الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الرابع

إجمال المخصِّص مفهوماً

كان البحث في الفصل السابق منصبّاً على حجية العام في الباقي بعد افتراض كون المخصص مبيَّناً لا إجمال فيه ، وإنّما كان الشكّ في تخصيص زائد بمعنى احتمال أن يكون هناك تخصيص وراء التخصيص الأوّل ، فقد قلنا بحجّية العام في الباقي ما لم يثبت تخصيص آخر.

وأمّا البحث في هذا الفصل فهو فيما إذا كان المخصص مجملاً مفهوماً وصار إجماله سبباً للشك في بقاء مورد ، تحت العام ، أو داخلاً تحت الخاص ، وعلى هذا فالفصلان مختلفان موضوعاً ومحمولاً ، وإن كانا يشتركان في تعلّق الشكّ ببقاء فرد أو عنوان تحت العام ، لكن منشأ الشك في الفصل السابق ، احتمال طروء تخصيص زائد على العام وفي المقام وجود الإجمال في المخصِّص فالمسألتان متغايرتان.

ثمّ إنّ إجمال المخصص مفهوماً على قسمين : فتارة يكون مفهوم المخصص مردّداً بين الأقل والأكثر ، وأُخرى يكون مفهومه مردّداً بين المتباينين. وإليك توضيح القسمين بذكر بعض الأمثلة.

أمّا المخصص المردّد مفهومه بين الأقل والأكثر ، فإليك مثالين :

٢٠١

أ. إذا قال : كلّ ماء طاهر إلّا ما تغيّر طعمُه أو لونُه أو رائحته ، فإنّ المخصِّص مردّد بين كون المراد خصوص التغيّر الحسي ، أو ما يعمّه والتغيّر التقديريّ ، كما إذا مزج الماء الذي وقعت فيه النجاسة ، بالطيب على فرض لولاه لظهر التغيّر بإحدى صوره الثلاث ، فالمخصص (إلّا ما تغير) مردّد بين الأقل وهو التغير الحسّي ، والأكثر وهو شموله له وللتقديري.

ب. إذا قال : أكرم العلماء إلّا الفسّاق وتردّد مفهوم الفاسق بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فهو مردّد بين الأقل وهو مرتكب الكبيرة ، والأكثر وهو مرتكب الكبيرة والصغيرة.

وأمّا المخصص المردّد مفهومه بين المتباينين.

فكما إذا قال المولى : أكرم العالم إلّا سعداً ، وتردّد بين سعد بن زيد وسعد ابن بكر ، فالإجمال في المفهوم صار سبباً لتردّد المخصّص بين المتباينين.

إذا وقفت على إجمال المفهوم بقسميه ، فاعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام أربع. لأنّ المخصّص المجمل إمّا متصل أو منفصل وإجمال كلّ ، إمّا لدورانه بين الأقل والأكثر ، أو بين المتباينين ، وإليك أحكام الصور الأربع :

الصورة الأُولى : المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين الأقل والأكثر

إذا كان العام مقروناً من أوّل الأمر بمخصص مجمل مفهوماً مردّد أمره بين الأقل والأكثر كما عرفت في المثالين ، فلا شكّ في أمرين :

١. انّ الخاص حجّة في الأقل أعني : التغيّر الحسّي ومرتكب الكبيرة وليس العام حجّة فيهما بلا كلام.

٢. انّ الخاص ليس حجّة في المصداق المشكوك ، أي التغير التقديري ومرتكب الصغيرة.

٢٠٢

إنّما الكلام في أمر ثالث ، وهو هل العام حجّة في هذا الفرد المشكوك أو لا؟ والمسألة مبنية على سريان إجمال المخصص إلى العام فلا يكون حجّة فيه ، وعدمه فيكون حجّة.

التحقيق انّه يسري ، لأنّ المخصص المتّصل من قبيل القرائن المتصلة بالكلام ، وما هذا شأنه يوجب «عدم انعقاد ظهور للعام إلّا فيما عدا الخاص» فإذا كان الخاص مجملاً ، سرى إجماله إلى العام ، لأنّ ما عدا الخاص غير معلوم فلا يحتج بالعامّ في مورد الشكّ.

وإن شئت قلت : إنّ التخصيص بالمتصل أشبه شيء بالتقييد حيث يعود الموضوع مركباً من العام وعنوان «غير الفاسق» فلا بدّ في الحكم بوجوب الإكرام (حكم العام) من إحراز كلا الجزءين ، أعني : كونه عالماً وكونه غير فاسق ، والأوّل وإن كان محرزاً بالوجدان ، ولكن الثاني (غير فاسق) غير محرز ، لأنّه لو كان الفاسق موضوعاً لمرتكب الكبيرة ، فالموضوع محرز ، لأنّ مرتكب الصغيرة غير فاسق ، ولو كان موضوعاً للأعم فهو فاسق ، فلا ينطبق عليه عنوان العام المخصَّص (العالم غير الفاسق) ، وبما انّه لم يحرز عندئذ الجزء الآخر (غير الفاسق) ، فلا يصحّ التمسّك بالعام.

الصورة الثانية : المخصص المتّصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام منضماً إلى مخصص دائر مفهومه بين أمرين متباينين ليس بينهما قدر مشترك حتى يدور الأمر بين الأقل والأكثر ، كما إذا قال : أكرم العالم إلّا سعداً ، وكان مردّداً بين سعد بن زيد وسعد بن بكر ، فلا يمكن التمسّك بالعام في واحد منهما للبيان السابق حيث إنّ العام حجّة فيما عدا الخاص ، فيجب إحراز

٢٠٣

كلا الجزءين : الأوّل : انّه (عالم) والثاني انّه (ليس سعداً) ، وبما أنّ سعداً مردّد مفهوماً بين الفردين ، فلا يكون موضوع العام محرزاً بتمامه في أيّ واحد من الفردين.

الصورة الثالثة : المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين الأقلّ والأكثر

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص ثمّ لحقه مخصص منفصل دائر مفهومه بين الأقل والأكثر ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، وقال بعد فترة : لا تكرم فسّاق العلماء ، فلا شكّ أنّ العام ليس بحجّة في مرتكب الكبيرة ويقع الكلام في كونه حجّة في مرتكب الصغيرة.

المشهور بين المحقّقين كونه حجّة في مورد الصغيرة ، ويقع الكلام في بيان ما هو الفرق بين المتصل والمنفصل حيث إنّ إجمال المخصص المتصل يسري إلى العام عند دورانه بين الأقل والأكثر ولا يسري إليه إجمال المخصص المنفصل إذا دار أمره بينهما ، وإليك بيان الفرق :

إنّ اتصال المخصص يوجب عدم انعقاد ظهور للعام من أوّل الأمر إلّا في العنوان المركب (العالم غير الفاسق) ، فلا يكون هنا إلّا دليل واحد وله ظهور واحد.

وهذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً ، فإنّه ينعقد للعام ظهور في العموم ، ويعمّ قوله : أكرم العلماء ، مرتكبَ الصغيرة والكبيرة معاً في بدء الأمر ويكون حجّة فيهما.

ثمّ إذا لحقه المخصص المنفصل فهو لا يزاحم ظهوره ، لأنّ ظهوره انعقد في العموم ، وإنّما يزاحم حجّيته في العموم ، لأنّ ظهور الخاص أقوى ، وبما انّ المخصص المنفصل ليس حجّة إلّا في مرتكب الكبيرة دون الصغيرة ، بل كان فيها مشكوك الحجية فلا يزاحم حجيّة العام فيه فيتمسك بالعام الذي انعقد ظهوره

٢٠٤

في العموم وكان حجّة فيه ما لم يكن هناك حجّة أُخرى والمفروض عدمها.

وبعبارة أُخرى : العام المنفصل عن المخصص ينعقد ظهوره في العموم ، فيكون حجّة في وجوب إكرام العالم أعم من مرتكب الصغيرة أو الكبيرة ، وهذا الظهور حجّة ما لم يكن هناك دليل أقوى ، والمفروض أنّ الدليل الأقوى مجمل مردّد بين الأقل والأكثر ، فلا يكون حجّة في المشكوك أي الأكثر فلا ترفع اليد عن الحجّة السابقة إلّا بمقدار ما ثبتت حجّية الخاصّ فيه ، وليس هو إلّا مرتكب الكبيرة فيتمسك في مورد الصغيرة ، بالعام.

هذا هو المعروف وهناك رأي آخر يطلب من دراسات عليا.

الصورة الرابعة : المخصص المنفصل الدائر مفهومه بين المتباينين

إذا ورد العام مجرداً عن المخصص ، ثمّ لحقه المخصص بعد فترة ولكن دار أمره بين متباينين ، كما إذا قال : «أكرم العالم» ، ثمّ قال بعد فترة : «لا تكرم سعداً» وكان سعد مردّداً مفهوماً بين «سعد بن زيد وسعد بن بكر» فالإجمال في المصداق وتردّده بين الشّخصين لأجل الإجمال في المفهوم بحيث لو أزيل الإجمال المفهومي لما كان هناك إجمال في المصداق ، فهل يكون العام حجّة في واحد منهما؟

التحقيق : انّه لا يكون العام حجّة بل يسري إجمال المخصص وإن كان منفصلاً إلى العام ووجه ذلك مع أنّه يشترك مع الصورة الثالثة في انفصال المخصص ، ولكن يفارقه في شيء آخر ، وهو انحلال العلم الإجمالي في الصورة الثالثة في مورد مرتكب الصغيرة فيكون الشكّ فيه شكاً بدوياً بخلاف المقام ، فإنّ هنا علماً إجمالياً بحرمة أو عدم وجوب إكرام أحد العنوانين ، ومع هذا العلم كيف يمكن التمسك بظهور العام وإن انعقد ظهوره قبل لحوق المخصص المنفصل به في العموم بل يسقط العام عن الحجية في كلّ واحد منهما.

٢٠٥

فخرجنا بالنتائج التالية :

١. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر إلى العام.

٢. يسري إجمال المخصص المتصل الدائر أمره بين المتباينين إلى العام.

٣. يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين المتباينين إلى العام. (١) ٤. لا يسري إجمال المخصص المنفصل الدائر أمره بين الأقل والأكثر إلى العام.

__________________

(١) هذه هي الصورة الرابعة قدّمناها في المقام لمساواة حكمها مع القسمين الأوّلين.

٢٠٦

الفصل الخامس

إجمال المخصص مصداقاً

كان البحث في الفصل السابق فيما إذا شكّ في كون فرد داخلاً تحت العام أو الخاص وكان منشأ الشك إجمال المخصص مفهوماً وأمّا إذا كان المخصص مبيناً مفهوماً ، لكن وقع الشكّ في بقاء فرد من أفراد ما ينطبق عليه العام تحته أو خروجه عنه ودخوله تحت المخصِّص ، فمثلاً ، قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» وهو عام يشمل اليد العادية واليد الأمينة ، ثمّ لحقه المخصص فأخرج اليد الأمينة.

ولو تلف مال تحت يد إنسان مردّدة مصداقاً بين كونها يد عادية أو يد أمانة ، فالإجمال ليس في مفهوم العام ولا في مفهوم الخاص ، وإنّما الإجمال في المصداق والأمر الخارجي حيث إنّ كيفية اليد مردّدة بين كونها باقية تحت العام أو كونها خارجة عنه ، فهل يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للخاص ، أو لا؟

ربما ينسب إلى القدماء صحّة التمسك ولذلك أفتوا في مثال اليد المشكوكة ، بالضمان ، ولكن الحقّ خلافه.

بيانه : انّ الخاص (اليد الأمينة) وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه ، كما في المقام لتردّده بينها وبين غيرها ، ولكنّه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير

٢٠٧

عنوان المخصص ، فكأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : على اليد «إذا كانت عادية» ما أخذت حتى تؤدي ، فالاحتجاج بالعام في مورد الشبهة مبني على إحراز كلا العنوانين :

أ. استيلاؤه على العين ، وهو محرز بالوجدان.

ب. استيلاؤه على وجه العدوان وانّ اليد عادية ، وهو مشكوك.

ومع الشكّ في صدق الجزء الثاني على المورد كيف يتمسك بالعام ويحكم بالضمان؟

وإلى ما ذكرنا يرجع قول العلماء : «إنّ الخاص وإن لم يكن حجّة في مورد المشتبه ، لكنّه يجعل العام السابق حجّة في غير عنوان الخاص فيجب على المتمسك إحراز كلا العنوانين». (١) وقد خرجنا بالنتيجة التالية :

وهي انّ العام ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصص.

سؤال : إذا كان هذا هو مقتضى القاعدة ، فلما ذا أفتى المشهور بضمان اليد المشكوكة المردّدة بين كونها يد ضمان ، أو يد أمانة مع أنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؟

الجواب : انّ الإفتاء بالضمان ليس من هذا الباب ، بل لأجل ضابطة فقهية سارية في أمثالها وهي :

إذا كان طبع العمل مقتضياً للفساد وكانت الصحّة حالة طارئة ، عليه فلا

__________________

(١) ثمّ إنّ الصور المتصوّرة في المقام (إجمال المخصص مصداقاً) أربعة كإجماله مفهوماً ، وذلك لأنّ المخصص المجمل مصداقاً إمّا أن يكون متصلاً ، أو يكون منفصلاً وعلى كلّ تقدير ، كل من الإجمالين تارة يكون على وجه التباين وأُخرى على نحو الأقل والأكثر وعلى كلّ تقدير فالعام ليس حجّة في الشبهة المصداقيّة للمخصّص مطلقاً. ولأجل الاختصار اكتفينا في هذا القسم بالإشارة. لاحظ المحصول : الجزء ٢.

٢٠٨

تجري فيه أصالة الصحّة بل يحكم عليه بالفساد ما لم يحرز مسوغ الصحّة. والتصرف في مال الغير يقتضي الضمان بطبعه ، وعدم الضمان أمر طارئ استثنائي ، فاللازم هو الأخذ بمقتضى طبيعة الموضوع إلى أن يثبت خلافه ، وإليك نظائرها :

١. إذا باع غير الولي مال اليتيم واحتمل كون بيعه مقروناً بالمسوِّغ ، فلا يحكم عليه بالصحّة إلّا بالعلم والبيّنة على وجوده ، لأنّ طبع العمل (بيع مال اليتيم) محكوم بالفساد ، فهو محكوم بمقتضى الطبع إلى أن يعلم خلافه.

٢. إذا باع المتولي ، الوقف فلا يحكم عليه بالصحة إلّا بإحراز أحد المسوغات ، لأنّ طبع بيع الوقف يقتضي الفساد والصحّة أمر طارئ عليه ، فيحكم بمقتضى الطبع إلى أن يعلم خلافه.

٣. إذا تردّدت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها وغيرها ، فلا يجوز النظر إليها ، لأنّ مقتضى طبع العمل في المقام هو حرمة النظر وجواز النظر أمر طارئ على مطلق المرأة ، فيحكم بحرمة النظر إلى أن يعلم المسوّغ.

٢٠٩

الفصل السادس

التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصّص

نزل الوحي الإلهي على قلب سيّد المرسلين نجوماً على سبيل التدريج وقد بيّن سبحانه وجه ذلك بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (١) فجعل تثبيت فؤاد النبي دليلاً على نزول القرآن تدريجاً.

ثمّ إنّ نزول القرآن نجوماً ، صار سبباً لتدريجية التشريع القرآني ، فربما نزل العام في فترة ، والخاص في فترة أُخرى فلا يُحتج بالعام القرآني إلّا بعد الفحص عن خاصّه فيه.

ونظيره السنّة النبويّة فقد كان التشريع فيها أمراً تدريجياً ، فربما ورد العام في لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في فترة ، والخاص في فترة أُخرى ، فلا يحتج بعموم السنة النبويّة إلّا بعد الفحص عن مخصصه فيها.

ثمّ إنّ هناك أحكاماً كثيرة شُرّعَت لكن حال الأجل بين الرسول وإبلاغه للأُمّة لكنّه صلوات الله عليه جعلها مخزونة عند العترة الطاهرة وصفهم أعدالاً للقرآن الكريم وقال : «إنّي تاركٌ فيكُمُ الثقلين كتاب الله وعِترتي» ، فقاموا ببيان الأحكام المخزونة : عمومها وخصوصها ، مطلقها ومقيّدها في فترة تقرب من ٢٥٠

__________________

(١) الفرقان : ٣٢.

٢١٠

سنة ، فجاء العام في لسان إمام والخاص في لسان إمام آخر أو روى الراوي العام من دون أن يروي الخاص وعكس الآخر ، وبالتالي طرأ الفصل على المخصصات والمقيدات ، وهذا هو السبب التّام لوجوب الفحص عن المخصص قبل العمل بالعام.

وليس هذا من خصيصة التشريع الإسلامي بل التشريع الوضعي (البشري) يتمتع بذلك أيضاً فربما يذكر العمومات والمطلقات في قائمة ، والمخصصات والمقيدات في قائمة أُخرى وما ذلك إلّا لكون التشريع أمراً غير دفعي.

نعم لا يجب الفحص عن المخصص المتصل ، لأنّ سقوطه عن كلام الراوي على خلاف الأصل لأنّ سقوطه عمداً تنفيه وثاقة الراوي ، وسهواً يخالفه الأصل العقلائي المجمع عليه.

ثمّ إنّ الفحص في المقام يغاير ماهية عن الفحص عن الدليل الاجتهادي عند العمل بالأُصول العملية فانّ الفحص هنا فحص عن متمم الحجّية ، لأنّ موضع الأُصول العملية هو الشكّ في ظرف عدم البيان فما لم يتحقّق الفحص لا يحرز موضوع الأصل (عدم البيان) ولا يحصل المقتضي بخلاف المقام فانّه فحص عن الدليل الأقوى ظهوراً.

وأمّا مقدار الفحص فاللازم هو حصول الاطمئنان الشخصي على عدم المخصص ، وهذا النوع من الاطمئنان حجّة عقلائيّة لم يردع عنها الشارع بل هو علم عرفي.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا على وجوب الفحص بدلائل مختلفة أشرنا إليها في التعليقة. (١)

__________________

(١) أ. عدم حصول الظن الشخصي بالتكليف قبل الفحص.

ب. وجود العلم الإجمالي بالمخصص وهو مانع عن التمسك بالعام.

٢١١

الفصل السابع

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا كان هناك عام يتعقّبه ضمير يرجع إلى بعض أفراده ، فهل يوجب ذلك تخصيص العام أو لا؟ مثاله قوله سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ...). (١)

فقد دلّ الدليل على أنّه ليس كلّ بعل أحقّ باسترجاع مطلّقته ، وإنّما يستحق إذا كان الطلاق رجعياً لا بائناً ، فيقع الكلام في أنّه يوجب ذلك ، تخصيصَ العام واختصاص التربص أيضاً (كالاسترجاع) للرجعيات ، أو يبقى العام على عمومه سواء أكانت رجعية أم بائنة ويتصرف في الضمير فقط. وجهان :

توضيحه : انّ هنا حكمين :

١. حكم العام ، أعني قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وظاهره عموم حكم التربّص لعامة المطلّقات رجعيّة كانت أو بائنة.

٢. حكم الضمير الراجع إلى العام ، أعني : حقّ الرجوع في قوله : (بُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِن) فقوله : (أَحَقُّ) لا يشمل كل بعل بل البعض أي المطلِّق رجعياً.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

٢١٢

فعندئذ يقع التنافر بين استعمال المرجع في العموم ، واستعمال الضمير الراجع إليه في الخصوص فإنّ الأصل هو رجوع الضمير إلى نفس ما أُريد من المرجع لا إلى بعض ما أُريد منه فلا بدّ من علاجه بإحدى الصور التالية :

أ. التصرّف في المرجع بإخراج البائنة عن حكمه ، وذلك لأجل أنّ الحكم الحديث الثاني يرجع إلى بعض المطلقات ، فيصير قرينة على أنّ الحكم الأوّل (التربص) به لبعض الأفراد ، فيحصل التطابق بين المرجع والضمير.

ب. التصرّف في الضمير بارتكاب الاستخدام فيه بعوده إلى خصوص المطلقة الرجعية ، وإبقاء حكم العام على عمومه.

ج. عدم التصرّف في واحد من المرجع والضمير ، والتصرّف في الإسناد ، وذلك بإسناد الحكم (أحقّ بردّهنّ) المسند إلى البعض (الرجعية) إلى الكل (مطلق المطلقة) توسعاً وتجوزاً ، فيكون مجازاً في الإسناد ، بلا تصرف في المرجع ولا في الضمير.

وهناك وجه رابع ، وهو عدم الحاجة إلى التصرف مطلقاً ، وذلك لأنّه يمكن أن يقال إنّ الحكمين باقيان على عمومهما.

١. فالمطلقات كلهنّ يتربصن بلا استثناء ، والإرادة الاستعمالية فيها مطابقة للجدية.

٢. وبعولتهن مطلقاً رجعياً كان الطلاق أو بائناً أحقّ بردهنّ بلا استثناء لكن بالإرادة الاستعمالية ، وأمّا الإرادة الجدية فقد تعلّقت بخصوص الرجعية ، وذلك بشهادة الدليل القطعي على خروج بعض الأصناف كما إذا كان الطلاق بائناً عنه.

وتظهر صحّة ما ذكرنا ممّا تقدّم في الفصل الثاني من هذا المقصد (عدم

٢١٣

استلزام التخصيص المجاز في العام) فالعلم بتخصيص الحكم الثاني بالمطلّقة رجعيّة لا يستلزم استعمال الضمير في بعض ما يراد من العام حتى يدور الأمر بين أحد المجازات ، بل من الجائز أن يستعمل الضمير في المعنى العام أيضاً غاية الأمر علمنا بدليل خارجي اختصاص الحكم بالرجعية. وأقصى ما يلزم من ذلك تخصيص الإرادة الجدية في جانب الضمير لا الاستعمالية كما هو الضابطة في كلّ تخصيص.

٢١٤

الفصل الثامن

تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

لا شكّ انّ العام كما يخصص بمنطوق القضية ، كذلك يخصص بمفهومها.

مثلاً لو افترضنا ورد عام يأمر باطاعة الوالدين في كلّ ما يأمران به وقال : أطعهما في كلّ ما يأمران.

ثمّ ورد قوله سبحانه : (إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما). (١)

فمنطوق الآية ناظر إلى الشرك في العبادة فيخصص العام المتقدّم بهذا المنطوق.

ثمّ إنّ الآية تدلّ على حرمة اطاعتهما إذا جاهدا أن يشرك الولد ، في الخالقية والربوبية ، بطريق أولى (المفهوم الموافق) فيخصص به أيضاً ، العام السابق.

وجه الاتفاق على جواز التخصيص هو انّ المفهوم الموافق من مقولة الدلالة اللفظية عند العرف ، فكما يخصص العام بمنطوق الآية فهكذا يخصص بمفهومها الموافق لأنّهما في درجة واحدة لو لم يكن الموافق أعلى منزلة.

إنّما الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف ، فربما يتصوّر عدم الجواز لأجل انّ الدلالة المفهومية أضعف من الدلالة المنطوقية ، فصار ذلك سبباً لعقد

__________________

(١) لقمان : ١٥

٢١٥

هذا الفصل.

ثمّ إنّ العام وما يكون له المفهوم إمّا يقعان في كلام أو كلامين على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة على التصرف في الآخر ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فيعمل بالأظهر منهما ، وهذا كما في قوله سبحانه : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ). (١)

فانّ الصدر ظاهر في المفهوم ، وهو عدم وجوب التثبُّت عند خبر العادل ولكن الذيل عام (٢) يدلّ على لزومه عند كلّ خبر غير علمي سواء كان المخبر فاسقاً أو عادلاً ، لأنّ الجهالة بمعنى عدم العلم موجود في كلا القسمين ، فعندئذ يقدم الأظهر منهما على الآخر وإلّا فيتساقطان ، وأمّا ما هو الأظهر فقد اختلفت فيه أنظارهم.

فهناك من يقدّم المفهوم على العام وهناك من يعكس ، والتّحقيق موكول إلى محلّه.

هذا كلّه إذا كان العام وما يدلّ على المفهوم في كلام واحد ، وأمّا إذا كان منفصلين فهل يخصّص العام بالمفهوم أو لا؟

فالظاهر انّه إذا لم تكن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف على الآخر يعود الكلام مجملاً ، وأمّا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر فيقدم الأظهر. فربما يكون المفهوم أظهر من حكم العام وإليك المثال :

أ. روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : انّه سئل عن الماء يبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال (عليه‌السلام): «إذا كان الماء قدر كرّ

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) لوقوع النكرة (بجهالة) في سياق النفي أي لئلّا يصيبوا ...

٢١٦

لم ينجسه شيء».

فالرواية تحمل المفهوم وهو أنّ الماء إذا لم يكن قدر كرّ يتنجس بالنجس. وفي مقابله عام كقوله : «الماء كلّه طاهر» قابل لتخصيصه بمفهوم هذا الحديث. وجه الأظهرية هو أنّ العام متعرض لحكم طبيعة الماء ، والمفهوم متعرض لحكم حال من أحواله وهو إذا كان الماء قليلاً ولاقى النجاسة ، فيقدم على الأوّل إذ لا منافاة بين أن يكون الماء القليل بما هو هو طاهراً وعند الملاقاة بالنجس نجساً.

وربما يكون على العكس فيكون العام أظهر من المفهوم لكونه معللاً غير قابل للتخصيص عرفاً كالمثال التالي :

ب. روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّا أن يتغيّر ريحُه أو طعمُه ، فيُنزَحُ حتى يذهبَ الريحُ ويطيب طعمُه ، لأنّ له مادة». (١)

وهو يدلّ على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة سواء أكان كراً أو غير كر ، وبما انّه معلل يقدم على المفهوم المستفاد من قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» فيحكم بطهارة ماء البئر القليل إذا لاقى نجساً ، وبالجملة الملاك هو الأظهرية فتارة يكون الأظهر هو المفهوم وأُخرى يكون العام.

والتصديق الفقهي في الموردين ونظائرهما موكول إلى محلّه في كتاب الطهارة.

__________________

(١) الوسائل : ١ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(١) الوسائل : ١ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٢١٧

الفصل التاسع

تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

لا شكّ انّ الكتاب حجّة قطعية وأمّا الخبر الواحد فهو وإن كان ظنياً لكنّه ثبتت حجّيته بالدليل القطعي ، فيقع الكلام في موردين :

الأوّل : تبيين مجملات القرآن ومبهماته بالخبر الواحد لا شكّ انّ كثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة والزكاة والصوم وغيرها واردة في مقام أصل التشريع ولذلك تحتاج إلى البيان ، والخبر الواحد بعد ثبوت حجّيته يكون حجّة مبينة لمجملاته وموضحاً لمبهماته ولا يعد مثل ذلك مخالفاً للقرآن ومعارضاً له ، بل يكون في خدمة القرآن والغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلك.

إنّما الكلام في تخصيص القرآن الكريم بخبر الواحد ، بمعنى إخراج ما شمله القرآن بعمومه ، فذهب المتأخرون إلى جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، كتخصيص قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١) بما ورد في السنّة «لا ميراث للقاتل».(٢)

ونظيره قوله سبحانه : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٣) حيث خصص بما ورد في السنة : المرأة لا تزوّج على عمّتها وخالتها. (٤)

__________________

(١) النساء : ١١

(٢) الوسائل : ١٧ الباب ٧ من أبواب موانع الأرث ، الحديث ١.

(٣) النساء : ٢٤.

(٤) الوسائل : ١٤ الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.

٢١٨

ومع أنّ المشهور بين المتأخرين هو جواز التخصيص لكن ذهب الشيخ الطوسي إلى عدم الجواز ، وتبعه المحقّق وقالا : بأنّا لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأنّ الدلالة على العمل به ، هو الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القرآنية سقط وجوب العمل به. (١)

وحاصل استدلاله هو أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد قاصرة عن شمولها لما إذا كان في المورد دلالة قرآنية. فالكلام ليس في أصل حجّية الخبر الواحد بل في سعته. وأمّا التّخصيص بما عرفت من الروايات فلاتّفاق الأُمّة عليه فلعلّها كانت محفوفة بالقرائن.

وحاصل الكلام انّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة بل هو من الحجج القطعية التي لا يعادله شيء إلّا نفس كلام المعصوم (عليه‌السلام) لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلامَه أو كلام غيره ، كيف وقد سمّى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) القرآن في حديث الثقلين ، بالثقل الأكبر والعترة الطاهرة بالثقل الأصغر ، وعندئذ كيف يمكن رفع حكمه بمجرّد قول الثقة هذا ولا يعدّ ذلك خلفاً في حجّية خبر الواحد فانّ الكلام ليس في أصلها بل في سعتها.

ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به ، لأنّ الكتاب قطعيُّ الثبوت وخبر الواحد ظنّي الصدور ، فكيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا كان النسخ كلياً لا جزئياً أي رافعاً للحكم من رأسه؟ وإليك المثال :

قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). (٢)

__________________

(١) عدة الأصول : ١ / ٣٤٤ بتخليص ومعارج الأصول : ١١٤.

(٢) البقرة : ١٨٠.

٢١٩

يدلّ لحن الآية على أنّ الوصية أمر قطعي لا تزول عبْر الزمان بشهادة قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) الحاكي عن الثبوت واللزوم ، كما أنّ تذييل الآية بقوله : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) دليل على أنّه حقّ ثابت على خصوص المتّقين وما هو حقّ لهم لا يُغيّر.

ومع ذلك فقد ذهب أكثر فقهاء السنة إلى أنّه منسوخ بخبر الواحد ، أي ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «لا وصية لوارث».

وقد بسطنا الكلام فيه في بعض مسفوراتنا الفقهية.(١)

__________________

١. الاعتصام بالكتاب والسنة : ٢٣٧.

٢٢٠