إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

وأما ما ذكره : من المثال فانّما يصلح لتلاعب الأطفال ، فانّه في مرتبة أن يقال أىّ نقص يعرض الله تعالى من كون عرشه قديما؟ لأنّه محل استوائه ومن مجالي (١) عظمته بل الحنابلة يحكمون بجلوسه عليه ، تعالى عنه علوّا كبيرا وأما ما أجاب به عن الثالث بقوله إن أردتم باستكماله بالغير «إلخ» ففيه أن العقل السّليم حاكم بأنّ الواجب لذاته لا يفتقر في ذاته وفيما يتوقّف عليه ذاته إلى غيره ، وأنّ المفتقر إلى غيره كذلك ممكن. وأما ما ذكره من أنّ المحال هو استفادته تعالى صفة كمال من غيره لا اتّصافه لذاته بصفة كمال هو غيره فمردود بأنّه لا كمال لله تعالى في اتّصافه بصفة كمال هو غيره لأنّ غيريّة الصّفة تستلزم افتقار الذّات المستلزم للإمكان كما مرّ ، وإنّما يكون ذلك كمالا في الشّاهد الممكن النّاقص ، فهذا أيضا راجع إلى قياس الغائب على الشّاهد ، وقد عرفت ما فيه ، ثمّ لا يخفى أنّ أخذ الاستكمال بدل الافتقار إنّما وقع في تقرير صاحب المواقف لهذا الدّليل ، والنّاصب لقصور فهمه وعجزه عن التّقرير والتّحرير لم يقدر على تغيير التّقرير وتبديل الاستكمال بالافتقار ليصير جوابه مقابلا لكلام المصنّف؟ فذكر في جواب المصنّف عين ما أجاب به صاحب المواقف هناك مشتملا على لفظ الاستكمال ، مع أنّ بين الاستكمال (٢) والافتقار

__________________

(١) المجالى : جمع مجلاء محل الجلوة.

(٢) إذ الافتقار الاحتياج ضد الاستغناء ، والاستكمال الاستتمام ، وهما متغايران مفهوما متلازمان وجودا والفرق دقيق. وقال القاضي الشهيد المرعشي في الهامش ما لفظه : قال عين القضاة ذواتنا ناقصة ، وانما تكملها الصفات فاما ذات الله تعالى سبحانه فهي كاملة لا تحتاج في شيء الى شيء ، إذ كل ما يحتاج في شيء الى شيء فهو ناقص ، والنقصان لا يليق بالواجب تعالى ، فذاته تعالى كافية للكل في الكل فهي بالنسبة الى المعلومات علم وبالنسبة الى المقدورات قدرة وبالنسبة الى المرادات إرادة ولا اثنينية فيها بوجه من الوجوه «انتهى» وبعض عبارات غيره من الصوفية موافقة له وبعضها مخالف. منه «قده»

٢٤١

فرق لا يخفى وأما ما أجاب به عن الاستدلال الرّابع من أن العلم صفة واحدة قائمة بذاته تعالى ، ويتعدّد بحسب التّعلّق بالمعلومات «إلخ» فمدخول ، بأنّ المصنّف قدس‌سره لم يجعل المحذور في هذا الدّليل لزوم العلم بالمعلومات الغير المتناهية المراد بها الحوادث الكونية ، كما زعمه حتّى يتأتى دفعه بأنّه لا يلزم التّسلسل المحال ، بناء على أنّ عدم تناهي معلومات الله تعالى إنّما هو بمعنى أنّ تعلّق علمه تعالى بتلك المعلومات لا ينتهى إلى أمر معلوم لا يمكن تجاوزه عنه ، لا بمعنى أنّ تلك العلوم المتعلّقة بها حاصلة متحقّقة بالفعل كيف؟ ولو كان مراد المصنّف ذلك لورد عليه مثل ما أورده على الأشاعرة ، لظهور أنّه على تقدير أن يكون علمه تعالى عين الذّات يلزم من علمه بالمعلومات الغير المتناهية التفاتات غير متناهية ويكون الجواب الجواب ، بل مراده قدس‌سره من المعلومات الغير المتناهية العلوم المعلومة بما يغايرها من العلوم اللازمة على تقدير القول بزيادة الصّفات كما سنبيّنه عن قريب إن شاء الله تعالى (١) ، ومراده بالمرار الغير المتناهية المرار الحاصلة من لزوم العلوم

__________________

أقول : عين القضاة هو الشيخ محمد بن عبد الله بن محمد بن على الميانجى الهمداني المتوفى سنة ٥٣٣ صاحب التآليف ، وله تآليف وتصانيف في التصوف والكلام والفلسفة منها كتاب سوانح العشاق ألفه لشيخه أحمد الغزالي وكتاب شكوى الغريب عن الأوطان الى علماء البلدان وكتاب تازيانه سلوك في التصوف وكتاب زبدة الحقائق. ومن شعره في الغزل :

تا با دل من عشق بر آميخته شد

صد فتنه وآشوب برانگيخته شد

از خنجر آبدار آتشبارت

تا چشم زدم خون دلم ريخته شد

(١) كلمة ان شاء الله تعليقية ان كان الأمر المقترن به غير متيقن الوقوع ويكتب حرف ان حينئذ منفصلة عن المشية (ان شاء الله) وتيمنية ان كان الأمر المقترن به متيقن الوقوع وتكتب حرف ان حينئذ متصلة بالمشية (إنشاء الله) ونص على هذا الفرق جمع منهم المحقق القمي صاحب القوانين «قده» في تعاليقه على وافية الأصول للفاضل التوني.

٢٤٢

الغير المتناهية في مرتبة إثبات كلّ من المعاني القديمة ، فانّ تأثيره تعالى في العلم الزّائد عليه في الخارج يتوقّف على علم آخر كما يتوقّف على قدرة وإرادة وغيرهما من المعاني الزائدة ، وكذا تأثيره في القدرة والإرادة المتوقّف عليهما التّأثير في العلم يتوقّف على قدرة وإرادة أخرى وهكذا ، فيلزم في هذه المرتبة علوم غير متناهية وقدر (١) غير متناهية وإرادة غير متناهية ، وكذا في مرتبة تأثيره تعالى ابتداء في القدرة الزائدة عليه تلزم السّلاسل الغير المتناهية ، لتوقّف تأثير القدرة على العلم والإرادة الزّائدتين وهكذا الكلام في تأثيره تعالى ابتداء في الإرادة الزائدة وهذا هو الذي أراده بقوله : وفي كلّ واحدة من هذه المراتب مراتب غير متناهية ويقرب منه ما ذكره قدس‌سره في (كتاب نهج المسترشدين) بقوله : ولأنّ صدور العلم عنه يستدعي كونه علما وذلك إنّما يكون بعد كونه عالما فيكون الشيء مشروطا بنفسه أو يتسلسل ، لأنّ العلم الذي هو شرط صدور هذا العلم إمّا أن يكون نفسه ، أو غيره ، فعلى الأوّل يلزم الأوّل ، وعلى الثّاني يلزم الثّاني ، وقد ذكر في النّهج دليلا آخر أخذ فيه لزوم حدوث الصّفات حيث قال : لنا أنه لا قديم سواه لأنّ كلّ موجود سواه فهو مستند إليه كما حقّق في إثبات وجوده تعالى ، وقد بينّا أنّه تعالى مختار ، وفعل المختار محدث ، وملخصها ما ذكره سيّد المحقّقين (٢) قدس‌سره : في شرح المواقف من أنّ تأثيره تعالى في صفة القدرة مثلا إن كان بقدرة واختيار لزم محذور ان ، التّسلسل في صفاته وحدوثها ، وإن كان بإيجاب لزم كونه موجبا بالذّات ، فلا يكون الإيجاب نقصانا فجاز أن يتّصف به بالقياس إلى بعض مصنوعاته ، ودعوى أنّ إيجاب الصّفات كمال وإيجاب غيرها نقصان مشكلة «انتهى» وإنّما طوى المصنّف في تلك الأدلة احتمال الإيجاب لامتناعه عند الملّيين ، وبعد

__________________

(١) القدر جمع القدرة على خلاف القياس.

(٢) المراد به المحقق الشريف الجرجاني.

٢٤٣

التزام الخصم له ، وإنّما لم يذكر لزوم الحدوث مع لزوم التّسلسل ، إذ قد ناقش بعضهم في كون الإختيار مستلزما للحدوث ، ولا مناقشة في كونه مستلزما للتّسلسل في بعض الصّفات (١) فافهم ، هذا ويتوجه أيضا على النّاصب فيما ذكره من تعدّد العلم بحسب التّعلق بالمفهومات أنّ تلك التّعلّقات إن كانت قديمة يلزم قدم المعلومات وإن كانت حادثة يلزم عدم علمه تعالى بالمعلومات قبل تلك التّعلقات الحادثة ، قال (العلامة الدّواني (٢) في شرحه على العقائد العضديّة) أما ما ذكره الظاهريون (٣) من المتكلّمين من أنّ العلم قديم ، والتّعلق حادث لا يسمن ولا يغنى من جوع ، إذ العلم ما لم يتعلّق بالشيء لا يصير ذلك الشيء معلوما فهو يفضي إلى نفى كونه تعالى عالما بالحوادث في الأزل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «انتهى» وأما ما ذكره آخرا من أنّه لا يلزم التّسلسل المحال لفقدان شرط التّرتب «إلخ» فدليل على جهله بشرائط استحالة التّسلسل عند المتكلّمين ، فان وجود ما لا يتناهى في الخارج محال عندهم مطلقا سواء كان هناك ترتّب أولا كما صرّحوا به وعرفه من له أدنى تحصيل وأما ما أجاب به عن الدّليل الخامس فنختار الشّقّ الثّاني منه ، قوله : فليس هناك إلا ملاحظة الموصوف مع الصّفات قلنا : إن أراد به أنّه ليس هناك موصوف وصفة قائمة به في نفس الأمر ، وإنّما التّعدد بحسب ملاحظة مفهوم العالم والقادر وغيرهما فهو عين مذهب القائل بالعينيّة كما لا يخفى ، وإن أراد به أنّه تتحقّق هناك ملاحظة الموصوف مع الصّفة القائمة به فهو كلام لغو لا أثر له في دفع الاستدلال واما ما ذكره من أنّ احتياج الواجب إلى ما هو غيره يوجب الإمكان فالظاهر

__________________

(١) اى القدرة والعلم والحياة والإرادة كما مر.

(٢) قد مرت ترجمة أحواله سابقا فليراجع.

(٣) المراد بهم من يأخذ بظواهر الأدلة النقلية في باب صفاته تعالى ، لا الظاهريون التابعون لداود بن على الاصفهانى الذي مرت ترجمته فلا تغفل.

٢٤٤

أنّ له تتمة حذفها ، هي أن صفاته تعالى ليست غيرها كما هي ليست عينها ولعلّه إنّما حذفها هربا عن التّصريح بالفاسد ، لما مرّ من أنّ عدم المغايرة بين الذّات والصّفات إنّما هو بحسب اصطلاحهم ، ولا يفيد عدم المغايرة في نفس الأمر ، فلا يفيد أصلا ، وأما ما ذكره في تأويل كلام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام من احتمال إرادة صفات تكون هي غير الذّات بالكلّية فلا تخفى ركاكته ، ولقد أشبه قولهم الصّفات ليس غير الذّات بالكلّية قول الرّجل الخراساني الذي ضل حماره في قافلة وكان ذكرا ، فأخذ حمارا أنثى كان لأحد من رفقائه عوضا عنه ، فلمّا تكلّموا معه في ذلك وقالوا له إنك كنت تقول : إنّ حماري كان ذكرا وهذه أنثى قال : إنّ حماري أيضا لم يكن ذكرا بالكلّية ، فليضحك قليلا وليبك كثيرا (١) واما ما أجاب به عن الدّليل السّادس من أنّ المراد بعدم كون الصّفات عين الذّات أنّها مغايرة للذّات في الوجود «إلخ» فقد مرّ مرارا أنّ هذه الإرادة والاصطلاح منهم لا يدفع التّغاير في الواقع ، وهو ممّا يأباه العقل في باب التّوحيد ، على أنّ الواسطة بين الشيء وغيره ممّا يجدها كلّ عاقل ، وتخصيص الغير بما خصّصوه به لتصوير الواسطة تعسّف لا يخفى. واما ما ذكره بقوله كما يقال : إنّ علم زيد ليس عين زيد لأنّه صفة له وليس غيره بالكلّية «إلخ» فهو مثال من جملة مصنوعاته ، ولم نسمع إلى الآن من يقول : إنّ علم زيد ليس غيره بالكلّية ، وإنّما سمعنا نظيره عن الخراساني كما مر.

قال المصنّف رفع الله درجته

المبحث التاسع في البقاء ، وفيه مطلبان الاول أنّه ليس زائدا على الذّات ، وذهبت الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة : الآية ٨٢.

٢٤٥

بالباقي ، وأنّ الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته ، ولزمهم من ذلك المحال الذي تجزم الضّرورة ببطلانه من وجوه : الاول أنّ البقاء إن عنى به الاستمرار لزم اتّصاف العدم بالصّفة الثّبوتية وهو محال بالضّرورة ، بيان الملازمة : أنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود فكذا يتحقّق في جانب العدم ، لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد التّقسيم مشترك ، ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزّمان الآخر ، وإن عنى به صفة زائدة على الاستمرار ، فان احتاج كلّ منهما إلى صاحبه دار ، وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ، وهو باطل بالضرورة ، وإن احتاج أحدهما إلى صاحبه انفكّ الآخر عنه وهو ضروري البطلان ، الثاني أنّ وجود الجوهر في الزّمان الثّاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدّور ، لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر ، فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر الذي فرض باقيا كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه وهو عين الدّور المحال ، وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره لزم قيام الصّفة بغير الموصوف وهو غير معقول ، أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر فجاز أن تقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزّمان الثّاني ، وهو خطأ ، لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا مجرّدا والبقاء لا يعقل إلا عرضا قائما بغيره ، وأيضا يلزم أن يكون هو بالذاتيّة أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ، لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذّات محتاجه إليه ، والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذّاتيّة من المحتاج ، ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء لعدم اختصاصه بذات دون أخرى حينئذ ، الثالث أنّ وجود الجوهر في الزّمان الثّاني هو عين وجوده في الزّمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزّمان الأوّل غنيّا عن هذا البقاء كان وجوده في الزّمان الثّاني كذلك ، لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا لذاته إلى شيء

٢٤٦

وبعض أفرادها مستغنيا عنه «انتهى.»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : اتّفق المتكلّمون على أنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أولا ، فذهب الشّيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه وجمهور معتزلة بغداد إلى أنّه صفة ثبوتيّة زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء ، ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة كالقاضي ابى بكر (١) وامام الحرمين (٢) والامام الرازي (٣) وجمهور معتزلة البصرة ، وقالوا البقاء هو نفس الوجود في الزّمان الثّاني لا أمر زائد عليه ، ونحن ندفع ما أورده هذا الرّجل على مذهب الشّيخ الأشعري ، فنقول

__________________

(١) المراد به القاضي ابو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاني صاحب التصانيف في علم الكلام ، سكن بغداد ، سمع ابا بكر القطيعي وأبا محمد بن ماسى ، وخرج له ابو الفتح بن ابى الفوارس ، روى عنه أبو ذر الهروي ، والحسين بن حاتم ، وخلق ، له كتب اشهرها ، كتاب الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ، توفى يوم السبت في ذى القعدة لسبع بقين منه سنة ٤٠٣ ودفن بداره ثم نقل الى مقبرة باب حرب من مقابر بغداد ، وما نقله القاضي الشهيد عنه مذكور في كتاب الإنصاف ، فليراجع ، ومن طالعه رأى ان الرجل غير مالك لنفسه في التحامل والتعصب على المعتزلة ، والامامية ، والوقيعة في حقهم ، مع ان المسائل العلمية مضامير الأفكار والآراء ، لا الشتم والسباب ، وزاد الشيخ محمد زاهد الكوثرى في تعاليقه عليه في الطنبور نغمات عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.

(٢) قد مرت ترجمته.

(٣) قد مرت ترجمته.

٢٤٧

أورد عليه ثلاث إيرادات ، الأوّل : أنّ البقاء إن عنى به الاستمرار لزم اتّصاف العدم بالصّفة الثبوتيّة إلى آخر الدّليل ، والجواب : أنّ البقاء عنى به استمرار الوجود لا الاستمرار المطلق حتى يلزم اتّصاف العدم بالصّفة الثبوتيّة فاندفع ما قال. الثاني أنّ وجود الجوهر في الزّمان الثّاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدّور ، ثمّ ذكر أن الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، وهذا الجواب افتراء عليهم ، بل أجابوا بمنع احتيّاج الذّات إليه ، وما قيل إنّ وجوده في الزّمن الثّاني معلّل به ممنوع ، غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلا مع البقاء وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق ، فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور. الثالث : أنّ وجود الجوهر في الزّمان الثّاني هو عين وجوده في الزّمان الأوّل ولمّا كان وجوده في الزّمان الأوّل غنيّا كان في الثّاني كذلك ، والجواب : أنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزّمان الثّاني غنيّ عنه في الزّمان الأوّل فلا تختلف أفراد الطبيعة (١) في الاحتياج والغنى الذّاتيين وهو حسب أنّ الوجود في

__________________

(١) وعلم ان المقصود من هذا الجواب انه يلزم من تساوى افراد الطبيعة في الاستغناء والاحتياج اليه ان لا يكون الوجود في الزمان الثاني محتاجا الى البقاء ، وانما لزم ذلك منه ان لو كان الوجود في الزمان الثاني فردا مغايرا للوجود في الزمان الاول إذ حينئذ لما استغنى الوجود في الزمان الاول عنه فيجب استغناء الوجود في الزمان الثاني ايضا عنه ، الا انه لا مغايرة بينهما بل هو عينه كما نص عليه هذا الرجل في اول تقرير هذا الاعتراض فح جاز ان يكون كل فرد من افراد الوجود مستغنيا عن البقاء في الزمان الاول محتاجا اليه في الزمان الثاني ولا يلزم التفاوت في افراد طبيعة واحدة استغناء واحتياجا (من الفضل بن روزبهان).

٢٤٨

الزّمان الأوّل فرد ، وفي الزّمان الثّاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه (١) في شيء من المعقولات «انتهى.»

أقول : المصنّف قدس‌سره غير ذاهل عن أنّ البقاء في الباقي الموجود يراد به استمرار الوجود ، لكن غرضه في هذا الدليل إثبات عدم القيام في البقاء والاستمرار المطلق ليلزم منه عدم القيام في البقاء الخاصّ الحاصل للموجود الباقي ، وقد أشار إلى ما ذكرناه بقوله : الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذلك يتحقّق في جانب العدم ، وحاصل الدّليل أنّ البقاء والاستمرار المطلق مفهوم واحد يستوي إطلاقه على الموجود والمعدوم ، فلو اقتضى القيام بالباقي ، لزم أن يكون قائما بالباقي المعدوم أيضا لما ذكرنا ، فيلزم اتّصاف المعدوم بأمر ثبوتيّ ، وإذا كان هذا محالا تعيّن عدم اقتضائه للقيام بشيء وبه تتمّ الحجّة على الأشعري ، ولا يفيد اختيار الشّقّ الثّالث كما زعمه النّاصب. وأمّا ما ذكره من أنّ الجواب الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة في ردّ الدّليل الثّاني افتراء عليهم ، بل أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر «إلخ» فدليل على قصور باعه وقصر نظره على ظواهر الألفاظ من غير تمكّنه عن تحصيل حقيقة المعنى ، فكلّما وجد مخالفة ما بين العبارتين ولو بالتّفصيل والإجمال والإطناب والإيجاز حكم بمغايرة المعنى ، والحاصل أنّ الجواب الذي ذكره النّاصب مصدّرا بقوله بل أجابوا بمنع احتياج الذّات إليه «إلخ» وهو المذكور في المواقف متحد في المعنى مع ما ذكره المصنف (قدس‌سره) فانّ حاصل ما ذكره صاحب المواقف في مقام السّند من هذا الجواب بقوله : إذ يجوز أن يكون تحققهما معا على سبيل الاتّفاق راجع إلى ما ذكره المصنّف من الجواب يجوز أن يقوم البقاء بذاته لا في محلّ «إلخ» لظهور أنّ الحكم بتحقّق الذّات

__________________

(١) التدرب : التعود والحذاقة الحاصلة من الممارسة.

٢٤٩

والبقاء معا على سبيل الاتفاق بلا علاقة بينهما حكم بجواز أن يقوم البقاء بذاته لا في محلّ ، فيلزم ما ذكره المصنّف من المحذور لزوما لا مدفع له كما لا يخفى ، وممّا ينبغي أن ينبّه عليه أنّ البقاء قد فسره بعضهم باستمرار الوجود في الزّمان الثّاني كما مرّ ، وفسره آخرون بأنّه صفة تعلّل بها الوجود في الزّمان الثاني ، «والظاهر» أنّ الدّليل الثّاني الذي ذكره المصنّف وهو المذكور في المواقف أيضا إلزاميّ (١) لمن فسّر البقاء بالتّفسير الثاني مع القول بزيادته ، فما فعله صاحب المواقف في جوابه من منع كون الوجود في الزّمن الثّاني معلّلا بالبقاء كما ترى وأما ما ذكره في الجواب عن الدّليل الثالث فهو واه سخيف جدّا ، ولهذا اضطرب بعد ذلك ، وكتب في الحاشية ما هو أسخف منه. أما ما ذكره في أصل جرحه فلأنّ كلام المصنّف صريح في أنّه جعل المحذور لزوم اختلاف حكم فرد واحد من الوجود في الزّمانين بحسب الغنا والافتقار ، حيث قال : وجود الجوهر في الزّمان الثّاني عين وجوده في الزّمان الأوّل فكيف يتأتي للنّاصب أن يقول : إنّ المصنّف حسب أنّ الوجود في الزّمان الأوّل فرد وفي الزّمان الثّاني فرد آخر وهل هذا الاشتباه إلا دليل جهله وعدم تمكّنه من فهم معاني العبارات الصّريحة في مدلولاتها فضلا عن التفطن بدقائق العلوم ومعقولاتها. وأما ما ذكره في الحاشية من أنّ المقصد من هذا الجواب أنّه لا يلزم من تساوي أفراد الطبيعة في الاستغناء والاحتياج إليه أنّ لا يكون الوجود في الزّمان الثّاني محتاجا إلى البقاء وإنّما لزم ذلك منه لو كان الوجود في الزّمان الثّاني فردا مغايرا للوجود في الزّمان الأول ، إذ حينئذ لما استغنى الوجود في الزّمان الأوّل عنه ، فيجب استغناء الوجود في الزّمان الثّاني

__________________

(١) الدليل الالزامى عند علماء آداب البحث والمناظرة كما في كتاب الحدود للجرجانى (ص ٧١ ط مصر) ما سلم عند الخصم ، سواء كان مستدلا عند الخصم أو لا ، فهو يقابل الدليل الإقناعي ، والدليل الخطابي ، فلا تغفل.

٢٥٠

أيضا عنه ، إلا أنّه لا مغايرة بينهما ، بل هو عينه كما نصّ عليه هذا الرّجل في أوّل تقرير هذا الاعتراض ، فحينئذ جاز أن يكون كلّ فرد من أفراد الوجود مستغنيا عن البقاء في الزّمان الأوّل محتاجا إليه في الزّمان الثّاني ، ولا يلزم التّفاوت في أفراد طبيعة واحدة استغناء واحتياجا «انتهى» فأقول : مبناه على أنّ المصنّف أراد أنّه يلزم اختلاف أفراد طبيعة الوجود ، (وقد علمت) بما نبّهناك عليه من دلالة صريح كلام المصنّف على إرادة لزوم اختلاف فرد واحد من طبيعة واحدة في زمانين (أنّ ما فهمه النّاصب) في هذه الحاشية أيضا غير منفهم عن كلام المصنّف أصلا ، وإنّما النّاصب الشقي الجاهل قد التزم الردّ على هذا الكتاب تعصّبا من غير استعداد واستمداد ، فمقاصده عنه تفوت ، وينسج عليه أمورا واهية كنسج العنكبوت ، ويأتي بمثل هذا الجواب الواهي الشّنيع ، وأنى يدرك الضّالع (١) شأو (٢) الضّليع (٣).

قال المصنّف رفع الله درجته

المطلب الثاني في أنّ الله تعالى باق لذاته ؛ الحقّ ذلك لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا للتّنافي الضّروري بين الواجب والممكن. وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء وهو خطأ لما تقدّم ، ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثره واحتاج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع أنّ ذاته محتاجه إلى البقاء فيدور ، وإن قام بغيره كان وصف الشّيء حالا في غيره ولأنّ غيره محدث ، فإن قام البقاء بذاته كان مجردا. وأيضا بقاؤه تعالى

__________________

(١) الضالع : المعوج الخلقة.

(٢) الشأو : الأمد والغاية.

(٣) الضليع : المستوي الخلقة وهذه الجملة مثل يضرب به في بيان قصور الناقص عن اللحوق بالتام الكامل فيما همه وأراد واين التراب ورب الأرباب.

٢٥١

باق لامتناع تطرق العدم إلى صفاته تعالى ، ولأنّه يلزم أن يكون محلا للحوادث فيكون له بقاء آخر ويتسلسل. وأيضا صفاته تعالى باقية فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت فيما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل ، قوله : لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا. قوله ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ، قلنا : لا يلزم التّكثّر ، لأن الصّفات الزّائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة كما سبق ، قوله : احتاج البقاء إلى ذاته وذاته محتاجة إلى البقاء فيلزم الدّور ، قلنا : مندفع بعدم احتياج الذّات إلى البقاء بل هما متحقّقان معا كما سبق ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذّات إليه بل هما متحققان (تحققا خ ل) معا. قوله : بقاؤه باق ، قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء كاتّصاف الوجود بالوجود ، قوله : ولأنّه يلزم أن يكون محلا للحوادث قلنا : ممنوع ، لأنا قائلون بقدمه. قوله : يكون له بقاء آخر ويتسلسل ، قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء. قوله : صفاته تعالى باقية فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ، قلنا : قد سبق أنّ الصّفات ليست مغايرة للّذات بالكلّية فيمكن أن يكون البقاء صفة للذّات ، وتبقى الصّفات ببقاء الذّات فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.

أقول : قد أوضحنا لك وهن تلك الأجوبة وما فيها من الاشتباه والخلط (١) والخبط ، وأما ما أجاب به هاهنا أوّلا من أنّ الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا ففيه أنّه

__________________

(١) قد مر الفرق بين الخلط والخبط فليراجع.

٢٥٢

مكابرة على المقدّمة الكلّية العقليّة الضّروريّة ، فلا يستحقّ إلا الإعراض ، على أنّ ظاهر ما ذكره من أنّ الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان يقتضي أنّ الواجب لو احتاج إلى شيء من السّماويات والأرضيات أيضا لا يكون ذلك موجبا لإمكانه ، لأن الكلّ ناش من ذاته (وفساده أظهر من أن يخفى). واما ما أجاب به هاهنا ثانيا بقوله : قلنا لا يلزم التكثّر ، لأنّ الصّفات الزّائدة ليست غيره مغايرة كلّية كما سبق فمردود ، بما سبق من كونه في السخافة ، نظير قول من ضل منه الحمار ، وأمّا النّاصب المهذار (١) فمثله كمثل الحمار الذي يحمل الأسفار (٢) واما ما أجاب به ثالثا من جواز كون البقاء قائما بذاته تعالى من غير احتياج الذّات إليه فهو كلام فاسد ، كإثبات وجودات متعدّدة وتشخّصات متعدّدة ، وعلوم متعدّدة من غير حاجة له إليها ، وبالجملة ليس في ذلك سوى إثبات فضل نزه العقلا من الحكماء الأجرام الفلكية عنها لشرفها ، فكيف لا ينزّه الله سبحانه عنه ،؟ واما ما أجاب به رابعا من أنّ البقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء «إلخ» ففيه أنّ المتنازع فيه بيننا وبينكم هو أنّه هل يجوز أن يكون تعالى باقيا بالبقاء الذي هو عين ذاته أم لا؟ فإذا جاز أن يكون البقاء باقيا بالبقاء الذي هو عين ذاته جاز أن يكون بقاؤه تعالى أيضا كذلك ، فانهدم بنيان ما استدلّ به شيخكم الأشعري (٣) : من أنّ الواجب باق ، فلا بدّ أن يقوم به معنى هو البقاء كما ذكر في المواقف وشرح التجريد ، وأيضا الأشاعرة إنّما ذهبوا إلى زيادة الصّفات وأنكروا عينيّتها ، لزعمهم (٤) أنّ القول :

__________________

(١) المهذار : الرجل المبالغ في الهذر واللغو.

(٢) مقتبس من قوله تعالى في سورة الجمعة. الآية ٥.

(٣) والقول بان البقاء لا يحتاج في البقاء الى بقاء زائد دون ذاته تعالى تحكم ، ودون إثباته خرط القتاد «منه قده».

(٤) وانما نسب هذا الى الزعم لان مرادهم من قولهم انه عالم لا علم له ، انه عالم لا علم له

٢٥٣

بالعينيّة راجع إلى النّفي المحض ، وأن يكون مؤدّى ذلك أنّه تعالى عالم لا علم له ، وقادر لا قدرة له ، إلى غير ذلك كما صرّح به شارح العقائد ، وهذا المحذور الذي حملهم إلى القول بزيادة الصّفات آت في البقاء ، وبقائه أيضا ، فكيف نسوا إنكارهم للعينيّة واعترفوا به هاهنا؟ قائلين : بأنّ البقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، وبالجملة كلام المصنّف هاهنا إلزامي لهم ، فان رجعوا عن ذلك ووافقوا ، فنعم الوفاق والحمد لله رب العالمين. واما ما أجاب به خامسا عمّا نقله من قول المصنّف : ولأنّه يلزم أن يكون محلا للحوادث فيكون له بقاء آخر فيتسلسل ، ففيه أنّ المنقول كلام يلوح عليه آثار السّقم ، لأن تفريع لزوم التّسلسل على كونه محلا للحوادث ممّا لا وجه له ، ويعضده أيضا كلام المصنّف في كتاب نهج المسترشدين حيث قال : ولأنّ البقاء لو كان زائدا على الذّات لزم التّسلسل «انتهى» فالظاهر أنّ النّاصب زاد في كلام المصنّف أو نقص كما وقع منه مثل هذا غير مرة ، فوجب الرّجوع إلى أصل مصحح من نسخة المصنّف هاهنا لتتّضح حقيقة الحال. واما ما أجاب به سادسا عن لزوم التّسلسل بما أسبقه فمدفوع : بما أسبقناه من لزوم انهدام دليلهم.

واما ما أجاب به سابعا من أنّ الصّفات ليست مغايرة للذّات بالكلّية ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذّات ويبقى ببقاء الذّات «إلخ» ففيه أنّ من جملة الصّفات الباقية لله تعالى البقاء ، فان أريد ببقاء البقاء بقاء الذّات عينه الذي بقي به الذّات يلزم ما ذكرنا سابقا من انهدام دليلهم على زيادة البقاء على الذّات ، وإن أراد به غير ذلك البقاء يلزم بقاء الذّات ببقائين وهو ممّا لم يقل به أحد ، فتعيّن أن يكون بقاء البقاء ببقاء قائم بذاته فيلزم ما ذكره المصنّف من قيام المعنى بالمعنى ، وأيضا هذا البحث إلزامي (١)

__________________

صفة موجودة فيكون بمنزلة قولنا أعمى لا عمى له صفة موجودة في الخارج وليس بمحال «منه قده».

(١) قد مر المراد من الدليل الالزامى فراجع.

٢٥٤

على الأشاعرة حيث استدلوا على عدم بقاء الأعراض بوجوه ثلاثة مذكورة في المواقف ، منها أنّها لو بقيت لكانت متّصفة ببقاء قائم بها والبقاء عرض فيلزم قيام العرض بالعرض وإلا فالبقاء عند المصنّف وسائر المحقّقين ليس بعرض بل هو أمر اعتباري يجوز أن يتّصف به العرض كالجوهر ، وأيضا ليس قيام العرض بالعرض بمستحيل عنده كما صرّح به في نهج المسترشدين حيث قال : ولا يستحيل قيام عرض بعرض كالسّرعة القائمة بالحركة ، ولا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري وهذا صريح فيما ذكرنا من إرادة الإلزام والله تعالى أعلم بحقائق المرام.

قال المصنّف رفع الله درجته

خاتمة تشتمل على حكمين الأوّل : البقاء يصحّ على الأجسام بأسرها وهذا حكم ضروريّ لا يقبل التّشكيك ، وخالف فيه النظام من الجمهور فذهب إلى امتناع بقاء (١) الأجسام بأسرها بل كلّ آن يوجد فيه جسم ما ، يعدم ذلك الجسم في الآن الذي بعده ، ولا يمكن أن يبقى جسم ما من الأجسام ، (٢) فلكيها وعنصريها بسيطها ومركبها ، ناطقها وغيرها ، آنين ولا شك في بطلان هذا القول لقضاء الضّرورة بأنّ الجسم الذي شاهدته حال فتح العين هو الذي شاهدته قبل تغميضها والمنكر لذلك سوفسطائي (٣) ، بل السّوفسطائي لا يشكّ في أنّ بدنه الذي كان بالأمس هو بدنه الذي كان الآن ، وأنّه لم يتبدّل بدنه من أوّل لحظة إلى آخرها

__________________

(١) ومن المفرطين في هذا المعنى بعض من أدركناه في الغرى الشريف حتى انه صنف كتابا في هذا الشأن وسماه بكتاب الخلع واللبس واتى فيه على زعمه ما يدل على ذلك ومات على هذه العقيدة السخيفة سامحه الله.

(٢) هذا مبنى على كون الفلكيات أجساما ، وهذه مسألة متنازعة فيها ذات عرض عريض وذيل طويل.

(٣) قد مر المراد بالسوفسطائية فراجع.

٢٥٥

وهؤلاء جزموا بالتّبدّل «انتهى.»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : الجسم عند النّظام (١) مركّب من مجموع أعراض مجتمعة ، والعرض لا يبقى زمانين لما سنذكر بعد هذا ، فالجسم أيضا يكون كذلك عنده ، والحقّ أنّ ضرورة موجوديّة البقاء وعدم جواز قيام العرض بالعرض دعتا (خ ل دعت) إلى الحكم بأنّ الأعراض لا تبقى زمانين وليست هذه الضّرورة حاصلة في الأجسام لجواز قيام البقاء بالجسم ، وأما ما ذهب إليه النّظام : أنّ الجسم مجموع الأعراض المجتمعة فباطل ، فمذهبه في عدم صحّة البقاء على الأجسام يكون باطلا كما ذكره «انتهى».

أقول : غرض النّاصب من ذكر حقه (٢) الباطل إظهار أنّ فساد قول النّظام ليس لأجل فساد قوله : بعدم بقاء الأعراض الذي هو مبنى حكمه على عدم بقاء الأجسام ، بل هو لأجل فساد حكمه بأنّ الأجسام مركّبة من الأعراض لأنّ ما شارك فيه الأشعري معه من القول : بعدم بقاء الأعراض مبني على مقدّمتين ضروريتين هما موجوديّة البقاء وعدم جواز قيام العرض بالعرض ، هذا محصّل مرامه ويتوجّه عليه أنّ دعوى الضرورة في كلّ من المقدّمتين باطلة إذ التّحقيق أنّ البقاء أمر اعتباري كما مرّ ، واعترف به صاحب المواقف أيضا ، وقد مرّ أيضا جواز قيام العرض بالعرض كالسّرعة والبطوء بالحركة ، والدّليل المذكور في المواقف وغيره لإثبات عدم بقاء الأعراض مدخول ، كما سيجيء ما يوضحه ، فيكون النّظام والأشاعرة شريكين في شطر من الفساد ، غاية الأمر أن يكون مذهب النّظام أكثر فسادا ،

__________________

(١) قد مرت ترجمته.

(٢) اى الذي زعمه حقا وكان باطلا واقعا.

٢٥٦

وأما ما ذكره النّاصب في حاشية كلامه في هذا المقام : من أنّ دعوى الضّرورة في عدم تبدّل البدن مع تحلّله وورود البدل في محلّ المنع «إلخ» فمدخول بأنّ المراد بالبدن الأجزاء الأصليّة التي تقوم بها التّشخّصات البدنيّة وهي باقية من أوّل العمر إلى آخره كما صرّحوا به في بحث المعاد ، فلا يقدح في الحكم بعدم تبدّل البدن تحلّل فواضله التي هي الرطوبة الغريزية بواسطة الحارّ الغريزي (خ ل الحرارة الغريزية) كما ذكر في علم الطب تأمل.

قال المصنّف رفع الله درجته

الحكم الثاني في صحّة بقاء الأعراض ، ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأعراض غير باقية بل كلّ لون وطعم ورائحة وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وحركة وسكون وحصول في مكان وحياة وطعم وعلم وقدرة وتركّب وغير ذلك من الأعراض ، فانّه لا يجوز أن يوجد آنين متّصلين ، بل يجب عدمه في الآن الثّاني من آن وجوده ، وهذا مكابرة للحسّ وتكذيب للضّرورة الحاكمة بخلافه ، فانّه لا حكم أجلى عند العقل من أنّ اللّون الذي شاهدته في الثّوب حين فتح العين هو الذي شاهدته قبل طبقها ، وأنّه لم يعدم ولم يتغيّر ، وأىّ حكم أجلى عند العقل من هذا وأظهر منه ، ثم إنّه يلزم منه محالات ، الاول أن يكون الإنسان وغيره يعدم في كلّ آن ثمّ يوجد في آن بعده لأنّ الإنسان ليس إنسانا باعتبار الجواهر الأفراد التي فيه عندهم ، بل لا بدّ في تحقّق كونه إنسانا من أعراض قائمة بتلك الجواهر من لون وشكل ومقدار وغيرها من مشخّصاته ، ومعلوم بالضّرورة أنّ كلّ عاقل يجد نفسه باقية لا تتغيّر في كلّ آن ، ومن خالف ذلك كان سوفسطائيّا وهل إنكار السّوفسطائي للقضايا الحسّية عند بعض الاعتبارات أبلغ من إنكار كلّ أحد بقاء ذاته وبقاء جميع المشاهدات آنين من الزّمان ، فلينظر المقلّد المنصف في هذه المقالة التي ذهب إليها إمامه الذي قلّده ويعرض على عقّله حكمه بها وهل

٢٥٧

يقصر حكمه ببقائه وبقاء المشاهدات عن أجلى الضّروريّات ، ويعلم أنّ إمامه الذي قلّده إن قصر ذهنه عن إدراك فساد هذه المقالة فقد قلّد من لا يستحقّ التّقليد وأنّه قد التجأ إلى ركن غير شديد (١) وإن لم يقصر ذهنه عن ذلك فقد غشّه وأخفى عنه مذهبه وقال عليه‌السلام ، من غشّنا فليس منّا (٢) ، الثاني أنه يلزم تكذيب الحسّ الدّال على الوحدة وعدم التّغيّر كما تقدّم ، الثالث انه لو لم يبق العرض إلا آنا واحدا لم يدم (خ ل لم يلزم تأييد نوعه) نوعه فكان السّواد إذا عدم لم يجب أن يخلفه سواد آخر ، بل جاز أن يحصل عقيبه بياض أو حمرة أو غير ذلك وأن لا يحصل شيء من الألوان إذ لا وجه لوجوب ذلك الحصول ، لكن دوامه يدلّ على وجوب بقائه ، الرابع لو جوّز العقل عدم كلّ عرض في الآن الثّاني من وجوده مع استمراره في الحسّ لجوّز ذلك في الجسم ، إذ الحكم ببقاء الجسم إنّما هو مستند إلى استمراره في الحسّ وهذا الدّليل لا يتمشّى لانتقاضه بالأعراض عندهم فيكون باطلا ، فلا يمكن الحكم ببقاء شيء من الأجسام آنين ، لكنّ الشّك في ذلك هو عين السّفسطة ، الخامس أنّ الحكم بامتناع انقلاب الشيء من الإمكان الذّاتي إلى الامتناع الذّاتي ضروريّ

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة هود. الآية ٨٠.

(٢) رواه الصدوق «قده» في المجالس بسنده عن على بن موسى الرضا «ع» عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : ليس منا من غش مسلما. في صحيح مسلم (الجزء ١ ط مصر ص ٦٩) بسنده المنتهى الى أبى هريرة : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : من حمل علينا السلاح فليس منا ، ومن غشنا فليس منا ، وكذا رواية أخرى بعد هذه الرواية. وفي كنز العمال (الجزء ٤ ط حيدرآباد دكن ص ٣٣) عن أبى الحمراء من غشنا فليس منا وكذا رواية أخرى عن أبى هريرة ليس منا من غش وأيضا من غش فليس منا وعن على «ع» ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ماكره ، وعن أبى هريرة من غشني فليس منى.

٢٥٨

وإلا لم يبق وثوق بشيء من القضايا البديهيّة ، وجاز أن ينقلب العالم من إمكان الوجود إلى وجوب الوجود فيستغني عن المؤثّر فينسدّ باب إثبات الصّانع تعالى ، بل ويجوز انتقال (خ ل انقلاب) واجب الوجود إلى الامتناع وهو ضروريّ البطلان ، وإذا تقرّر ذلك فنقول : الأعراض إن كانت ممكنة لذاتها في الآن الأوّل فتكون كذلك في الآن الثّاني ، وإلا لزم الانتقال من الإمكان الذّاتي إلى الامتناع الذّاتي وإذا كانت ممكنة في الثّاني جاز عليها البقاء ، وقد احتجّوا بوجهين ، الاول : البقاء عرض فلا يقوم بالعرض ، الثاني : أنّ العرض لو بقي لما عدم لأنّ عدمه لا يستند إلى ذاته وإلا لكان ممتنعا ، ولا إلى الفاعل لأنّ أثر الفاعل الإيجاد ، ولا إلى طريان الضدّ ، لأنّ طريان الضّد على المحلّ مشروط بعدم الضّدّ الأوّل عنه ، فلو علّل ذلك العدم به دار ، ولا إلى انتفاء شرطه لأنّ شرطه الجوهر لا غير ، وهو باق ، والكلام في عدمه كالكلام في عدم العرض ، والجواب عن الأوّل المنع من كون البقاء عرضا زائدا على الذّات ، سلّمنا لكن نمنع امتناع قيام العرض بمثله ، فانّ السّرعة والبطوء عرضان قائمان بالحركة وهي عرض ، وعن الثاني أنّه لم لا يعدم لذاته في الزّمان الثالث كما يعدم عندكم لذاته في الزّمان الثاني ، سلّمنا لكن جاز أن يكون مشروطا بأعراض لا تبقى ، فإذا انقطع وجودها عدم ، سلّمنا لكن مستند إلى الفاعل ، ونمنع انحصار أثره في الإيجاد ، فانّ العدم ممكن لا بدّ له من سبب ، سلّمنا لكن يعدم بحصول المانع ونمنع اشتراط طريان الثاني بعدم الضّدّ الأوّل بل الأمر بالعكس ، وبالجملة فالاستدلال على نقيض الضّروري باطل كما في شبه السّوفسطائية فانّها لا تسمع ، لما كانت الاستدلالات في مقابلة الضّروريّات (خ ل الضّرورات) «انتهى.»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : ذهب الأشعري ومن تبعه من الأشاعرة إلى أنّ العرض لا يبقى

٢٥٩

زمانين ، فالأعراض جملتها غير باقية عندهم بل هي على التّقضّي والتّجدّد ينقضي واحد منها ويتجدّد آخر مثله ، وتخصيص كلّ من الآحاد المتقضّية المتجدّدة بوقته الذي وجد فيه إنّما هو للقادر المختار فانّه يخصص بمجرّد إرادته كلّ واحد منها بوقته الذي خلقه فيه وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده ، وإنّما ذهبوا إلى ذلك لأنّهم قالوا : بأنّ السّبب المحوج إلى المؤثّر هو الحدوث ، فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصّانع بحيث لو جاز عليه العدم ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، لما ضرّ عدمه في وجوده ، فدفعوا ذلك بأنّ شرط بقاء الجوهر هو العرض ، ولمّا كان هو متجدّدا محتاجا إلى المؤثّر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثّر بواسطة احتياج شرطه إليه ، فلا استغناء أصلا ، واستدلوا على هذا المدّعى بوجوه منها : أنّها لو بقيت لكانت باقية متّصفة ببقاء قائم بها ، والبقاء عرض فيلزم قيام العرض بالعرض وهو محال عندهم هذا هو المدعى والدّليل. وذهبت الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والإماميّة إلى بقاء الأعراض ، ودليلهم كما ذكر هذا الرّجل أنّ القول بخلافه مكابرة للحسّ وتكذيب للضّرورة ، والجواب أن لا دلالة للمشاهدة على أنّ المشاهد أمر واحد مستمرّ لجواز أن يكون أمثالا متواردة بلا فصل ، كالماء الدّافق من الأنبوب (١) يرى أمرا واحدا مستمرّا بحسب المشاهدة وهو في الحقيقة أمثال تتوارد على الاتّصال فمن قال : إنّه أمثال متواردة كان ينبغي على ما يزعمه هذا الرّجل أن يكون سوفسطائيّا منكرا للمحسوسات ، وكذا جالس السّفينة إذا حكم بأنّ الشّط ليس بمتحرّك كان ينبغي أن يحكم بأنّه سوفسطائي لأنّه يحكم بخلاف الحسّ ، وقد صوّرنا قبل هذا مذهب السّوفسطائيّة ، ويا ليت هذا الرّجل كان لم يعرف لفظ السّوفسطائي ، فانّه يطلقه في مواضع لا ينبغي أن يطلق فيها وهو

__________________

(١) الأنبوب : ما بين العقدتين من القصب ، أو الرمح ، ويستعار لكل أجوف مستدير كالقصب ومنه انبوب الكوز قصبته انتهى. ثم لو مثل الناصب بالشعلة الجوالة لكان انسب.

٢٦٠