إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

الحسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصّدق النّافع وقبح الكذب الضّارّ ، فانّ كلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السّبب ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ، ومنها ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن أو قبيح كحسن الصّدق الضّارّ وقبح الكذب النّافع ، ومنها ما يعجز العقل عن العقل بحسنه أو قبحه فيكشف الشّرع عنه كالعبادات (١). وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيّان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء ولا قبحه ، بل القاضي بذلك هو الشّرع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح وهو باطل بوجوه «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق أنّ الحسن والقبح يقال لمعان ثلاثة : الاول صفة الكمال والنّقص يقال : العلم حسن والجهل قبيح ، ولا نزاع في أنّ هذا أمر ثابت للصّفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل ولا تعلّق له بالشّرع. الثاني ملائمة الغرض ومنافرته وقد يعبّر عنهما بهذا المعنى بالمصلحة والمفسدة ، وذلك أيضا عقليّ أي يدركه العقل كالمعنى الأوّل. الثالث تعلّق المدح والثّواب بالفعل عاجلا وآجلا ، والذّم والعقاب كذلك ، فما تعلّق به المدح في العاجل والثّواب في الآجل يسمّى حسنا ، وما تعلّق به الذّم في العاجل والعقاب في الآجل يسمّى قبيحا ، وهذا المعنى الثّالث محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ ، وذلك لأنّ أفعال العباد كلّها ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ، ولا ذمّ فاعله وعقابه ، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشّارع بها ونهيه عنها ، وعند المعتزلة

__________________

(١) وفي بعض النسخ المخطوطة بعد قوله كالعبادات هذه الجملة (مثل صوم آخر رمضان واول شوال فان الاول حسن والثاني قبيح).

٣٤١

ومن تبعهم من الامامية عقليّ كما ذكر هذا الرّجل ، هذا هو المذهب ، وكثيرا ما يشتبه على النّاس أحد المعاني الثّلاثة بالآخر ، ويحصل منه الغلط فتحفّظ عليه ، وإنّما كرّرنا ذكر هذا المبحث وأعدنا في هذا الموضع ليتحفّظ عليه «انتهى».

أقول : استثناء بعض المعاني الثّلاثة عن محلّ النّزاع من تصرّفات متأخّرى الأشاعرة فرارا منهم عن صريح الإفحام ، وقد أنطق الله تعالى النّاصب بذلك فيما سيجيء من المطلب العاشر حيث قال : إنّ الأشاعرة لم يقولوا بالحسن العقليّ أصلا ، وناهيك في ذلك أنّ كلام ابن الحاجب في مختصره خال عن ذلك ، وإنّما ذكره العضد الإيجي في شرحه له وفي كتاب المواقف (١) ، وناقض نفسه أيضا فيه كما سنبيّنه ، وتوضيح ذلك أنّ هاهنا أمرين بل أصلين ، أحدهما هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه أو قبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه فيكون منشأ لهما أم لا؟ والثاني أنّ الثّواب المترتب على حسن الفعل والعقاب المترتب على قبحه ثابت بل واقع بالعقل أم لا يقع إلّا بالشّرع؟

فذهب الاماميّة وسائر أهل العدل إلى إثبات الأمرين وتلازمهما ، والأشاعرة إلى نفيهما رأسا ، وجعلوا الأفعال كلّها سواء في نفس الأمر وأنّها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح ، ولا يتميّز القبيح بصفة اقتضت قبحه أن يكون (٢)

__________________

(١) وكثيرا ما يفعل ذلك صاحب المواقف حيلة للتخلص عن الشناعة ، وقد فعل مثل ذلك في المواقف في مسألة تكليف ما لا يطاق حيث جعل محل النزاع الممتنع بالغير دون الممتنع لذاته ، والتزم بذلك أن يكون أكثر أدلة أصحابه في هذا المقام نصبا للدليل على غير محل النزاع مع أن كلام العلامة الشيرازي في شرح المختصر ، بل كلام نفسه في ذلك المقام مناقض لما ذكروه في مقام التحرير كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. منه «قده».

(٢) بحذف الجار قبل أن ، اى بان يكون ، فالجملة تفسيرية :

٣٤٢

هو هذا القبيح ، وكذا الحسن فليس الفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح ولا مصلحة ولا مفسدة ولا نقص ولا كمال ، ولا فرق بين السجود للشّيطان والسّجود للرّحمن في نفس الأمر ، ولا بين الصّدق والكذب ، ولا بين النّكاح والسّفاح ، إلّا أنّ الشّارع أوجب هذا وحرّم هذا ، فمعنى حسنه كونه مأمورا به من الشّارع ، لا أنّه منشأ مصلحة ، ومعنى قبح كونه منهيّا عنه منه ، لا أنّه منشأ مفسدة ، وهذا المذهب بعد تصوّره وتصوّر لوازمه يجزم العقل ببطلانه ، وقد دلّ القرآن على فساده في غير موضع ، وتشهد به الفطرة السّليمة وصريح العقل ، فإنّ الله فطر عباده على استحسان الصّدق والعدل والعفّة والإحسان ومقابلة النّعم بالشّكر ، وفطرهم على استقباح أضدادها ، ونسبة هذا إلى فطرتهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم ، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النّتن إلى مشامهم ، وكنسبة الصّوت اللّذيذ وضدّه إلى أسماعهم ، وكذلك ما يدركونه بسائر مشاعرهم الظاهرة والباطنة ، فيفرّقون بين طيّبه وخبيثه ونافعه وضارّه. وقد أجاب بعض (١) المتأخّرين من نفاة التّحسين والتّقبيح : بأنّ هذا متّفق عليه ، وهو راجع إلى النّقص والكمال أو الملائمة والمنافرة بحسب اقتضاء الطباع وقبولها للشّيء وانتفاعها به ، ونفرتها من ضدّه ، وإنّما النّزاع في كون الفعل متعلّقا للمدح والذّم عاجلا والثّواب والعقاب آجلا ، وهذا هو الذي نفيناه وقلنا : إنه لا يعلم إلّا بالشّرع. وقال خصومنا : إنّه معلوم بالعقل ، والعقل مقتض له ، وأنت خبير بما قرّرته لك من كلامهم بأنّ هذا الجواب مع كونه فرارا واضحا لا ارتباط له بدفع الأصل الأوّل أصلا ، لما مرّ من أنّ المتنازع فيه في هذا الأصل ، هو أنّ ما حسّنه الشارع وأمر به كان سابقا حسنا ، ثمّ أمر به أم لا ،

__________________

(١) ولعل المراد به المولى جلال الدين الدواني أو الميرزا جان الباغنوى الشيرازي وقد مرت ترجمتهما.

٣٤٣

ونحن نقول : نعم وهم يقولون لا ، بل لمّا أمر به الشّارع صار حسنا ، وإثبات حسن الفعل وقبحه بمعنى النّقص والكمال وموافقة الطبع ومنافرته بل بأىّ معنى كان مناف لذلك كما لا يخفى. وقد اعترف بذلك صاحب المواقف فيما نقله عنه النّاصب سابقا في مبحث صدق كلامه تعالى من قوله : واعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النّقص في الفعل وبين القبح العقلي فيه ، فانّ النّقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما تختلف العبارة «انتهى». وقد أوضحناه هنالك ودفعنا ما أورده النّاصب عليه فتذكر.

والحاصل أنّ الكمال والنقص يجريان في الأفعال ، وأنّ تسليم الحسن والقبح بهذا المعنى في الأفعال مستلزم للقول : بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ، كما أشار إليه صاحب المواقف وغيره ، لأنّ بديهة العقل حاكمة بأنه لا يجوز من الحكيم الكامل النّهى عن الصّدق وجعله متعلّقا للعقاب ، والأمر بالكذب وجعله متعلّقا للثّواب ، فإنكار هذا يكون مناقضا للاعتراف بذلك ، وينقدح منه بطلان ما قالوا : من أنه أمر به فصار حسنا أو نهى عنه فصار قبيحا ، ويمكن أن ينبّه على ذلك بأنّ من رأى من أحد بعض الأفعال الحسنة عند العقل وجد من نفسه إقداما بالإحسان إلى فاعله إمّا بالمدح وإمّا بغيره ، بل يجعل الإحسان إليه حقّا ثابتا في ذمّته ، وإذا وجد ذلك من نفسه حكم يقينا بأنّ الجواد المطلق أحقّ بأن يجعل الإحسان إليه ، ولا سيّما بعد أمره بالأفعال المذكورة حقا ثابتا في ذمّته ، فيحسن إليه في الآجل إمّا باللّذات العقليّة والبدنيّة معا ، وإما باللّذات العقلية البحتة (١) وإما باللّذات البدنية الصّرفة ، وإمّا باعادته إلى شكل أفضل من الأوّل. وينقدح من ذلك أنّ الشّرع الصّريح والعقل الصّحيح في إدراك ما يستقلّ العقل بادراكه متوافقان متطابقان ، فانّ العقل الصّحيح الخالي عن شوائب الوهم حجّة من حجج

__________________

(١) البحت من الشيء خالصه.

٣٤٤

الله (١) ، وسراج منير إلهي ، والحجّة الإلهيّة غير داحضة (٢) ، والسّراج الالهي لا يصير موجبا للضّلالة التي هي ظلمة. وما اشتهر من المخالفات بين قواعد الشرع ومقاصد العقل فيما بين النّاس ، فإما لأنّ الوهم تصرّف في قواعد العقل وأسقطه عن درجة الفطرة الالهيّة التي فطر النّاس عليها (٣) ، وإمّا بواسطة أنّ حكم الشرع ليس معلوما ومنقّحا عند من ظنّ المخالفة ، ويحسب أنّ العقل مخالف لما ورد به الشّرع ، والحال أنّه ليس بعارف بحكم الشّرع والعقل فيما يظنّ المخالفة فيه. وقد مثّل الغزالي (٤) هذا : بأنّ بيتا تكون فيه الأمتعة والأثاث موضوعا كلّ واحد في مكانه كالسّراج والثياب والكوز وما يكون في البيت ، فيدخل رجل أعمى في ذلك البيت ولا يرى مكان كلّ شيء من الأثاث فيتعثّر به ويسقط على وجهه ، ويقول : لأيّ شيء وضع هذا في غير مكانه؟ والحال أنّ كلّ شيء موضوع في مكانها ، ولكن هو أعمى ولا يرى الأمكنة فيحسب أنّ الأمتعة غير موضوعة في مكانها حتّى تعثّر بها ، ويقرب منه ما قال الشاعر نظم :

عاشق از بيطاقتى هر دم بجائى سر نهد

عشق خوابش برده پندارد كه بالينش بد است

__________________

(١) كما في الكافي في باب العقل حيث روى بسنده عن هشام بن الحكم ، قال : لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، يا هشام ، ان لله على الناس حجتين ، حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء ، وأما الباطنة فالعقول.

(٢) دحضت الحجة ، بطلت. ودحض الحجة : أبطلها. فالفعل مما يعدى ولا يعدى ، وكم له من نظير؟ ويشهد ما ذكرنا عقد القدماء من أهل العربية في كتبهم بابا معنونا يعدى ولا يعدى.

(٣) اقتباس من قوله تعالى في سورة الروم. الآية ٣٠.

(٤) قد مرت ترجمته فليراجع.

٣٤٥

وهكذا الذي يحسب أنّ الشّرع غير موافق للعقل ، لأنه لا يعلم ما عليه الشرع استقرّ ، وما عند أرباب العقل تقرّر ، فحسب التناقض والتّنازع ، وأمّا بواسطة التّعصّب ومجادلة أرباب العقل مع أصحاب النّقل ، فانّ بهذا يظهر الخلاف ويحصل التّنافي المانع عن الائتلاف ، وبعد طول التأمّل والإنصاف يظهر حقيقة الموافقة ويرتفع الإختلاف هذا. وإلى ما قرّرناه من تحقّق اللّزوم بين المعنيين قد أشار صاحب التوضيح من الماتريدية (١) في مقام المنع حيث قال : إنّ الأشعري يسلّم الحسن والقبح عقلا بمعنى الكمال والنّقصان ، ولا شكّ أن كلّ كمال محمود وكلّ نقصان مذموم ، وأنّ أصحاب الكمالات محمودون بكمالهم ، وأصحاب النّقائص مذمومون بنقائصهم ، فإنكار الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمدا ويذّم الموصوف بهما في غاية التّناقض «انتهى كلامه».

وإذا جعل إشارة إلى ما قرّرناه يندفع عنه ما أورده عليه الفاضل التفتازاني (٢) في التّلويح ، حيث قال بعد ذكر بعض المناقشات على صاحب التّوضيح : وأعجب من ذلك توضيحه سند المنع بصفات الله تعالى ، وأنه يحمد عليها ، وبكمالات الإنسان

__________________

(١) وان شئت فراجع الى كتاب الروضة البهية لأبي عذبة من علماء الماتريدية في ما بعد القرن العاشر. وقد أسلفنا سابقا جهات الفرق بين فرقتي الماتريدية والاشاعرة وأوردنا هناك المسائل التي اختلفت فيها انظار تينك الفرقتين في الأصول والفروع بما لا مزيد عليه فراجع ، ومراده من صاحب التوضيح المولى عبيد الله الملقب بصدر الشريعة ابن مسعود بن تاج الشريعة محمود المحبوبى الحنفي المتوفى سنة ٧٤٧ العلامة المحقق في العلوم العقلية. وكتاب التوضيح في اصول الفقه وهو شرح على كتاب التنقيح من تآليف نفسه.

ثم انه عقد كسائر المؤلفين القدماء في اصول الفقه بابا في الحسن والقبح العقليين.

(٢) قد مرت ترجمته فليراجع.

٣٤٦

ونقائصه حيث يحمد عليها ويذمّ ، وادّعاؤه التّناقص في كلام الأشعري حيث جعل كلّ كمال حسنا وكلّ نقصان قبيحا مع أنه قرّر في أوّل الفصل : أنّ النّزاع في الحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذّم في الدّنيا والثّواب والعقاب في الآخرة «انتهى كلامه». ووجه الدّفع أنّ التّناقض لازم من كلام الأشعري كما قرّرناه ، ولم يدّع صاحب التوضيح أنّ ذلك مستفاد من صريح كلام الأشعري أو ظاهره ، وذلك ظاهر جدّا. وأما المعنى الآخر الذي استثنوه أيضا عن محلّ النّزاع وهو ملائمة الغرض ومنافرته اللّتان قد يعبّر عنهما بالمصلحة والمفسدة كما في المواقف فهو من باب تحسين الطبع وتقبيحه دون العقل ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره في النّهاية حيث قال : واعلم أنّ الأشاعرة يلزمهم نفى القبح بالكلية ، لأنّ الواقع (١) مستند إلى قدرته تعالى ، وكلّ ما يفعله الله تعالى عندهم فهو حسن ، فتكون أنواع الكفر والظلم وجميع القبائح الصّادرة عن البشر غير قبيحة ، واعتذارهم بأنّ القبح المعلوم بالضرورة إنّما هو القبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ضعيف ، فانّ الظالم العاقل يميل طبعه إلى الظلم ، ومع ذلك فانّه يجد صريح عقله حاكما بقبحه (٢) ، وأيضا من خاطب الجماد فأمره ونهاه لا ينفر طبعه عنه وهو قبيح قطعا ، ومن أنشأ قصيدة حسنة في شتم الأنبياء والملائكة عليهم‌السلام وقرأها بصوت طيّب حسن ، فانّه يميل الطبع إليه وينفر العقل منه ، فعلمنا المغايرة بين نفرتى العقل والطبع «انتهى». وأيضا لو كان الحسن والقبح عين النّفرة والميل الطبيعيّين لوجب اختلاف العقلاء في ذلك ، لأنّا نجدهم يختلفون فيما تميل إليه طباعهم وتنفر عنه ، ولم نجدهم يختلفون في حسن الصّدق وأمثاله

__________________

(١) الالف واللام موصولة ، اى الفعل الذي وقع.

(٢) نعم قد لا يلتفت الى قبحه لكثرة غيظه وكونه في مقام التشفي أو اعمال مشتهياته وذلك لا ينافي حكمه بالقبح المرتكز في فطرته.

٣٤٧

وقبح الكذب ونظائره ، وأيضا لو كان ذلك كذلك لسقط ذمّ العقلاء عمّن فعل قبيحا إذا اعتذر بموافقته لغرضه. وبالجملة ما اشتهر من تفصيل معنى الحسن والقبح على الوجوه الثّلاثة واستثناء بعضها عن محلّ النزاع مما استحدثه متأخّر والأشاعرة وجعلوه مهربا يلجئون إليه حين يضطرّهم حجّة أهل الحقّ إليه ، فيقولون : إنّ مثل حسن الإحسان وقبح الظلم متحقّق بأحد المعاني المذكورة ، لا بالمعنى المتنازع فيه ، ولم يتفطنوا بما ذكرناه من الاستلزام ، أو أغمضوا عنه ترويجا للمرام على القاصرين من الأنام هذا. ويدلّ على هذا الأصل من الأدلة التي لم يتعرّض لها المصنّف في هذا المقام ، قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ : إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) ؛ الى قوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) ، فأخبر سبحانه أنّ فعلهم فاحشة قبل نهيه عنه وأمره باجتنابه ، والفاحشة هاهنا طوافهم بالبيت عراة الرّجال والنّساء إلّا بعض قريش (٢) ، ثمّ قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أى لا يأمر بما هو فاحشة في العقل والفطرة ، ولو كان إنّما علم كونه فاحشة بالنّهى ، وأنه لا معنى لكونه فاحشة إلّا تعلّق النّهى به ، لصار معنى الكلام : إنّ الله لا يأمر بما ينهى عنه ، وهذا ممّا يصان عن التكلم به آحاد العقلاء فضلا عن كلام العزيز الحكيم ، وأىّ فائدة في قوله : إنّ الله لا يأمر بما ينهى عنه ، كما يقتضى تفسيره به عند الأشاعرة ، فعلم

__________________

(١) الأعراف من آية ٢٨ الى آية ٣٤.

(٢) وهم بنو عبد مناف كما ذكره بعض المورخين ، وقال بعض أهل السير : ان بنى مخزوم كانوا كنى عبد مناف في الاجتناب عن الشنائع المذكورة.

٣٤٨

أنّ المراد أنه لا يأمر بما تستفحشه العقول كما يقتضيه رأى الاماميّة ومن تابعهم ، ثم قال تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) ، والقسط عند الأشاعرة يلزم أن يكون هو المأمور به لاما هو قسط في نفسه ، فحقيقة الكلام قل أمر ربي بما أمر به ، ثمّ قال : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (١) ، دلّ على أنّه طيّب قبل التّحريم ، وأنّ وصف الطيّب فيه مانع من تحريمه ، فتحريمه مناف للحكمة ، ثمّ قال : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) (٢) ولو كان كونها فواحش إنّما هو لتعلّق التّحريم بها ، وليست فواحش قبل ذلك ، لكان حاصل الكلام قل : إنّما حرّم ربّي ما حرم ، وكذلك تحريم البغي والإثم ، فكون ذلك فاحشة وإثما وبغيا بمنزلة كون الشّرك شركا ، فهو مشرك في نفسه قبل النّهى وبعده فمن قال : إنّ الفاحشة والقبائح والإثم إنّما صارت كذلك بعد النّهى ، فهو بمنزلة قائل يقول : الشّرك إنّما صار شركا بعد النّهى ، وليس شركا قبل ذلك ، ومعلوم أنّ هذا مكابرة (٣) صريحة للعقل والفطرة ، فالظلم ظلم في نفسه قبل النّهى وبعده ، والقبيح قبيح في نفسه قبل النّهى وبعده ، وكذلك الفاحشة والشّرك ، لا أنّ هذه الحقائق صارت بالشّرع كذلك ، نعم الشّارع كساها بنهيه عنها قبحا إلى قبحها ، فكان قبحها من ذاتها (٤) ، وازدادت قبحا عند

__________________

(١) الأعراف. الآية ٣٢.

(٢) الأعراف. الآية ٣٣.

(٣) اصطلح أهل المناظرة في علم آداب البحث عن التعبير بالدعوى المجردة عن الدليل بالمكابرة ان اقترنت بتعنت واستكبار ، والتحكم ان لم تقترن بذلك.

(٤) المراد بالذات ما أسلفناه سابقا في بيان ملاكات الاحكام لا الذات التي يراد بها نفس الفعل والحركات والسكنات الخالية عن كل عنوان ووصف المعراة عن كل اعتبار.

٣٤٩

العقل بنهي الرّب تعالى عنها وذمّه لها وإخباره ببغضها وبغض فاعلها ، كما أنّ العدل والصّدق والتّوحيد ومقابلة نعم المنعم بالثّناء والشّكر حسن في نفسه ، وازداد حسنا إلى حسنه بأمر الرّب به وثنائه على فاعله وإخباره بارادة ذلك ومحبة فاعله ، بل من أعلام نبّوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث (١) ، فلو كان كونه معروفا ومنكرا وطيبا وخبيثا إنما هو لتعلّق الأمر والنّهى والحلّ والتّحريم به ، لكان بمنزلة أن يقال : يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عمّا ينهاهم عنه ، ويحلّ لهم ما يحلّه ، ويحرّم عليهم ما يحرّمه ، وأىّ فائدة في هذا؟ وأىّ علم يبقى فيه لنبوّته؟ وكلام الله تعالى يصان عن ذلك وأن يظنّ به مثله ، وإنّما المدح والثناء والعلم الدالّ على نبوّته أنّ ما يأمر به تشهد العقول الصّحيحة بحسنه وكونه معروفا ، وما ينهى عنه تشهد بقبحه وكونه منكرا ، وما يحلّه تشهد بكونه معروفا ، وما ينهى عنه تشهد بقبحه وكونه منكرا ، وما يحلّه تشهد بكونه طيبا ، وما يحرّم تشهد بكونه خبيثا ، وهذه دعوة الرّسل ، وهي بخلاف دعوة المبطلين والكاذبين والسّحرة ، فإنهم يدعون إلى ما يوافق أهواءهم وأغراضهم من كل قبيح ومنكر وبغى وظلم. ولهذا قيل لبعض الأعراب وقد أسلم ، لما عرف دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله : عن أىّ شيء أسلمت وما رأيت منه ممّا ذلك على أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل : ليته نهى عنه ، ولا نهى عن شيء فقال العقل : ليته أمر به ، ولا أحلّ شيئا فقال العقل ليته حرّمه ، ولا حرّم شيئا فقال العقل : ليته أباحه ، فانظر إلى هذا الأعرابي (٢) وصحّة عقله وفطرته وقوّة ايمانه واستدلاله على صحة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمطابقة أمره لكل ما هو حسن في العقل ومطابقة نهيه لما هو قبيح في العقل ، وكذلك مطابقة تحليله

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية ١٥٧

(٢) الأعرابي : من سكن البادية كان من العرب أو غيره ، وقد مر الفرق سابقا بين الأعرابي والعربي فليراجع.

٣٥٠

وتحريمه ، ولو كانت جهة الحسن والقبح والطيب والخبث مجرّد تعلّق الأمر والنهى والإباحة والتحريم لم يحسن منه هذا الجواب ، ولكان بمنزلة أن يقول : وجدته يأمر وينهى ويبيح ويحرّم ، وأىّ دليل في هذا ، وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (١) وهؤلاء يزعمون أنّ الظلم في حقّ عباده هو المحرّم المنهي عنه ، لا أنّ في نفس الأمر ظلما نهى عنه ، وكذلك الظلم الذي نزّه الله تعالى نفسه عنه هو الممتنع المستحيل عندهم ، لا أنّ هناك أمرا ممكنا مقدورا لو فعله لكان ظلما ، فليس عندهم ظلم منهىّ عنه ولا منزّه عنه (٢) إنّما هو المحرّم في حقهم (٣) والمستحيل في حقّه تعالى ، فالظلم المنزه عنه عندهم منحصر في المحالات العقلية كالجمع بين النقيضين ، وجعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد ونحو ذلك ، والقرآن صريح في إبطال هذا المذهب أيضا. قال تعالى : قال قرينه : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤) ، أى لا اؤاخذ عبدا بغير ذنب ولا أمنعه من أجر ما عمله من صالح ، ولهذا قال قبله : وقد قدّمت إليكم بالوعيد المتضمّن لإقامة الحجة وبلوغ الأمر والنّهى ، فإذا آخذتكم بعد التّقدم فلست بظالم ، بخلاف ما يؤاخذ العبد قبل التّقدم إليه بأمره ونهيه ، فذلك الظلم الذي تنزه عنه سبحانه ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)(٥) ،

__________________

(١) النحل. الآية ٩٠.

(٢) والظاهر سقوط لفظة «بل» قبل كلمة انما هو المحرم.

(٣) اى حق العباد.

(٤) ق. الآية ٢٨.

(٥) طه. الآية ١١٢.

٣٥١

يعني لا يحمل عليه من سيّئات ما لم يعمله ولا ينقص من حسنات ما عمل ، ولو كان الظلم هو المستحيل الذي لا يمكن وجوده لم يكن لعدم الخوف منه معنى ولا للأمن من وقوعه فائدة ، وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) ، أى لا يحمّل المسيء عقاب ما لم يعمله ولا يمنع المحسن من ثواب عمله. وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (٢) ، فدلّ على أنه لو أهلكهم مع إصلاحهم لكان ظلما ، وعندهم يجوز ذلك وليس بظلم لو فعله ، ويؤوّلون الآية على أنّه سبحانه أخبر أنّه لا يهلكهم مع إصلاحهم ، وعلم أنّه لا يفعل ذلك وخلاف خبره ومعلومه مستحيل ، وذلك حقيقة الظلم ، ومعلوم أنّ الآية لم يقصد بها هذا قطعا ، ولا أريد بها ولا يحتمله بوجه ، إذ يؤول معناها إلى أنّه ما كان ليهلك القرى بسبب اجتماع النّقيضين وهم مصلحون ، وكلامه تعالى : يتنزّه عن هذا ويتعالى عنه ، وكذلك عند هؤلاء أيضا العبث والسّدى (٣) والباطل كلّها هي المستحيلات الممتنعة التي لا تدخل تحت المقدور ، والله تعالى قد نزّه نفسه عنها ، إذ نسبه إليها أعداؤه المكذّبين (٤) لوعده ووعيده المنكرين لأمره ونهيه ، فأخبر أنّ ذلك يستلزم كون الخلق عبثا وباطلا ، وحكمته وعزّته تأبى (تنافى خ ل) ذلك قال تعالى :

__________________

(١) فصلت. الآية ٤٦.

(٢) هود. الآية ١١٧.

(٣) السدى بضم السين المهملة. المهمل والباطل وفيه إشارة الى قوله تعالى في سورة القيامة. الآية ٣٦.

(٤) وحق العبارة هكذا : (إذ نسبها اليه تعالى أعداءه المكذبون لوعده ووعيده المنكرون لأمره ونهيه).

٣٥٢

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (١) ، أى بغير شيء لا تؤمرون ولا تنهون ولا تثابون ولا تعاقبون ، والعبث قبيح ، فدلّ على أنّ قبح هذا مستقرّ في الفطر (٢) والعقول ، ولذلك أنكر عليهم إنكار منبّه لهم على الرّجوع إلى عقولهم ، وأنّهم لو فكروا وأبصروا لعلموا أنه لا يليق به ولا يحسن منه أن يخلق خلقه عبثا ، لا لأمر ولا لنهى ولا لثواب ولا لعقاب ، وهذا يدلّ على أنّ حسن الأمر والنّهى والجزاء مستقرّ في العقول والفطر ، وأنّ من جوّز على الله الإضلال به فقد نسبه إلى ما لا يليق به وتأباه أسماؤه الحسنى (٣) وصفاته العليا ، وكذلك قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٤) أى لا يؤمر ولا ينهى أو لا يثاب ولا يعاقب وهما متلازمان ، فأنكر على من يحسب ذلك ، فدلّ على أنّه قبيح لا يليق به ، ولهذا استدلّ على أنّه لا يترك سدى بقوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) (٥) الى آخر السّورة ، ولو كان قبحه إنّما علم بالسمع لكان يستدلّ عليه : بأنّه خلاف السمع وخلاف ما أعلمناه وأخبرنا به ، ولم يكن إنكار تركه قبيحا في نفسه ، بل لكونه خلاف ما أخبر به ، ومعلوم أنّ هذا ليس وجه الكلام ، وكذلك قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٦) والباطل الذي ظنّوه ليس هو الجمع بين النّقيضين ، بل الذي ظنوه أنّه لا شرع ولا جزاء ولا أمر ولا نهى ولا ثواب ولا عقاب ، فأخبر أنّ خلقها لغير ذلك هو الباطل

__________________

(١) المؤمنون. الآية ١١٥.

(٢) الفطر كعنب جمع الفطرة.

(٣) اقتباس من قوله تعالى في سورة الاسراء. الآية ١١٠.

(٤) القيامة. الآية ٣٦.

(٥) القيامة. الآية ٣٧.

(٦) ص. الآية ٢٧.

٣٥٣

الذي تنزّه عنه ، وذلك هو الحقّ الذي خلقت به وهو التّوحيد وحقّه وجزاؤه وجزاء من جحده وأشرك به ، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١) فأنكر سبحانه هذا الحسبان إنكار منبّه للعقل على حكمه وأنّه حكم سيئ ، فالحاكم به مسيء ظالم ، ولو كان إنّما قبح [ولو كان الحسبان خ ل] لكونه خلاف ما أخبر به ، لم يكن الإنكار لما اشتمل عليه من القبح اللازم من التّسوية بين المحسن والمسيء المستقرّ قبحه في عقول العالمين كلّهم ، ولا كان هناك حكم سيّئ في نفسه ينكر على من حكم به ، وكذلك قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢) وهذا استفهام وإنكار ، فدلّ على أنّ هذا قبيح في نفسه منكر تنكره العقول والفطر ، أفتظنّون أنّ ذلك يليق بنا أو يحسن منا فعله ، فأنكره سبحانه إنكار منبّه للعقل والفطرة على قبحه ، وأنّه لا يليق بالله نسبته إليه ، وكذلك إنكاره سبحانه قبح الشّرك به في الالهية وعبادة غيره معه بما ضربه لهم من الأمثال ، وأقام على بطلانه من الأدلة العقليّة ، ولو كان إنّما قبح بالشّرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى ، وعند نفاة التحسين والتّقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك به وعبادة غيره ، وإنّما علم قبحه بمجرّد النّهى عنه ، فيا عجبا أىّ فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدّالة على قبحه في صريح العقول؟! وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم! وأىّ شيء يصحّ في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشّرك الذّاتي ، وأنّ العلم بقبحه بديهيّ ، فذلك معلوم بضرورة العقل ، وبأنّ الرّسل نبّهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم

__________________

(١) الجاثية. الآية ٢١.

(٢) ص. الآية ٢٨.

٣٥٤

من قبحه ، وإن لم يتنبّه ليست لهم عقول (١) ولا ألباب ولا أفئدة ، بل نفى الله تعالى عنهم السّمع والبصر ، والمراد سمع القلب وبصره (٢) ، فأخبر أنّهم صمّ بكم عمى وشبّههم بالأنعام التي لا عقول لها يميّز بها بين الحسن والقبح و

__________________

(١) وحق العبارة هكذا : ان من لم يتنبه ليس له عقل ولا لب ولا فؤاد.

(٢) كما في قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية ١٧٩. لا يخفى ان سمع القلب له اطلاقان ، فتارة يطلق ويراد به اذن الفؤاد ، وهي التي عدها الفقهاء من محرمات الذبيحة ، وأخرى يطلق ويراد به ادراك القلب ما وصلت اليه من العلوم والمطالب ، كما أن للقلب إطلاقات منها اللحم الصنوبري الشكل المودع في الحيوان ومنها المعنى المعروف لدى الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء وغيرهم الذي عرفوه بقولهم : هي اللطيفة الربانية ، التي لها تعلق بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر. قال الجرجاني في كتاب الحدود ص ١١٩ في بيان المعنى الثاني للقلب ما لفظه : تلك لطيفة هي حقيقة الإنسان ، ويسميها الحكيم النفس الناطقة والروح باطنه والنفس الحيوانية مركبه ، وهي المدرك والعالم من الإنسان والمخاطب والمطالب والمعاتب «انتهى».

وقد يطلق القلب كما في علم آداب البحث على ما نص عليه الفاضل السمرقندي على جعل المعلول علة والعلة معلولا.

وقد يطلق كما في الفقه وأصوله حسب تنصيص الجرجاني في الحدود ص ١١٩ على عدم الحكم لعدم الدليل ويراد به ثبوت الحكم بدون العلة.

وقد يطلق على معاني في علمي الصرف والاشتقاق كما في كتاب سمط اللئال في القلب والابدال.

وقد يطلق على احد اقسام الحصر في علم المعاني.

وقد يطلق على بعض المحسنات في البديع.

الى غير ذلك من الإطلاقات والمراد به هاهنا المعنى الثاني أعنى اللطيفة الربانية فلا تغفل.

٣٥٥

الحقّ والباطل ، وكذلك اعترفوا في النّار بأنّهم لم يكونوا من أهل السّمع والعقل ، وأنّهم لو رجعوا إلى أسماعهم وعقولهم ، لعلموا حسن ما جاءت به الرّسل وقبح مخالفتهم ، قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١) ، وكم يقول لهم في كتابه (أَفَلا يَعْقِلُونَ) ، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، فينبّههم على ما في عقولهم من الحسن والقبح ويحتجّ عليهم بها ، ويخبر أنّه أعطاهموها لينتفعوا بها ويميّزوا بها بين الحسن والقبيح ، وكم في القرآن من مثل عقليّ وحسي ينبّه به العقول على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه؟! فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى ، ولكان إثبات ذلك بمجرّد الأمر والنّهى دون ضرب الأمثال ، وتبيين جهة القبح المشهور بالحسّ والعقل ، والقرآن مملوّ بهذا لمن تدبّره ، كقوله :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢) ، يحتجّ سبحانه عليهم بما في عقولهم ، من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له ، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكا له ولا يرضى بذلك ، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبيّن أنّ قبح عبادة غيره تعالى مستقرّ في العقول ، والسّمع نبّه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك وكذلك قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) (٣) (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤) ،

__________________

(١) الملك. الآية ١٠.

(٢) الروم. الآية ٢٨.

(٣) متشاكسون : متضادون.

(٤) الزمر. الآية ٢٩.

٣٥٦

احتج سبحانه على قبح الشّرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك تملكه أرباب متعاسرون سيئوا الملك ، وحال عبد يملكه سيّد واحد قد سلم كلّه له ، فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ وكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته للواحد الحقّ ، لا يستويان. وكذلك قوله تعالى : ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل والمن والأذى المبطل للصدقات بصفوان (١) وهو الحجر الأملس عليه تراب غبار قد لصق به فأصابه مطر شديد ، فأزال ما عليه من التّراب وتركه صلدا أملس لا شيء عليه ، وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه ، فالصّفوان وهو الحجر كقلب المرائي والمنّان والموذي والتّراب الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته ، والوابل المطر الذي به حياة الأرض فإذا صادف أرضا قابلة نبت فيها الكلا ، فإذا صادف الصخور والحجارة الصّم لم ينبت فيها شيء (٢) فجاء هذا الوابل إلى التّراب الذي على الحجر فصادفه رقيقا فأزاله فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات ، وهذا يدل على أنّ قبح المنّ والأذى والرّياء مستقرّ في العقول ، فلذلك نبهها على شبهه ومثاله. وعكس ذلك قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣) فان كانت هذه الحبّة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرّياح وقد أصابها مطر شديد. فأخرجت ثمرها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس فكذلك نفقة من أنفق

__________________

(١) في سورة البقرة. الآية ٢٦٤.

(٢) ويناسبه قوله تعالى في سورة الأعراف. الآية ٥٨.

باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست

در باغ سبزه رويد ودر شوره زار خس

(٣) البقرة. الآية ٢٦٥.

٣٥٧

ماله لوجه الله لا للجزاء من الخلق ولا شكورهم (١) بثبات من نفسه وقوة على الإنفاق ، لا تخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها ، ويرتعد ويضعف قلبه ، ويجوز عند الإنفاق بخلاف نفقة من لم يكن صاحب التثبت والقوّة ، ولمّا كان النّاس في الإنفاق على هذين القسمين ، كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والتثبيت كمثل الوابل ، ومثل نفقة الآخر كمثل الطلّ ، وهو المطر الضعيف ، فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلّته وكمال الإخلاص وقوّة اليقين فيه وضعفه ، أفلا تراه سبحانه نبّه العقول على ما فيها من استحسان هذا واستقباح فعل الأول؟ وكذلك قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢) فنبّه سبحانه العقول على قبح ما فيها من الأعمال السّيئة التي تحبط ثواب الحسنات وشبهها بحال شيخ كبير له ذرّية ضعفاء بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه وله بستان هو مادّة عيشه وعيش ذرّيته ، فيه النخيل والأعناب ومن كل الثّمرات إذا أصابته نار شديدة فأحرقته ، فنبه العقول على أنّ قبح المعاصي التي تحرق الطاعات بعدها كقبح هذه الحال ، ولهذا فسّره ابن عباس (٣) برجل عمل بطاعة الله زمانا فبعث

__________________

(١) إشارة الى آية ٩ في سورة الدهر النازلة في حق أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم أجمعين ، الحاكية عن لسان حالهم.

(٢) البقرة. الآية ٢٦٦.

(٣) هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ، من اعيان الإسلام أخذ علوم القرآن وتفسيره عن مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه ، يعبر عنه حبر الامة ، وقدوة المفسرين وترجمان القرآن امه لبابة بنت الحارث بن حزن اخت ميمونة ام المؤمنين زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين دعى له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالفقه والتأويل ،

٣٥٨

الله إليه الشّيطان فعمل بمعاصي الله حتّى احترقت أعماله ، ذكره البخاري في صحيحه (١) أفلا تراه نبّه العقول على قبح المعصية بعد الطاعة وضرب لقبحها هذا المثل؟ ونفاة التعليل والأسباب والحكم بحسن الأفعال وقبحها يقولون : ما ثمّ إلّا محض المشيّة لا أنّ بعض الأعمال يبطل بعضا وليس فيها ما هو قبيح بعينه حتى يشبه بقبيح آخر ، وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة يكون سببا لهما ولا لها علل غائية هي مفضية إليها ، وإنّما هي متعلّق المشية ، والإرادة والأمر والنّهى فقط ، والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة كما مر ، وأجمعوا عند التكلم (٢) بلسان الفقه على بطلانها إذ يتكلّمون في العلل والمناسبات الدّاعية بشرع الحكم (٣)

__________________

وكان عمر يقربه ويشاوره ، وكذا غيره من الصحابة قال الخطيب في تاريخ بغداد روى عن عطاء انه قال ما رأيت مجلسا قط كان أكرم من مجلس ابن عباس أكثر علما وأعظم جفنة وان أصحاب القرآن عنده يسألونه ، وأصحاب النحو عنده يسألونه ، وأصحاب الشعر عنده يسألونه ، وأصحاب الفقه عنده يسألونه كلهم يصدرهم في واد واسع.

توفى بالطائف سنة ٦٨ وصلى عليه محمد بن الحنفية وكلماته في كتب التفسير منقولة مذكورة مشهورة وقد جمعها الفيروزآبادي صاحب القاموس في كتاب سماه تنوير المقباس في تفسير ابن عباس.

يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أمير المؤمنين والحسنين وغيرهم عليهم‌السلام.

وعنه يروى جمع منهم ابو الشعثاء ، وابو العالية ، وسعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وعطاء بن يسار ، وغيرهم.

(١) في الجزء السادس (ص ٣٢ ط اميرية).

(٢) فيه إشارة الى أنهم عند التكلم في علم الكلام ينسون ذلك ويناظرون في ذلك عنادا مع أهل التوحيد والعدل. «منه قده».

(٣) الشرع : الطريقة ، والحكم جمع الحكمة ، والمراد أنهم يتكلمون على طبق مقتضيات الحكم والعلل والمصالح العقلية مع أنه مخالف لمبناهم. هذا إذا كانت العبارة (بشرع

٣٥٩

ويفرّقون بين المصالح الخالصة والرّاجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك ، ويقدّمون أرجح المصلحتين على مرجوحتهما ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما ، ولا يتمّ لهم ذلك إلّا باستخراج الحكم والعلل ومعرفة المصالح والمفاسد النّاشئة من الأفعال ومعرفة رتبها ، وكذلك الأطبّاء لا يصلح لهم (لا يصح خ ل) علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأغذية والأمزجة وطبائعها ، ونسبة بعضها إلى بعض ومقدار تأثير بعضها في بعض ، وانفعال بعضها عن بعض ، والموازنة بين قوّة الدّواء وقوّة المرض ودفع الضّدّ بضدّه ، وحفظ ما يريدون حفظه بمثله ومناسبه ، فصناعة الطب (١) وعلمه مبنيّة على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطبائع

__________________

الحكم بالباء) وان كانت (لشرع الحكم باللام) فالجار متعلق بالداعية ومضاف لفظة الشرع (الحكم) بضم الحاء المهملة لا الحكم بكسرها فلا تغفل.

(١) ومن ثم ترى القوم يشيرون في كتبهم الطبية الى ذلك حيث قالوا ولما كان المركب في هذا العالم مورد الاضداد وكل شيء يقوى ما هو من جنسه ، ويضعف ما هو بخلافه ، فيتغير المركب عما كان عليه بورود الوارد وينقلب عما كان عليه ولم يتأت عنه ما خلق لأجله بل صدر عنه ما هو بخلاف ما أريد منه وهذا هو المرض ، وذلك الوارد هو سبب المرض وعلته ، والصادر عنه على خلاف ما أريد منه هو العرض ، مثلا خلق العين للنظر وقوامها بما هي عليه مما وضعها الله عليه ، فإذا وقع فيها قذى ونكأها ، فتلك النكأة هي المرض وذلك القذى هو السبب ، فتعرض لها حمرة أو دمعة أو غير ذلك فتلك عرض لها ، وأثر لتلك النكأة. فإذا ربما يكون عرض سبب مرض آخر ، كالدمعة تصير سبب القرحة منه أو على مقام آخر ، أو مرض عرض مرض آخر ، أو مرض سبب مرض آخر الى ما شاء الله فبالاعراض يستدل على الأمراض ، وبالامراض يتوصل الى معرفة الأسباب كالرمد يكون عرض النزلة منه فالمرض أثر للسبب ، والعرض أثر للمرض ، فالواجب أولا لمن يروم المعالجات ، قطع اسباب المرض الاولية ثم ان كانت الطبيعة قوية تدفع

٣٦٠