الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

٥. إذا كانت المقدّمة أمراً عبادياً ، كالطهارات الثلاث ، فلو قلنا بأنّ قصد الأمر الغير يكفي في كون الشيء عبادة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يكفي قصد الأمر الغيري في عباديّتها ، وإلّا فلا بدّ في تصحيح عبادية الطهارات الثلاث من محاولة أُخرى مذكورة في محلّها.

في حكم مقدّمة المستحب والمكروه والحرام

لو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب تكون مقدّمة المستحب مستحبة ، كالمشي إلى زيارة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، إنّما الكلام في مقدّمة المكروه فالظاهر انّها مكروهة بعامة أجزائها كالمشي إلى الطلاق ، لأنّ لكلّ جزء مدخلية في تحقّق المبغوض فيسري إليها البغض كسريان الحبّ إليها في مقدّمة الواجب.

ويمكن أن يقال بكراهة الجزء الأخير من العلّة التامة لموضوع المكروه.

ومنه يظهر حال مقدّمة الحرام ، فإذا كان الملاك للحرمة هو المدخلية فيحرم كلّ مقدّمة من مقدّمات الحرام ، شرطاً كان أو معدّاً.

وهناك احتمال آخر وهو حرمة الجزء الأخير من العلّة التامة الذي لا ينفك عنه وجود المبغوض وعلى كلّ تقدير فالجميع فروض على أساس غير محقّق وهو وجوب المقدّمة أو حرمتها.

مميّزات الوجوب الغيري

ثمّ إنّه إذا قلنا بالوجوب الغيري فهو يتميز عن النفسي عند المشهور بوجوه :

١. انّ الوجوب الغيري لا يوجد إلّا بعد افتراض الوجوب النفسي ، لكونه معلولاً له.

٢. انّ الوجوب الغيري لا يترتب على مخالفته العقاب لوضوح انّ العقاب

١٢١

لا يتعدد ، حسب تعدد مقدّمات الواجب النفسي.

٣. الوجوب الغيري لا يكون مقصوداً بالذات في مقام الامتثال ، وإنّما يكتسب المحبوبية من ناحية الوجوب النفسي الّذي يتوقف امتثاله على امتثال الواجب الغيري.

١٢٢

الفصل السابع

في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري

لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يستوجب العقاب ، لأنّه تمرّد وطغيان على المولى ، وخروج عن رسم العبوديّة وزيّ الرقية ، وهو قبيح عقلاً وشرعاً ، فيستوجب اللوم والعقاب.

كما لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري بما هو هو لا يستوجب العقاب ، غير أنّه لمّا كان تركه ملازماً لترك الواجب النفسي ، فالعقاب إنّما هو على ترك النفسي لا على مقدّمته.

كما لا إشكال في أمر ثالث ، وهو ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد القربة وأتى به لله سبحانه.

إنّما الكلام في أمر رابع وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري إذا أتى به بقصد التوصّل ، وعدم ترتّبه عليه ، وقبل الخوض في المقصود ، نشير إلى مسألة كلامية ، وهي :

هل ترتّب الثواب على امتثال التكليف على وجه الاستحقاق أو على وجه التفضّل؟ قولان : ذهب إلى الأوّل المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد وتبعه العلّامة الحلّي في كشف المراد ومال إليه المحقّق الخراساني في الكفاية ، وذهب إلى الثاني الشيخ المفيد على ما نقل عنه.

١٢٣

أقول : أمّا الأوّل فالظاهر عدم ثبوته بل ثبوت خلافه ، وذلك لأنّ من عرف ربّه وعظمته ، وعرف فقر نفسه ، وأنّ ما يملكه من حول وقوة ، وجارحة وجانحة ، وما يصرفه في طريق الطاعة ، كلّه مفاض منه تعالى إليه ، وليس ملكاً للعبد ، بل ملك له سبحانه ، صدّق القول بعدم الاستحقاق ، لأنّ القائل بالاستحقاق ذهب إلى أنّه يجب عليه سبحانه القيام به ، وعَدّ تركه ظلماً منه للعباد ، وهو لا يجتمع مع القول بأنّ المالك هو الله سبحانه على الإطلاق ، لا غير ، وأنّ جميع شئون العبد وحوله وقوّته وإرادته وفعله ملك لله تعالى ، فما أتى به العبد ليس سوى ما أعطاه إيّاه تعالى.

وإن شئت قلت : إنّ مثَل المخلوق إلى خالقه ، مثَل المعنى الحرفي إلى الاسمي فلا يملك المعنى الحرفي لنفسه شيئاً سوى كونه موجوداً غير مستقل في ذاته وفعله ، وعند ذلك كيف يستحقّ شيئاً في ذمة المولى ، بحيث لو لم يؤدّه يكون ظالماً في حقّه؟! وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). (١)

وأمّا التّعبير في بعض الآيات «بالأجر» الظاهر في الاستحقاق كقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). (٢)

وقوله سبحانه : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات ، فإنّما هو من باب المشاكلة نظير التعبير بالاستقراض في قوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ). (٤)

__________________

(١) فاطر : ١٥.

(٢) فاطر : ٧.

(٣) هود : ١١٥.

(٤) الحديد : ١١.

١٢٤

وأمّا على القول الثاني أي كون الثواب تفضّلاً من الله سبحانه فيكون الثواب والعقاب بالجعل والمواضعة فله أن يتفضّل على العباد بالوعد كما أنّ له أن لا يتفضّل عليهم به.

نعم بعد ما وعد يمتنع عليه التخلّف لاستلزامه الكذب الذي هو قبيح على الحكيم.

وعلى ضوء ذلك يظهر حكم المسألة أي ترتّب الثواب على الواجب الغيري ، فلو قلنا بأنّ الثواب على نحو الاستحقاق يكون المدار هو إطاعة أمر المولى ، سواء أكان المأمور به نفسياً أم غيرياً خصوصاً إذا أتى العبد بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى الواجب فيعد مطيعاً والمطيع مستحق للثواب من غير فرق بين إطاعة أمر دون أمر ولا بين كون الواجب محبوباً بالذات أو لا ، لأنّ ملاك الاستحقاق هو أن يكون فعل العبد لأجل امتثال أمره سبحانه من دون أن ينبعث عن أهواء نفسية وكون المتعلّق غير محبوب بالذّات كما في الواجب الغيري لا يؤثر في صدق الطاعة وكون الفعل للمولى المستتبع للثواب.

وأمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالجعل والمواضعة فيتبع مقدار الجعل وحدوده ، والظاهر من الكتاب هو الأعم وانّ الثواب يترتب على مقدّمة الواجب أيضاً كما في قوله سبحانه : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١) فقد قدّر لطيّ الأرض والسفر إلى أرض المعركة ، وما يصيبهم في أثناء ذلك من ظمأ وتعب

__________________

(١) التوبة : ١٢٠.

١٢٥

ومشقة ، أجراً ، مع أنّها واجبات مقدمية غيرية ، ومثل ذلك ما ورد من ترتّب الثواب على كلّ خطوة يخطوها المؤمن المتوجّه لزيارة الإمام الطاهر الحسين بن علي (عليهما‌السلام). (١)

__________________

(١) لاحظ كامل الزيارات : ١٣٣.

١٢٦

الفصل الثامن

في تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط(١)

إذا كان وجوب الشيء مشروطاً بوجود شيء ، سواء أكان أمراً خارجاً عن الاختيار كدلوك الشمس بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر ، أم داخلاً في الاختيار كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ، يطلق عليه الواجب المشروط.

وأمّا إذا كان وجوب الشيء غير مشروط بوجود الشيء بل يجب ، سواء أكان هذا الشيء موجوداً أو لا ، يطلق عليه الواجب المطلق ، وذلك كوجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء ، فإنّ وجوبها ليست مشروطة بالوضوء على نحو لو لم يتوضأ لم تجب عليه الصلاة ، بل الوجوب مطلق غاية الأمر انّ الوضوء شرط الصحة.

وبذلك يعلم أنّ الإطلاق والتقييد من الأُمور الإضافية كالأُبوّة والبنوّة ولا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة ويجتمعان فيه من جهتين ، مثلاً وجوب الصلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس وجوب مشروط وهو بالنسبة إلى الوضوء وجوب مطلق ، وتظهر ثمرة كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً في خصوص المقدّمات الاختيارية ، فإن كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلى أمر مثلاً كالوضوء لزم تحصيل

__________________

(١) عقدنا الفصلين : الثامن والتاسع بعد فصل مقدمة الواجب لوجود صلة بينهما باعتبار انّ الشرط والمعلق عليه يعدان من المقدمات.

١٢٧

الوضوء وبذل المال لشراء ماء الوضوء ، وأمّا إذا كان وجوبه مشروطاً به ، فالوجوب لا يتحقّق إلّا بعد وجود الشرط فلا وجه لوجوب تحصيله.

ومنه يعلم أنّ المقسم هو تقسيم الوجوب إلى المطلق والمشروط ووصف الواجب بهما من قبيل الوصف بحال المتعلّق.

نظرية الشيخ الأنصاري في الواجب المشروط

ذهب المشهور إلى أنّ الوجوب في الواجب المشروط مقيّد بالقيود المأخوذة في لسان الدليل ، فالوجوب غير حاصل ما لم تحصل هذه القيود. وأمّا المادّة التي تلبّست بها الهيئة ، فهي باقية على إطلاقها. ومعنى قوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) هو تجب عند دلوك الشمس الصلاة ، فالوجوب مقيّد بدلوكها وإن كانت المادة أعني : نفس الصلاة باقية على إطلاقها. فالقيد راجع إلى الهيئة.

وخالف في ذلك الشيخ الأعظم في تقريراته (١) فاختار انّ القيود كلّها من خصوصيات المادة وأمّا الهيئة فهي باقية على إطلاقها. وعليه يصير معنى الآية المذكورة : تجب الصلاة المقيدة بالدلوك ، كما أنّه يصير محصل قولك : «أكرم زيداً إن جاء» أنّه يجب الإكرام المقيد بالمجيء.

وعند ذلك تختلف النتيجة ، فعلى المشهور ، لا وجوب ما لم يتحقّق القيد أي الدلوك. وعلى قول الشيخ الوجوب حاليّ ، وإن كان ظرف العمل استقبالياً.

يلاحظ على نظرية الشيخ بأنّ القيود بحسب اللب والواقع على قسمين ، ولا معنى لجعلهما قسماً واحداً.

فإنّ قسماً منها يرجع إلى مادة الواجب كما إذا ترتبت المصلحة على الصلاة

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٦٤٥.

١٢٨

في المسجد والطواف حول البيت لا على نفس الصلاة والطواف المطلق. فلا شكّ انّ القيد «في المسجد» ، «حول البيت» من قيود الصلاة فلأجل ذلك يجب عليه تحصيل المسجد لإقامة الصلاة فيه وشدّ الرحال إلى مكة المكرّمة للطواف.

وأنّ قسما منها يكون مؤثراً في ظهور الإرادة وبعث المولى بحيث لو لا الشرط لما كان هناك بعث ولا طلب فلا شكّ انّه من قيود الهيئة ، فإذا قال : إن أفطرت فكفِّر وإن ظاهرت فأعتق ، فانّ تعلّق إرادة المولى بالتكفير بصورة الإيجاب ، رهن صدور عمل محرم من العبد كالإفطار في شهر رمضان والظهار بحيث لولاهما لما صدر منه بعث إلى التكفير ولا أمر بالعتق فيكون «الافطار» في قوله : «إن أفطرت فكفِّر» قيداً للبعث الحاكي عن الإرادة.

ولنمثِّل مثالاً آخر : انّ حجّ المتسكع ذو مصلحة ، كما أنّ أداء الزكاة قبل بلوغ النصاب لا يخلو من مصلحة غير انّ إرادة المولى أو بعثه مشروطة بالاستطاعة وبلوغ الغلة حدّ النصاب ، وما ذلك إلّا للزوم الحرج والضيق على المكلّفين لو لم يقيد الوجوب بالاستطاعة وبلوغ النصاب.

فإذا كانت ماهية الشروط على قسمين مختلفين فلا وجه لجعلها قسماً واحداً كما عليه المحقّق الأنصاري.

١٢٩

الفصل التاسع

في تقسيم الواجب المطلق إلى منجَّز ومعلَّق

إنّ صاحب الفصول قد قسّم الواجب المطلق إلى قسمين : منجز ومعلّق ، فقال :

إذا تعلّق الوجوب بالمكلّف به كمعرفة الله ولم يتوقّف حصول الواجب على أمر غير مقدور يسمّى منجزاً ، وإن تعلّق به وتوقّف حصول الواجب في الخارج على أمر غير مقدور كالوقت في الحج يسمى معلّقاً فانّ وجوبه يتعلّق بالمكلف من أوّل زمان الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور. (١)

وحاصله : أنّه إذا لم يكن وجوب الواجب ، ولا امتثال نفس الواجب ، متوقفين على حصول أمر غير مقدور ، فهو الواجب المنجز كالمعرفة.

وإن كان وجوبه غير متوقف على شيء لكن كان امتثال الواجب متوقفاً على حصول أمر غير مقدور ، فهو الواجب المعلّق ، أي عُلِّق الإتيان به على مجيء زمنه ، كما هو الحال في المستطيع عند وجود جميع المقدّمات قبل حلول أيّام الحجّ.

فالوجوب في كلتا الصورتين فعليّ ، غير انّ الواجب في الأوّل (المعرفة) فعلي دون الثاني ، فانّ الواجب فيه استقبالي.

__________________

(١) الفصول : ٨١ بتلخيص.

١٣٠

ثمرة التقسيم إلى المنجز والمعلّق

ثمّ إنّ الداعى إلى هذا التقسيم هو دفع الإشكال عن المقدّمات المفوِّتة حيث إنّ المشهور هو انّ فعلية وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها ، ومع ذلك نرى في الشريعة الإسلامية موارد توهم خلاف ذلك حيث وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها وذلك في الموارد التالية :

أ : وجوب الاحتفاظ بالماء قبل الوقت لواجده إذا علم عدم تمكّنه منه بعد دخول الوقت.

ب : وجوب الغسل ليلة الصيام قبل الفجر للجنب والمستحاضة.

ج : وجوب تحصيل المقدّمات الوجودية بعد الاستطاعة قبل فوت الحجّ.

د : وجوب تعلّم الأحكام للبالغ قبل مجيء وقت الوجوب إذا ترتّب على ترك التعلّم فوت الواجب في ظرفه.

ففي هذه الموارد تنهدم القاعدة المعروفة من «انّ فعليّة وجوب المقدّمة يتبع فعلية وجوب ذيها» لوجوب المقدّمة فيها قبل وجوب ذيها.

هذا هو الإشكال وقد تخلّص منه صاحب الفصول بتقسيم الواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق ، والقول بأنّ الواجب في هذه الموارد من قبيل الواجب المعلّق ، فالوجوب فعلي قبل الوقت وإن كان الواجب استقبالياً ، فلا يلزم انهدام القاعدة. لأنّ وجوب المقدّمة المفوّتة في هذه الموارد لأجل فعلية وجوب ذيها ولا تنافي استقبالية الواجب لوجوب المقدّمة بالفعل.

ثمّ إنّ من أنكر تقسيم الواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق ، تخلص من الإشكال في هذه الموارد بوجوه أُخرى مذكورة في دراسات عليا.

١٣١

الفصل العاشر

في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه

اختلفت كلمة الأُصوليّين في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه ، والضدّ على قسمين:

أحدهما : الضدّ العام وهو بمعنى النقيض ، فلو أمر بالصّلاة يكون تركها محرماً.

ثانيهما : الضدّ الخاص وهو الفعل الوجودي الذي لا يجتمع مع الفعل الواجب ، كما إذا أمر بإزالة النجس عن المسجد فوراً وقد دخل وقت الصلاة ، فلو قلنا بالاقتضاء يكون الأمر بالإزالة نهياً عن الصلاة.

في حكم الضدّ العام

أمّا الضدّ العام فلا يخلو إمّا أن يكون الاقتضاء بالدلالة المطابقية بأن يكون الأمر بالشيء عين النّهي عن تركه ، أو بالدلالة التضمنية بأن يكون الأمر بالشيء بمعنى طلب ذلك الشيء والمنع عن تركه ، فالوجهان لا يرجعان إلى شيء لما عرفت من أنّ مفاد الأمر هو البعث إلى الشيء وليس فيه أيّ دلالة على حكم الترك فضلاً عن كون النّهي عنه على نحو العينية أو الجزئية ، وأمّا الدّلالة على النّهي بنحو الدلالة الالتزامية فهي تتصور على نحوين :

الأوّل : الالتزام بنحو اللّزوم البين بالمعنى الأخص بأن يكون نفس تصوّر

١٣٢

الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك.

الثاني : الالتزام بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأعم بأن يكون تصوّر الطرفين (الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ العام) والنسبة كافياً في التصديق بالاقتضاء.

أمّا الأوّل فواضح الانتفاء ، إذ كيف يصحّ ادّعاء الدلالة الالتزامية بهذا النحو ، مع أنّ الإنسان كثيراً ما يأمر بشيء وهو غافل عن الترك فضلاً عن النّهي عنه؟

وأمّا الثّاني : ففيه انّ هذا النحو من النهي يدور أمره بين عدم الحاجة واللغوية ، وذلك لأنّ الأمر بالشيء إذا كان باعثاً نحو المطلوب يكون النّهي عن الترك غير محتاج إليه إلّا إذا كان تأكيداً للأمر ولكنّه خارج عن محط البحث ، وإذا لم يكن باعثاً نحو المطلوب ، يكون النهي عن الترك لغواً لعدم ترتّب الفائدة عليه.

هذا كلّه حول الضد العام.

أمّا الضدّ الخاص ، فقد استدلّ عليه بوجهين :

أحدهما : مسلك المقدمية.

الثاني : مسلك الملازمة.

أمّا الأوّل فهو مبني على تسليم أُمور ثلاثة :

١. انّ ترك الضدّ كالصلاة مقدّمة للمأمور به كالإزالة.

٢. انّ مقدّمة الواجب واجبة فيكون ترك الصلاة واجباً بهذا الملاك.

٣. انّ الأمر بالشيء (وهو في المقام قوله : اترك الصلاة) يقتضي النهي عن ضدّه العام ، أعني : نقيض المأمور به وهو هنا نفس الصلاة.

وأنت خبير بعدم صحّة واحد من هذه الأُمور.

أمّا الأمر الأوّل أي كون ترك الضد مقدّمة للمأمور به فغير صحيح ، إذ لا

١٣٣

مقدّمية لترك أحد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر ، فلا ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ولا ترك الإزالة مقدّمة للصّلاة ، بل غاية الأمر انّ بينهما منافرة ومعاندة لا يجتمعان في زمان واحد. وأمّا كون أحد التركين مقدّمة للآخر فلا ، لأنّ السبب الحقيقي لتحقّق كلّ واحد من الضدّين ، هو إرادة المكلّف واختياره ، فإذا وقع امام الضدين ورأى انّ الجمع بينهما أمر غير ممكن ، يختار واحداً منهما ، ويترك الآخر ، حسب اقتضاء غرضه ، من دون أن يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر.

ويمكن إبطاله أيضاً بوجه آخر وهو انّ جعل العدم موقوفاً عليه غفلة عن حقيقة العدم ، فإنّ العدم أمر ذهني لا وجود له في الخارج كما هو واضح ، وما هو هذا شأنه لا يكون مؤثّراً ولا متأثّراً ولا موقوفاً ولا موقوفاً عليه.

وأمّا الأمر الثاني ، أي وجوب المقدّمة التي هي «ترك الصلاة» فقد عرفت ضعفه لما عرفت من أنّ وجوب المقدّمة دائر بين ما لا حاجة إليه أو كونه لغواً.

وأمّا الأمر الثالث أي كون الأمر بالشيء حتّى الأمر المقدّمي مثل «اترك الصلاة» ، يقتضي النهي عن ضدّه العام ونقيضه أي الصلاة ففيه انّ هذا النهي (لا تصلّ) امّا غير محتاج إليه إذا كان الأمر بالترك باعثاً ، أو لغو إذا كان الأمر بالترك غير باعث.

إلى هنا تمّ الكلام في اقتضاء وجوب الشيء حرمة ضدّه سواء أُريد منه الضدّ العام أو الخاص من باب المقدمية.

وأمّا المسلك الثاني ، أي مسلك الملازمة فقد أوضحنا حاله في الموجز (١) فلا نطيل فلاحظ.

__________________

(١) الموجز : ٥٧٥٦.

١٣٤

الثمرة الفقهية للمسألة

تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء ، فإذا كان الضدّ عبادة كالصلاة ، وقلنا بتعلقّ النهي بها بأحد المسلكين السابقين تقع فاسدة ، لأنّ النهي يقتضي الفساد ، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة ، أو اشتغل بها ، حين طلب الدائن دينه.

ثمّ إنّ شيخنا بهاء الدين العاملي أنكر الثمرة ، وقال : إنّ الصلاة باطلة سواء أقلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أم لم نقل.

أمّا على الصورة الأُولى فلأجل النهي ، وأمّا على الصورة الثانية فلأجل سقوط الأمر بالصلاة ، لأنّ الأمر بالشيء وإن لم يستلزم النهي عن الضدّ ولكن يستلزم سقوط الأمر بالضدّ في ظرف الأمر بالإزالة لئلا يلزم الأمر بالضدين في وقت واحد ، فنفس عدم الأمر كاف في البطلان وان لم يتعلّق بها النهي.

فالمسألة فاقدة للثمرة على كلّ حال ، لأنّ الصلاة باطلة إمّا لكونها محرّمة على القول بالاقتضاء ، أو غير واجبة على القول بإنكار الاقتضاء ، ومعنى عدم وجوبها ، عدم تعلّق الأمر بها وهو يلازم البطلان.

ثمّ إنّ المتأخّرين من الأُصوليّين حاولوا إثبات صحّة الصلاة مع سقوط أمره من طريقين:

الأوّل : صحّة الصلاة لأجل وجود الملاك في الضدّ المبتلى به.

الثاني : الأمر بالضدّ على نحو الترتّب ، أي بشرط عصيان الأمر بالأهم ، كأن يقول : أزل النجاسة وإن عصيت فصلِّ.

أمّا الوجه الأوّل ، فقد اختاره المحقّق الخراساني ، وذلك لأنّ تعلّق النهي يلازم فساد العبادة لا عدم تعلّق الأمر ، والمقام من قبيل الثاني لا الأوّل. فإذا

١٣٥

كانت العبادة غير منهية عنها يكون محكوماً بالصحّة وإن لم يكن هناك أمر وذلك لكفاية الملاك والرجحان الذاتي فيها ، إذ الفرد المزاحِم للعبادة وغير المزاحِم سيان في الملاك والمحبوبية الذاتية ، إذ غاية ما أوجبه الابتلاء بالأهم هو سقوط أمره وأمّا ملاكه فهو بعدُ باق عليه.

هذا هو حال الوجه الأوّل ، وأمّا حال الوجه الثاني فهو المعروف بمسألة الترتّب يطلب من دراسات عليا.

١٣٦

الفصل الحادي عشر

متعلّق الأوامر

هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟ فنقول : المراد من الطبيعة : هو المفهوم الكلي من غير فرق بين أن يكون من الماهيات الحقيقية ، كالأكل والشرب ؛ أو الماهيات المخترعة ، كالصلاة والصوم.

والمراد من الأفراد : هي الطبيعة مع اللوازم التي لا تنفك عنها لدى وجودها ولا يمكن إيجادها في الخارج منفكة عنها ، فوقع النزاع في أنّ متعلّق الأمر هل هو نفس الطبيعة الصرفة بحيث لو قدر المكلّف على الإتيان بها مجرّدة عن المشخصات الفردية لكان ممتثلاً لأوامر المولى ، أو أنّ متعلّقه هو الطبيعة مع اللوازم الفردية؟

وعلى ذلك ، فالمراد من الطبيعة هو ذات الشيء بلا ضم المشخّصات ، كما أنّ المراد من الفرد ذاك الطبيعي منضماً إلى المشخّصات الفردية الكلية ، مثلاً :

إذا قال : المولى أكرم العالم ، فهل متعلّق الأمر هو نفس ذلك المفهوم الكلي أي إكرام العالم أو هو مع المشخّصات الملازمة للمأمور به ، كالإكرام في زمان معين ، أو مكان معين ، وكون الإكرام بالضيافة ، أو بإهداء الهدية إلى غير ذلك من العوارض.

١٣٧

إذا وقفت على معنى الطبيعة والأفراد في عنوان البحث ، فنقول :

الحق أنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة دون الفرد ، لأنّ البعث والطلب لا يتعلّقان إلّا بما هو دخيل في الغرض ويقوم هو به ، ولا يتعلّقان بما هو أوسع ممّا يقوم به الغرض ولا بما هو أضيق منه ، وليس هو إلّا ذات الطبيعة دون مشخّصاتها ، بحيث لو أمكن للمكلّف الإتيان بذات الطبيعة بدونها لكان ممتثلاً.

وعلى هذا فالطبيعة بما هي هي متعلّقة للطلب والبعث.

وبذلك يعلم أنّ متعلّق الزجر في النهي هو نفس متعلّق الأمر أي الطبيعة.

والحاصل : أنّ محصّل الغرض هو المحدِّد لموضوع الأمر ، وقد عرفت أنّ المحصّل هو نفس الطبيعة لا المشخّصات ، كالزمان والمكان وسائر عوارض الطبيعة.

ثمرة المسألة

تظهر الثمرة في باب الضمائم ، كما إذا توضأ في الصيف بماء بارد وقصد القربة في أصل الوضوء لا في الضمائم ، فلو قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع لكفى وجود القربة في أصل الوضوء بالماء وإن لم يقصد القربة في الضمائم ، وأمّا لو قلنا بتعلّقه مضافاً إلى الطبيعة بالأفراد أي اللوازم لبطل الوضوء لعدم قصد القربة فيها بل لأجل التبريد مثلاً.

تفسير خاطئ للفرد في المقام

نعم ربّما يفسر الفرد ، بالفرد الخارجي أو المصداق من الطبيعة ويقال : هل الأمر يتعلّق بالمفهوم الكلي كالصلاة ، أو يتعلّق بالفرد الخارجي الذي يمتثل به المكلّف؟

١٣٨

لكنّه تفسير خاطئ ، لأنّ الفرد بهذا المعنى لا يتحقّق إلّا في الخارج وهو ظرف سقوط التكليف ، وليس ظرفاً لعروضه ، والبحث إنّما هو في معروض التكليف لا فيما يسقط به ، بل المراد من الفرد في المقام هو الطبيعة مع العوارض والمشخّصات كما مثلنا ، وهما كالطبيعة من الأُمور الكليّة.

نعم ، المراد من الفرد في مبحث اجتماع الأمر والنهي عند القائل بالامتناع هو الفرد الخارجي ، والمصداق المعين من الطبيعة ، فاحفظ ذلك لئلّا يختلط الاصطلاحان في المقامين عليك.

١٣٩

الفصل الثاني عشر

التخيير بين الأقلّ والأكثر

لا إشكال في التخيير بين المتباينين كما هو الحال في خصال الكفّارة إنّما الإشكال في جوازه بين الأقلّ والأكثر ، كتخيير المصلّي بين تسبيحة واحدة أو ثلاث تسبيحات ، وذلك لأنّ الأقل يحصل دائماً قبل الأكثر فيسقط به الأمر ، ولا تصل النوبة إلى الامتثال بالأكثر ، ولأجل ذلك حمل الزائد على التسبيحة الواحدة على اجتماع الواجب مع المستحب.

وقد قام بعض المحقّقين بتصحيح التخيير بينهما بالبيان التالي وهو :

إذا كان الأثر مترتباً على الفرد التام من الأقل والفرد التام في الأكثر يصحّ التخيير بين الفرد الأقل والفرد الأكثر ، وذلك لأنّ الأقلّ الموجود في ضمن الأكثر لا يكون مصداقاً للواجب الأقلّ وإنّما يكون مصداقاً له إذا وجد بحده وبصورة فرد مستقل وهو لا يتحقّق إلّا بفصله عن الزائد ، وأمّا إذا وجد متصلاً معه فلا يكون فرداً للأقل المأمور به وإن كان مصداقاً لذات الأقل.

نعم لو كان الأثر مترتباً على مطلق الأقل الأعم من أن يكون مستقلاً أو موجوداً في ضمن الأكثر فلا يصحّ التخيير إذ لا تصل النوبة في مقام الامتثال إلى الامتثال بالأكثر ، لأنّ المأتي به لا يخلو إمّا أن يكون فرداً مستقلاً للأقل فيسقط الأمر به ، أو يكون في ضمن الأكثر فيتحقّق قبل تحقّق الأكثر.

١٤٠