إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

أقول :

قد مرّ ردّ ما نهق (١) به النّاصب الحمار المهذار من التّرديد بشقيه وبيان كذب ما ادّعاه من موافقة الحكماء مع الأشاعرة في هذه المسألة ، وأما قوله : وإن كان هذا المدعى باطلا ، فيكون غلطا منهم في عقيدة «إلخ» ففيه أنهم أصرّوا على تلك العقيدة الباطلة ولم يتأمّلوا في حجج أهل الحق عنادا واستكبارا ، ولم يلتفتوا إلى نصحهم إيّاهم وإيضاحهم ذلك لهم بأوضح بيان أنّ النّقص والاحتياج الذي توهموه ، غير لازم كما مرّ ، وهذا دليل التّعنّت والجرأة على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا أصرّوا فيما يؤدّي إلى إنكار جميع الأنبياء صحّ صدق أنّهم أشرّ من اليهود والنصارى. ثمّ ما توهمه من منافاة تأخّر الشّيخ الأشعري عن زمان مولانا الصادق عليه‌السلام لصدق الحديث الذي رواه المصنّف عنه عليه‌السلام ، مدفوع (٢) بأنّه لا يلزم من وصف شخص أحدا ، أو جماعة بوصف كلّي أن يكون ذلك الواحد المبهم الموصوف به أو جميع الجماعات الموصوفة به موجودة عند الوصف وذلك ظاهر ، وإلّا لزم أن يكون الموصوفون بالايمان في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ونحوه الموجودين في زمان نزول الآية دون من بعدهم من المؤمنين ، وبطلانه ظاهر ، وبالجملة مرجع الضمير البارز في قول المصنّف : حيث عدّهم الناصبة المجبرة ، وهذا الوصف صادق على الأشعري وأتباعه المجبّرة المتسترين بالكسب الذي لا محصل له كما مرّ وسيجيء ، وإن وجدوا بعد زمان مولانا الصّادق عليه‌السلام ، وكذا الحال في الحديث (٣) المشهور : من أن القدرية مجوس هذه الامة ، فانّ المعتزلة يقولون : المراد بالقدرية

__________________

(١) نهق الحمار كضرب وسمع نهيقا ونهاقا : صوت.

(٢) وحاصل مراده قدس‌سره : أن القضية حقيقية بحسب الاصطلاح لا خارجية. فلا تغفل.

(٣) روى في كنز العمال (ج ١ ص ١٢١ ط حيدرآباد حديث ٦٧٧) بسنده الى الشيرازي

٤٤١

الأشاعرة ، والأشاعرة يقولون المراد بها المعتزلة ، مع أن مبدأ ظهور كلّ من هاتين الفرقتين متأخر عن زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأكثر من مائة سنة ، ولا يخفى أنّ قصور شعور النّاصب عن إدراك هذا المعنى المعلوم المعهود ، من أعدل الشّهود على أنّه أجهل وأبلد من كوادن اليهود.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها أنّه يلزم مخالفة الكتاب العزيز ، لأنّ الله تعالى قد نصّ نصّا صريحا في عدّة مواضع من القرآن : أنّه يفعل لغرض وغاية لا عبثا ولعبا ، قال الله تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١) وقال الله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما

__________________

في الألقاب بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن رسول الله (ص) انه قال : ان لكل أمة مجوس ومجوس أمتي هذه القدرية (انتهى).

وروى في الكنز أيضا في تلك الصفحة (حديث ٦٤٩) بسنده المنتهى الى نعيم ، بسنده عن أنس عن ابن عمر : القدرية مجوس أمتي.

وروى في تلك الصفحة أيضا : القدرة أوله مجوسي وآخره زنديق.

الى غير ذلك من الآثار المروية في كتب القوم ، وأما الاخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام فكثيرة متواترة معنى ، مستفيضة لفظا ، مشهورة نقلا ، صحيحة طريقا ، مذكورة في الكتاب المعتمدة ، ومن راجع إليها بانت له صحة هذه المقالة.

وروى من الخاصة ثقة الإسلام الكليني في اصول الكافي في باب الجبر والقدر (ص ١٥٥ الجزء الاول ط جديد تهران) بإسناده عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل الى أن قال : تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الامة ومجوسها «الحديث».

(١) الأنبياء. الآية ١٦.

٤٤٢

خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (١) وقال الله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) وهذا الكلام نصّ صريح في الغرض والغاية ، وقال الله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣) وقال الله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٤) وقال الله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٥) والآيات الدالة على الغرض والغاية في أفعال الله تعالى أكثر من أن تحصى ، فليتّق الله المقلّد في نفسه ويخشى عقاب ربّه وينظر فيمن يقلّده ، هل يستحق التقليد أم لا؟ ولينظر إلى ما قال ، ولا ينظر إلى من قال ، وليستعد لجواب ربّ العالمين ، حيث قال : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (٦) فهذا كلام الله تعالى على لسان النذير ، وهاتيك الأدلة العقلية المستندة إلى العقل الذي جعله الله تعالى حجة على بريته ، وليدخل في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) ولا يدخل نفسه في زمرة الذين قال الله عنهم : قالوا (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٨) ولا يعذر بقصر

__________________

(١) المؤمنون. الآية ١١٥.

(٢) الذاريات. الآية ٥٦.

(٣) النساء. الآية ١٦٠.

(٤) المائدة الآية ٧٨.

(٥) محمد (ص). الآية ٣١.

(٦) فاطر. الآية ٣٧.

(٧) الزمر. الآية ١٧.

(٨) فصلت. الآية ٢٩.

٤٤٣

العمر ، فهو به طويل على الفكر (١) لوضوح الأدلة وظهورها ، ولا بعدم المرشدين ، فالرّسل متواترة ، والأئمّة متتابعة ، والعلماء متظافرة «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد ذكرنا فيما سبق : أنّ ما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الغاية والمنفعة دون الغرض والعلّة ، فقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فالمراد منه أنّ غاية خلق الجن والانس والحكمة والمصلحة فيه ، كانت هي العبادة ، لا أنّ العبادة كانت باعثا لنا على الفعل كما في أرباب الإرادة الناقصة الحادثة ، وكذا غيره من نصوص الآيات ، فانّها محمولة على الغاية والحكمة لا على الغرض «انتهى».

أقول :

قد بيّنا فيما سبق : أنّ ما توهّموه من استلزام إثبات الغرض للنقص ، مردود لا يصلح باعثا لتأويل النّصوص ، فالصّواب إبقاؤها على ظواهرها.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها أنّه يلزم تجويز تعذيب أعظم المطيعين لله تعالى كالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأعظم أنواع العذاب ، وإثابة أعظم العاصين له كإبليس وفرعون بأعظم مراتب الثّواب ، لأنّه إذا كان يفعل لا لغرض وغاية ، ولا لكون الفعل (٢) حسنا ولا يترك الفعل لكونه

__________________

(١) أى العمر وان قصر فهو طويل عند الفكر ، لأنه لا يقتضى زمانا طويلا لتحقيق الحق لوضوح الأدلة. منه «قده»

(٢) فيه إشارة الى أن ما قالوه في هذا المقام من ان أفعاله تعالى مشتملة على الحكمة والمصلحة في ذاته لكن ليس ملحوظا له ذلك على وجه العلية والغرضية ينافي ما قالوا في بحث الحسن والقبح من انه لا حسن للفعل في نفسه قبل ورود الشرع تأمل. منه «قده»

٤٤٤

قبيحا ، بل مجانا لغير غرض لم يكن تفاوت بين سيّد المرسلين وبين إبليس في الثواب والعقاب ، فانّه لا يثيب المطيع لطاعته ، ولا يعاقب العاصي لعصيانه ، فهذان الوصفان إذا تجرّدا عند الاعتبار في الاثابة والانتقام لم يكن لأحدهما أولوية الثّواب ولا العقاب دون الآخر ، فهل يجوز لعاقل يخاف الله تعالى وعقابه أن يعتقد في الله تعالى مثل هذه العقائد الفاسدة؟ مع أنّ الواحد منّا لو نسب غيره إلى أنّه يسيء إلى من أحسن إليه ويحسن إلى من أساء إليه قابله بالشتم والسّب ، ولم يرض ذلك منه ، فكيف يليق أن ينسب ربّه إلى شيء يكرهه أدون النّاس لنفسه؟!

قال النّاصب خفضه الله

أقول : هذا الوجه بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، لأنّ أحدا لم يقل بأنّ الفاعل المختار الحكيم لم يلاحظ غايات الأشياء والحكم والمصالح فيها ، فانّهم يقولون في إثبات صفة العلم : إنّ أفعاله متقنة ، وكلّ من كان أفعاله متقنة فلا بدّ أن يلاحظ الغاية والحكمة ، فملاحظة الغاية والحكمة في الأفعال لا بدّ من إثباته بالنسبة إليه تعالى ، وإذا كان كذلك ، كيف يجوز التسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي؟ وعندي أنّ الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الامامية لم يحرّروا هذا النزاع ، ولم يبيّنوا محلّه ، فانّ جلّ أدلة المعتزلة دلت على أنّهم فهموا من كلام الأشاعرة نفى الغاية والحكمة والمصلحة ، وأنّهم يقولون : إنّ أفعاله اتّفاقيات كأفعال من لم يلاحظ الغايات ، واعتراضاتهم واردة على هذا ، فنقول : الأفعال الصّادرة من الإنسان مثلا مبدؤها دواعي مختلفة ، ولا بدّ لهذه الدواعي المختلفة من ترجيح بعضها على بعض ، والمرجّح هو الإرادة الحادثة ، فذلك الدّاعي الذي بعده الفاعل على الفعل مقدّم على وجود الفعل ، ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل ، فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه إلى ذلك الباعث وهو العلّة الغائيّة والغرض ، هذا تعريف الغرض في اصطلاح القوم ، فان عرض

٤٤٥

هذا على المعتزلي فاعترف بأنه تعالى في أفعاله صاحب هذا الغرض لزمه إثبات الاحتياج لله تعالى في أفعاله وهو لا يقول بهذا قطّ ، لأنّه ينفي الصّفات الزّائدة ليدفع الاحتياج ، فكيف يجوز الغرض المؤدّي إلى الاحتياج؟ فلا شكّ أنّه ينفي الصّفات الزّائدة ليدفع الاحتياج إلى هذا من الله تعالى ، فبقى أنّ مراده من إثبات الغرض دفع العبث من أفعاله تعالى ، فهو يقول : إنّ الله تعالى مثلا خلق الخلق للمعرفة يعني غاية الخلق والمصلحة التي لاحظتها حكمة الله تعالى ودارت عليها هي المعرفة ، لا أنّه يفعل الأفعال لا لغرض ومقصود كالعابث واللّاعب ، فهذا عين ما يقوله الأشاعرة : من إثبات الغاية والمصلحة ، فعلم أنّ النّزاع نشأ من عدم تحرير المدّعى «انتهى».

أقول :

من العجب! أنّه يحكم بأنّ بطلان ما ذكره المصنّف أظهر من أن يخفى ، ثم يحكم آخرا بأنّه صالح للصّلح بوجه ؛ وأما ما ذكره بقوله : لأنّ أحدا لم يقل : بأنّ الفاعل المختار ، لم يلاحظ غايات الأشياء «إلخ».

فانّما يدلّ على عدم القول : بأنّ الفاعل للشيء غير ملاحظ لغايته ، بمعنى أنّه يتصوّر تلك الغاية والمصلحة الحاصلة في ذات الشيء ، لا أنّه يجعل تلك الغاية والمصلحة منشئا وعلّة لصدور ذلك الشيء عنه ، والمعتزلة يوجبون ملاحظة الفاعل لغاية الشّيء ، بمعنى قصده كون تلك الغاية منشئا وعلّة لصدور ذلك الشّيء عنه ، وأين هذا من ذاك؟! ومن البيّن أنّ مجرّد تصوّر الغاية الحاصلة في ذات الفعل بدون أن يجعل منشئا لصدور الفعل ، لا يمنع عن التّسوية بين العبد المطيع والعبد العاصي ، لجواز أن يتصوّر ذلك ، ولا يجعله علّة ومنشئا لصدور الفعل ، فيجوز استعماله في خلاف ما اقتضته الغاية الكائنة فيه ، وأمّا ما ذكره من الصّلح فهو مبنيّ على تخليطه المذكور فيكون صلحا من غير تراضي الخصمين.

٤٤٦

قال المصنّف رفع الله درجته

المطلب الخامس في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي (١) ، هذا مذهب الاماميّة ، قالوا : إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أولا ، ولم يرد المعاصي سواء وقعت أولا ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أولا ، وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود سواء كان طاعة أولا ، وسواء أمر به أولا ، وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أولا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ، فجعلوا كل المعاصي الواقعة في الوجود من الشّرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشّرور مرادة لله تعالى

__________________

(١) هذه المسألة مما وقع النزاع فيه ، فذهب الاصحاب وأكثر المعتزلة الى أنه تعالى قد أراد الطاعات وأحبها ولم يكرهها ، وأنه تعالى وتقدس كره المعاصي والقبائح ولم يرضها ، وذهب جل الاشاعرة وشرذمة من المعتزلة الى انه سبحانه يريد الكل طاعة كانت أو معصية حسنا كان بحكم العقل أو قبيحا.

والحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب ما اختاره الاصحاب لقيام الأدلة السمعية والعقلية على ذلك كما ستأتى الاشارة الى بعضها.

ومن التوالي الفاسدة المترتبة على مقالة الاشاعرة كما أفاده بعض المحققين من مشايخ مشايخنا كون العاصي مطيعا بعصيانه حيث أوجد مراده تعالى وفعل وفق مراده.

ومنها نسبة القبح الى ساحته المقدسة لان إرادة القبيح قبيحة ، وقد مر أنه منزه عن القبائح.

الى غير ذلك مما يحكم بفساده العقل السليم الخالي عن شوائب الأوهام وهواجس إبليس ، عصمنا الله من هذه المقالات.

ولله در مولانا الشريف الآية الباهرة السيد محمد الباقر الحجة الطباطبائى الحائرى من مشايخ والدي العلامة في الرواية حيث يقول في منظومته المسماة بمصباح الظلام في

٤٤٧

وأنّه تعالى راض بها ، وبعضهم قال : إنّه محبّ لها. وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفار ، مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وأنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وأنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى ، وترك ما كرهه الله تعالى من الايمان والطاعة منه ، مقالة الاشاعرة تستلزم المحالات وهذا القول تلزم منه محالات : منها نسبة القبيح إلى الله تعالى لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وكراهة الحسن قبيحة ، وقد بيّنا أنّه تعالى منزه عن فعل القبائح كلّها «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة أنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد له ، وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتفقوا على جواز إسنادا لكل إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه ، ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الامامية أنه تعالى مريد لجميع أفعاله ، وأمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر ، ودليل الأشاعرة أنّه خالق للأشياء كلها وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وأما ما استدل به هذا الرّجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي فهو من استدلالات

__________________

علم الكلام :

إرادة القبيح ممن امتنع

منه القبيح يستحيل ان يقع

فكل ما يفعله عبيده

من القبيح فهو لا يريده

وكيف لو اراده فالأمر

والنهى لغو وهو أمر نكر

فلا يريد غير فعل الطاعة

من عبده عصاه أو أطاعه

الى آخر ما افاده شكر الله مساعيه وحشره تحت لواء جده أمير المؤمنين سلام الله عليه آمين آمين.

٤٤٨

المعتزلة ؛ والجواب أنّ الشرك مراد لله تعالى بمعنى أنه أمر قدره الله تعالى في الأزل للكافر لا أنّه رضي به ، وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ، وأمّا كون الطّاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى ، فإن أراد بالكراهة ، عدم تعلّق الإرادة به فصحيح ، لأنه لو أراد لوجد ، وإن أراد عدم الرّضا به فهو باطل ، لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرّضا أو عدمه ، وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عما يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ، ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم وهذا لا يعدّ من السّفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ، لأنه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم ، فلا يعد سفها ، وأمّا ما ذكره : من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، فجوابه أن الإرادة بمعنى التقدير وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، على أن هذا مبني على القبح العقليّ وهو ممنوع عندنا ، ومع هذا فانّه مشترك الإلزام لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم «انتهى»

أقول

لا يخفى أنّ صغرى ما ذكره من دليل الأشاعرة ممنوعة ، وإنّما الله سبحانه خالق ما يكون خيره غالبا على شرّه ، والقبائح الصّادرة من الشّاهد لا يليق صدورها منه سبحانه ، وأمّا ما ذكره من الجواب فهو مبنيّ على ما اخترعه واصطلحه من جعل الإرادة بمعنى التّقدير ، وقد سبق أنّه يمكن كونه قد تبع في ذلك للنعمانيّة (١)

__________________

(١) عدة انتسبوا الى محمد بن على بن النعمان ابى جعفر الأحول المشتهر بمؤمن الطاق البجلي الكوفي أورده شيخ الطائفة المحقة ابو جعفر الطوسي في الفهرست (ص ١٣١ ط نجف) وقال

٤٤٩

من طوائف الشّيعة ، وكونه متوهما لاصطلاح أصحابه على ذلك من كلام شارح العقائد فتذكر ، وأيضا إن أراد بالتّقدير الخلق فهو أول البحث والنّزاع ، لأنّا نمنع كون الشّرك ونحوه من القبائح المشاهدة في الشّاهد صادرة عنه تعالى ، وإن أراد التّبيين والاعلام والكتابة في اللوح المحفوظ ونحو ذلك من معاني القدر فهو خارج عن محلّ النّزاع ، كما عرفت في بحث القضاء والقدر ، وقد سبق أيضا أنّ الفرق بين الإرادة والرّضا غير مرضيّ ، واما ما ذكره بقوله وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر عن الله تعالى مكروهة له تعالى فيظهر من تعقيبه إيّاه بالتّرديد الآتي انّه في زعمه شيء ذكره المصنف وهو افتراء بلا امتراء ، لأنّ المصنّف لم يذكر أن الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى ، بل قال إنّه تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أولا ، وأين هذا من ذاك؟ مع أن ذلك الترديد مردود بأنّه يفهم من شقّه الثّاني أن تعلق الرّضا بالفعل فرع

__________________

في حقه ما حاصله : كان حسن الاعتقاد والهدى ، حاذقا في صناعة الكلام ، سريع الحاضر والجواب ، وله مع ابى حنيفة مناظرات منها لما مات الصادق «ع» قال ابو حنيفة له : قد مات امامك ، قال : لكن امامك لا يموت الى يوم القيامة (يعنى إبليس) وهو من اصحاب الصادق «ع» وقد لقى زيد بن زين العابدين وناظره على امامة ابى عبد الله (ع) ولقى زين العابدين وكان شاعرا ، وله كتب منها كتاب الامامة وكتاب المعرفة وغيرهما.

وذكره في لسان الميزان في (ج ٥ ص ٣٠٠ ط حيدرآباد) وفي فهرست ابن النديم (ص ٨ ط مصر) أقول : ومن تاليفه كتاب الرد على المعتزلة في امامة المفضول وكتاب الجمل في امر طلحه والزبير وكتاب اثبات الوصية وكتاب افعل لم فعلت وكتاب افعل لا تفعل قال فيه ان كبار الفرق أربعة القدرية والخوارج والعامة والشيعة وعين الشيعة بالنجاة في الآخرة من هذه الفرق كما نقله الشهرستاني في الملل (ج ١ ص ٣١٤ ط مصر).

ثم لا يذهب عليك ان النعمانية نسبوا الى المترجم مقالات منكرة هو برئ منها كما يفصح عن ذلك كلمات الفطاحل من ارباب كتب التراجم من الفريقين وكفى في ذلك نص أصحابنا كشيخ الطائفة (قده) وغيره على جلالته.

٤٥٠

وجوده وهو ظاهر البطلان ، لأنّ من خطب امرأة فأجابته يقال إنّها رضيت بتزويجه إيّاها مع أنّه لم يحصل التزويج بعد ، واما ما ذكره بقوله فجوابه أنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم «إلخ» فوهنه ظاهر ، اما أولا فلما مرّ مرارا من أن الإرادة لم تجيء بمعنى التقدير لغة وعرفا ، واما ثانيا فلأنّه إن أراد بقوله في نظام العالم مجرّد جعله ظرفا لخلق القبيح أى خلق القبيح الواقع في جملة مخلوقات العالم فهذا لغو من القول كما لا يخفى. وإن أراد به الاشعار إلى مدخليّة خلق القبيح في نظام العالم وتعليل حسنه في الجملة به فهو مخالف لمذهب الأشعري النافي لتعليل الأفعال ، ولقاعدة الأصلح بنظام الكل كما ذهب إليه الحكماء والاماميّة ، واما ثالثا فلأنّه لو تمّ ما ذكره آخرا بقوله إذ لا قبيح بالنسبة إليه تعالى لتمّ المدّعى ولغى (خ ل لغيت) المقدمات السّابقة ولا يظهر وجه لتعليل تلك المقدّمات بالعلة المذكورة كما لا يخفى ، وبالجملة ظهر أنّ في كلام الناصب خلط وخبط ، وأنّه لا معنى للارادة عند الأشاعرة إلا ما مرّ من الصفة المخصصة وحينئذ نقول : إنّ إرادة القبيح قبيحة ، لأنّ الله تعالى أوعد الكفار والشياطين بارادة القبيح كما أوعدهم بفعله في قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إلى قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (١) الآية ، مع أنّ العقلاء يذمّون من نهى شخصا عن شيء وأتى بمثله لقولهم:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

قال المصنّف رفع الله درجته

منها (٢) كون العاصي مطيعا بعصيانه حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.

__________________

(١) النساء. الآية ٦٠

(٢) قد مر القول فيه منا في التعليقة السابقة وأشبعنا الكلام هناك فراجع ثم ان قوله ، منها أى من اللوازم الباطلة.

٤٥١

قال النّاصب خفضه الله

أقول : جوابه أنّ المطيع من أطاع الأمر والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال إنّ الخلق أطاعوه ، نعم إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين «انتهى»

أقول :

قد مرّ بيان أنّ الأمر مستلزم للارادة ، وأنّ كون الإرادة بمعنى التقدير والمريد بمعنى المقدّر من اختراعات النّاصب وتقديراته وتمويهاته ، ومع ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع كمالا يخفى.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها كونه تعالى يأمر بما يكرهه ، لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه من حيث لم يوجد وينهى عمّا يريده لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه ، وكلّ من فعل ذلك من أشخاص البشر نسبه كلّ عاقل إلى السّفه والحمق تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟ «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها ، وإنما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ، لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة فلانه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده ، وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه فلأنه لا يحصل مقصوده وهو الامتحان أطاع أو عصى ، فلاسفه في الأمر بما لا يريده الآمر.

٤٥٢

أقول :

قد سبق أنّ ذلك المنع مكابرة ، وما استند به على كون الأمر في تلك الصورة أمر حقيقة بأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده مدفوع ، بأنّ ذلك لا يكفي في حصول حقيقة الأمر ، بل لا بدّ أن يكون ذلك المأمور به مرادا ، ولو كفى صورة الأمر وصدق الامتثال في ذلك ، لزم أن يكون الخبر المراد به الأمر اتّفاقا كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (١) الآية. خبرا حقيقة ، لأنّه إذا سمعه المخاطب يحكم بأنّه كلام خبري مشتمل على النّسبة التّامّة ، وبطلانه ظاهر.

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها مخالفة (٢) النصوص القرآنيّة الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات كقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٣) (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) ، (٤) (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ

__________________

(١) البقرة. الآية ٢٢٨

(٢) وكذا الروايات النبوية التي أودعوها في كتبهم بحيث لا يمكن إنكارها ، ورأيت من علمائهم من يؤولها بتأويلات باردة تستمجها الطباع السليمة والسلق المستقيمة هذا حال ما عندهم من الأحاديث وأما ما عندنا من الاخبار في هذا الشأن فهي كثيرة عددا ناصة دلالة صحيحة سندا ، وان شئت الوقوف على ذلك والتطلع بما هنا لك فراجع الكافي والتوحيد وغيرهما عصمنا الله من الزلل وايقظ المخالف من سنة الغفلة او نومة الأرنب والثعلب آمين آمين.

(٣) المؤمن. الآية ٣١

(٤) الاسراء. الآية ٣٨.

٤٥٣

تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (١) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات ، فترى لأىّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟ «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضاء (٣) والاستحسان ويقابله الكراهة بمعنى السّخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب وأمّا الإرادة بمعنى التّقدير والتّرجيح ، أو مبدأ التّرجيح فلا تقابله الكراهة وهو معنى آخر وسائر النّصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا «انتهى»

أقول :

قد مرّ أن الإرادة تتضّمن الرّضا ، ولا تتحقق بدونه ، وأمّا كون الإرادة بمعنى التّقدير فقد مرّ أنّه من مصطلحات النّاصب ، ولا يجديه إلّا العذاب الواصب (٤)

__________________

(١) الزمر. الآية ٧.

(٢) البقرة. الآية ٢٠٥.

(٣) قد مر منا مرارا ان اطلاق الإرادة على الرضا مما اخترعه وابتدعه الرجل من عنده ، وان أصحابه لم يلتزموا بذلك ، وهذه كتبهم وزبرهم بين يديك بمرئى منك ومشهد فراجعها ، وممن صرح بكون هذا الإطلاق خلاف الظاهر والمتفاهم العرفي الفاضل شمس الدين اللارى المتوفى سنة ٩٨١ في تعليقته على الشرح الجديد للتجريد وهو من أعيان القوم وممن تنعقد اليه الخناصر

(٤) مقتبس من قوله تعالى في سورة الصافات. الآية ٩ ومعنى وصب : دام والواصب : الدائم.

٤٥٤

وعطف التّرجيح على التّقدير خلط وتلبيس لا يخفى على الطافي (١) والرّاسب (٢)

قال المصنّف رفع الله درجته

ومنها مخالفة المحسوس (خ ل وهي) وهو إسناد أفعال العباد إلى تحقق الدواعي وانتفاء الصّوارف لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة ، وأنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها ، وانتفاء الصارف عنها ، وفي القبيح ثبوت الصارف ، وانتفاء الداعي ، لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاه ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به ، فحينئذ يتحقق ثبوت الدّاعي إلى الطاعات وثبوت الصّارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأول وكراهته للثاني «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الدّواعي وانتفاء الصّوارف ، لا ينافي سبق إرادة الله تعالى لأفعالهم وخلقه لها ، لأنّ الاسناد بواسطة الكسب (٣) والمباشرة ،

__________________

(١) طفى يطفو طفوا وطفوّا : على فوق الماء.

(٢) رسب الشيء في الماء : سقط الى أسفله.

(٣) قد مر الكلام مشبعا في مسألة (الكسب) وان هذا المخترع بأي معنى فسر لا يسمن ولا يغنى من جوع وان شناعة الجبر وسائر التوالي الفاسدة التي تترتب على هذه المقالة لا تندفع بالالتزام بالكسب الغير الكاسب والمكتسب ، ومن أمعن النظر وأجال البصر في خبايا كلمات الرازي في الأربعين والغزالي والشريف في شرح المواقف والاصفهانى في شرح المقاصد وأبى عذبة في الروضة البهية ، ظهر له غاية الظهور أنهم مضطربون في تفسير هذا الكسب المخترع في قبال العدلية فما أجدر المثل المشهور لم تقول شعرا عريا عن الوزن حتى تضطر الى اختراع بحر ووزن له؟ اللهم احرسنا عن الزلل بجاه نبي الهدى واله مصابيح الدجي.

٤٥٥

فلا يكون مخالفة للمحسوس ، وأمّا ما ذكره من الدليل فهو مبني على إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وقد أبطلنا هما «انتهى».

أقول :

إن النّاصب لم يفهم أن مراد المصنّف قدس‌سره من الداعي ما ذا؟ فانّ مراد المصنّف بالدّاعي الإرادة المفسرة عنده وعند سائر الامامية ، وجمهور المعتزلة بالعلم بالنفع والعلم بالأصلح على اختلاف العبارتين ، وحينئذ كيف يمكن أن يتوهّم من كلام المصنّف أنّه ادّعى أنّ إسناد أفعال العباد إلى تحقّق الدّواعي وانتفاء الصّوارف ينافي سبق إرادة الله تعالى؟ حتّى يرد عليه ، بأنّه لا ينافي ذلك ، وبالجملة حاصل كلام المصنّف أنّ ما ذهب إليه الأشاعرة من أنّه تعالى يريد كلّ ما وقع في الوجود من الطاعة والمعصية يخالف ما هو المحسوس من إسناد الأفعال إلى داعي الإرادة المفسّرة بالعلم بالنفع ، فانّه لو كان الباري تعالى مريدا لكلّ الموجودات كما قالوا يلزم أن يفعل من غير علم بالنّفع وبدون ملاحظة الأصلح ، إذ لا نفع ولا أصلحيّة في إصدار بعض تلك الموجودات وهي القبائح المحكوم عليها في الشّاهد بالقباحة ، وعلى هذا لا يصير كلام الناصب مقابلا لكلام المصنّف أصلا كما لا يخفى ، ومن حصل له معنى محصّلا مرتبطا بكلام المصنّف فنحن في صدد الاستفادة ، وأمّا ما ذكره من إبطال قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، فقد عرفت بطلان إبطاله ممّا قرّرناه آنفا.

قال المصنّف رفع الله درجته

المطلب السادس في وجوب (١) الرضا بقضاء الله تعالى ، اتفقت الاماميّة والمعتزلة

__________________

(١) لا يخفى عليك ان مسألة وجوب الرضا بالقضاء والقدر مما اختلفت الكلمة فيها ، فاصحابنا جلهم ذهبوا الى وجوبه وتمسكوا فيها بالادلة السمعية والعقلية ، والسمعية بين

٤٥٦

__________________

نبوية وولوية

فمن النبويات ما تدل على أن كل شيء بقضائه وقدره ، وأنه يجب الايمان بالقدر خيره وشره كما في مجمع الزوائد (ج ٧ ص ١٩٨ ط مصر) عن عبادة حين حضر انه قال : سمعت رسول الله «ص» يقول : القدر على هذا ، من مات على غيره دخل النار ، وفيه (ج ٧ ص ١٩٩) عن عدى عن النبي «ص» قال : يا عدى بن حاتم اسلم تسلم ، قلت : وما الإسلام؟ قال : تشهد ان لا اله الا الله وتشهد انى رسول الله وتؤمن بالاقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها وفي كنز العمال (ج ١ ص ١٠٢) بإسناده عن على عليه‌السلام لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره وفي البحار (جلد ٣ ص ٢٦ ط كمپانى) بإسناده عن على «ع» قال قال : رسول الله «ص» لا يؤمن عبد حتى يؤمن باربعة ، حتى يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانى رسول الله «ص» بعثني بالحق وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر.

وهناك عدة روايات في الكتب الحديثية دالة على ذم القول بالقدر والالتزام ، فمن ثم اختلفوا في الجمع بين تينك الطائفتين من الأحاديث وفي تعيين المراد منهما.

ومما يستطرف في المقام ان الاشاعرة حملوا أحاديث الذم على القول بكون أفعال العباد بقدرته وعلى القول بالتفويض ، والمعتزلة اولوها على ما تنطبق على مسلك الاشاعرة ، وتبرأ كل منهما من ان يكون مصداقا للأخبار الدالة على الذم. كلما دخلت أمة لعنت أختها. واكثر الاشاعرة حمل الأحاديث الدالة على وجوب الايمان والرضاء بالقضاء والقدر على ان المراد بها كون الكائنات حتى أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، بمعنى انه خلقها وأوجدها معصية كانت تلك الأفعال او طاعة ، بل سمعت عن بعض البغاددة منهم ان اطلاق المعصية والطاعة على الأفعال مجاز وتوسع في الاستعمال وقد مر بطلان هذه المقالة بأبلغ وجه وآكد بيان. وستأتى أدلة أخرى قويمة سديدة قائمة على بطلان مسلكهم. ولله در آية الله الشريف السيد محمد الباقر الحجة الحائرى «قده» حيث يقول :

ما فعل العبد اليه استندا

إذ منه باختياره قد وجدا

وقدرة العبد هي المؤثرة

في فعله فللعباد الخيرة

٤٥٧

وغيرهم : من الأشاعرة وجميع طوائف الإسلام على وجوب الرّضا بقضاء الله تعالى وقدره. ثم إنّ الاشاعرة قالوا قولا لزمهم منه خرق الإجماع والنصوص الدالة على وجوب الرّضا بالقضا ، وهو أنّ الله تعالى يفعل القبائح بأسرها ، ولا مؤثر في الوجود غير الله تعالى من الطاعات والقبائح ، فتكون القبائح من قضاء الله تعالى على العبد وقدره ، والرّضا بالقبيح حرام بالإجماع ، فيجب أن لا يرضى بالقبيح ، ولو كان من قضاء الله تعالى لزم إبطال إحدى المقدّمتين وهي : إمّا عدم وجوب الرضا بقضائه تعالى وقدره ، أو وجوب الرضا بالقبيح وكلاهما خلاف الإجماع ، أمّا على قول الاماميّة : من أن الله تعالى منزّه عن الفعل القبيح (خ ل فعل القبيح) والفواحش وأنّه لا يفعل إلّا ما هو حكمة وعدل وصواب ، ولا شك في وجوب الرضا بهذه الأشياء ، لا جرم (١) كان الرّضا بقضائه وقدره على قواعد الاماميّة والمعتزلة واجبا ، ولا يلزم منه خرق الإجماع في ترك الرّضا بقضاء الله ، ولا في الرّضا بالقبائح «انتهى»

__________________

ولم تكن في فعلها مجبورة

كما به قد قضت الضرورة

فهل ترى المقعد مثل من قعد

او من هوى من شاهق كمن صعد إلخ

(١) قال شيخنا العلامة الطريحي النجفي في المجمع (في كلمة جرم في باب ما اوله الجيم وآخره ميم) ما لفظه : قيل : لا جرم بمعنى لا شك ، وعن الفراء : هي كلمة بمعنى لا بد ولا محالة فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت الى معنى القسم وصارت بمعنى «حقا» فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب عن القسم ، ألا تريهم يقولون : لا جرم لآتينك ولأفعلن كذا. وقيل : جرم بمعنى كسب ، وقيل بمعنى وجب وحق.

قال في النهاية و (لا) رد لما قبلها من الكلام ثم يبتدئ بها كقوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) ، أى ليس لهم الأمر كما قالوا ، ثم ابتدأ فقال وجب لهم النار إلخ.

وأنت خبير بان الأنسب أن يراد به في المتن (اللابدية)

٤٥٨

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق أنّ وجوب الرّضا بقضاء الله تعالى مذهب الأشاعرة ، وأمّا لزوم نسبة فعل القبائح إليه تعالى ، فقد عرفت بطلانه فيما سبق ، وأنّه غير لازم ، لأنّ خلق القبيح ليس فعله ولا قبيح بالنسبة إليه وأمّا قوله : فتكون القبائح من قضاء الله تعالى ، فجوابه أنّ القبائح مقضيّات لا قضاء والقضاء فعل الله تعالى ، والقبيح هو المخلوق ، ونختار من المقدمتين وجوب الرّضا بقضاء الله تعالى وقدره ولا نرضى بالقبيح ، والقبيح ليس هو القضاء بل هو المقتضيّ كما عرفته ، ولم يلزم منه خرق إجماع «انتهى».

أقول

نعم قد سبق ذلك مع ما تعقبناه من بيان أنّ خلق القبيح قبيح ، وأنّه لا معنى لعدم قبح القبيح عند صدوره عنه تعالى وبالنسبة إليه ، وأنّ الفرق بين القضاء والمقضي ممّا يقضي التّأمّل على بطلانه ، ونزيد على ذلك هاهنا ونقول : يجب الرّضا بالمقضي أيضا ، بل هو المراد مما اشتهر من وجوب الرّضا بالقضاء ، وذلك لأنّه إذا اختار الله لعبده شيئا وأرضاه ، فلا يختاره العبد ولا يرضاه ؛ كان منافيا للعبوديّة ، وفصل بعض المتّأخرين هاهنا ، وقال : اختيار الرّب لعبده نوعان ، أحدهما اختيار دينيّ شرعيّ ، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النّوع غير ما اختاره له سيّده ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١) فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولا ، النوع الثاني اختيار كونيّ قدريّ لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلي عبده بها

__________________

(١) الأحزاب. الآية ٣٦

٤٥٩

محنة وهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويكشفها ، وليس في ذلك منازعة للربوبيّة ، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر ، فهذا تارة يكون واجبا ، وتارة يكون مستحبا ، وتارة يكون مباحا مستوي الطرفين ، وتارة يكون حراما ، وتارة يكون مكروها ، وأمّا القدر الذي لا يحبّه ولا يرضاه مثل قدر المعايب والذّنوب فالعبد مأمور بسخطه ، ومنهي عن الرّضا به فتأمّل. تكميل جميل إن قال قائل : ما معنى قولكم في القضاء والقدر؟ وهل أفعال العباد عندكم بقضاء الله تعالى وقدره ، كما يقتضيه ما اشتهر بين أهل الملل أنّ الحوادث بقضاء الله أم لا؟ ومعنى الخبر المرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال حاكيا عن ربّه : من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سوائي (١) وما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه أوجب الايمان بالقدر خيره وشره (٢) وأخبر أنّ الايمان لا يتمّ إلّا به. قلنا : الواجب في هذا المسألة أوّلا أن نذكر معاني القضاء والقدر ثم نبيّن ما يصحّ أن يتعلّق بأفعال العباد من ذلك وما لا يتعلّق ونجيب من الرّوايات الواردة في ذلك بما يلائم الحقّ أمّا القضاء فانّه قد جاء بمعنى الاعلام كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) (٣) اى أعلمناه وجاء بمعنى الحكم والإلزام كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٤) أى حكم بذلك في التّكليف على خلقه ، وألزمهم به ، وجاء بمعنى الخلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٥) أى خلقهنّ ، واما القدر فإنّه قد جاء

__________________

(١) رواه في الاتحافات السنية ص ٣ وفي كنز العمال (ج ١ ص ٩٣ ط حيدرآباد دكن) حديث ٤٨٣ و ٤٨٦ وفي الجامع الصغير (ج ٢ ص ٥٥٨) حديث ٩٠٢٧ وفي الجواهر السنية لصاحب الوسائل ص ٦٦.

(٢) قد سبق ما يدل على هذا من كتب الفريقين قريبا وسيأتي في باب أفعال العباد.

(٣) الحج. الآية ٦٦.

(٤) الاسراء. الآية ٢٣.

(٥) فصلت. الآية ١٢.

٤٦٠