الوسيط في أصول الفقه - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-000-2
الصفحات: ٢٥٥
الجزء ١ الجزء ٢

العمدي في يوم شهر رمضان ، حيث إنّ المفطِر مخيّر بين عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً.

وهناك بيان آخر لوجوب الحمل على النفسية والعينية والتعيينية ، وهو انّ أمر المولى لا يُترك بلا عذر ، ومقتضى ذلك هو الحمل على ما ذكر إذ فيه امتثال لأمر المولى على كلّ تقدير بخلاف ما إذا حمل على مقابلاتها فلا علم فيه بالامتثال كما لا علم بترك الامتثال عن عذر.

كلّ ذلك إذا كان المتكلّم في مقام بيان الجهات المختصّة كالنفسية والغيرية ، والعينية والكفائية ، والتعيينية والتخييرية ، وإلّا يكون الأمر مجملاً من الناحية المشكوكة.

هذا كلّه حول الأصل اللّفظي ، وأمّا مقتضى الأصل العملي إذا قصرت اليد عن الأصل اللّفظي فسوف يوافيك بيانه في مبحث البراءة والاشتغال. (١)

__________________

(١) فقد أخّرنا بيانه تبعاً للقوم.

١٠١

الفصل الخامس

الإثيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء

قد عنونت مسألة الإجزاء في كتب الأصوليين بعنوانات مختلفة وما ذكرناه من العنوان هو المختار عند أغلب الأصوليين ، والمراد من قولهم» على وجه «هو الكيفية المعتبرة شرعا وقد عرفت أنّ قصد الأمر من هذه الكيفية.

وهذه المسألة غير مسألة دلالة الأمر على المرة والتكرار فأنّ هناك مسألتين بملاكين ، فالبحث في المسألة الثانية عن مقدار مفاد الأمر وانّه هل هو نفس الطبيعة أو الطبيعة المقيدة بإحداهما؟ وأمّا المقام فالكلام فيه بعد الفراغ عن المفاد فيقال هل الإتيان بالمأمور به سواء أكان الطبيعة المطلقة أو المقيدة بالمرة أو التكرار يقتضي الإجزاء أو لا.

كما أنّ هذه المسألة غير مسألة كون القضاء بأمرجديد أو بنفس الأمر الأوّل وذلك لاختلاف المسألتين من حيث الموضوع ، فأنّ موضوع مسألتنا هو الإتيان بالمأمور به بنحو من الأنحاء والموضوع لمسألة تبعية الفضاء للأداء هو فوت المأمور به في وقته فكيف تكونان مسألة واحدة؟

على أنّ النسبة بينهما من حيث المورد عموماً من وجه ، فلو أتى بالمأمور به على وجهه الواقعي ، يقع الكلام فيه في الإجزاء ، ولا موضوع لمسألة التبعية كما أنّه إذا فاته الواقع، ولم يأت بالواجب أًصلاً ، فلا موضوع للإجزاء. ويجتمعان فيما إذا

١٠٢

أتى بالواجب بأمر اضطراري أو ظاهري ، فيصحّ البحث عنه من الجهتين ، ومعه يصحّ عقد المسألتين ، فلاحظ.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في مقامات ثلاثة :

الأوّل : في إجزاء امتثال كلّ أمر عن التعبد به ثانياً

إنّ إجزاء امتثال الأمر عن التعبّد به ثانياً من أوضح القضايا وأبدهها ، والوجه في ذلك أنّه لو لم يسقط ، فإمّا أن يبقي ملاك الأمر ، أو لا. والأوّل خلاف الفرض ، إذ لا معنى لبقاء الملاك مع الإتيان بالمأمور به ، لأنّ إتيان المأمور به محصِّل لغرض المولى ، بلا زيادة ولا نقيصة ، ولولاه لما أمر به ، ومع ذلك كيف يمكن القول ببقاء الغرض وعدم حصوله؟ والثاني أوضح فساداً لاستلزامه ثبوت الإرادة الجزافية للمولى ، إذ لا يأمر إلّا لتحصيل الغرض ، وقد حصل بالامتثال الأوّل ، فلا معنى لبقاء الغرض ثانياً ، وهل هذا إلّا كبقاء المعلول مع زوال علّته.

وإن شئت قلت : إنّ عدم السقوط ، سببه أُمور كلّها محكومة بالبطلان ، فعدم السقوط إمّا :

لأجل تعدّد المأمور به ، والمفروض عدمه ، إذ هو نفس الطبيعة.

أو لأجل عدم حصول الغرض. وهو خلف أيضاً ، لأنّ المفروض انّ المأتي به علّة ، لحصوله وإلّا لما أمر به.

أو لأجل بقاء الأمر مع حصول الغرض ، وهذا يستلزم الإرادة الجزافية.

فإن قلت : إنّ أبا هاشم (المتوفّى ٣٢١ ه‍) والقاضي عبد الجبار (المتوفّى ٤١٥ ه‍) المعتزليَّين ذهبا إلى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يقتضي الإجزاء ، واستدلّا عليه بما إذا أفسد المكلّف حجَّه بالجماع فتجب عليه الإعادة كلّما تمكّن.

قلت : إنّ الحجّ إمّا أن يكون فاسداً ، كما إذا جامع عن علم ؛ أو صحيحاً ،

١٠٣

كما إذا كان جاهلاً بالحكم على القول بالصحّة في هذه الصورة فكلتا الصورتين خارجتان عن محطّ البحث.

أمّا إذا كان فاسداً ، فلأنّه لم يأت بالمأمور به على ما هو عليه ، والبحث فيما إذا أتى به على النحو المطلوب.

وأمّا إذا كان صحيحاً فالأمر الثاني من باب العقوبة لا لعدم الإجزاء ، وقد ورد به التصريح في رواياتنا.

قال زرارة : قلت : فأي الحَجَّتين لهما؟ قال : «الأُولى التي أحدثا فيها ما أحدثا ، والأُخرى عليهما عقوبة». (١)

وعلى ذلك فهناك أمران : أمر بنفس الحجّ بما انّه واجب عباديّ ماليّ وقد امتثله ، وأمر به بما انّه عقوبة وكفّارة لما أحدثا في أثناء العبادة من الجماع.

فإن قلت : ربما يجوز تبديل امتثال بامتثال آخر ، كما إذا طلب المولى ماءً ليشربه فأحضره ، فانّ للعبد تبديل هذا الامتثال بامتثال أفضل ، كما إذا أتى ثانياً بماء حلو أكثر ، أو وعاء انظف قبل أن يقضي المولى حاجته بالشرب.

قلت : إنّ الأمر الأوّل قد سقط بإحضار الماء وليس المقام من قبيل تبديل امتثال بامتثال آخر ، بل من قبيل تبديل فرد من المأمور به إلى فرد آخر أحلى منه ، والفرق بينهما واضح فانّ تبديل الفرد لا يتوقف على بقاء الأمر بل يصحّ وإن كان الأمر ساقطاً ، بخلاف تبديل الامتثال فانّه فرع بقاء الأمر حتى يصدق عليه انّه تبديل امتثال بآخر.

فإن قلت : إذا أحضر الماء وأُهرق واطّلع العبد عليه وجب عليه إتيانه ثانياً.

قلت : إنّ الأمر الأوّل قد سقط بالامتثال ، وأمّا الأمر الثاني فهو امتثال آخر

__________________

(١) الوسائل : ٩ ، الباب ٣ من أبواب كفارة الاستمتاع ، الحديث ١٠.

١٠٤

للغرض غير الحاصل للمولى لأجل إهراق الماء ، فكأنّ هناك أمرين : أحدهما تعلّق باحضار الماء وقد امتثل ، والثاني تعلّق بحكم العقل بتحصيل غرض المولى وهو بعد لم يُمتثل.

والحاصل انّ العلم بالغرض القطعي موضوع عند العقل بوجوب الامتثال وإن لم يكن هناك أمر ظاهري من المولى كما إذا غرق ابن المولى أو احترق البيت ووقف عليه العبد ، دون المولى ، ففي هذه المقامات العلم بالغرض موضوع تام للامتثال وتحصيل غرض المولى.

وبما ذكرنا تقف على ما ورد من إعادة الصلاة في أبواب الكسوف (١). أو إذا وجد جماعة وقد صلى فرادى (٢) ، أو صلّى مع المخالف (٣) ووجد فرصة للإعادة. إذ ليس الامتثال الثاني من باب تبديل الامتثال الأوّل بآخر حتى يكون الثاني بداعي الأمر الأوّل ، بل من باب استحباب الإعادة بأمر ثان استحبابي لا بملاك الأمر الوجوبي الأوّل.

الثاني : إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي

إذا كان المكلّف فاقداً للطهارة المائية فيجب عليه الصلاة بالطهارة الترابية ، فالفرد الأوّل فرد اختياري ، والفرد الثاني فرد اضطراري ، ومثله ما إذا ابتلى بالتقية ولم يتمكّن من الامتثال بالفرد الاختياري ، كان عليه الامتثال بالفرد الاضطراري كغسل الرجلين مكان مسحهما ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، فهل يجزي الامتثال بالفرد الاضطراري عن الامتثال بالفرد الاختياري عند ما زال الاضطرار؟

__________________

(١) الوسائل : ٥ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الكسوف ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ٥ ، الباب ٦ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

(٣) الوسائل : ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

١٠٥

أقول : ظاهر عنوان المسألة انّ هنا أمرين : أمراً بالفرد الواقعي ، وأمراً بالفرد الاضطراري ، والكلام في إجزاء الامتثال الثاني عن الامتثال الأوّل. ويظهر ذلك من أكثر المتأخّرين الذين عكفوا على دراسة هذه المسألة بعد الشيخ الأنصاري (قدس‌سره).

ولكن الحقّ انّ هنا أمراً واحداً وخطاباً فارداً لعامة المكلّفين من دون فرق بين المختار والمضطر ، وهو قوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١) ، غير انّ امتثال ذلك الأمر يختلف حسب اختلاف حالات المكلّفين من صحة وسقم ، وقدرة وعجز ، فيصلي السليم المتمكن ، قائماً بالطهارة المائية كما يصلّي السقيم العاجز قاعداً بالطهارة الترابية ، فالاختلاف يرجع إلى كيفية امتثال الأمر الواحد بالنسبة إلى اختلاف حالات المكلّفين ، ونظير الآية السابقة قوله سبحانه : (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٢) حيث إنّ ظاهر الآية وحدة الأمر في الحاضر والمسافر غير انّ المسافر يجوز له أن يُقصِّر تلك الصلاة ويجعلها ركعتين من دون أن يختلف أمر الحاضر والمسافر.

ومثل الآيتين قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٣) إلى أن قال : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(٤) ، فالآية ظاهرة في أنّ كلّا من الواجد والفاقد للماء يقصد أمراً واحداً لكنّهما يختلفان في كيفية إيجاد الجامع الصادق على الفردين ، فأحدهما يأتي بها بالطهارة المائية والآخر يأتي بها بالطهارة الترابية ، فكلا الفردين من مصاديق الصلاة التي أمر بهاجميع المكلّفين على اختلاف حالاتهم.

والمبرِّر لوحدة الأمر مع اختلاف المتعلّق في الكيفية هو كون الطبيعة ذات

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) النساء : ١٠١.

(٣) المائدة : ٦.

(٤) المائدة : ٦.

١٠٦

عرض عريض وذات مراتب مختلفة. وقد مرّ في مبحث الصحيح والأعم (١) انّ الصلاة بمعنى واحد تصدق على جميع المراتب المختلفة من دون أن يكون اللفظ مشتركاً لفظيّاً بين المراتب.

فعلى هذا الأساس يتجلّى الإجزاء بصورة واضحة ، لأنّ المفروض انّ الأمر واحد والطبيعة المتعلّقة للأمر ، صادقة على فعل المتمكّن والمضطر وينطبق على كليهما عنوان الصلاة وعند ذاك لا وجه لعدم الإجزاء بعد تمامية المقدّمات.

ثمّ إنّ القول بوحدة الأمر إنّما يوجب الإجزاء في صورتين :

أ : إذا كان العذر مستوعِباً لتمام الوقت فامتثل الأمر بالفرد الاضطراري الموجب للإجزاء.

ب : إذا لم يكن العذر مستوعباً ولكن دلّ الدليل على كفاية العذر غير المستوعب في البدار إلى امتثال الأمر بالفرد الاضطراريّ وعدم اشتراط العذر المستوعب ، فإذا كان الامتثال بإذن من الشارع وانطبق عليه عنوان الطبيعة سقط الأمر قطعاً ، ولا يبقى لعدم الإجزاء وجه.

نعم لو كان العذر غير مستوعب ولم يدلّ دليل على جواز البدار إلى الامتثال بالفرد الاضطراري فلا وجه للقول بالإجزاء ، لأنّ المقام يكون من قبيل الشكّ في سقوط الواجب بالفرد المشكوك فتجب عليه الإعادة في الوقت ، والقضاء خارجه ، ولو لم يُعِد والوقت باق فعليه القضاء.

هذا كلّه على القول بوحدة الأمر ، وأمّا على القول بتعدد الأمر وانّ هناك أمراً بالفرد الاختياري ، وأمراً بالفرد الاضطراري ، فإثبات الإجزاء على عاتق الدراسات العليا.

__________________

(١) لاحظ صفحة ٧١.

١٠٧

الثالث : اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي (١)

إنّ العمل بالأمارات والأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف والوظيفة ، كالأمارة القائمة على كون الواجب هو صلاة الجمعة في ظهرها ، أو الاستصحاب الدالّ على كونها الواجب.

وأُخرى لاستكشاف كيفية التكليف ، كما إذا قامتا على عدم كون شيء شرطاً أو جزءاً أو مانعاً ، أو على كونه شرطاً أو جزءاً أو مانعاً.

فيقع الكلام في موردين :

الأوّل : العمل بالأمارات أو الأُصول لاستكشاف كيفية التكليف ، سواء أكانت الشبهة حكمية أو موضوعية.

الثاني : العمل بهما لاستكشاف أصل التكليف.

فلنقدم البحث في الأمارة على الأُصول كما تقدم إعمالها لاستكشاف الكيفيّة ، على استكشاف أصل التكليف.

الف : العمل بالأمارة في استكشاف كيفية التكليف

لو صلّى إنسان أو توضّأ أو اغتسل أو حجّ على وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً على حجّية قوله لدى الشارع ثمّ بان خطأ الراوي ، فهل يكون العمل مجزياً أو لا؟ حكى سيّد مشايخنا البروجردي (قدس‌سره) تسالم القدماء على الإجزاء في الأمارات والأُصول في استكشاف كيفية التكليف ، وإنّما طرأ القول بعدم الإجزاء من عصر الشيخ الأنصاري (١٢١٢ ١٢٨١ ه‍).

ويمكن أن يُستدلّ على الإجزاء بوجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بها

__________________

(١) الحكم الواقعي هو كلّ لم يؤخذ في موضوعه الشكّ في حكم ، مثل الغنم حلال.

الحكم الظاهري هو كلّ حكم أخذ في موضوعه الشكّ في حكم شرعي نظير كلّ شيء حلال حتّى تعلم انّه حرام وسيوافيك تفصيلهما عند البحث في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في ج ٢.

١٠٨

في موردها ، وإجزائه في مقام الامتثال مطلقاً ، وافقت الواقع أم خالفت ، مثلاً إذا قال الإمام : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعني يؤدّي ، وما قال لك عني ، فعني يقول ، فاسمع له وأطع ، فانّه الثقة المأمون». (١) وهو يعلم انّ العمري إنسان غير معصوم ربما يخطأ ومع ذلك يأمر بالعمل بقوله على وجه الإطلاق. فيكون معنى هذا انّ المولى قد رضي في امتثال أوامره ونواهيه ، وتحصيل أغراضه ومقاصده ، على حدّما ، أدّت إليه الأمارة ، التي تكون مطابقة للواقع بدرجة كبيرة ، فكون الأمارة محصِّلة للمقاصد بهذا المقدار صحَّحَ الأمر بالعمل بقوله مطلقاً وبالتالي أوجب رفع اليد عن أغراضه فيما إذا أخطأ ، كلّ ذلك لمصلحة عالية وهو تسهيل الأمر على المكلّفين.

وما استظهرنا من الملازمة بين الأمر بالعمل بقول الثقة ، والإجزاء مطلقاً سواء أوافق الأمر أم لا ، هو المتفاهم في العرف في هذه الموارد. مثلاً :

لو أمر المولى عبده بأن يهيِّئ له دواء ليتداوى به وأمره بأن يسأل صيدليّاً معيّناً عن نوعيّة أجزائه وكمّية وكيفية تركيبه ، فاتبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب ، ثمّ ظهر أنّ الصّيدليّ قد أخطأ في مورد أو موردين ، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه ، ويرون عمله مسقطاً للتكليف ، من دون ايجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء ، اللهمّ إلّا أن يأمره المولى مجدّداً.

وهذه الارتكازات تدلّ على الملازمة بين الأمر بالرجوع إلى الثقات والخبراء ، والاكتفاء في امتثال الأمر بما أتاه بإرشادهم وهدايتهم ، وهذا يعطي أنّ الشارع اكتفى في دائرة المولوية والعبودية فيما يرجع إلى مقاصده ، بما يؤديه إخبار الثقة ، ولو بان الخلاف ، فهو يرفع اليد عن مقاصده ، تسهيلاً للأمر على العباد.

فإن قلت : فأي فرق بين هذا القول وبين القول بالتصويب ، فانّ رفع اليد

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

١٠٩

عن الحكم الواقعي في حقّ الجاهل كما هو المفروض تصويب وإنكار للحكم المشترك بين عامة الناس.

قلت : التصويب عبارة عن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم وعدم شمولها للجاهل من رأس ، وهذا بخلاف المقام ، فانّ الأحكام الواقعية على هذا القول تشمل جميع الناس من دون تفاوت بين العالم والجاهل ، ولكنّه سبحانه وتعالى تسهيلاً للأمر على العباد اكتفى في امتثال أوامره بإخبار الثقات ، لمطابقتها للواقع بنسبة عالية ، فأوجبت المصلحةُ التسهيلية عدمَ فعلية هذه الأحكام في موارد التخلّف.

وبالجملة فرق بين عدم جعل الحكم على الجاهل وبين عدم فعليته في حقّه ، لأجل قيام الأمارة على خلاف الواقع.

فإن قلت : إنّ العبد وإن كان معذوراً في ترك الواقع ولكن غرض المولى بعدُ لم يستوف فتجب الإعادة والقضاء لذلك.

قلت : لو علم المكلّف بأنّ غرض المولى بعدُ لم يُستوف كما إذا أمر بإحضار الماء للتوضّؤ فأتى به ثمّ تلف يجب عليه تجديد الامتثال لأجل حفظ الغرض ، وأمّا المقام فليس هناك علم بعدم استيفاء الغرض وذلك لما عرفت من أنّ المصلحة التسهيليّة سبَّبت لأن يتضيّق غرض المولى بما أدّت إليه الأمارة التي تطابق الواقع بدرجة كبيرة ، فليس له إلّا هذا المقدار من الغرض.

نعم لو لا المصلحة التسهيلية لربما يتعلّق غرضه باستيفائه في عامة الموارد وافقت الأمارة للواقع أو خالف. وعندئذ يقوى القول بعدم الإجزاء.

وبالجملة رفع الحرج عن المكلّفين وإيجاد الرغبة للناس إلى الدين من الأُمور التي صارت سبباً لتضييق غرضه وتحدّده بما توصل إليه الأمارة وغض النظر عمّا إذا لم يُستوفَ.

١١٠

هذا هو المختار عندنا ولكن المتأخرين كالشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني وغيرهما من الأعلام ذهبوا إلى عدم الإجزاء في الأمارات القائمة على كيفية التكليف.

ب : العمل بالأمارة لاستكشاف أصل التكليف

إذا قامت الأمارة على أصل التكليف ، كما إذا قام على أنّ الواجب هو صلاة الظهر وكان الواجب هو صلاة الجمعة ، فالحقّ عدم الإجزاء وذلك لوجود الفرق بين قيام الأمارة على كيفية التكليف وقيامها على أصل التكليف.

ففي الصورة الأُولى أتى بالمكلّف به وانطبق عليه عنوان الصلاة ولكنّه كان ناقصاً غير تام ، فيمكن ادّعاء الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل بالأمارة والإجزاء في صورة التخلّف ، وأمّا إذا لم يمتثل أصلاً ، كما لو أمره المولى بخياطة ثوبه فاخبرت الثقة بانّ الواجب هو طبخ الطعام فلا وجه للامتثال.

فالملازمة العرفية التي اعتمدنا عليها مختصة بما إذا كان هناك امتثال لأمره ، غاية الأمر لم يكن المأتيّ به مطلوباً تاماً ، وأمّا إذا لم يمتثل أبداً ، ولم ينطبق عليه عنوان المأمور به ، يبقى الغرض على ما كان عليه ، فلا وجه لاجزاء امتثال أمر موهوم عن أمر حقيقي.

هذا كلّه حول العمل بالأمارة في كلا الموردين ، وإليك البحث في العمل بالأُصول.

العمل بالأُصول العملية لاستكشاف كيفية التكليف

إذا امتثل الواجبَ ، بالأُصول الشرعية كما إذا صلّى المكلّف في الثوب المتنجس اعتماداً على قاعدة الطهارة أو استصحابها فهل يحكم بالإجزاء أو لا ،

١١١

فالظاهر هو الحكم بالإجزاء لوجهين :

الأوّل : ما ذكرنا من حديث الملازمة بين الأمر بالعمل بالشيء لاستكشاف كيفية التكليف ، والإجزاء وقد مرّ مفصّلاً فلا نطيل.

الثاني : هو حكومة أدلّة الأُصول بالنسبة إلى أدلّة الأجزاء والشرائط ، فإذا قال : صلّ في ثوب طاهر ، ثمّ قال : إذا شككت في كون شيء طاهراً أو لا فهو طاهر ، فالظاهر منه هو حكومة دليل الأصل على أدلّة الأجزاء والشّرائط حيث إنّ الدليل الأوّل يدعو إلى إيقاعها في ثوب طاهر ، والدليل الثاني يُثبت انّ هذا المشكوك طاهر ومصداق للدليل الأوّل ، فتكون نتيجة الحكومة هو كون الشرط للصلاة هو الأعمّ من الطّهارة الواقعية أو الظّاهرية ، وعليه إذا صلّى في ثوب محكوم بالطهارة ، فقد صلّى في ثوب حاصل للشرط واقعاً ، إذ المفروض بعد الحكومة انّ الشرط هو الأعمّ من الواقعية والظاهرية ، وعندئذ ينطبق عليه عنوان الصلاة فيسقط الأمر ، لما عرفت من أنّ الإتيان بالمأمور به يلازم الإجزاء.

فإن قلت : إنّ الامتثال بالثوب المحكوم بالطهارة ظاهراً ، والنجس واقعاً يوجب الإجزاء بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، وأمّا الحكم الواقعي المتعلّق بالثوب الطاهر واقعاً فهو باق.

قلت : إنّ الإشكال مبني على تعدد الأمر وانّ هناك أمرين :

أمر بالصلاة بالطهارة الظاهرية ، وأمر بها بالطهارة الواقعية ، فالامتثال الأوّل لا يغني من الثاني ، وأمّا على ما ذهبنا إليه من أنّ هناك أمراً واحداً متعلّقاً بالصلاة حسب اختلاف الحالات وحسب ما للصلاة من العرض العريض من الأفراد فليس هناك إلّا أمر واحد والمفروض انّه امتثله بشهادة كون الفعل حائزاً لما هو الشرط فيه وبالتالي انطباق عنوان الصلاة عليه ومعه لا يبقى أمر.

١١٢

وبذلك يعلم الحال في سائر الأُصول كقاعدة الحلية والبراءة والتجاوز ، فلو انّ القوم قاموا بدراسة واقع التشريع ووحدة الأمر مكان تعدده لسهل عليهم القول بالإجزاء في عامة المراتب إلّا إذا لم يكن هناك أيُّ امتثال.

وبذلك يعلم حال الصورة الثانية من العمل بالأُصول وهو ما إذا قام الأصل على أصل التكليف وبان الخلاف كما إذا استصحب وجوب الجمعة وكان الواجب في الواقع هو الظهر فعدم الإجزاء هو المحكم لما مرّ في مورد الأمارات.

تنبيه : في تبدّل القطع

لو قطع المكلّف بشيء ثمّ بان خلافه من غير فرق بين تعلّق قطعه بكيفية العمل أو أصله ، فلا ينبغي الشكّ في عدم الإجزاء ، وذلك لأنّه لم يكن هناك أمر من المولى بالمقطوع به حتى يستدلّ بالملازمة على الإجزاء. إذ القطع حجّة عقلية ، والآمر بتطبيق العمل على وفقه هو العقل لا الشرع ، ومن جانب آخر لم يُستوف غرض المولى ، فهو بعد باق ، فلا وجه للإجزاء.

تطبيقات

١. لو صلّى اعتماداً على يقينه بدخول الوقت فبان الخلاف ، لاعاد صلاته لعدم الأمر الشرعي بها. نعم لو صلّى اعتماداً على البيّنة الشرعية فمقتضى القاعدة (الملازمة العرفية) هو الإجزاء لو لا قاعدة «لا تعاد» حيث إنّ الوقت أحد الأُمور الخمسة التي تعاد الصلاة في فوتها مطلقاً.

٢. لو دخل الصبي في الصلاة وهو غير بالغ فبلغ في أثنائها ، فيجب عليه إكمال الصلاة والاجتزاء بها لما عرفت من أنّ البالغ وغير البالغ يقصدان أمراً واحداً

١١٣

وهو (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١). غير انّ الدليل الخارجي دلّ على شدّة الإرادة في البالغ وضعفها في غيره. وهذا لا يكون سبباً لتعدد الأمر ، وعندئذ فقد امتثل الأمر المتعلق بالصلاة ، وانطبق عنوان الصلاة على المأتي به فلا وجه لبقاء الأمر.

نعم ذهب صاحب الجواهر إلى لزوم الإعادة عملاً بتعدد الأمر ، وقال : فيكون اللّذان تواردا على الصبي في الفرض أمرين : ندبياً وإيجابياً ومع المعلوم عدم إجزاء الأوّل عن الثاني. (٢)

٣. إذا انحصر الثوب في النجس ولم يتمكن من غسله ونزعه لبرد وصلّى فيه ، فإن كان العذر مستوعباً فلا كلام في الإجزاء ، وإن كان غير مستوعب كما إذا تمكّن من الغسل أو النزع في فترة من الوقت فالاجتزاء به يتوقف على إطلاق في دليل الاضطرار. بأن كان العذر غير المستوعب مجوزاً للبدار وإقامة الصلاة في النجس وإلّا فالمرجع هو الاحتياط للشكّ في سقوط الأمر الواحد.

٤. لو دفع الزكاة إلى شخص على أنّه فقير فبان غنياً ، ارْتجعت مع التمكّن ، فإن تعذّر ارتجاعها كان في ذمّة الآخذ ، إنّما الكلام في براءة ذمّة الدافع فإن اعتمد في الفحص عن حاله على حجّة شرعية كالبيّنة أو خبر العادل بناء على حجّيته في الموضوعات أو الاستصحاب أجزأ ، لقاعدة الملازمة العرفية ويكون الموضوع لبراءة الذمة ، الدفع لمن ظهر منه الفقر لا الفقر الواقعي.

٥. إذا قلّد من يقول بصحّة الصلاة بلا سورة أو بصحّة العقد باللغة الفارسية أو بجواز ذبح الحيوان بغير الحديد ثمّ مات المقلَّد وقلد مجتهداً آخر يقول فيها بخلاف ما قال الأوّل ، فيقع الكلام في عباداته ومعاملاته والتفصيل في مباحث الاجتهاد والتقليد.

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) الجواهر : ٢٦٢ / ٧.

١١٤

الفصل السادس

في المقدّمة :

أقسامها وأحكامها

عُرِّفت المقدّمة بأنّها ما يتوصّل بها إلى شيء آخر على وجه لولاه لما أمكن تحصيله ، وقد قسّموا المقدّمة إلى داخلية وخارجية ، إلى عقلية وشرعية وعادية ، إلى مقدّمة الوجود والصحّة ، إلى مقدمة الوجوب والعلم ، إلى السبب والشرط والمعد والمانع ، إلى المقدّمة المفوّتة وغير المفوّتة ، وإلى العبادية والتوصلية ، وقد بحثنا في هذه الأُمور في كتاب الموجز (١) فلا نعيد.

والذي تجب الإشارة إليه في المقام هو تقسيم الشرط إلى شرط التكليف وشرط الوضع ، وشرط المأمور به.

فشرط التكليف كالأُمور العامّة ، مثل : العقل ، والبلوغ ، والقدرة.

وشرط الوضع كشرط الصحّة مثلاً نظير الإجازة في بيع الفضولي ، إذ لولاها لما وصف العقد الصادر من الفضولي بالصحّة التامّة.

وشرط المأمور به كالطهارة من الحدث والخبث.

__________________

(١) الموجز : ٤٨٤٥.

١١٥

تقسيم الشرط إلى متقدّم ومقارن ومتأخّر

قسَّم الأُصوليون الشرطَ إلى متقدّم ومقارن ومتأخر ، وإليك أمثلته :

أ : ما هو متقدّم في وجوده زماناً على المشروط ، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة ونحوها ، بناء على أنّ الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلى حين الصلاة.

ب : ما هو مقارن للمشروط للزوم وجوده طول العمل ، كالاستقبال وطهارة اللباس.

ج : ما هو متأخّر عن المشروط في وجوده زماناً ، كالاغتسال في الليل للمستحاضة ، الذي هو شرط لصحّة صوم النهار السابق ، وكإجازة المالك التي هي شرط لصحّة بيع الفضولي من أوّل إنشائه على القول بأنّ الإجازة كاشفة لا من حين صدور الإجازة (على القول بأنّ الإجازة ناقلة) وإلّا يكون من قبيل المقارن.

دليل القائل بوجوب المقدّمة

اشتهر القول بأنّ مقدّمة الواجب واجبة ، ومقدّمة الحرام حرام. ولنقدّم الكلام في حكم الأُولى ، فنقول : قد استدلّ على وجوب المقدّمة بوجوه :

الوجه الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني ، حيث قال : إنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها ، بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولوياً : ادخل السوق واشتر اللحم مثلاً.

بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب ادخل ، مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه

١١٦

بعثاً مولوياً وأنّه حيث تعلّقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليه وأنّه مقدّمة له. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الوجدان يشهد على خلافه ، وانّه ليس هنا إلّا بعث واحد ، والأمر بالمقدّمة إمّا إرشاد إلى المقدمية ، أو تأكيد لذيها ، ويشهد على ذلك أنّه لو سئل المولى عن وحدة بعثه وتعدّده ، لأجاب بوحدته وإن هنا بعثاً واحداً متعلقاً بالمطلوب الذاتي.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني ، وحاصله انّه لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية في جميع لوازمها ، غير انّ التكوينية تتعلّق بفعل نفس المريد ، والتشريعية تتعلّق بفعل غيره ؛ ومن الضروري انّ تعلّق الإرادة التكوينية بشيء يستلزم تعلّقها بجميع مقدّماته قهراً.

نعم لا تكون هذه الإرادة القهرية فعلية ، فيما إذا كانت المقدمية مغفولاً عنها ، إلّا انّ ملاك تعلّق الإرادة بها ، وهو المقدّمية على حاله. فإذا كان هذا حال الإرادة التكوينية ، فتكون الإرادة التشريعية مثلها أيضاً. (٢)

يلاحظ عليه : بالفرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، وذلك لانّ الإرادة التكوينية تتعلّق بنفس الفعل الصادر من المريد ، ولا يصدر الفعل من الفاعل إلّا بعد تعلّق الإرادة التكوينية بمقدّماته ، فيريد كلّ مقدّمة بارادة خاصة.

وأمّا الإرادة التشريعية فلا تتعلق بنفس الفعل الصادر من الغير ، من دون فرق بين نفس الفعل ومقدمته ، لأنّ الإرادة تتعلق بما هو واقع تحت اختيار المريد ، وفعل الغير نفسه ومقدّماته غير واقع تحت اختيار المريد ، وعندئذ فإرادة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٠٠ / ١.

(٢) أجود التقريرات : ٢٣١ / ١ ، ولاحظ فوائد الأُصول : ٢٨٤ / ١.

١١٧

المريد (الآمر) تتعلّق بما هو تحت اختياره وهو الأمر والبعث لا فعل الغير.

وقد صار تصوّر إمكان تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير سبباً لإشكالات كثيرة نبهنا عليها في موضعها.

هذا كلّه حول دراسة أدلّة القائلين بالوجوب وقد ذكرنا بعض أدلّتهم ، وأمّا دليل القائل بعدم الوجوب فأمتنه ما يلي :

دليل القائل بعدم وجوب المقدّمة

وهو انّ الغرض من الإيجاب المولوي هو جعل الداعي وإحداثه في ضمير المكلّف ، لينبعث ويأتي بالمتعلّق ، مع أنّ وجوبها إمّا غير باعث ، أو غير محتاج إليه ، فإنّ المكلّف إن كان بصدد الإتيان بذي المقدّمة ، فالأمر النفسي الباعث إلى ذيها ، باعث إليها أيضاً ، ومعه لا يحتاج إلى باعث آخر بالنسبة إليها. وإن لم يكن بصدد الإتيان بذيها وكان مُعرضاً عنه ، لما حصل له بعث بالنسبة إلى المقدّمة.

والحاصل : انّ الأمر المقدمي يدور أمره بين اللغوية إذا كان المكلّف بصدد الإتيان بذيها وعدم الباعثية وإحداث الداعوية أبداً ، إذا لم يكن بصدد الإتيان بذيها.

ما هو الواجب من المقدّمة؟

ثمّ إنّ القائلين بوجوب المقدّمة اختلفوا فيما هو الواجب :

١. الواجب هو نفس المقدّمة من حيث هي هي ، وهذا القول هو المشهور.

٢. الواجب هو المقدّمة الموصلة ، وهو خيرة صاحب الفصول.

٣. الواجب هو المقدّمة بقصد التوصل إلى ذيها ، وهو خيرة الشيخ الأنصاري.

١١٨

استدلّ صاحب الفصول على مختاره : بأنّ الحاكم بالملازمة بين الوجوبين هو العقل ، ولا يرى العقل إلّا الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يقع في طريق حصوله وسلسلة وجوده ، وفيما سوى ذلك لا يدرك العقل أيّة ملازمة بينهما.

وأُورد عليه : بأنّ العقل الحاكم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدّمة لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب ، لثبوت مناط الوجوب أعني التمكن من ذيها في مطلقها وعدم اختصاصه بالمقيّد بذلك منها.

ولكن الحقّ انّه لو قلنا بوجوب المقدّمة لاختصّ الوجوب بالموصلة منها ، وذلك لأنّ الغاية تُحدِّد حكم العقل وتضيّقه ، وذلك لأنّ التمكّن من ذي المقدّمة وإن كان غاية لوجوبها لكنّها ليست تمامها ، والغاية التامة هي كون المقدّمة الممكِّنة ، موصلة لما هو المطلوب ، وإلّا فلو لم تكن موصلة ، لما أمر بها ، لأنّ المفروض أنّ المقدّمة ليست مطلوبة وإنّما تطلب لأجل ذيها.

وإن شئت قلت : إنّ المطلوب الذاتي هو التوصّل خارجاً ، دون التوقّف ، فلو فرض إمكان التفكيك بينهما ، لكان الملاك هو التوصّل خارجاً دون التوقف.

وبما انّ المقدّمة في متن الواقع على قسمين يتعلّق الوجوب بالقسم الموصل في الواقع ونفس الأمر دون غيره.

وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا توقّف إنقاذ النفس المحترمة على إتلاف مال الغير إذا كان أقلّ أهمية منها ، ولو افترضنا أنّه أتلفه ولم ينقذ الغريق ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة لم يرتكب الحرام ، لامتناع اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، بخلاف ما إذا قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة ، فبما أنّها لم يكن موصلة لم تكن واجبة بل باقية على حرمتها.

واستدلّ على القول الثالث : بأنّ قصد التوصّل قيد للواجب ، فالواجب هو خصوص ما أوتي به بقصد التوصّل.

١١٩

يلاحظ عليه : أنّه دعوى بلا برهان ، فإنّ ملاك الوجوب هو التوقّف إذا لم نقل بوجوب المقدّمة الموصلة وهو متحقّق فيما قصد به التوصّل وما لم يقصد ، ولا معنى لأخذ ما لا دخالة له في موضوع الوجوب.

فخرجنا بالنتائج التالية :

أ. عدم وجوب المقدّمة على الإطلاق.

ب. على فرض وجوبها فالواجب هو المقدّمة الموصلة.

ج. على القول بالملازمة بين الوجوبين يترتّب عليها وجوب المقدّمة في الواجبات وحرمتها في المحرمات ، وبذلك تكون المسألة (وجوب المقدّمة) من المسائل الأُصولية لوقوعها كبرى لاستنباط حكم شرعي كما في الموارد التالية :

١. إذا تعلّق النذر بالواجب ، فلو قلنا بوجوب المقدّمة يكفي في الامتثال الإتيان بكلّ واجب غيري ، وإلّا فلا بدّ من الإتيان بواجب نفسي.

٢. إذا أمر شخص ببناء بيت ، فأتى المأمور بالمقدّمات ، ثمّ انصرف الآمر ، فعلى القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بمقدّمته يصير الآمر ضامناً لها ، فيجب عليه دفع أُجرة المقدّمات وإن انقطع العمل.

٣. لو قلنا بوجوب المقدّمة شرعاً ، يحرم أخذ الأُجرة عليها ، كما إذا أخذ الأُجرة على تطهير الثوب الذي يريد الصلاة فيه ، لما تقرر في محلّه من عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجبات.

٤. لو كان لواجب واحد مقدّمات كثيرة ، كالحجّ من أخذ جواز السفر ، وتذكرة الطائرة ، يحصل الفسق بترك هذين الأمرين على وجه لا يمكن تداركهما ، لصدق الإصرار على الصغيرة إذا كانت مخالفة الأمر المقدّمي معصية صغيرة ، ولا يتوقف حصول الفسق على ترك ذيها.

١٢٠