُصوليون (١) في ذلك المقام لما عرفت من وجود الفرق بين العموم والإطلاق ، فالعموم مستفاد من اللفظ ، والإطلاق مستفاد بحكم العقل من خلال كون الشيء تمام الموضوع ، سواء أكان الموضوع هو اسم الجنس أو علمه أو النكرة أو العلم الشخصي.

ثمّ إنّ الكلام في اسم الجنس جرّ القوم إلى البحث عن الماهيات وأقسامها الثلاثة المعروفة من «لا بشرط» و «بشرط شيء» و «بشرط لا» ، لكنها بحوث فلسفية خارجة عن نطاق البحث الأُصولي ، والبحث فيها إنّما يوجب التطويل بلا داع.

وقد بسطنا الكلام فيها في محاضراتنا الأُصولية. (٢)

__________________

(١) كالمحقق الخراساني ومن جاء بعده وكان الجميع فيما حققوه عيالا لنجم الأئمة الرضي الاسترابادي في شرح الكافية فلاحظ.

(٢) المحصول في علم الأصول : ٢ / ٥٩٣ – ٦٠٠ وإرشاد العقول : ٢ / ٦٧٥.

٢٣٣

الفصل الثاني

المطلق عقيب التقييد ، حقيقة

عرّفوا المطلق بانّه موضوع للفرد الشائع في جنسه على وجه يكون الشيوع مأخوذاً في مفهومه ، وبذلك يترتّب عليه أمران :

١. انّ الإطلاق عندهم من أقسام الدلالة اللفظية ، ولا يحتاج في استفادة الإطلاق إلّا إلى عدم القرينة على التقييد كما هو الحال في عامة الدلالات اللفظية.

٢. انّ المطلق بعد التقييد يكون مجازاً ، لزوال الشيوع الذي هو مدلول لفظي للمطلق بعد التقييد.

واستقر رأي المشهور على هذا إلى عصر سلطان العلماء (١) وهو أوّل من خالفهم وذهب إلى انّ المطلق موضوع للماهية المبهمة من جميع الجهات إلّا ذاتها وذاتياتها ، وليس الشيوع والسريان جزءاً لمدلول المطلق ، بحيث يدلّ عليه بالدلالة اللفظية ، ويترتب على ذلك أمران على طرف النقيض من الأمرين السابقين أعني :

أ. كون المطلق عقيب التقييد حقيقة لعدم أخذ الشمول في معناه حتى

__________________

(١) هو الحسين بن رفيع الدين محمد بن محمود بن علي المرعشي الحسيني الآملي الأصل ، الأصفهاني المنشأ ، الوزير المعروف بسلطان العلماء وبخليفة السلطان أحد أعيان الإمامية في القرن الحادي عشر ، ولد عام ١٠٠١ وتوفي عام ١٠٦٤ وله مؤلفات كثيرة لاحظ طبقات الفقهاء : ٩٤ / ١١ ٩٦ برقم ٣٣٧١.

٢٣٤

يستعمل في غير موضوعه.

ب. انّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية تعتمد على فعل المتكلّم الحكيم إذ لو كان هناك قيد لما تركه.

أقول : إنّ استعمال المطلق بعد التقييد حقيقة وإن قلنا بمذهب المشهور وأخذ الشمول والسريان في مدلوله ، لما عرفت في مبحث العام والخاص انّ المقام من قبيل تعدد الدالّ والمدلول وانّ كلّ لفظ مستعمل بالإرادة الاستعمالية في معناه ، فإذا قال القائل : اعتق رقبة مؤمنة ، فالرقبة استعملت في معناها الحقيقي الذي استبطن معنى الشمول والسريان حسب مسلكهم وتقييده بالمؤمنة لا يوجب استعمالها في غير الشمول أي الرقبة المؤمنة ، وقد عرفت تفصيل ذلك عند البحث في كون العام حقيقة بعد التخصيص. (١)

فإذا كان هذا حال التقييد المتصل فكيف الحال في التقييد المنفصل؟!

ويرد على مسلك سلطان العلماء أنّه وإن أصاب في نفي الشمول والسريان عن الإطلاق واكتفى بكون المطلق هو الماهية المبهمة من جميع الجهات إلّا ذاتها وذاتياتها ، لكنّك عرفت انّ دائرة المطلق أوسع ممّا ذكره ، بل ربّما يكون النكرة والعلم الشخصي موضع مصبّ الإطلاق.

فالأولى هو حذف البحث عن مفاد المطلق وانّه هل هو الماهية بشرط السريان والشمول أو الماهية المبهمة. والتركيز على واقع المطلق وهو أن يكون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحكم سواء أكان الموضوع ماهية ملحوظاً فيها الشمول والسريان أو ماهية مبهمة أو علماً.

__________________

(١) لاحظ : الفصل الثاني في المقصد الرابع أعني العام والخاص.

٢٣٥

الفصل الثالث

في مقومات الإطلاق

أو

مقدّمات الحكمة

قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ الدلالة الإطلاقية دلالة عقلية وليست دلالة لفظية ، وعلى ذلك لا يستقل العقل بكون ما وقع تحت دائرة الإطلاق تمام الموضوع إلّا إذا ثبتت مقدمات ثلاث :

المقدّمة الأُولى : كون المتكلّم في مقام البيان

توضيحها : انّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان تشريع حكم من الأحكام من دون نظر إلى خصوصيات موضوعه وشرائطه وعندئذ لا يعدّ الاخلال ببيان الشرائط مخلاً بالغرض ومنافياً للحكمة.

وهذا نظير ما إذا قال الطبيب للمريض الذي رآه في الشارع ورأى فيه انحراف الصحة : «يجب عليك أن تشرب الدواء» فهو بصدد بيان لبّ غرضه ، لا خصوصياته وجزئياته ، وأمّا ما هو ذاك الدواء وما خصوصياته؟ فهو موكول إلى وقت آخر ، ولا يتحقق ذلك إلّا باجراء الفحص والمعاينة وكتابة الوصفة ، وفي هذه الصورة لا يتمّ التمسّك بالإطلاق ، إذ لا يعدّ الترك مخالفاً للغرض.

٢٣٦

وعلى ذلك لا يصحّ التمسّك بإطلاق قوله : «الغنم حلال» على حلية الجلّال منه ، ولا المغصوب ، ولا الموطوء ، لانّ الدليل بصدد بيان حكم الطبيعة من حيث هي هي لا حكمها باعتبار عوارضها ، فعدم ذكرها في المقام لا يخلّ بالمقصود.

وقد يكون في مقام بيان الحكم مع ما لموضوعه من الخصوصيات ، فترك ذكر القيد عند ذاك آية كونه مطلقاً كما في قوله : لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع والسجود. (١) فعدم ذكر شيء وراء الخمسة ، آية عدم كونه مخلاً عند النسيان.

المقدّمة الثانية : انتفاء القرينة

القرينة إمّا متّصلة أو منفصلة ، فالمتصلة تمنع من انعقاد الإطلاق ، وفي الحقيقة يعد عدمها من مقوماته ومحققاته ، بخلاف القرينة المنفصلة فانّها لا تمنع عن انعقاد الإطلاق لأجل انفصالها ، وإنّما تمنع عن حجية الإطلاق ، وقد أوضحنا ذلك في المخصص المنفصل والمتّصل.

ثمّ إنّ عدم انصراف اللفظ إلى معنى خاص من شعب هذه المقدّمة فانّ الانصراف على قسمين بدويّ يزول بالتأمّل ، واستمراري لا يزول به.

أمّا الأوّل فلا يمنع عن انعقاد الإطلاق ولا عن حجّية ظهوره لافتراض زواله بالتأمّل.

وأمّا الثاني فبما انّ الانصراف بحكم القرينة المنفصلة فعدمها من مقدّمات حجّية الإطلاق ، كما إذا صار اللفظ لأجل كثرة استعماله في المعنى منصرفاً إليه كما

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

٢٣٧

في قوله (عليه‌السلام):» انّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسد».

فاللفظ (حرام أكله) وإن كان يشمل الإنسان لحرمة أكل لحمه لكنّه منصرف عند العرف إلى الحيوان غير الإنسان ، فمنصرف كلام الإمام هو تقسيم الحيوان العرفي إلى قسمين لا الحيوان بالمعنى اللغوي الذي يشمل كلّ ذي روح.

المقدّمة الثالثة : انتفاء قدر المتيقّن في مقام التخاطب

لو كان في الكلام قدر متيقّن في مقام التخاطب بحيث يصحّ للمتكلّم أن يعتمد عليه في عدم الإتيان بالقيد يكون مخلاً بحجّية الإطلاق أو انعقاده. (١)

نعم فرق بين وجوده في مقام التخاطب فيخلُّ ، وكونه في خارج مقام التخاطب فلا يخل ؛ وذلك لانّه لو كان القدر المتيقن بالمعنى الثاني مخلاً بالإطلاق لزم عدم صحّة التمسّك بالإطلاق في مورد من الموارد إذ ما من مورد يكون للكلام قدر متيقّن في خارج مقام التخاطب.

__________________

(١) الوسائل : الجزء ٤ ، الباب ١٠ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

(٢) الترديد لأجل كون القدر المتيقن هل هو كلانصراف – من قبيل القرينة المنفصلة فيمنع عن حجيّة الإطلاق ، أو القرينة المتصلة فيمنع عن انعقاده.

٢٣٨

الفصل الرابع

في حمل المطلق على المقيّد

انّ المهم في المقام تمييز الموارد التي يجب هناك حمل المطلق فيها على المقيد عما لا يجب.

فنقول : إذا ورد مطلق ومقيّد يكون بينهما تناف ، كما إذا قال : «إن ظاهرت فاعتق رقبة ، ثمّ قال : إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة». حيث إنّ الأوّل يدلّ على كفاية عتق مطلق الرقبة ، والثاني على لزوم كونها مؤمنة يقع الكلام في كيفية رفع التنافي بينهما لانّ الحكم الواحد لا يمكن أن يكون له موضوعان مختلفان من حيث السعة والضيق ، فالمطلوب الأكيد الذي لا يعدل عنه المولى عند حصول الظهار إمّا هو عتق مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة ، والمشهور بين العلماء هو رفع التنافي بحمل المطلق على المقيّد.

ومن هنا يعلم انّ الداعي إلى حمله عليه هو وجود التنافي بين الحكمين ، الذي هو وليد إحراز وحدة الحكم ، فيقال انّ الحكم الواحد لا بدّ له من موضوع واحد ، وهو يتحقّق بحمل المطلق على المقيّد.

فإذا كان المدار للحمل هو إحراز وحدة الحكم فنقول : إنّ للمسألة صوراً يختلف حكمه حسب اختلاف إحراز وحدة الحكم وعدمه ، وإليك بيان الصور :

الصورة الأُولى : إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين ، وكان السبب واحداً كما في المثال السابق ، فيحمل المطلق على المقيّد ، لانّ وحدة السبب كاشفة

٢٣٩

عن وحدة الحكم ، ولا يعقل لحكم واحد إلّا موضوع واحد.

فإن قلت : إنّ هناك طريقاً آخر وهو حمل المقيّد على أفضل الأفراد ، والتخيير في مقام الامتثال بين عتق المؤمنة والكافرة ، وإن كان الأفضل هو عتق المؤمنة.

قلت : إنّ الرائج في دائرة التقنين هو فصل المقيّدات عن المطلقات ، والمخصصات عن العمومات ، إمّا لأجل قصور العلم والعثور على لزوم التخصيص والتقييد بعد مضي زمن كما هو الحال في المجالس التقنينية البشرية ، أو قيام المصلحة على بيان الأحكام على وجه التدريج كما هو الحال في التشريعات السماوية ، فهذه قرينة تدعم كون حمل المطلق على المقيّد أرجح من حمل المقيد على أفضل الأفراد.

الصورة الثانية : إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين ، وكان السبب في كلّ منهما مغايراً للآخر ، كما إذا قال : إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وإن ظاهرت فاعتق رقبة ، فلا وجه للحمل لعدم وحدة الحكم المستلزم لعدم التنافي بين الحكمين ، لإمكان أن يكون لكلّ حكم موضوع خاص.

الصورة الثالثة : إذا كان السبب مذكوراً في واحد منها ، سواء ذكر السبب في المطلق أو في المقيد ، كما إذا قال : أعتق رقبة ، وقال : إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، فالحقّ عدم الحمل لعدم إحراز المنافاة ، لاحتمال أن يكون هناك واجبان مستقلان أحدهما بعد الظهار والآخر مطلقاً ، سواء أظاهر أم لا.

الصورة الرابعة : إذا لم يذكر فيه السبب ، ولها أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : أن يكون الدليلان مثبتين ، كما إذا قال : اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة.

القسم الثاني : أن يكونا نافيين ، كما إذا قال : لا تشرب المسكر ، ولا تشرب الخمر.

٢٤٠