الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

الهاشمي؟

الظاهر عدم ظهور القضية في أحد الطرفين ، أي كفاية امتثال واحد وعدم كفايته ، فتصل النوبة بعد اليأس عن الدليل الاجتهادي إلى الأصل العمليّ وهو أنّ الأصل عدم سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد ولو كان ذلك بقصد امتثال الجميع ، في غير ما دل الدليل على سقوطها به ، وبعبارة أُخرى : الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وهي رهن تعدّد الامتثال.

نعم دلّ الدليل على سقوط أغسال متعددة بغسل الجنابة أو بغسل واحد نوى به سقوط الجميع.

فخرجنا بهذه النتيجة : انّ مقتضى الأصل العملي هو عدم سقوط الواجبات المتعددة ما لم يدلّ دليل بالخصوص على سقوطها.

ويستثنى من ذلك ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً وخصوصاً من وجه ، كما في قضية أكرم عالماً وأكرم هاشمياً ، فإنّ إكرام العالم الهاشمي يكون مسقطاً لكلا الخطابين ولا يعتبر في تحقّق الامتثال إلّا الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر. (١)

٢. ما هو مفهوم القضية السالبة الكلية؟

اختلفت كلمة الأُصوليين في مفهوم القضية السالبة الكلية ، وهل مفهومها هو الموجبة الجزئية ، أو الموجبة الكلية؟ فمثلاً قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لا ينجّسه شيء» (٢) فهل مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كرّ ، ينجسه شيء ، أو أنّ مفهومه إذا لم يكن الماء قدر كر ، ينجسه كل شيء؟

__________________

(١) اقتباس ممّا ذكره الأُستاذ الكبير السيد الإمام الخميني (قدس‌سره) في دروسه الشريفة.

(٢) الوسائل : ١ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢١.

١٨١

ذهب الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم إلى الأوّل ، وأُيّد قوله بما ذكره المنطقيون من أنّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية. واختار الشيخ الأنصاري القولَ الثاني وسيوافيك دليله :

وتظهر الثمرة فيما دل الدليل على طهارة ماء الاستنجاء إذا كان قليلاً دون الكرّ ، فعلى القول بأنّ المفهوم هو الموجبة الجزئية لا تنافي بينهما ، إذ لا منافاة بين المفهوم أي قولنا : «ينجسه شيء» و «لا ينجسه شيء آخر» كالاستنجاء ، بخلاف ما إذا كان مفهومه ، الموجبة الكلية فلا بد من علاج التنافي بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما.

وبما أنّ دليل القول الأوّل واضح ، لانّ نقيض الموجبة الكلّية التي هي المنطوق هو السالبة الجزئية ، فالمهم في المقام تبيين ما اعتمد عليه الشيخ الأنصاري فيما اختاره من النظر.

وحاصله : أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم المذكور في المنطوق عند انتفاء الشرط ، ويعتبر في المفهوم أمران :

أ. انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء.

ب. وحدة القضية المنطوقية والمفهومية في الموضوع والقيود الموجودة في المنطوق ، إلّا في السلب والإيجاب ، فلو قال : إن سلّم عليك زيد يوم الجمعة فأكرمه ، فمفهومه إن لم يسلِّم عليك في ذلك اليوم فلا تكرمه ، وأمّا في غيره من أيام الاسبوع فالقضيتان ساكتتان عنه ، فهما متحدتان في جميع الأُمور إلّا في السلب والإيجاب ، أعني : الكيف.

ولو كان القيد المأخوذ في المنطوق ، هو العموم والشمول فلا بد أن يكون محفوظاً في جانب المفهوم أيضاً ، مثلاً إذا قال : إن جاء زيد فأكرم العلماء ، أي كل واحد ، فمفهومه أنّه إن لم يجئ زيد فلا تكرم العلماء ، أي كل واحد منهم.

١٨٢

وبذلك يظهر أنّ أساس المفهوم هو الحفاظ على جميع الخصوصيات إلّا كيف القضية من السلب والإيجاب.

ثم إنّه (قدس‌سره) رَتب على ذلك البيان بأنّ المنطوق لما كان قضية كلّية فلا بد من الحفاظ عليه في جانب المفهوم أيضاً أخذاً بالضابطة في باب المفهوم ، فقوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء» قضية سالبة كلية ، فلا بد أن يكون المفهوم موجبة كلية أيضاً ، فلا يكون هناك أي اختلاف إلّا في السلب والإيجاب ، فيكون المفهوم هو قوله : إذا لم يكن الماء قدر كر ينجسه كل شيء.

يلاحظ على ما ذكره : بأنّ ما ذكره من الضابطة إنما يتمّ في الخصوصيات المذكورة في المنطوق كيوم الجمعة في المثال الأوّل ، واستغراق جميع الأفراد في المثال الثاني (إن جاء زيد فاكرم العلماء).

وأمّا إذا كانت الخصوصية مستفادة من السياق في المنطوق فلا يمكن الحفاظ عليه عند انقلاب القضية إلى كيف آخر ، وذلك كالاستغراق في قوله : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» فإنّه مستفاد من سياق الكلام ، أي من وقوع النكرة بعد النفي ، فبما أنّ المفهوم على طرف النقيض من المنطوق في جهة الكيف يكون المفهوم حكماً إيجابياً ، فينتفي وقوع النكرة في سياق النفي ، ومعه لا يستفاد منه العموم فمثلاً :

إذا قال : إن جاءك زيد لا تكرم أحداً ، لا يكون مفهومه إذا لم يجئ زيد «أكرم كل أحد» وما هذا إلّا لأنّ العموم كان مستفاداً من سياق الكلام ، وقد تبدّل سياقه من النفي إلى الإثبات ومن السلب إلى الإيجاب ، فكيف يمكن حفظ العموم في جانب المفهوم مع زوال السياق؟ فإذا زال ما يدل على العموم عند الأخذ بالمفهوم ، كيف يمكن الأخذ بمعلوله وأثره؟

١٨٣

الفصل الثاني

في مفهوم الوصف

عرّفه المحقّق القمي بقوله : هل تعليق الحكم بالصفة يدلّ على انتفائه لدى انتفائها أو لا. (١) والمراد من الوصف في كلامه ما يعم النعت والحال والتمييز وغيرها ممّا يكون قيداً لموضوع التكليف.

وبذلك (كونه قيداً لموضوع التّكليف) يعلم أنّ النزاع مختص بما إذا كان الوصف معتمداً على موصوف كما إذا قال : أكرم رجلاً عالماً حتى ينطبق عليه تعريف المفهوم من ثبوت الموضوع وارتفاع القيد ، وأمّا إذا كان الوصف نفسُه موضوعاً كما في قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) فهو داخل في مفهوم اللقب الآتي.

وبذلك يعلم خروج الصورتين التاليتين أيضاً عن محط النزاع.

أ : أن يكون الوصف مساوياً للموصوف كالإنسان المتعجّب ، أو يكون الوصف أعمّ من الموضوع كالإنسان الماشي. إذ لا يتصوّر فيه ارتفاع الوصف مع بقاء الموضوع ، فانحصر البحث في موردين :

١. إذا كان الوصف أخص من الموضوع ، كما إذا قال : أكرم الإنسان الكريم في مقابل اللئيم ، فهو داخل في محلّ النزاع.

٢. إذا كانت نسبة الوصف إلى الموصوف عموماً وخصوصاً من وجه ، كما إذا

__________________

(١) القوانين : ١٧٨ / ١ بتصرّف يسير.

(٢) المائدة : ٣٨.

١٨٤

قال في الغنم السائمة زكاة. يقع الكلام فيما إذا بقي الموضوع (الغنم) وارتفع الوصف فصارت الغنم معلوفة ، وأنّه هل يدلّ انتفاء الوصف على عدم وجوب الزكاة فيها أو لا؟

هذا كلّه إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، وأمّا إذا كان الافتراق من جانب الموصوف مع بقاء الوصف ، فلا يدلّ على شيء كما في البقر والإبل السائمتين لما عرفت من أنّ أخذ المفهوم رهن بقاء الموصوف وارتفاع الوصف ، وفي هذه الصورة ، الأمر على العكس.

إذا عرفت ذلك فقد استدلّ على دلالة الوصف على المفهوم بوجوه :

١. التبادر الكاشف عن وضع الهيئة الوصفية للانتفاء عند الانتفاء.

يلاحظ عليه : أنّ غاية ما يتبادر هو مدخلية الوصف في شخص الحكم ، وأمّا مدخليته في سنخ الحكم وانّه لا نائب له ، فغير ثابت. والمطلوب في باب المفاهيم انتفاء سنخ الحكم ، لا شخص الحكم الوارد في القضية فإنّه منتف بانتفاء القيد سواء أقلنا بالمفهوم أم لا.

٢. التمسّك بالإطلاق على الوجه المقرر في دلالة الهيئة الشرطية.

يلاحظ عليه : قد عرفت أنّ أقصى ما يدلّ عليه الإطلاق ، هو أنّ الوصف مع موصوفه تمام الموضوع وأمّا أنّه لا ينوب عنه شيء آخر فلا يدلّ عليه ، نعم لو أحرز أنّ المتكلّم في مقام بيان كل ما له دخل في سنخ الحكم فلم يأت إلّا بنفس الوصف وحده يكشف عن عدم ما ينوبه وهو غير محرز غالباً.

٣. لو لم يدلّ على المفهوم يلزم اللغوية.

يلاحظ عليه : أنّه إنّما يلزم لو لم يكن له دخل في الحكم أبداً وأمّا إذا كان له دخل في شخص الحكم ، وإن كان يخلفه وصف آخر أحياناً فلا ، وتخصيص ذاك الوصف بالذكر دون غيره لكونه مورد السؤال أو الابتلاء للمخاطب أو للتأكيد

١٨٥

نحو : إياك وظلم الطفل اليتيم ، أو لدفع توهّم عدم الحرمة في مورد الوصف ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ). (١)

وعلى كلّ تقدير فالذي دعا الأُصوليّين إلى عدم القول بالمفهوم في التقييد بالوصف ، هو عدم انتفاء الحكم عند انتفاء القيد في النصوص الشرعية نظير قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (٢) فإنّ الربا حرام مطلقاً أضعافاً كان أو لا.

وقوله سبحانه : ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) (٣) مع اتّفاقهم على جواز القضاء بشهادة شاهد واحد ويمين المدّعي.

وقوله سبحانه : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) (٤) مع حرمة الربيبة إذا دخل بأُمّها وإن لم تكن في حجره.

وقوله سبحانه : ((وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). (٥)

فالتقصير قيّد بالخوف من فتنة الكفّار مع أنّه جائز مطلقاً سواء كان هناك فتنة أو لا.

نعم خرجت عن تلك الضابطة العقود والإيقاعات المتداولة بين الناس حتى الاقرارات والوصايا ، فإنّها لو اشتملت على قيد ووصف لأفاد المفهوم كما ذكرناه في الموجز (٦) فمثلاً لو قال : «داري هذه وقف للسادة الفقراء» فمعناه خروج السادة الأغنياء عن الخطاب حيث اتّفق الفقهاء على الأخذ بالمفهوم في الاقرارات والوصايا إذا اشتملت على قيد ووصف كما عرفت.

__________________

(١) الأنعام : ١٥١.

(٢) آل عمران : ١٣٠.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) النساء : ٢٣.

(٥) النساء : ١٠١.

(٦) الموجز : ٩٣.

١٨٦

الفصل الثالث

مفهوم الغاية

هل الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية أو لا؟

المشهور انّ أداة الغاية تدلّ على ارتفاع الحكم عمّا بعدها ، بل ربّما يقال بأنّ دلالتها على الارتفاع أشد من دلالة القضية الشرطية على ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه.

نعم ذهب السيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى خلاف هذا القول واستُدلّ لقولهما بالآيات التالية :

١.(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ). (١)

٢. قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ). (٢)

٣. قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). (٣)

فإنّ لفظة «حتّى» الجارة في هذه الآيات تدلّ على أنّ الوظيفة تنتهي بالوصول إلى الغاية ، أعني : تطهّر المرأة ، أو تبين الخيط الأبيض ، أو الإذعان بعدم طروء الفتنة.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) البقرة : ١٩٣.

١٨٧

والتحقيق أن يقال : إنّه لو كانت الغاية غاية للحكم فلا شكّ في الدلالة ، كما في قوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعلم انّه حرام» فانّ الغاية غاية للحكم بالحلية كما هي غاية للحكم بالطّهارة في قوله : «كلّ شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر» فادّعاء التبادر في أمثال ذلك ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا إذا كانت الغاية قيداً للموضوع ومحدِّداً له كما في قولك : «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّه بمنزلة أن يقال : السير من البصرة إلى الكوفة واجب ، ومثله قوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١) فانّه بمنزلة أن يقال : غسل الأيدي إلى المرافق واجب ، فالظاهر عدم الدلالة على المفهوم ، إذ غاية الأمر أنّ الموضوع المقيد محكوم بالحكم ، وأمّا عدم الحكم على الموضوع عند انتفاء القيد ، فلا يدلّ عليه لعدم وضع لذلك ، إلّا إذا قلنا بدلالة كلّ قيد على المفهوم كمفهوم الوصف.

حكم نفس الغاية

ما ذكرناه راجع إلى حكم ما بعد الغاية ، وأمّا الكلام في نفس الغاية فهل هي داخلة في حكم المغيّى أو خارجة عنه؟

فذهب المحقّق الخراساني والسيّد الإمام الخميني إلى خروجها أيضاً ، ففي مثله قوله سبحانه : ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)، فالواجب هو دون المرفق ، وأمّا نفس المرفق فهو خارج عن وجوب الغسل ، اللهمّ إلّا لأجل تحصيل اليقين بغسل ما دون المرفق واستدلّ عليه الرضي بأنّ الغاية حدّ الشيء وحدود الشيء خارجة عنه.

والأولى أن يستدلّ بالتبادر فانّ المتبادر من قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٢) فانّ المتبادر هو

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) القدر : ٥٤.

١٨٨

خروج مطلع الفجر عن الحكم السابق الوارد في الآية كما هو الحال في قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فالليل خارج عن حكم المغيى.

ثمّ إنّ البحث عن دخول الغاية في حكم المغيى وعدمه محدّد بشرطين نوّهنا بهما في الموجز أيضاً (١) وهما :

١. إذا كان هناك قدر مشترك أمكن تصويره تارة داخلاً في حكم المغيى ، وأُخرى داخلاً في حكم ما بعد الغاية كالمرفق فإنّه يصلح أن يكون محكوماً بحكم المغيى (الأيدي) وحكم ما بعد الغاية (كالعضد) وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فلا موضوع للبحث كما إذا قال : اضربه إلى خمس ضربات ، فالضربة السادسة من أفراد ما بعد الغاية ، والضربة الخامسة داخلة في أجزاء المغيّى حسب التبادر فليس هنا شيء آخر يبحث عن دخوله في حكم المغيى وعدمه.

٢. انّ البحث مركز في «حتّى» الخافضة وأمّا «حتّى» العاطفة فلا شكّ في دخول الغاية في حكم المغيى كما في قولك : جاء الحجاج حتى المشاة. قال الشاعر :

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

والزاد حتّى نعله ألقاها

مات الناس حتّى الأنبياء.

فخرجنا بالنتائج التالية :

أ : دلالة الجملة على خروج ما بعد الغاية عن حكم المغيى إذا كانت قيداً للحكم.

ب : عدم دلالة الجملة على خروج الغاية عن حكم المغيى إذا كانت قيداً للموضوع.

ج : عدم دخول الغاية في حكم المغيّى.

إنّ البحث مركَّز في «حتّى» الخافضة لا العاطفة وإلّا فلا شكّ في الدخول.

__________________

(١) الموجز : ٩٤ ٩٥.

١٨٩

الفصل الرابع

مفهوم اللقب

المراد من مفهوم اللقب ما يجعل أحد أركان الكلام والقيود الراجعة إليه كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والظروف الزمانية والمكانية ، فذهب الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد بن حنبل إلى ثبوت المفهوم ، والمشهور إلى عدمه واستدلّ المشهور بأنّه لا دلالة لقولك زيد موجود على أنّه تعالى ليس بموجود ، وقولك : «موسى رسول الله» لا يدلّ على أنّ محمّداً ليس رسول الله.

ومنه يظهر عدم المفهوم في باب الوقف والنذر والعهد ، فإذا قال : هذا وقف لأولادي أو نذر لطلبة البلدة المعيّنة ، فلا شكّ أنّه لا يشمل الجيران ولا طلبة غير تلك البلدة ، ولكن عدم الشمول لا من باب أنّ الجملة تدلّ على ذلك وإنّما هو لأجل قصور الإنشاء وعدم شموله لغير موردهما فعدم الشمول من باب فقد الدال والدلالة ، لا الدلالة على العدم.

والحاصل أنّ هنا حكماً واحداً شخصياً وهو مترتّب على موضوع وعدم شموله لموضوع آخر لا يسمّى مفهوماً.

تمّ الكلام في المقصد الثالث

١٩٠

المقصد الرابع

في العام والخاص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في المخصص المتصل

والمنفصل الفصل الثاني : في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية

الفصل الثالث : في أنّ العام حجّة في الباقي

الفصل الرابع : إجمال المخصِّص مفهوماً

الفصل الخامس : إجمال المخصِّص مصداقاً

الفصل السادس : التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصّص

الفصل السابع : تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

الفصل الثامن : تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

الفصل التاسع : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد

الفصل العاشر : دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

خاتمة المطاف : الخطابات الشفاهية

١٩١
١٩٢

تمهيد

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأمر الأوّل : انّ العام من المفاهيم المشهورة الغنيّة عن التعريف ، ويقابله الخاصّ. ومع ذلك فقد عُرّف بوجوه أوضحها : كون اللّفظ بحيث يشمل مفهومه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد ، فلفظة العلماء عامّ لكونها شاملة لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه مفهوم الواحد أعني : «العالم» ويقابله الخاص.

الأمر الثاني : انّ العام ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي ، وهل انقسامه إلى هذه الأقسام الثلاثة باعتبار ذات العام ولحاظه بوجوه مختلفة مع قطع النظر عن الحكم وكونه موضوعاً ، أو أنّ هذا التقسيم باعتبار تعلّق الحكم عليه؟

ذهب المحقّق الخراساني إلى الثاني ، قائلاً بأنّ الاختلاف باعتبار اختلاف كيفية تعلّق الأحكام به ، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول الحكم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الأمر انّ تعلّق الحكم به تارة بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم ، وأُخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً ، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في «أكرم كلّ فقيه» مثلاً لما امتثل أصلاً ، بخلاف الصورة الأُولى فانّه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل بحيث لو أكرم واحداً منهم لما أطاع وامتثل كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمّل. (١)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٣٢ / ١.

١٩٣

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو لم يكن هناك ألفاظ موضوعة لخصوص هذه الأقسام الثلاثة ، وإلّا يكون التقسيم بلحاظ ذاته ، مثلاً انّ لفظ «الكل» و «التمام» و «الجميع» دال على العام الاستغراقي وانّ كلّ فرد ملحوظ مستقلاً كما أنّ لفظ «المجموع» دال على العام المجموعي وأنّ الأفراد ملحوظة بنعت الاجتماع ، كما أنّ لفظ «أيّ» دالّ على العام البدلي وأنّ كلّ فرد من الأفراد ملحوظ على البدل مثل قوله تعالى : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). (١)

وعلى ذلك فدلالة كلّ واحد من هذه الألفاظ على كيفية الموضوع ، بنفسها ، لا باعتبار تعلّق الحكم به.

الأمر الثالث : انّ الإطلاق ينقسم إلى الشمولي (الاستغراقي) والبدلي كانقسام العام إليهما ، فالإطلاق في مثل قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)شمولي كما أنّه في قوله : «أكرم عالماً» بدلي والفرق انّ استفادة الشمولي والبدلي في العام بالدلالة اللّفظية الوضعية ، وأمّا المطلق فإنّما هو بالقرائن الحافّة ومقدّمات الحكمة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام ضمن فصول :

__________________

(١) النمل : ٣٨.

١٩٤

الفصل الأوّل

في المخصّص المتصل والمنفصل

إنّ تخصيص العام يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يقترن المخصص بنفس العام في مقام الإلقاء كقولك : أكرم «العلماء العدول» فيسمّى مخصِّصاً متصلاً لاتّصاله بالعام في الكلام ويكون قرينة على عدم إرادة العموم.

الثاني : أن لا يقترن المخصص بالعام في نفس الكلام بل يأتي قبل العام أو بعد ورود العام فتكون قرينة على انّ المتكلّم أراد ما عدا الخاصّ ، وكلّ من المخصصَين حجّة وقرينة على المراد إلّا أنّه إذا كان المخصّص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور في العموم ، بل ينعقد الظهور من بدء الأمر في الخصوص وأمّا إذا كان منفصلاً فبما انّه غير مقترن بالعام ، ينعقد للعام ظهور في العموم وإذا وقف المخاطب على المخصص المنفصل وكان ظهوره أقوى من ظهور العام فهو لا يزاحم ظهور العام في عمومه لانعقاد الظهور له في العموم قبل العثور على المخصّص وإنّما يزاحم حجّيته في العموم ، فإذا قال : أكرم العلماء ثمّ ورد بعد شهر وقبل وقت العمل لا تكرم فسّاق العلماء ، فالكلام الثاني لا يزاحم ظهور الكلام الأوّل في العموم بعد انعقاده فيه.

نعم العثور على المخصص وكونه أقوى من العام يكون قرينة على

١٩٥

أنّ العموم ليس بمراد ، وهذا ما يقال من أنّ المخصص المنفصل لا يزاحم ظهور العموم وإنّما يزاحم حجّيته في العموم.

وإن شئت قلت : إنّه إذا كان المخصص متصلاً لا ينعقد للعام ظهور إلّا في الخصوص ، وهذا بخلاف ما إذا كان المخصص منفصلاً فينعقد للكلام ظهور في العموم ، والعثور على الخاص لا ينافي انعقاد ظهوره في العموم وإنّما يزاحم حجّيته فيه فيكون من باب تقديم الأظهر أو النصّ على الظاهر.

١٩٦

الفصل الثاني

في أنّ التخصيص لا يوجب المجازية

كان المعروف بين الأُصوليّين هو انّ تخصيص العام يوجب المجازية أي استعمال العام في غير ما وضع له أعني الخصوص لكن الحقّ كما عليه المتأخّرون كونه حقيقة وإن خصِّص ، سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً.

أمّا المتّصل فلأنّ كلاً من لفظي الأمر ومتعلقه في قولك : «أكرم العلماء العدول» استعمل في نفس معناه فأطلق العلماء وأُريد منه كلّهم ، كما أطلق العدول وأُريد منهم الموصوفون بالعدالة. فاللفظان مستعملان في معناهما وإن كان ظهور الكلام منعقداً في الخصوص ، فالمورد من قبيل تعدد الدالّ والمدلول.

وأمّا المخصص المنفصل فلأنّ المتكلم يستعمل العام في معناه اللغوي بالإرادة الاستعمالية ، فإذا كانت الإرادة الجدية مطابقة للإرادة الاستعمالية يَقتصر على العام ولا يكون أيّ حاجة للخاصّ ، وأمّا إذا كانت الإرادة الجدية من حيث السعة مخالفة للإرادة الاستعمالية فيشير المتكلم إلى من لم تتعلّق به الإرادة الجدّية بالمخصص حتى يدل على أنّ متعلّق الإرادة الجدية أضيق من متعلّق الإرادة الاستعمالية.

فلا يكون العثور على المخصص أيضاً سبباً لاستعمال اللّفظ في غير ما وضع له.

١٩٧

وإن أردت مزيد توضيح فنقول : إنّ التخصيص بالمنفصل إنّما يوجب مجازية العام المخصَّص إذا استعمله المتكلّم في غير معناه العام من أوّل الأمر ، كأن يريد بقوله : أكرم العلماء ، «العلماء غيرَ الفساق» ولكنّه أمر غير معهود ، فالمتكلّم يستعمله في نفس ما وضع له ، بالإرادة الاستعمالية ، أو قل بالإرادة التفهيمية.

ثمّ إنّه لو كان المراد بالإرادة الاستعمالية نفسَ المراد بالإرادة الجدية لسكت ، ولم يعقبه بشيء ، وأمّا إذا كان المراد بالإرادة الاستعمالية غير المراد بالإرادة الجدية من حيث السعة والضيق لأشار إلى إخراج بعض ما ليس بمراد جداً ، ويقول : لا تكرم فساق العلماء ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على ضيق الإرادة الجديّة من أوّل الأمر ، وأمّا الإرادة الاستعمالية فتبقى على شموليتها للمراد الجدي وغيره ، وهذا رائج في المحاورات العرفية والملاك في كون الاستعمال حقيقة أو مجازاً هي الإرادة الأُولى ، والمفروض أنّ العام حسب تلك الإرادة مستعمل في نفس ما وضع له وإذا ورد التخصيص فإنّما يرد على ما هو المراد بالإرادة الجدية.

فخرجنا بهذه النتيجة : انّ العام المخصَّص سواء أكان التخصيص متصلاً أم منفصلاً ، حقيقة وليس بمجاز ، ويجمع كلا التخصيصين كونُ العام والخاص من قبيل تعدّد الدال والمدلول.

سؤال : لما ذا لا يستعمل المتكلّم العامَّ في الخاص من أوّل الأمر أي فيما هو متعلّق الإرادة الجدية ، بل يستعمله منذ بدء الأمر في العموم ثمّ يشير بدليل ثان إلى التخصيص.

الجواب : إنّما يستعمله كذلك لضرب القاعدة وإعطاء الضابطة فيما إذا شكَّ المخاطبُ في خروج بعض الأفراد ، حتى يتمسك بالعام إلى أن يثبت المخصص ، وذلك لأنّ الأصل هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الجديّة إلّا إذا قام الدليل على المخالفة.

١٩٨

وهذا لا يتم إلّا باستعماله من أوّل الأمر في العموم بخلاف ما إذا استعمله في الخصوص وفي غير معناه الحقيقي فلا يمكن للمخاطب التمسّك بعموم العام في موارد الشكّ ، لأنّ للمعنى المجازي مراتب (١) مختلفة ، ولا نعلم أيّ مرتبة من تلك المراتب هي المرادة ، فيصير الكلام مجملاً في صورة الشك.

__________________

(١) وحيث يحتمل انّه استعمله في تمام الباقي كما يحتمل استعماله في بعض الباقي ، وللبعض الباقي أصناف مختلفة ، مثلاً العلماء غير القرّاء ، العلماء غير النحاة ، العلماء غير الفقهاء ، فالكل يعدّ من المجاز حيث إنّ اللّفظ فيها ليس بحقيقة فتعيين أحدها يحتاج إلى دليل.

١٩٩

الفصل الثالث

في أنّ العام حجّة في الباقي

قد خرجنا في الفصل السابق بنتيجتين :

الأُولى : انّ العام مستعمل في معناه ، وانّ التّخصيص لا يوجب المجازية.

الثانية : انّ الأصل بين العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدّيّة إلّا إذا قام الدّليل على المخالفة في مورد التّخصيص.

ثمّ إذا شككنا في ورود التّخصيص على العام أو في ورود تخصيص زائد فمقتضى الأصلين هو حجّية العام في مدلوله ، وذلك لأنّ مقتضى كون اللّفظ مستعملاً في معناه بالإرادة الاستعمالية وكونها مطابقة للجدّ ما لم يدلّ دليل على خلافه ، هو كون ما وقع تحت العام محكوماً بحكمه وانّه حجّة فيه ما لم يدلّ دليل قطعي على الخلاف.

٢٠٠