الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

٤. أن يتعلّق النهي بالوصف اللازم كالجهر بالنسبة إلى القراءة ، والمراد من الوصف اللازم ما لا يمكن سلبه مع بقاء موضوعه حيث إنّه تنعدم القراءة الشخصية بانعدام وصفها فيكون المقام من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، وحيث إنّ القراءة تتحد وجوداً مع الجهر المحرّم فتفسد لأجل عدم إمكان قصد القربة على ما مرّ.

٥. أن يتعلّق النهي بالوصف المفارق كالغصبية بالنسبة إلى الصلاة ، فقد عرفت حكمه فيما سبق.

الثاني : النهي المولويّ التنزيهي

إذا كان النهي التنزيهي متضمناً حكماً شرعيّاً ومُنْشَأ بداعي الردع والزجر فهو أيضاً يلازم الفساد ، فإنّه وإن لم يكشف عن كونه مبغوضاً للمولى وموجباً للعقوبة ، لكن يكشف عن عدم حبِّه واستحسانه ، ومن المعلوم امتناع التقرب بشيء مزجور أو بأمر مرغوب عنه.

نعم يختلف النهي التحريمي عن التنزيهي بشدة الكراهة وضعفها ولكن الجميع يكشف عن كون المتعلَّق مرغوباً عنه غير محبوب للمولى.

والحاصل انّه إذا أحرز انّ النهي متضمن لحكم شرعي أُنشئ بداعي الردع والزجر وإن كان على وجه لا يبغضه المولى ولا يعاقب عليه ولكنّه لا يجبه ولا يستحسنه ، فهذا يلازم الفساد لامتناع التقرب بالأمر غير المرغوب.

وصرّح المحقّق النائيني بما ذكرنا وقال : «لو تعلّق النهي التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه الفساد مجال من جهة انّ ما يكون مرجوحاً ذاتاً لا يصلح أن يتقرّب به. (١)

__________________

(١) الفوائد الأُصولية : ٤٥٦ / ١.

١٦١

نعم انّ هذا النوع من النهي التنزيهي قليل جداً والغالب في النواهي التنزيهية هو الإرشاد إلى قلّة الثواب مع كون العمل محبوباً في ذاته لو أتى به ، ففي مثله لا يكون النهي مسوقاً لبيان الحكم التكليفي بداعي الزجر والردع عنه ، بل يكون مسوقاً لبيان قلّة الثواب ولأجل ذلك أفتى المشهور بصحّة الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها أو الصلاة في مرابض الخيل والبغال والحمير ، ومعاطن الإبل ، أو الصلاة على الطرق والأرض السبخة والمالحة ، أو في بيت فيه خمر أو مسكر ، وما هذا إلّا لأنّ النهي في هذه الموارد إرشاد إلى قلّة الثواب وليس متضمناً لحكم شرعي كاشف عن كونه مرغوباً عنه.

هذا كلّه حول النهي المولوي سواء أكان تحريمياً أم كان تنزيهياً (كراهية) فقد عرفت دلالة النهي فيهما على الفساد للوجهين الماضيين.

الثالث : النهي الإرشادي

إنّ النهي كالأمر ينقسم إلى مولوي وإرشادي ، أمّا المولوي كقوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (١) وأمّا الإرشادي كقوله سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٢) على القول بانّ النهي فيه إرشاد إلى الفساد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ القضاء في دلالة النهي الإرشادي على الفساد يتوقّف على تعيين المرشد إليه للنهي ، إذ له أقسام :

أ : أن يكون إرشاداً إلى الفساد كقوله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» فانّ معناه أيّتها المكلّفة لا تصلّ ، لأنّ الصلاة في هذه الحالة لا تكون صحيحة.

__________________

(١) الاسراء : ٣٢.

(٢) النساء : ٢٢.

١٦٢

ب : أن يكون إرشاداً إلى مانعية متعلّقه كما في قوله : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» الدالّ على مانعية لُبْس ما هو مأخوذ ممّا لا يؤكل لحمه.

ج : أن يكون إرشاداً إلى شرطية متعلّقة كقوله : «لا تبع بلا كيل» الدالّ على شرطية الكيل. ففي الموردين الأخيرين أيضاً يلازم النهيُ الفسادَ باعتبار إرشاده إلى المانعية أو الشرطية ، ومن الواضح انّ المركب يختل بوجود المانع أو فقدان الشرط.

د : أن يكون إرشاداً إلى قلّة الثواب ، كما في قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد». (١) فانّه بحكم الإجماع على صحّة الصلاة لو صلّى في غيره ، إرشاد إلى قلّة الثواب لا الكراهة المصطلحة.

الرابع : النهي إذا جهل حاله

إذا دار أمر النهي بين كونه نهياً مولوياً أو إرشادياً كما إذا قال : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» (٢) فلا يحكم عليه بشيء من الفساد وعدمه فلو كان مولوياً فهو يستلزم الفساد مطلقاً سواء أكان تحريمياً أو تنزيهياً ، بخلاف ما إذا كان إرشادياً ، ففيه التفصيل المذكور من استلزامه الفساد إذا كان إرشاداً إلى الجزئية والمانعية ، وعدمه إذا كان إرشاداً إلى قلّة الثواب.

والحاصل انّه إذا دار أمر النهي بين الوجوه الثلاثة ، لا يحكم عليه بشيء. اللهمّ إلّا أن يقال بظهوره في هذه المقامات في الإرشاد إلى المانعية كما إذا قال الطبيب : اشرب هذا الدواء ، ولا تمزجه بالماء فعند ذاك يستلزم الفساد.

__________________

(١) الوسائل : ٣ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المساجد ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل : ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث ٧.

١٦٣

الفصل الثالث

في اقتضاء النهي في المعاملات للفساد

المراد من المعاملات في عنوان البحث ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، كالعقود والإيقاعات.

ثم إنّ النهي الوارد في المعاملات على أقسام أربعة كالعبادات :

وإليك البحث في كلّ واحد منها :

القسم الأوّل : إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بنفس المعاملة :

فهي على أنحاء :

١. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالسبب بما هو فعل مباشريّ ، كالعقد الصادر عن المُحْرِم في حال الإحرام بأن يكون المبغوض صدور عقد النكاح في هذه الحالة ، من دون أن يكون نفس العمل (عقد النكاح) بما هو هو مبغوضاً ومزجوراً عنه ، فهل يدلّ على الفساد أو لا؟

الظاهر عدم الاقتضاء ، لأنّ غاية النهي هي مبغوضية نفس العمل (العقد) في هذه الحالة وهو لا يلازم الفساد وليس العقد أمراً عبادياً حتى لا يجتمع مع النهي الكاشف عن المبغوضيّة.

٢. إذا تعلّق النهي المولوي التحريمي بالمسبّب ، كالنهي عن بيع المصحف

١٦٤

والعبد المسلم من الكافر ، فإنّ الحرام ليس هو صدور العقد من المالك ، وانّما المحرّم هو مضمون المعاملة ومسبَّبها ، أي مالكية الكافر لهما التي هي فعل تسبيبي لا مباشري ، ومبغوض لأجل انّه يعدّ سبيلاً على المسلم وسلطة عليه ، فهل يدلّ على الفساد أو لا؟

الكلام في هذه الصورة فيما إذا كان العقد واجداً لشرائطه من سائر الجهات ، كشرائط العوضين والمتعاقدين وليس في البين إلّا كون نفس العمل مبغوضاً حيث إنّه سبحانه لا يرضى بسلطة الكافر على المسلم والمصحف ، فهل يدلّ نفس النهي الكاشف عن المبغوضية على الفساد أو لا؟ والتحقيق انّه لا يدلّ ، وذلك لأنّ المبغوضية أعم من الفساد في باب المعاملات لا العبادات.

وبما ذكرنا تقف على وجود الفرق بين المقام وسائر المعاملات المنهية عنها كالنهي عن بيع السفيه والمجنون والصغير ، أو النهي عن بيع الخمر والميتة ، لأنّ الأوّل فاقد لشرائط المتعاقدين لشرطية العقل والبلوغ في البائع ، كما أنّ الثاني فاقد لشروط العوضين لاشتراط إباحة المبيع والتمكّن من التصرّف فيه ، ففي جميع تلك الصور يلازم النهيُ الفسادَ ، لأنّه إرشاد إلى فقدان الشرط في هذه الموارد ، والبحث في المقام إنّما هو في الجامع للأجزاء والشرائط غير أنّه تعلّق النهي بمضمون المعاملة.

٣. إذا تعلّق النهي بالتسبب أي لا بالسبب ولا بالمسبب ، بل تعلّق بالتوصّل به إلى المسبب كتملك الزيادة عن طريق البيع الربوي ، والتملّك عن طريق الحيازة بالآلة المغصوبة ، والتسبب إلى الطلاق بقوله : «أنت خلية». فليس السبب ولا المسبب بما هما من الأفعال بحرام وإنّما الحرام هو التوصل بهذا السبب إلى المسبب.

١٦٥

والكلام في هذا القسم نفس الكلام في القسمين السابقين ، فلا منافاة بين مبغوضية التسبب وحصول الأثر بعده.

نعم ما ذكرنا من عدم الدلالة في هذه الأقسام الثلاثة إنّما هو فيما إذا كان النهي مولوياً تحريمياً لا إرشاداً إلى الشرطية والجزئية والمانعية ، وبالتالي إلى الفساد عند الاختلال وإلّا فيدخل في القسم الثالث الآتي.

٤. إذا تعلّق النهي بالأثر المترتب على المسبب ، كما إذا تعلّق النهي بالتصرف في الثمن والمثمن فهذا النوع عند العرف يساوق الفساد ، فلا معنى لصحّة المعاملة إلّا ترتب هذه الآثار عليها ، فإذا كانت تلك الآثار مسلوبة في الشرع فتكشف عن فساد المعاملة.

وإن شئت قلت : إنّ الصحّة لا تجتمع مع الحرمة المطلقة في التصرف في الثمن الذي دفعه المشتري أو المثمن الذي دفعه البائع.

القسم الثاني : إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة :

إذا تعلّق النهي المولوي التنزيهي بالمعاملة بأحد الأنحاء الأربعة الماضية فلا يدل على الفساد ، ويُعْلم وجهه ممّا ذكرنا عند بيان أنحاء القسم الأوّل ، فإنّ عدم المحبوبية في المعاملات لا يلازم الفساد ، فالمعاملات المكروهة صحيحة حتى على النحو الرابع ، أي إذا تعلّق النهي بالأثر المطلوب من المعاملة كالتصرف في المبيع.

القسم الثالث : إذا كان النهي إرشاداً إلى الفساد :

إذا ورد النهي بداعي بيان فساد المعاملة كما في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) فلا كلام في الدلالة على الفساد.

__________________

(١) النساء : ٢٢.

١٦٦

القسم الرابع : إذا كان النهي مردّداً بين كونه مولوياً أو إرشادياً إلى الفساد :

إذا ورد النهي ولم يعلم حاله من المولوية والإرشادية ، فالظاهر انّه يحمل على الإرشاد إلى الفساد وعدم ترتّب الآثار عليه ، فإذا قيل «لا تبع ما ليس عندك» فهو إرشاد إلى عدم إمضاء ذلك البيع ولما ذكرنا يستدلّ الفقهاء بالنواهي المتعلّقة بالمعاملات على الفساد ، وما ذلك إلّا لأجل كونها ظاهرة في الإرشاد إلى الفساد ، وأنّ المعاملة فاقدة للشرط أو واجدة للمانع.

وقد عرفت أنّ محط البحث هو القسمان الأوّلان ، وأمّا الأخيران فلوضوح حكمهما خارجان عنه.

تمّ الكلام في المقصد الثاني

١٦٧
١٦٨

المقصد الثّالث

في المفاهيم

وتحقيق الكلام ضمن فصول :

الفصل الأوّل : في مفهوم الشرط

الفصل الثاني : في مفهوم الوصف

الفصل الثالث : في مفهوم الغاية

الفصل الرابع : في مفهوم اللقب

وأمّا مفهوم الحصر والعدد فقد استوفينا الكلام فيهما في «الموجز» فلا نعيد.

١٦٩
١٧٠

تمهيد

في تعريف المفهوم

نذكر في المقام أُموراً :

١. وصف المعنى بما هو هو ووصفه بما هو مدلول

ما يقع وصفاً للمعنى على قسمين :

أ : ما يكون وصفاً له بما هو هو كتقسيم المفهوم إلى كلي وجزئي سواء دلّ عليه اللفظ أم لا مثلاً الإنسان المتصوَّر في الذهن كلي ، كما انّ زيد المتصوّر فيه جزئي ، فالكلية والجزئية في هذه الحالة من أوصاف المعنى بما هو هو ، من دون نظر إلى دلالة لفظ عليهما وعدمها.

ب : ما يكون وصفاً للمعنى لكن بما هو واقع في إطار الدلالة ودلّ عليه اللفظ ، وهذا كوصف المعنى بكونه معنى مطابقياً أو تضمنياً فانّه فرع كون المعنى مدلولاً للّفظ ، فالحيوان الناطق بما هو مدلول لفظ الإنسان ، يوصف بالمطابقية.

انّ وصف المعنى بكونه منطوقاً أو مفهوماً من قبيل القسم الثاني ، لانّ قسماً من المدلول لوضوح دلالة اللفظ عليه يوصف بكونه مدلولاً منطوقياً. وكأنّ المتكلّم نطق به في عالم المحاورة ، وقسم منه ، يوصف بكونه مدلولاً مفهومياً ، يفهم من كلام المتكلّم ، وإن لم ينطق به في ذلك الظرف.

١٧١

وبذلك يعلم انّهما وصفان للمعنى بما انّه مدلول اللفظ وواقع في إطار الدلالة وليسا وصفين له بما هو هو.

ربما يقال «انّهما من أوصاف الدلالة حيث تقسم الدلالة إلى الدلالة المنطوقية والدلالة المفهومية».

أقول : انّ وصف الدلالة بهما باعتبار كون المدلول موصوفاً بأحدهما فالوصف للمدلول بالحقيقة وللدلالة بالعناية والمجاز.

ولذلك نرى أنّ الحاجبي يُعرِّف المنطوق بقوله : ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق ، كما يُعرِّف المفهوم بقوله ما دلّ عليه اللّفظ في غير محل النطق. (١)

٢. تعريف المفهوم

عرّف المحقّق الخراساني المفهومَ بانّه : «حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الّذي أُريد من اللّفظ بتلك الخصوصية ، فالمفهوم حكم غير مذكور لا انّه حكم لغير مذكور». (٢)

توضيحه : إذا قال القائل : إن أكرمك زيد فأكرمه ، يكون إكرام زيد منوطاً بخصوصية معيّنة تستفاد من الجملة الشرطية ، إذ لزيد حالتان :

أ : حالة إكرامه المخاطب هذه هي الخصوصية التي تستتبع المفهوم.

ب : حالة عدم إكرامه إيّاه.

فقد دلّ بمنطوقه على أنّه يُكْرم عند إكرام المخاطب.

كما دلّ بمفهومه على ارتفاع الحكم أي وجوب الإكرام عند عدم تكريم

__________________

(١) منتهى الوصول والأمل : ١٤٧ ، المعروف بمختصر الحاجبي ، وقد شرحه العضدي وغيره واشتهر بشرح المختصر.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٠١ / ١.

١٧٢

المخاطب.

فالموضوع في الحالتين واحد وهو زيد ، والحكم مختلف حسب اختلاف حالاته. والمفهوم كالمنطوق حكم انشائى : أي إذا لم يكرمك زيد فلا يجب إكرامه.

٣. في الشرط المحقّق للموضوع

إنّ النزاع في وجود المفهوم في القضايا الشرطية إنّما هو فيما إذا عُدَّ القيد شيئاً زائداً على الموضوع وتكون الجملة مشتملة على موضوع ، ومحمول ، وشرط ، فيقع النزاع حينئذ في دلالة القضية الشرطية على انتفاء المحمول عن الموضوع ، عند انتفاء الشرط وعدمها مثل قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كرّ لم يُنجّسه شيء» فهناك موضوع وهو الماء ، ومحمول وهو العاصمية (لم ينجسه) وشيء آخر باسم الشرط ، أعني : الكرية ، فعند انتفاء الشرط يبقى الموضوع (الماء) بحاله بخلاف القضايا التي يعد الشرط فيها محقّقاً للموضوع من دون تفكيك بين الشرط والموضوع بل يكون ارتفاع الشرط ملازماً لارتفاع الموضوع ، فهي خارجة عن محلّ النزاع ، كقوله : إن رزقت ولداً فاختنه ، فهذه القضايا فاقدة للمفهوم. فإنّ الرزق هنا ليس شيئاً زائداً على نفس الولد.

فخرجنا بالنتائج التالية :

١. يكون الشيء تارة وصفاً للمعنى بما هو هو ، وأُخرى وصفاً له بما هو مدلول والمنطوق والمفهوم من أوصاف المعنى المدلول لا المعنى بما هو هو ، إذ المدلول باعتبار ظهوره وخفائه ينقسم إلى ما نُطق به وإلى ما فُهم منه

٢. المفهوم قضية اخبارية أو انشائية ، يستفاد من الخصوصية الواردة في الكلام.

٣. الشرط المحقِّق للموضوع فاقد للمفهوم.

١٧٣

الفصل الأوّل

في مفهوم الشرط

مسلك القدماء في استفادة المفهوم

إنّ مسلك القدماء في استفادة المفهوم من القضايا الشرطيّة بل مطلقاً يختلف مع مسلك المتأخرين ، فإنّ دلالة الخصوصية المذكورة في الكلام من الشرط أو الوصف أو الغاية أو اللقب أو نحوها على الانتفاء عند القدماء ليست دلالة لفظية ، بل هي من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير على كونه صادراً لغاية والغاية المنظورة عند العقلاء من نفس الكلام ، حكايته لمعناه ، كما أنّ الغاية من خصوصياته ، دخالتها في المطلوب فإذا قال المولى : إن أكرمك زيد فأكرمه ، حكم العقلاء بمدخلية إكرام زيد في وجوب إكرامه ، قائلاً بأنّه لو لا دخله فيه لما ذكره المتكلّم وكذا سائر القيود ، وعلى ذلك فاستفادة المفهوم ليست مبنية على دلالة الجملة على الانتفاء عند الانتفاء ، بل مبنيّة على أنّ الأصل في فعل الإنسان أن لا يكون لاغياً بل يكون ، صادراً لغايته الطبيعية والغاية من إتيان القيد هي مدخليته في الحكم.

ولما كان مسلكهم على الاستدلال بفعل المتكلّم وانّه لو لا المفهوم تلزم لغوية القيد ، أجاب عنه السيد المرتضى في ذريعته ، بقوله : بأنّ تأثير الشرط إنّما هو تعليق الحكم به وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر ، يجري مجراه

١٧٤

ولا يخرج عن كونه شرطاً ، فانّ قوله سبحانه : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضم إليه شاهد آخر فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول ، ثمّ علمنا أنّ ضم امرأتين إلى الشاهد الأوّل شرط في القبول كما في نفس الآية ، أعني قوله سبحانه : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) (٢) ثمّ علمنا انّ ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضاً فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى. (٣)

وحاصل كلام السيّد في ردّ مسلكهم : انّ غاية ما يدلّ عليه فعل العقلاء ، انّ للقيد دخلاً في شخص الحكم ، وأمّا انّه ليس له بديل يقوم مقامه بحيث ينتفي بانتفائه سنخ الحكم فلا يستفاد من فعلهم وتشهد عليه الآيات المذكورة.

وبعبارة أُخرى : انّ ما تثبته صيانة فعل العقلاء عن اللغوية هو كون القيد احترازيّاً ، لا كونه ذا مفهوم وقد أوضحنا في الموجز (٤) الفرق بين القيدين فلاحظ.

مسلك المتأخّرين في استفادة المفهوم

وأمّا مسلك المتأخّرين فهو مبني على دلالة القضية الشرطية على الأُمور الثلاثة التالية:

١. دلالة القضية على الملازمة بين المقدّم والتالي فيخرج ما يفقد الملازمة.

٢. دلالة القضية على أنّ التالي معلّق على المقدّم ومترتّب عليه على وجه يكون المقدّم سبباً والتالي مسبباً ، فخرج قوله : إن طال الليل قصر النهار إذ فيه ملازمة وليس فيه ترتب لكونهما معلولين لعلّة ثالثة.

٣. دلالتها زيادة على ما تقدم ، على انحصار السببية وانّ ما وقع بعد حرف

__________________

(١ و٢). البقرة : ٢٨٢.

(٣) الذريعة : ٤٠٦ / ١.

(٤) الموجز : ٩١.

١٧٥

الشرط هو السبب المنحصر للجزاء حتى يدلّ على ارتفاع الجزاء بارتفاع السبب المنحصر.

لا شكّ في دلالة الجملة الشرطية على الأمرين الأوّلين ، إنّما الكلام في تبادر الانحصار من الجملة الشرطية.

وقد استدل عليه بوجوه :

الأوّل : التبادر

انّ المتبادر كون اللزوم والترتّب بين الشرط والجزاء بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة.

يلاحظ عليه : أنّ ادّعاء تبادر اللّزوم والترتّب العِلّي لا غبار عليه إلّا أن تبادر كون الشرط علّة منحصرة ممنوع لوجهين :

١. لو كانت الهيئة موضوعة للعلّة المنحصرة ، يلزم أن يكون استعمالها في غير صورة الانحصار مجازاً ومحتاجاً إلى إعمال العناية كسائر المجازات وليس كذلك.

٢. لو كان كذلك ، يجب الأخذ بالمفهوم حتّى في مقام المخاصمات والاحتجاجات وعدم القبول من المتكلّم إذا قال : ليس لكلامي مفهوم مع أنّه خلاف المفروض.

الثاني : انصراف القضية إلى أكمل أفرادها وهو كون الشرط علّة منحصرة.

يلاحظ عليه : أنّ الانحصار لا يوجب أكملية الفرد ، فلو كانت للعاصمية علّة واحدة وهي الكرية أو عللاً متعدّدة مثل المطر والجريان فلا يتفاوت الحال في العليّة وليس نصيب العلّة المنحصرة من العلية أشدّ من نصيب غيرها ، على أنّ سبب الانصراف إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال وليست العلة المنحصرة أكثر من غيرها ولا القضية الشرطية أكثر استعمالاً فيها من غيرها.

١٧٦

الثالث : التمسّك بالإطلاق

وقد قرّره المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة ونحن نقرره بوجه واحد :

انّه لو كان هناك سبب آخر للجزاء يقوم مقام الشرط لكان على المتكلّم عطفه عليه بمثل لفظة «أو» بأن يقول : إن أكرمك زيد أو أكرم أخاك فأكرمه. غير انّ اقتصاره على السبب الأوّل دليل على أنّه السبب المنحصر وليس له بديل ولا عِدْل ، وإلّا لوجب على الحكيم بيانه.

وهذا الوجه متين جدّاً بشرط أن يحرز انّ المتكلّم في مقام بيان كلّ ما هو سبب للجزاء ، فإذا أطلق الشرط ولم يعطف عليه شيئاً بواو العطف يعلم أنّه سبب تام ، كما أنّه إذا لم يعطف عليه ب «أو» العاطفة نعلم أنّه سبب منحصر لا بديل له ولا عِدْل غير انّ إحراز كون المتكلّم في ذلك المقام يحتاج إلى قرينة.

هذا ولكن الظاهر من المتفاهمات العرفية هو دلالة الجملة الشرطية على المفهوم بل يظهر من بعض الروايات كونه أمراً مسلماً بين الإمام والسائل.

روى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ، ويُهرق منها دم كثير عبيط ، فقال : «لا تأكل ، إنّ علياً كان يقول : إذا ركضت الرّجْل أو طرفت العين فكل». (١)

ترى أنّ الإمام (عليه‌السلام) يستدلّ على الحكم الذي أفتى به بقوله «لا تأكل» بكلام علي (عليه‌السلام) ، ولا يكون دليلاً عليه إلّا إذا كان له مفهوم ، وهو إذا لم تركض الرجل ولم تطرف العين (كما هو مفروض الرواية) فلا تأكل.

وعلى ذلك فالقول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم من خلال إثبات السبب المنحصر أمر غير بعيد بين العقلاء.

__________________

(١) الوسائل : ٢٦٤ / ١٦ ، الباب ١٢ من أبواب الذبائح ، الحديث ١.

١٧٧

تنبيهان

١. في تداخل الأسباب والمسبّبات

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء على نحو يقبل التكرار كما إذا قال : إذا بُلْت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ ، فيقع الكلام في تداخل الأسباب تارة ، وتداخل المسببات أُخرى ، والمراد من تداخل الأسباب ، اقتضاء كلّ سبب وجوباً خاصاً غير ما يقتضيه السبب الآخر ، كما أنّ المراد من تداخل المسببات بعد القول بعدم تداخل الأسباب إجزاء امتثال واحد ، لكلا الوجوبين وعدمه. فيقع الكلام في موضعين :

تداخل الأسباب وعدمه

استدلّ القائل بعدم التداخل بأنّ ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء (الوجوب) عند حدوث الشرط (النوم أو البول) ولازم ذلك هو حدوث الوجوبين لا الوجوب الواحد ، وقد عرفت أنّ معنى عدم تداخل الأسباب هو تعدّد التكليف والاشتغال ، وأنّ ظاهر كل قضية أنّ الشرط علّة تامة لحدوث الجزاء ، أعني : الوجوب مطلقاً ، سواء وجد الشرط الآخر معه أو قبله أو بعده أو لم يوجد ، وليس لعدم تداخل الأسباب معنى سوى تعدّد الوجوب.

١٧٨

دليل القائل بالتداخل

إنّ القائل بالتداخل يعترف بهذا الظهور (حدوث الجزاء عند حدوث الشرط) إلّا أنّه يقول : لا يمكن الأخذ به ، لأنّ متعلّق الوجوب في كلا الموردين شيء واحد وهو «طبيعة الوضوء» ، ومن المعلوم أنّه يمتنع أن يقع الشيء الواحد متعلّقاً لوجوبين وموضوعاً لحكمين متماثلين ، والمفروض أنّ متعلّق الوجوب في كليهما طبيعة الوضوء لا طبيعة الوضوء في أحدهما والوضوء الآخر في الثاني حتى يصح تعلّق الوجوبين بتعدّد المتعلّق ، فإطلاق الجزاء (متعلق الوجوب) ، بمعنى أنّ الوضوء بما هو هو موضوع لا هو مع قيد كلفظ «آخر «، يقتضي التداخل.

إلى هنا تبيّن دليل القولين ؛ فالقائل بعدم التداخل يتمسّك بظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كل شرط ، وهو يلازم عدم التداخل في الأسباب ؛ والقائل بالتداخل يتمسّك بوحدة المتعلّق وكون الموضوع للوجوبين هو نفس الطبيعة التي تقتضي وحدة الحكم ولا تقبل تعدّده ، فلا بد من رفع اليد عن أحد الظهورين.

والظاهر تقديم ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند كلّ شرط ، على إطلاق الجزاء في وحدة المتعلَّق ، فتكون قرينة على تقدير لفظ مثل «فرد آخر» أو لفظ «مرّة أُخرى» في متعلّق أحد الجزاءين ، وعندئذ يكون الموضوع للوجوب في إحدى القضيتين ، هو الطبيعة ، كما يكون الموضوع للوجوب في القضية الأُخرى ، الفرد الآخر.

ولعل العرف يساعد لتقديم ظهور الصدر على ظهور الذيل بالتصرف في الثاني بتقدير لفظ «آخر» لقوة ظهور الصدر.

ويمكن توجيه تقديم ظهور الصدر على إطلاق الذيل بالارتكاز العرفي ، إذ

١٧٩

المرتكز في الأذهان هو أنّ كل سبب تكويني يطلب معلولاً خاصّاً ، فكل من النار والشمس تُفيض حرارة مستقلّة من غير فرق بين أن تتقارنا أو تتقدّم إحداهما على الأخرى ، فإذا كان هذا هو المرتكز في الأذهان ، وسمع صاحب هذا الارتكاز من المعصوم قوله : إذا نمت فتوضأ ، وإذا بلت فتوضأ ، ينتقل إلى أنّ كلاً من النوم والبول يطلب وجوباً مستقلاً ، وأن أثر كل واحد غير أثر الآخر ، والارتكاز الموجود في الأذهان يوجب انعقاد ظهور خاص للقضية ، وهو حدوث الوجوب عند حدوث كل شرط مستقلاً مطلقاً.

وبهذا يقدّم ظهور الصدر على ظهور الجزاء في وحدة المتعلّق الآبية عن تعلّق الوجوبين ، وليس هذا من قياس التشريع على التكوين حتى يقال بأنّه أمر باطل ، بل هو من باب جعل الارتكاز العرفي في العلل التكوينية قرينة على انتقال العرف إلى مقتضى مثلها في العلل التشريعية.

وبذلك ظهرت قوّة الوجه الأوّل وضعف الوجه الثاني.

هذا كلّه حول التداخل وعدمه في الأسباب ، وإليك البحث في تداخل المسببات.

في تداخل المسببات

إذا ثبت في البحث السابق عدم التداخل ، وأنّ كل سبب ، علّة لوجوب مستقل ، فحينئذ يقع الكلام في مقام آخر ، وهو إنّ تعدّد الوجوب هل يقتضي تعدّد الواجب أو لا؟

وبعبارة أُخرى : إنّ تعدّد السبب كما يقتضي تعدد الوجوب ، فهل يقتضي تعدد الامتثال أيضاً ، أو لا يقتضي ، بل يكفي في امتثال كلا الوجوبين ، الإتيان بمصداق واحد نظير امتثال قول القائل : أكرم العالم واكرم الهاشمي بضيافة العالم

١٨٠