إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

جماعة في غيره ، حيث ردّ في كتابه الموسوم بروض (١) الصّالحين على ما أنكره الغزالي في الإحياء من بلوغ العبد بينه وبين الله تعالى إلى حالة أسقطت عنه الصّلاة واحلّت له شرب الخمر ولبس (٢) الحرير وترك الصلاة ونحوها ، وحكم بأنّه يجب قتله وإن كان في خلوده في النّار نظر (٣) «انتهى.» فقال في ذلك الكتاب ولو أنّ الله أذن لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا ، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه لم يكن متهتّكا للشّرع ، ثمّ قال : فإن قيل من أين يحصل له علم اليقين؟ قلت : من حيث حصل للخضر عليه‌السلام حين قتل الغلام وهو وليّ لا نبيّ (٤) على القول الصّحيح عند أهل العلم ، كما أن الصحيح عند الجمهور أنّه الآن حىّ ، وبهذا قطع الأولياء ورجّحه الفقهاء والاصوليّون وأكثر المحدثين «انتهى» وفساده ممّا لا يخفى ، فإنّ هذا كما قيل نسخ لبعض أحكام الشّريعة المطهّرة وإقدام على ما لم يقدم عليه غيره ، ومتابعة للزّنادقة الخالصة ، فانّهم قالوا : إن هذه الأحكام الشّرعية إنّما يحكم بها على

__________________

والصفائية ، وغيرها. ثم اليافعي نسبة الى يافع قبيلة باليمن وزعم بعض المعاصرين ان يافع اسم مكان باليمن وهو اشتباه.

(١) لا يخفى ان اليافعي سمى كتابه بروض الرياحين في حكايات الصالحين ، لا رياض الصالحين فلا حظ والخطب سهل.

(٢) لبس الثوب لبسا بضم اللام استتر به ، لبس الأمر لبسا بفتح اللام خلطه وجعله مشتبها بغيره.

(٣) إشارة الى النزاع بين السنة في ان مرتكب الكبائر هل يخلد في النار ام لا.

(٤) ما حكم بصحته محل نظر ، بل المستفاد من الأدلة النقلية الصحيحة ، نبوته ، ومن المفسرين من يرى انه نبى وموسى صاحبه وزميله ليس بنبي ، بل كان رجلا آخر غير موسى بن عمران صاحب التورية.

٢٠١

الأغبياء (١) أمّا أهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النّصوص ، بل إنّما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم ، وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون «انتهى» وهذه زندقة وكفر صريح يقتل قائله ، لأنّه إنكار ما علم من الشّرائع ، فإن الله أجرى سنّته وأنفذ حكمته (خ ل حكمه) بأنّ أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السّفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلّغون عنه رسالته المظهرون أحكامه ، وبالجملة فقد حصل العلم القطعي واليقين الضّروري من دين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه إلا من جهة الرّسل من صريح العقل والوحى ، فمن قال : إنّ هناك طريق آخر يعرف به نهيه وأمره غير الرّسل فهو كافر ثم ان هذا قول بإثبات أنبياء بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جعله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبيّ بعده ولا رسول ، وبيان ذلك أنّ من قال : إنّه يأخذ عن قلبه وإنّما وقع فيه حكم الله فقد أثبت لنفسه خاصّة النّبوة التي أشار إليها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : إنّ روح القدس نفث في روعي (٢) ، والملخّص أنّا لا ننكر أنّ الملك والشّيطان لهما تصرّفات في القلب ، وأن الله يلهم العبد بدليل (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (٣) ، وليست بنبيّة بل ربّما يوحي إلى النّحل ونحوه ، كما دلّ عليه قوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٤) الآية ونحوه وإنّما ننكر وحى الأحكام بالأمر والنّهى سيّما بعد ختم النبوة والله أعلم.

__________________

(١) الأغبياء. جمع الغبي وهو البليد وقليل الفطنة.

(٢) بلغ روعه : اى سويداء قلبه وقد يطلق الروع مجازا على الروح.

(٣) القصص : الآية ٧.

(٤) النحل : الآية ٦٨.

٢٠٢

قال المصنّف رفع الله درجته

المبحث السابع في أنّه تعالى متكلم (١) : وفيه مطالب الاول في حقيقة الكلام ، الكلام عند العقلاء عبارة عن المؤلف من الحروف المسموعة ، وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا مغايرا لهذه الحروف والأصوات ولتصوّر هذه الحروف والأصوات ، ولإرادة إيجاد هذه الحروف والأصوات ، وهذه الحروف والأصوات دالة عليه ، وهذا غير معقول فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلنا : فأما ما ذهبوا إليه فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم البتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى وهل هذا إلا جهل عظيم؟ لأنّ الضّرورة قاضية بسبق التّصوّر على التّصديق ، وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة قائمة بالأجسام الجماديّة ، كما كلّم الله تعالى موسى من الشّجرة فأوجد فيها الحروف والأصوات ، والأشاعرة خالفوا عقولهم ، وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم ، وإثبات مثل هذا الشّيء والمكابرة عليه ، مع أنّه غير متصوّر البتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ، معلوم البطلان ومع ذلك فانّه صادر عنّا أو فينا عندهم ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الأشاعرة أنّه تعالى متكلم ، والدّليل عليه إجماع الأنبياء

__________________

(١) أطبقت الكتب السماوية وكلمة أرباب الملل على أنه تعالى متكلم ، والاختلاف في حقيقة كلامه وكيفيته من الحدوث والقدم وعينيته للذات وعدمها وأنه من مقولة الألفاظ أو المعاني القائمة بذاته ، وسيأتي ما هو الحق الحقيق بالقبول.

٢٠٣

عليهم‌السلام عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ، وكلّ ذلك من أقسام الكلام فثبت المدّعى ، ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلف من الحروف المسموعة وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنّفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ ويقولون : هو الكلام حقيقة وهو قديم قائم بذاته تعالى ، ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلا المؤلف من الحروف والأصوات ، فنقول أوّلا : ليراجع الشّخص إلى نفسه إنّه إذا أراد التّكلم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر (١) ويرتّب معاني (٢) فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السّلطان أو العالم فانّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء يقول في نفسه : سأتكلّم بهذا ، فالمنصف يجد من نفسه هذا البتّة ، فهذا هو الكلام النّفساني ، ثمّ نقول على طريقة الدّليل : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها لها مدلولات قائمة بالنّفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النّفساني ،. فان قال : الخصم تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني

__________________

(١) زور الشيء اى حسنه وقومه.

(٢) أقول عبر بعضهم عن ذلك بالألفاظ المتخيلة كما صرح بذلك مرارا علامة القوم السيد ابراهيم الراوي البغدادي في حلقة درسه بجامع السيد سلطان على ببغداد والعاقل المنصف لو تدبر لرأى ان هذه الأمور التي عبر عنها الناصب بالمعاني المزورة وغيره بالألفاظ المتخيلة ليست إلا صور حاصلة في الذهن مترتبة حسب أغراض المتكلمين واللافظين ، وعليه فهل هي الا تصورات وتصديقات ، وهل هما الا من مقولة العلم؟

فحينئذ فما معنى قولهم ان الكلام النفسي ليس من مقولة العلم بقسميه ولا الإرادة ولا الكراهة ولا مقدماتهما ولا الإذعان بالوقوع واللاوقوع ولا غيرها ، فيا معاشر العقلاء من أرباب الملل والنحل أقسمكم بما تبجلونه وتعظمونه ، أعرضوا مقالة هؤلاء الذين عقلوا عقولهم بإنكار الحسن والقبح على ألبابكم فانظروا بما ذا تحكم لنا أو لهم.

٢٠٤

قلنا : هي غير العلم لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرّجل عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشّيء غير العلم به ، فان قال هو الإرادة ، قلنا هو غير الإرادة لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرّجل بما لا يريده كالمختبر لعبده ، أهو يطيعه أولا فانّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ، وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه ، واعترض عليه بأنّ الموجود في هاتين الصّورتين صيغة الأمر لا حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا إرادة قطعا ، وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب وهو الطلب ، ثمّ إنّ في الصّورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ، لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه مع عدم الفعل من المأمور وكلاهما لا بدّ من أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار قال صاحب المواقف هاهنا : ولو قالت المعتزلة : إنّه أى المعنى النّفسي الذي يغاير العبارات (خ ل اعتبارات) في الخبر والأمر هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر به أو يصير سببا لاعتقاده إرادته أى إرادة المتكلّم لما أمر به لم يكن بعيدا ، لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرّجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة هذا كلام صاحب المواقف ، وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الاخبار وهو يدلّ على مدلول ، هو الكلام النّفسي من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء ، وأمّا في الأمر وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب ، فإذن تلك الإرادة مغايرة للمعنى النّفسي الذي هو الطلب في هذا

٢٠٥

الأمر وهو المطلوب ، ولمّا ثبت أنّ هاهنا صفة هي غير الإرادة والعلم فنقول : هو الكلام النّفساني ، فإذن هو متصوّر عند العقل ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور فمن ادعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا فهو مبطل. وأما من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله تعالى في غيره كاللّوح المحفوظ أو جبرئيل أو النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو حادث ، فيتجه عليه أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة المتكلّم وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما أنّ خالق الذّوق لا يقال : إنّه ذائق وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللّغة والصّرف فضلا عن أهل التحقيق نعم ، الأصوات والحروف دالة على كلام الله تعالى ويطلق عليها الكلام أيضا ، ولكن الكلام في الحقيقة هو ذلك المعنى النّفسي كما أثبتناه «انتهى.»

أقول : فيه نظر أما أولا فلأنّ إثبات الاشتراك لا يجديهم نفعا ، لأنّ الكلام يجب أن يكون مركّبا ، سواء كان لفظيّا أو نفسيّا ، أما اللّفظي فظاهر وأما النّفسي فلأنّ اللّفظي لما كان موضوعا بإزاء المعنى المطابق لما في النّفس فلو لم يكن النّفسي مركبا لم يكن المعنويّ مطابقا له ، وأيضا التّرتيب داخل في مفهوم الكلام ، ولا يوجد الكلام بدونه ، كما اعترف به الفاضل التفتازاني في شرح العقائد حيث قال : وهذا أى ما ذكره صاحب المواقف من أنّ الكلام النّفسي غير مرتّب الأجزاء جيّد لمن يتعقّل لفظا قائما بالنّفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة أو المخيّلة المشروطة وجود بعضها بعدم البعض ، ولا من الأشكال المرتبة (خ ل المترتبة) الدّالة عليه ، ونحن لا نتعقّل من قيام الكلام بنفس اللافظ إلا كون صور الحروف مخزونة مرتسمة في خياله ، بحيث إذا التفت إليها كان كلاما مؤلفا من ألفاظ مخيّلة أو نقوشا مرتّبة ، وإذا تلفظ كان كلاما مسموعا «انتهى» وعلى هذا فما يزوره المتكلّم في نفسه عند إرادة التكلّم ، يجوز أن يكون عبارة عن الألفاظ

٢٠٦

المخيّلة المرتّبة في النّفس ، فلا يجديهم ما تشبّثوا به من قول (١) عمر : زوّرت في نفسي كلاما بمعنى قدرته وفرضته ، كما يقال : زوّرت دارا وبناء ، فكما لا يدلّ هذا على كون حقيقة الدّار والبناء في النّفس ، كذلك لا يدلّ ذلك على كون حقيقة الكلام في النّفس ، وكذا كون الكلام في الفؤاد (٢) يكون إشارة إلى تصوّره ، وأما ثانيا فلأنّ ما ذكره من أنّه قد يخبر الرّجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه فالخبر عن الشيء غير العلم به ، ففيه ما ذكره الشّارح الجديد للتّجريد حيث قال ولقائل أن يقول : إنّ المعنى النّفسي الذي يدّعون أنّه قائم بنفس المتكلم ومغاير للعلم في صورة الإخبار عمّا لا يعلمه ، هو إدراك مدلول الخبر ، أعني حصوله في الذّهن مطلقا يقينيا كان أو مشكوكا ، فلا يكون مغايرا للعلم ، والحاصل أنّ هذا إنّما يدلّ على مغايرته للعلم اليقيني (٣) ، لا للعلم المطلق ، إذ كلّ عاقل تصدّى للأخبار ، تحصل في ذهنه صورة ما أخبرته بالضّرورة ، وأيضا ما ذكره (خ ل هذا) قياس الغائب على الشّاهد فلا يفيد وأما ثالثا فلأن ما ذكره في بيان مغايرة المعنى

__________________

(١) قال جار الله الزمخشرىّ في الفائق ج ١ ص ٥٥٣ طبع مصر ، يقال رحم الله امرأ زور نفسه على نفسه ، اى اتهمها عليها ، يقال : انا أزورك على نفسك ، وحقيقته : نسبتها الى الزور كفسقه وجهله انتهى وذكر معاني أخر للتزوير من الجمع ، والعرض ، والتسوية ، وزوال العوج ، والتعفية الى غير ذلك ؛ وأنت ترى ان بعض المذكورات ، تناسب ما نحن فيه وقد تقدم في معنى التزوير ما هو انسب فراجع.

(٢) إشارة الى الشعر المشهور الذي تمسك به بعض الاشاعرة في اثبات الكلام النفسي (شعر)

ان الكلام لفي الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

(٣) وكأنه اختلط الأمر على الناصب ولم يتوجه الى ان المراد من العلم ما ذا ، هل هو المصطلح المنطقي او الأصولي أو اللغوي فكم فرق بينها كما لا يخفى.

٢٠٧

النّفسي للإرادة «مردود» بالاعتراض الذي نقله وأما ما ذكره في دفع ذلك الاعتراض بقوله : أقول لا نسلّم عدم الطلب فيهما ، لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب «إلخ» مدخول ، بأنّ الاعتذار والاختبار إنّما يتوقّفان على أن يصدر من الآمر ما يدلّ بظاهره في مجاري الاستعمال على الطلب ، لا على تحقق الطلب في نفس الأمر ، إذ لا وقوف لغير الله تعالى بما في الصّدور ، فيحصل الاعتذار والاختبار من غير قصد الطلب كما لا يخفى وأما رابعا فلأنّ ما ذكره في جواب ما نقله ثانيا عن صاحب المواقف في تقوية المعتزلة من قوله : أقول من أخبر بما لا يعلمه قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا «إلخ» ففيه : أنّ هذا غير واقع ، ولو سلم فيجاب بمثل ما أجبنا عنه عمّا قيل : من أنّه قد يخبر الرّجل عمّا لا يعلمه فاعلم وأما ما ذكره من أن في الأمر وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب ، فإذن تلك الإرادة مغايرة للمعنى النّفسي الذي هو الطلب في هذا الأمر وهو المطلوب ، ففيه : أنّا لا نسلّم أنّ الطلب غير الإرادة (١) ، فإن الطلب

__________________

(١) مسألة اتحاد الطلب والإرادة مما اختلفت فيه كلمة الفحول من الفريقين ، ومنشأ النزاع فيها ما صدر من الاشاعرة من الالتزام بالكلام النفسي في المائة الثالثة ، ثم سرى ذلك الى الأصول فصارت المسألة محل بحث في كلا العلمين ، فاختلفوا في المسألة على اقوال فمنهم من جعل النزاع لغويا في تعيين ما هو الموضوع له لكليهما بعد تسلم كونهما مترادفين؟ وانه هل هو الشوق المؤكد أو من مقدماته؟ او بالعكس.

ومنهم من جعل النزاع عقليا وانه هل هناك اتحاد بين الطلب والإرادة حقيقة ام لا؟

فهم بين قائل باتحادهما مفهوما ومصداقا مع الاختلاف في المنصرف اليه عند العرف ولازمه كون اللفظين مترادفين وبين قائل بتغايرهما مفهوما واتحادهما مصداقا وبين قائل بتغايرهما مفهوما ومصداقا ، ذهب اليه اكثر الاشاعرة وعدة من أصحابنا المتأخرين.

ثم ان القائلين بتغايرهما كذلك اختلفوا علي قولين ، فمنهم من جعل الإرادة والطلب

٢٠٨

عين الإرادة (١) عند المعتزلة ، ولو سلّم فنقول : إنّ الكلام النّفسي عند الأشاعرة

__________________

كليهما من مقولة الكيف النفساني ، وجعل الإرادة في مرتبة متقدمة على الطلب ، ومنهم من جعل الإرادة من مقولة الكيف النفساني والطلب من مقولة الفعل النفساني وادعى وضوحه بشهادة الوجدان وذكر ان الإرادة صفة قائمة بالنفس موجبة لحركة نفسانية هي فعل النفس وهذه غير الحركة الخارجية القائمة بالأعضاء فتكون الحركة الخارجية في مرتبة ثالثة متأخرة عن مرتبة تحقق الحركة النفسانية وهي متأخرة عن مرتبة تحقق الإرادة ، وكان يعبر بعض المحققين من المتأخرين عن حركة النفس بالحملة النفسانية وكان يلتزم بأن هناك أمورا بنحو السلسلة الطولية هكذا (١) مقدمات الشوق المؤكد (٢) نفس الشوق المؤكد (٣) تحريك الشوق للنفس (٤) حركة النفس بعد التحريك (٥) حركة الأعضاء نحو الفعل أو مقدماته.

وأنت خبير بأن ما حققه ودققه حقيق بالقبول ولا يشك ذو مسكة في تغاير التحريك أو الحركة مع الشوق القائم بالنفس ، لكنه مع التزامه بالتعدد خالف الاشاعرة في مسلكهم حيث ان الطلب عنده من مقولة الفعل النفساني أو الفعل الخارجي ، والأشعري مع كونه قائلا بالتعدد ينكر كونه من تلك المقولات بل جعله امرا نفسانيا مغايرا لجميع ذلك ، فيكون أحسن الاجوبة عن مقالة الأشعري ما افاده المتقدمون من أصحابنا رضوان الله عليهم من الاحالة الى الوجدان وأنا إذا راجعنا الى وجداننا لا نجد امرا مغايرا لما ذكر ، والبرهان عند شهادة الوجدان مما يستغنى عنه.

(١) وفيه إشارة الى ضعف دعوى العينية إذ نحن نجد تفرقة ضرورية بين مدلول قولنا : افعل ، وبين قولنا : أريد الفعل وهو ظاهر ، أو الى ضعف نسبة هذه الدعوى الى المعتزلة كما يدل عليه كلام الفاضل عبد الحي البدخشي الحنفي في شرح منهاج الأصول عند قول مصنفه : والطلب غير الإرادة خلافا للمعتزلة «إلخ» فيه بحث أما أولا : فلان المفهوم من كلامه حيث قال : ان النزاع في الطلب مطلقا أعم من أن يكون بالنسبة الى الله تعالى أو العبد وهو فاسد ، إذ الطلب باقسامه كطلب الفعل والكف والإقبال وغيرها من الكلام

٢٠٩

قديم ، فلو كان عبارة عن الطلب كما ذكره النّاصب يلزم قدم من يطلب منه الفعل أيضا وإلا يلزم السّفه ، إذ الطلب بدون وجود من يطلب منه سفه بالضّرورة ، وسيجيء تفصيل الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى وأما خامسا : فلأنّ ما ذكره من أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلم من قام به صفة التكلم وخالق الكلام لا يقال له إنّه متكلم «إلخ» قد هرب فيه النّاصب عمّا قاله أصحابه قاطبة : من أنّ المتكلّم من قام به الكلام لما أورد عليهم الإماميّة ، من أنّه يلزم من ذلك أن لا يصحّ إطلاق المتكلّم على البشر ، إذ الكلام قائم بالصّوت الذي هو عرض لا بالبشر ، وحينئذ يتوجّه عليه : إنّ المبدأ الذي هو التكلم المهروب إليه بمعنى إيجاد الكلام قائم بذاته تعالى حقيقة ، فلا يحتاج إلى المعنى النّفسي

__________________

النفسي ، والمعتزلة أنكروا ثبوته لله تعالى لا أنهم جعلوها عين الإرادة ، فان أريد أنهم سموا الإرادة طلبا فهو مما لم ينقل عنهم ، كيف؟ وعند البصري منهم أن إرادته تعالى العلم بالمصلحة ، وعند النجار أنها معنى سلبي وهو أنه ليس بساه ولا مكره ولا مغلوب فيما فعل ، وعند النظام والكعبي أن إرادة فعل نفسه علمه بوقوعه ، وإرادة فعل غيره الأمر به ، والأمر عندهم الكلام اللفظي ، ولا خفاء في أنه لا يحسن اطلاق الطلب على شيء من هذه المعاني الا الأمر اللفظي مجازا ، ويؤكد ذلك ما في شرحه المختصر : من أن الطلب لما كان نوعا من الكلام النفسي الذي أنكروه ولم يمكنهم أن يحدوا الأمر به ، وتارة حدوه باعتبار اللفظ فقيل هو قول القائل لمن دونه : افعل ، وتارة باقتران صفة الإرادة ، فقيل هو صيغة افعل بارادة وجود اللفظ ودلالته على المعنى والامتثال ، وتارة جعلوه نفس صفة الإرادة فقيل : الأمر إرادة الفعل ، وهذا صريح في أنهم لم يجعلوا الإرادة طلبا ولا بالعكس ، اللهم الا أن يقال : انهم جعلوا الأمر اللفظي الذي يطلق عليه الطلب مجازا غير إرادة المأمور به ، أو يقال : ان بعضهم أثبت له إرادة حادثة لا في محل ، فيجوز أن يكونوا سموه طلبا «انتهى» منه قده.

٢١٠

الأزليّ ، وأيضا نحن لا نشترط في صدق المتكلّم أن يكون ذلك الشيء موجدا للكلام ، بل نقول : لا بدّ أن يكون بين الكلام وذلك الشيء ملابسة كما في الحدّاد والصّباغ والتمّار وغيرها ، وهي محقّقة هاهنا. إذ الكلام مخلوق (١) له تعالى ،

__________________

(١) مسألة مخلوقية كلامه تعالى ، وان القرآن قديم ، أو حادث ، مما وقع النزاع فيها من سالف الزمان ، بحيث قتل جمع من القائلين بقدمه ، وكذا من القائلين بحدوثه وكان المأمون العباسي ، من أشد العاضدين للحدوث. والقادر والمتوكل العباسيان قتلوا جماعة من القائلين بالحدوث واكثر الاشاعرة ، كالشيخ أبى الحسن شيخهم في كتاب الابانة والقاضي محمد بن الطيب الباقلاني وابن فورك والباهلي وامام الحرمين ذهبوا الى قدمه واستدلوا على ذلك بوجوه من السمع والعقل كلها مجاب عنها باجوبة شافية ، والمعتزلة وغيرهم ذهبوا الى حدوثه ، ولهم أدلة من النقل والعقل ، والرازي في كتاب الأربعين ص ١٧٩ وص ١٨٠ جمع بين كلمات الفريقين ، وجعل هذا النزاع الطويل الذيل قريبا من النزاع اللفظي ، وقال ان كلامه تعالى ، بمعنى الأصوات والحروف ، لا كلام في كونها حادثة ، واما كلامه الذي هو مدلول تلك الدوال فهو قديم واحد بالذات ، مختلف بالاعتبار ، من حيث اتصافه بالامرية والنهيية والخبرية وغيرها الى آخر ما قال وأنت خبير بان النزاع بين الاشاعرة ، وبين مخالفيهم في ثبوت ذاك الأمر الواحد القديم بجعله مغايرا للارادة والكراهة والعلم فالاشعرى يدعى التغاير ، وخصمائه ينكرون ذلك ، فعليه لا يكون النزاع لفظيا أو لغويا كما احتمله في طي كلماته.

ثم ان من الاشاعرة من صرح ، بكون الأصوات والحروف كمدا ليلها قديمة أيضا ، كما ان الكرامية ، ذهبوا الى انه خلق تلك الأصوات والحروف في ذاته القديم وجعلوا ذاته تعالى شأنه محلا لتلك الحوادث.

وبالجملة لو تأملت في هذه الأقوال والكلمات التي هي بين افراط وتفريط لرأيت بعين العيان ان النزاع ليس بلفظي كما توهمه وان هناك ابحاثا ، ومضامير فللنزاع في اثبات امر قديم قائم بذاته واحد بالذات مدلول للكلام اللفظي ، مضمار

٢١١

وبالجملة لا يلزم أن يكون إطلاق الألفاظ على وتيرة (١) واحدة ، فانّ المضيء قد يطلق على ما كان نفس الضوء فلا يصدق عليه بمعنى ما قام به الضّوء ، وكذا التّمّار يطلق على من كان بائعا للتّمر لا على من قام به التّمر ، فلا يتّجه علينا النّقض بالذّائق ، كما ذكره النّاصب الخالي عن ذوق التّحقيق ، ولا بالمتحرّك كما أورده شارح العقائد ، ولا ما أورده الشّارح الجديد للتّجريد : من أنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم ، نسمّيه المتكلّم وإن لم نعلم أنّه الموجد لهذا الكلام ، بل وإن علمنا أنّ موجده هو الله تعالى (٢) كما هو رأى الأشاعرة «انتهى» وقد اعترف بهذا فخر الدّين الرّازي في المسألة الثالثة والأربعين من الباب الأوّل من القسم الأوّل من الكتاب الأول من فواتح تفسيره الكبير حيث قال : والتّحقيق في هذا الباب أنّ الكلام عبارة عن فعل مخصوص ، جعله الحىّ القادر لأجل أن يعرّف غيره ما في ضميره من الإعتقادات والإرادات ، وعند هذا يظهر أنّ المراد من كون الإنسان متكلّما

__________________

وللنزاع في كون الدال عليه قديما أو حادثا مضمار وللنزاع في قيام ذاك الدال الحادث بذاته تعالى أو عدمه مضمار ثالث وفي كل من هذه المعارك كم من فئة هالكة مهلكة والصراط الواضح ، والنجم اللامع اللائح ، ما أخذته الاصحاب رضوان الله عليهم ، عن أئمة اهل البيت عليهم‌السلام ، فان علومهم مستفادة ، من المشكاة النبوية والمصباح الذي استنير من النور الإلهي ، والوحى الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ثبتنا الله تعالى على التمسك باذيالهم ، واتباع آثارهم ، وحشرنا في زمرة من لم يعرف سواهم آمين آمين.

(١) الوتيرة. الطريقة.

(٢) لا يخفى ان هذا مقلوب عليهم فانا إذا سمعنا قائلا يقول : انا قائم نسميه المتكلم ، وان لم نعلم ان الكلام قائم به ، بل وان علمنا انه ليس قائما به بل بالهواء تأمل. منه «قده».

٢١٢

بهذه الحروف مجرّد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص «انتهى» على أنّ ما ذكره النّاصب وشارح العقائد بحث لفظيّ لا يعتدّ به في المباحث العقليّة ، وإذا قام الدّليل على امتناع كونه تعالى متكلّما بالمعنى اللّغويّ المشهور ، وهو أنّ المتكلّم بمعنى من قام به الكلام ولم يتمّ الدّليل على المعنى القائم بالذّات ، فلا بدّ من التّشبث بالمعنى اللّغوي الغير المشهور ، وهذا كما قيل : في حمل الموجود عليه تعالى على قاعدة الحكماء ومن وافقهم من أنّ الوجود عين حقيقته غير قائم به ، إذ على هذا لا يصحّ لغة أن يقال : إنّه تعالى موجود ، إذ معنى الموجود لغة من قام به الوجود ، وهو يقتضي المغايرة ، وذلك باطل عندهم «تأمّل» والسّر في أنّ أهل اللّغة ربما يفسّرون صيغة الفاعل بمن قام به الفعل ، ما قاله بعض المحقّقين : من أنّ اللّغة لم تبن (١) على النّظر الدّقيق ، بل هم ينظرون إلى ظاهر الحال فيحكمون بقيام الكلام بالمتكلّم ويقولون باتّصاف المتكلّم به حال التّكلّم : وكيف لا؟ ولو بنيت اللّغة على النّظر الدّقيق لتعذّر في أكثر أفعال الحال؟ فانّه يلزم أن يكون مجازا ، مع أنّهم اتّفقوا على أنّ المضارع حقيقة في الحال ، في مثل يمشي ، ويتكلّم ، ويخبر ، بل يتوسّعون في معنى الحال ، ويعمّمونه عن المشي بين المشرق والمغرب ، ويريدون به الحال ، وقس عليه الحال في اسم الفاعل إذا قالوا : إنّه حقيقة في زيد ماش من المشرق إلى المغرب ، والحاصل أنّ النّظر الدّقيق يقتضي عدم قيام المبدأ وعدم بقائه في محلّ يقوم به ، وظاهر النّظر يميل إلى القيام والبقاء ، والملخّص أنّ معنى اسم الفاعل (٢) مثلا هو الأمر المجمل الذي يعبّر عنه في الفارسيّة «بدانا» و

__________________

(١) مضافا الى ان شأن اللغوي بيان موارد الاستعمال لا الوضع وان كان هذا لا يخلو عن مناقشة أوردناها في مباحث الألفاظ.

(٢) الظاهر أن كلمة «كالعالم» ساقطة من قلم الناسخ.

٢١٣

إذا أردنا تحليله (١) نعبّر عنه بذات له العلم ، مع أنّا نعلم أنّ الذّات غير مأخوذة في معنى العالم وكذا قيام معنى العلم ، امّا أن الذّات غير مأخوذة فلأنّا إذا قلنا زيد عالم نعلم يقينا أنّ زيدا بمنزلة الذات ، وليس المراد بزيد ذات له العلم ، بل المراد زيد له العلم ، وكيف لا؟ وقد استدلوا على ذلك بأنّه لو كان شيء أو ذات مأخوذا في المشتقّ لكان النّاطق مركبا من العرضي ، كما قاله سيّد المحقّقين (٢) : قدس‌سره في حاشية المطالع ، فيلزم أن لا يصحّ التحديد به ، وفوق هذا كلام : وهو أنّ إطلاق اسم المتكلّم على الفاعل للكلام ثابت في لسان العرب ، بل ولا يطلقون اسم المتكلّم على القائم به الكلام أصلا ، لأنّ الفعل لا يوصف به المفعول ، بل إنّما يوصف به الفاعل كالضّرب مثلا ، فلا يقال : الضّارب لمن وقع عليه الضّرب ، بل لمن فعل الضّرب ، فحينئذ لا يقال المتكلّم من قام به الكلام بل من فعله ، وإلا لكان الهواء متكلّما لقيام الحروف والصّوت به ، وقالوا تكلّم الجنّ : على لسان المصروع (٣) لاعتقادهم أنّ الكلام المسموع من المصروع فاعله الجنّ ، فأسندوه إلى الفاعل لا القائم به ، والأشاعرة لمّا قالوا إنّ الكلام هو المعنى قالوا : معنى كونه متكلما هو قيام ذلك المعنى بذاته ، ثمّ افتروا به على اللّغة. فان قلت الكلام على ما ذكرتموه يرجع إلى القدرة فلا يكون صفة مستقلّة أخرى ، قلت : لا محذور في إرجاعه إلى القدرة وعدّه صفة مستقلّة أخرى ، بناء على فائدة مخصوصة : هي أنّ

__________________

(١) وذلك لا ينافي بساطة المشتق وعدم أخذ الذات في مفهومه كما حققه المتأخرون من الأصوليين والمنطقيين فمعاني المشتقات مفاهيم مجملة في الإدراك الاولى قابلة للتحليل بالتعمل والتأمل.

(٢) هو المحقق الشريف الجرجاني وقد مرت ترجمته.

(٣) الصرع. علة تمنع الأعضاء النفسانية عن افعالها منعا غير تام ، ويقال لمن غشى عليه مصروع.

٢١٤

أفعال العباد قولا وفعلا مخلوقة بقدرة العبد أو بقدرة الله ، وكسب العبد والقرآن مخلوق له بلا واسطة قدرة العبد وكسبه ، وتحقيقه : أنّ الله تعالى يعلم جميع المعلومات ، فعلم القرآن في الأزل بأنّه سيوجده بقدرته القديمة في جسم من الأجسام من غير كسب (١) ، بخلاف كلام البشر فانّه عالم في الأزل بأنّه سيوجده البشر بقدرته الحادثة أو بكسبه. وممّا يكسر سورة (٢) استبعاد الخصم : أنّ صفتي السّمع والبصر راجعتان إلى العلم باتّفاق الأشاعرة معنا ، مع أنّهما عدّتا صفتين مستقلّتين متابعة للشّارع حيث أفردهما عن العلم في الذّكر لغاية اهتمامه باثباتهما ، وباعتقاد المكلّفين لاتصافه تعالى بهما.

قال المصنّف رفع الله درجته

المطلب الثاني في أنّ كلامه تعالى متعدّد ، المعقول من الكلام على ما تقدّم أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون خبرا أو أمرا أو نهيا أو استفهاما أو تنبيها ، وهو الشّامل للتّمنّي والتّرجي والتّعجب والقسم والنّداء ، ولا وجود له إلا في هذه الجزئيات ، والذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا : فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه تعالى واحد مغاير لهذه المعاني ، وذهب آخرون إلى تعدّده ، والذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء لا

__________________

(١) الكسب من مصطلحات الاشاعرة وقد مر شرحه وبيان المراد منه في تعاليقنا السابقة التي ذكرنا فيها الفروق بين الاشاعرة والماتريدية ، وسيجيء في كلام القاضي الشهيد شرحه أيضا.

(٢) السورة بفتح السين المهملة وسكون الواو ، يقال سورة الشيء لحدته وسورة السلطان لسطوته وسورة المجد لأثره وارتفاعه وسورة البرد لشدته.

٢١٥

يتصوّرونه هم ولا خصومهم ، ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره فكيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ويناط بكلامه الأحكام؟ «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النّفساني جعلوه كسائر الصّفات مثل العلم والقدرة ، فكما أنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنّهى والخبر والاستفهام والنّداء ، وهذا بحسب التّعلق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده ، فالنّزاع بيننا وبين المعتزلة والإماميّة في إثبات الكلام النّفساني ، فان ثبت فهو قديم واحد كسائر الصّفات ، وإن انحصر الكلام في اللّفظي فهو حادث متعدّد ، وقد أثبتنا الكلام النّفسي فيما سبق ، فطامات الرّجل ليس إلا التّرهات «انتهى.»

أقول : إن أراد بقوله : الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنّهى «إلخ» أنّ كلامه تعالى جنس لهذه الأمور ، وهذه الأمور أنواع له ، فيلزم من قدمه وحدوثها وجود الجنس بدون أحد الأنواع ، وبطلانه ظاهر ، وإن أراد أنّه أمر معيّن يعرضه هذه الأمور كما يشعر به كلام الشّارح الجديد للتّجريد في تتميم جواب عبد الله بن سعيد (١) حتّى لا يلزم كون تلك الأنواع أنواعا حقيقيّة ، بل تكون

__________________

(١) هو عبد الله بن سعيد بن الحصين الكوفي ، أبو سعيد الاشجّ الحافظ المتوفى سنة ٢٥٧ وكان من كبار القوم فقها ، وحديثا وكلاما ، روى عن عبد السلام بن حرب وأبى

٢١٦

أنواعا بحسب العارض والاعتبار والأمور الخارجة ، فمسلّم أنّ هذا لا يستلزم محالا لأنّ غاية ما يلزم من ذلك وجود المعروض بدون العارض وهو ليس بمستحيل ، لكنّه خلاف ما هو المقرّر عندهم ، من أنّ هذه الأمور أنواع الكلام. وأيضا هذا غير معقول إذ لا يعقل كلام إلا على أحد الأساليب المعروفة عند العقلاء ، وبالجملة نحن لا نعقل من كلامه تعالى سوى الأمر والنّهى والخبر ، فإذا اعترفتم بحدوثها ثبت حدوث الكلام فان ادّعيتم قدم شيء آخر فبيّنوه ليتصوّر ، ثمّ أقيموا الدّلالة عليه وعلى اتصافه تعالى به وعلى قدمه ، وأيضا لو جوّز كون الكلام الواحد متكثّرا وأنواعه مختلفة باعتبار التّعلّقات لزم جواز أن يكون جميع الصّفات راجعة إلى صفة واحدة بل إلى الذّات بأن يكون باعتبار تعلّقه بالتّخصيص إرادة ، وباعتبار تعلّقه بالإيجاد قدرة إلى غير ذلك من الاعتبارات ، وقال السيّد معين الدين الصّفوي الإيجي الشافعي في رسالته في الكلام : إن العرف العامّ والخاصّ من الشّرع واللّغة لا يفهم من الكلام إلا المركب من الحروف لا مجرّد مفهوم اللّفظ الذي هو في الحقيقة (خ ل في التحقيق) نوع من العلم ، وليس من شأن النّبوّة دعوة الامّة إلى شيء غير معلوم ظاهره كذب وإلحاد من غير إشارة في موضع وموقع على المراد من إطلاقه ، مع أنّ العرف مطلقا يعرف تناقض الأخرس مع المتكلّم ، وعلى ما عرّفه الأشعري يجتمع الخرس وهذا المتكلّم (١) ، والتكلّم والسّكوت ، وأما ما في متن العقائد للنّسفي (٢) انّ

__________________

خالد الأحمر والمحاربي وابن إدريس وهشيم ومن في طبقتهم فراجع الكتاب الخلاصة للخزرجى ص ١٦٩.

(١) الظاهر أن العبارة كذا : يجتمع الخرس والتكلم في هذا المتكلم.

(٢) هو نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد السمرقندي الحنفي الأصولي المتكلم الشهير المتوفى ببغداد سنة ٥٣٧ له تآليف كثيرة منها كتاب العقائد المعروف بالعقائد النسفية

٢١٧

الكلام صفة متنافية للسّكوت والآفة ، وقال شارحه (١) العلامة : هذا إنّما يصدق على الكلام اللّفظي دون النّفسي ، إذ السّكوت والخرس إنّما ينافي التلفّظ ، وأجاب بأنّ مراده السّكوت والآفة الباطنيّتان بأن لا يدبّر في نفسه التّكلم ولا يقدر على ذلك ، فكما أنّ الكلام لفظي ونفسي ، فكذا ضدّه اعني السّكوت والخرس ، فأنت على يقين أنّ هذا التّوجيه تمحّل (٢) لا يغني عن الحق شيئا (٣) ، فأعرضنا عن التّعرّض بتفصيل الجواب.

__________________

وقد شرحه جمع كثير من علماء القوم ومنها كتاب طلبة الطلبة في المصطلحات الحنفية في الفقه ، ومنها تاريخ سمرقند ، والنسفي نسبة الى نسف كجبل بلد بما وراء النهر.

(١) المراد به قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي الكازروني الشافعي المشتهر بالعلامة المتوفى سنة ٧١٠ ببلدة تبريز ودفن بجنب قبر القاضي البيضاوي أو العلامة المحقق التفتازاني المولى مسعود بن عمر المتوفى سنة ٧٩١ صاحب كتاب المطول والظاهر الثاني.

(٢) قال بعض الفضلاء في بحث المغالطة من كتاب المسمى بمسالك الافهام في علم الكلام ان من أسباب الغلط أخذ ضد الشيء ضدا للازمه وهو باطل ، لان الحرارة يضاد البرودة ولا يضاد العرضية واللونية ، وأبو الحسن الأشعري ارتكب هذا في اثبات كلام الحق فقال : وجدنا كل من ليس بمتكلم اخرس فحكم بان الكلام والخرس متضاد ان ، فحكم بانه تعالى لو لم يكن متكلما لكان اخرس ، لأنه في الشاهد كذلك ، ثم أثبت للباري شيئا سماه كلام النفسي ولم يثبت له الكلام الذي اخذه ضدا للخرس (فانه يثبت للخرس) لعدم اشتراطه بالحرف والصوت ، فيجتمع مع الخرس ، فلا يكون ضده فبطل قوله ان الكلام والخرس ضد ان لان الخرس لا يزول بكلام النفس. منه «قده».

(٣) اقتباس من قوله تعالى في سورة يونس. الآية : ٣٦.

٢١٨

قال المصنّف رفعه الله

المطلب الثالث في حدوثه ، العقل والسّمع متطابقان على أنّ كلامه تعالى محدث ليس بأزليّ ، لأنه مركّب من الحروف والأصوات ، ويمتنع اجتماع حرفين في السّماع دفعة واحدة فلا بدّ أن يكون أحدهما سابقا على الآخر ، والمسبوق حادث بالضّرورة ، والسّابق على الحادث بزمان متناه حادث بالضّرورة. وقد قال الله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (١) ، وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، فجعلوا كلامه تعالى قديما لم يزل معه ، وأنّه تعالى في الأزل يخاطب العقلاء المعدومين ، وإثبات ذلك في غاية السّفه والنّقص في حقّه تعالى ، فانّ الواحد منّا لو جلس في بيت وحده منفردا ، وقال يا سالم قم ، ويا غانم اضرب ويا سعيد كل ولا أحد عنده من هؤلاء ، عدّه كلّ عاقل سفيها جاهلا عادما للتّحصيل فكيف يجوز منهم نسبة هذا الفعل الدّال على السّفه والجهل والحمق إليه تعالى؟ وكيف يصح منه تعالى أن يقول في الأزل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٢)؟ ولا مخاطب هناك ولا ناس عنده ، ويقول (يا أَيُّهَا النَّاسُ (٣) اتَّقُوا رَبَّكُمُ)؟ ويقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (٤) آمَنُوا* أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) (٥) (، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) (٦) و (، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٧)؟ وأيضا لو كان كلامه قديما لزم صدور القبيح منه

__________________

(١) الأنبياء. الآية ٢١.

(٢) كما في سورة البقرة. الآية : ٢١

(٣) كما في سورة الحج. الآية : ١

(٤) كما في سورة البقرة. الآية ١١٠ وغيرها من الآيات.

(٥) كما في سورة البقرة. الآية ١٨٨

(٦) كما في سورة الانعام. الآية ١٥١

(٧) كما في سورة المائدة. الآية ١.

٢١٩

تعالى ، لأنّه إن لم يفد بكلامه في الأزل شيئا كان سفيها ، وهو قبيح عليه تعالى وإن أفاد فإمّا لنفسه أو لغيره ، والأوّل باطل ، لأنّ المخاطب إنّما يفيد لنفسه لو كان يطرب في كلامه أو يكرّره ليحفظه أو يتعبّد به كما يتعبّد الله تعالى بقراءة القرآن ، وهذه في حقّه محال لتنزّهه عنها. والثّاني باطل لأنّ إفادة الغير إنّما تصحّ لو خاطب غيره ليفهم مراده أو يأمره بفعل ، أو ينهاه عن فعل ، ولمّا لم يكن في الأزل من يفيده بكلامه شيئا من هذه كان كلامه سفها وعبثا. وأيضا يلزم الكذب في إخباره تعالى ، لأنّه قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (١) ، انا (أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) (٢) و (أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) (٣) ، (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) (٤) ، مع أنّ هذه إخبارات عن الماضي ، والإخبار عن وقوع ما لم يقع في الماضي كذب تعالى الله عنه. وايضا قال تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥) ، وهو إخبار عن المستقبل فيكون حادثا «انتهى.»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد سبق الإشارة إلى النّزاع بين الأشاعرة والمعتزلة ومن تابعهم من الإماميّة في إثبات الكلام النّفساني ، فمن قال : بثبوته فلا شكّ أنّه يقول : بقدمه ، لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى ، ومن قال بأنّه مركّب من الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يقول بحدوثه ونحن نوافقه فيه فكلّ ما أورده على الأشاعرة فهو إيراد على غير محلّ النّزاع ، لأنّه يقول : إنّ الكلام مركّب

__________________

(١) نوح. الآية ١.

(٢) النساء. الآية ١٦٣.

(٣) يونس. الآية ١٣.

(٤) ابراهيم. الآية ٤٥.

(٥) النحل. الآية ٤٠.

٢٢٠