إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

قوله : ولو كان لأجل الامتناع لمنعهم موسى عليه‌السلام عن ذلك (إلخ) يدلّ على أنّ موسى لم يمنعهم عنه وليس كذلك بل منعهم عنه (١) كما يدلّ عليه ما روى في شأن النزول وسياق قوله تعالى : (إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ، مع قوله أتهلكنا بما فعل السّفهاء (٢) منّا كما يجده العارف بخواصّ الكلام ومقتضيات الحال والمقام وأما عاشرا ، فلأنّ ما أتى به من إظهار القدرة على إقامة الدّلائل الرّزينة والرّصينة العقليّة على صحّة الرّؤية ففيه إزراء (٣) بجلالة قدر شيخه الأشعري وسائر مشايخه حيث لم يقدروا مع كثرتهم في مدّة ثمانمائة سنة على إقامة دليل عقليّ إقناعيّ على ذلك سوى الدّليل المشهور الذي قد صار من توارد سهام الاعتراض عليه كبيت الزّنبور ، بل في ذلك إهانة عظيمة لإمامه فخر الدّين الرّازي لما سنذكره : من أنّه هرب (٤) عن هذا المضمار ، وارتكب عار الفرار ، فظهر أنّ ما ذكره من التّصلّف (٥) زيادة نغمة (٦) منه على

__________________

(١) ويشهد لمنع موسى وإبائه عن مسألتهم إصرارهم له وقولهم لا والله (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) كما رواه الطبري في تفسيره (ج ١ ص ٢٢٤) من ان موسى لما أتاهم بالالواح قد كتب فيها التورية وقال : ان هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه ، فقالوا : ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع علينا.

(٢) البقرة. الآية : ١٥٥.

(٣) الإزراء. التعييب.

(٤) حيث التجاء في اثبات جواز الرؤية الى ظواهر الأدلة النقلية بعد الاعتراف بتعذر إثباته بالادلة العقلية وسيأتي كلامه قريبا.

(٥) التصلف. التملق.

(٦) إشارة الى مثل معروف ، قال الميداني في المجمع ص ٢٢١ : انه من الأمثال المولدة.

١٤١

طنبور طامّات شيخه الأشعري لا كسرا لما سمّاه طامّاتا من كلام غيره وأما الحادي عشر ، فلأنّ ما سنح له بعد التّأمل في مسألة الرّؤية من جعل النّزاع لفظيّا وظنّ أنّه لم يسبقه أحد من علماء السّلف ، ففيه أنّه من بعض الظنّ ، (١) لأنّ إمامه فخر الدّين الرازي وشيخه الفاضل التّفتازاني (٢) قد سبقاه في ذلك ، لكنّه رجوع صريح وهرب فضيح من غير عذر يفي بإصلاح قباحته ، ويدفع لوث لوم الفرار عن ساحته ، فإنّ جعل النّزاع المشهور الممتدّ بين الجمهور على مرّ الدهور لفظيّا بأمثال التكلّفات التي ارتكبوها كما ترى ، مع أنّ بعده عن التّوفيق في التّوفيق المذكور ظاهر ، لظهور أنّ ما فرّعه على ما نسجه بقوله : فعلى هذا تكون الرّؤية علما خاصّا وانكشافا تامّا غير متفرّع على ما نقله عن الإماميّة في معنى الحديث المشهور كيف؟ وقد نقلنا سابقا عن المصنّف في كتاب نهج المسترشدين : أنهم جعلوا الإحساس بأقسامه مقابلا للعلم والإعتقاد ، وبهذا ظهر كذب ما ذكره بعيد ذلك من اتّفاق الفريقين : على أن رؤية الله تعالى هي العلم التّام والانكشاف الكامل ، واتّضح أنّ ما تكلفه من التّوفيق بين الفريقين صلح من غير تراضى الخصمين ، فالأولى به أن يتركه في مخلات (٣) حماقاته ، أو يخصّ نفعه بأعقابه وأهل موالاته ، وما أشبه تكلّفه هذا بما يحكى : أنّه قد سمع بعض الأكارين (٤) والبقارين (٥) أنّ العنبر

__________________

(١) إيماء الى قوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) في سورة الحجرات. الآية ١٢.

(٢) هو العلامة المحقق سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ، توفى سنة ٧٩٣ أو ٧٩٢ ، وله تآليف نفيسة اشهرها المطول في شرح تلخيص المفتاح ، وكتاب المقاصد في الكلام وغيرهما.

(٣) المخلات : ما يجعل فيه النبات ويعلق في عنق الدابة.

(٤) الأكارين. جمع الأكار وهو حارث الأرض.

(٥) البقارين. رعاة البقر وأربابها.

١٤٢

خثى (١) البقر البحري ، فتشاوروا في ذلك ، وأسرّوا النجوى مع الرّئيس ، فأجمعوا عن آخرهم على أنّ لنا ثيرانا (٢) فنصنع حوضا عظيما ، وندخل تلك الثيران فيه ليحصل لنا من العنبر قدر كثير فنتطيّب به ونهديه إلى الأصحاب والأحباب ، ونبيع ما فضل من ذلك ونصرفه في حوائجنا ونستغني بذلك عمّا نحن فيه من الأعمال الشّاقّة والحركات العنيفة ، ونخلص بذلك الشّغل عن الإخراجات والخراجات والمطالبات الديوانيّة ، فجزموا على هذا الرّأي وصنعوا حوضا عظيما وأجروا فيه الماء وأدخلوا ثيرانهم فيه وقت الرّبيع ، فلمّا راثت الثيران أخذوا من خثاها واستطابوه ، لأنّ لخثاء البقر في ذلك الوقت رائحة غير منكرة ، فلمّا كثر ذلك عندهم وفضل عن حاجاتهم حملوا بعضا منه إلى العطار ليبيعوا منه ، فلما رآه العطار قال هذا عنبر زكي الرّائحة لا يوجد مثله في خزانة السّلاطين ، فاحفظوه لنفسكم ولأحبابكم وما فضل منكم فادّخروه لأعقابكم ، فانّه علق (٣) نفيس لا يعرف قدره إلا بصير كامل خبير عاقل مثلكم ، وأنّى لكم الأمثال؟! ، ثمّ لا يذهب عليك أن الذي ألجأ فخر الدّين الرّازي وما تأخّر عنه إلى أن جعلوا النّزاع لفظيّا ، هو العجز عن إتمام الدّليل العقليّ على إمكان الرّؤية حتى أنّ الرّازي فضح نفسه في كتاب الأربعين ، فقال بعد ذكر دليل الأشاعرة وذكر الأسؤلة والإيرادات الكثيرة عليه : اعلم أنّ (٤) الدّليل العقلي المعوّل عليه في هذه المسألة هذا الذي أوردناه ،

__________________

(١) الخثي : بكسر الخاء مختوما بالألف المقصورة : الروث.

(٢) هو جمع ثور. يطلق على الذكور والإناث.

(٣) بكسر الاول وسكون الثاني. النفيس من كل شيء.

(٤) ذكره في كتابه المسمى بالأربعين في اصول الدين ص ١٩٧ ، طبع حيدرآباد ، في أواخر السؤال الثاني عشر وكذا في رد شبهات المعتزلة ، والتجأ في طي كلماته تارة بجعل الرؤية بمعنى الكشف المعنوي القلبي ، وأخرى بمعنى آخر وثالثة لاذ بالأخذ بظواهر الأدلة النقلية ، من دون تأويل ، كداود الجواربى وغيره فراجع.

١٤٣

وأوردنا هذه الأسئلة عليه واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها ، إذا عرفت هذا فنقول مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي (١) وهو أنّا لا نثبت صحة رؤية الله تعالى بالدّلائل العقليّة ، بل نتمسّك في المسألة بظواهر القرآن والأحاديث ، فإن أراد الخصم تأويل هذه الدّلائل وصرفها عن ظواهرها بوجوه عقليّة يتمسك بها في نفى الرّؤية اعترضنا على دلائلهم وبينّا ضعفها ومنعناهم عن تأويل الظواهر «انتهى كلامه» ، وقال في شرح المواقف بعد ترويج الدّليل العقلي للأشاعرة بما أمكنه : فالأولى ما قد قيل : من أنّ التّعويل في هذه المسألة على الدّليل العقلي متعذّر ، فلنذهب إلى ما اختاره الشّيخ أبو منصور الماتريدي من التّمسك بالظواهر النقليّة هذا كلامه ونحن نقول : ليس لهذا الرّجل المتسمّى بالإمام ولا للسّيد المحقّق الشّريف الهمام ، مع علوّ شأنهما وشهرة مكانهما بين الأنام ايثار هذا الطريق وإثبات صحّة رؤية الله تعالى وإمكانه بالظواهر ، إذ لا يمكن التّمسّك بالظواهر النقليّة إلا بعد إثبات الإمكان الذّاتي للرّؤية بالبرهان العقلي وإلا وجب التّأويل كما في سائر آيات التجسّم ، وقد اعترف بذلك شارح المقاصد (٢) حيث قال : ولم

__________________

(١) هو الشيخ محمد بن محمد أبو منصور الحنفي المتكلم الباحث المتوفى سنة ٣٣٣ ، والماتريدي نسبة الى ما تريد من أعمال سمرقند ، وله تآليف وتصانيف ككتاب أوهام المعتزلة وكتاب مآخذ الشرائع وكتاب الرد على القرامطة وكتاب التوحيد وكتاب تأويلات أهل السنة وغيرها ، تلمذ عند أبى نصر العياضي ، قال المولى على القمري الخراساني في ذيل كتاب الجواهر المضيئة (ص ٥٥٦ ط حيدرآباد) : أن اتباع الماتريدي من الحنفية اكثر من غيرها ، واتباع ابى الحسن الأشعري من الشافعية اكثر من غيرها انتهى. ثم ان الفرقة الماتريدية أتباع أبى منصور المذكور تفترق عن الاشاعرة في امور سنوردها إن شاء الله تعالى قريبا فاصبر (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

(٢) وهو التفتازاني السابق ذكره.

١٤٤

يقتصر الأصحاب على أدلة الوقوع مع أنّها تفيد الإمكان أيضا لأنّها سمعيّات ربما يدفعها الخصم بمنع إمكان المطلوب ، فاحتاجوا إلى إثبات الإمكان أوّلا والوقوع ثانيا ، ولم يكتفوا بما يقال : إنّ الأصل في الشيء سيّما ما ورد به الشّرع هو الإمكان ما لم يذد عنه الضّرورة أو البرهان (١) ، لأنّ هذا إنّما يحسن في مقام النّظر والاستدلال دون المناظرة والإحتجاج «انتهى كلامه» ، وقد صرّح بمثله تلميذه الخيالي (٢) في بحث المعاد من حاشية شرح العقائد ، وقال الغزالي (٣) في رسالته المشهورة

__________________

(١) مأخوذ من قول الشيخ الرئيس كل ما قرع سمعك من غرائب الأكوان فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان. والإمكان فيه بمعنى الاحتمال كما حقق في محله.

(٢) الخيالى هو الشيخ أحمد بن موسى الحنفي المتوفى سنة ٨٦٢ وكان مدرسا في مدرسة ازنيق من طرف السلطان العثماني وله تآليف منها حاشية على شرح التفتازاني على العقائد النسفية.

(٣) الغزالي هو العارف العلامة الشيخ محمد بن محمد المشتهر في كتب القوم بحجة الإسلام توفى يوم الاثنين ١٤ جمادى الثانية سنة ٥٠٥ وقيل ٥٠٧ وله تآليف كثيرة أشهرها احياء العلوم في مجلدات ، والغزالي نسبة الى قرية غزالة من قرى طوس وكان شافعى الفروع ، أشعرى الأصول من تلامذة امام الحرمين الجويني. وللمترجم مشرب وذوق مخصوص في العرفان ، امتاز به عن أضرابه كما هو واضح لمن سبر في الاحياء وفي تشيعه خلاف بين ارباب التراجم ، فمنهم من ذهب الى استبصاره في أواخر عمره وتحكى في ذلك قصص ، ومنهم من قال بأنه مات سنيا ، ورأيت في بعض المجاميع المخطوطة أن سبب هدايته مصاحبته في سفر الحج أحد علماء الشيعة وأنه استبصر ببركة صاحبه وترنم بهذا البيت. شعر :

يار بر ما عرض ايمان كرد ورفت

پير گبرى را مسلمان كرد ورفت

وكتاب سر العالمين مما يمكن استكشاف عقيدته منه والله العالم.

١٤٥

الكافلة لبيان معنى النّفخ والتّسوية في قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) (الآية) ، أنّ أمر الظواهر هيّن ، فإنّ تأويلها ممكن ، والبرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر ، بل يسلّط على تأويل الظاهر كما في الظواهر التشبيهيّة (ظواهر التشبيه خ ل) في حق الله تعالى «انتهى» هذا. والحق أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لا يرى ، فإنّه بالمنظر الأعلى (٢) ، إذ لا يخفى على أحد أنّ نور الشّمس يكاد أن يذهب بالأبصار ، فكيف يقدر الإنسان على مشاهدة نور الأنوار الذي نسبة نور الشّمس إليه كنسبة نور الذّرة إليها ، بل أقلّ منه؟ وأنت خبير بأنّ الهواء لا يرى ، وكذا السّماء للطافتهما ، والظاهر أنّ الله تعالى ألطف (٣) الأشياء ، ولذلك يقول جلّ جلاله في مقام التّمدّج : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فظهر أنّ كونه مرئيّا نقص بالنّسبة إليه تعالى ، كيف لا؟ وقد عرفت مما مرّ أنّ الرّؤية بالبصر سواء كان في الحاضر أو الغائب مشروط بأمور ثمانية ، ومن الشّروط المقابلة أو ما في حكمها والجهة ، وهذان الأمران من اللّوازم المساوية لأخسّ الممكنات أى السّفليات الحسيّة الكثيفة ، لأنّك علمت : أنّ اللّطافة المفرطة مانعة عنها ، وكذا النّور المفرط ، وهو الله سبحانه مستور بحجب الأنوار ومحجوب بسرادقات الجلال والجمال ، فكيف تدركه عيون خفافيش الجهّال؟! تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، وقال جلّ جلاله : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ

__________________

(١) ص. الآية ٧٠. حجر. الآية ٢٩.

(٢) وهو مقتبس من قوله تعالى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) النجم : الآية ٧.

(٣) لا يخفى أن التعبير من باب ضيق الخناق والا فهو غير مناسب لساحة قدسه تعالى شأنه كما لا يخفى. ثم اطلاق الشيء عليه عزوجل قد ورد في قول مولانا أمير المؤمنين (ع) حيث قال : انه تعالى شيء لا كالأشياء. وكذا في بعض الادعية والروايات المأثورة عن أئمة اهل البيت عليهم‌السلام.

١٤٦

جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ؛ فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ، والظاهر أنّ تسبيحه عليه‌السلام في هذا المقام تنزيهه عن مشابهة الأعراض والأجسام وتبرئة لسؤال الرّؤية ، ولهذا قالوا : إنّما أخذتهم الصّاعقة لذنوبهم بسؤال الرّؤية ، وقد يخطر بالبال أنّه لو لا كرامة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّه تعالى رفع عن امّته المسخ (٢) وبعض العقوبات الفضيحة ، لنزلت عليهم أيضا صاعقة من السماء ، وإنّما أطنبنا في هذا المقام لكونه مزلة لأقدام الخصام وبالله التّوفيق في نيل المطلوب وإصابة المرام.

قال المصنّف رفع الله درجته

المسألة الثانية في النّظر وفيه مباحث الاول أنّ النّظر الصّحيح يستلزم العلم ، الضّرورة قاضية بأنّ كلّ من عرف أنّ الواحد نصف الإثنين وأنّ الإثنين نصف الأربعة ، فإنّه يعلم أنّ الواحد نصف نصف الأربعة ، وهذا الحكم لا يمكن الشّكّ فيه ، ولا يجوز تخلّفه عن المقدّمتين السّابقتين ، وأنّه لا يحصل من تينك المقدّمتين السّابقتين أنّ العالم حادث ، ولا أنّ النّفس جوهر ، وأنّ الحاصل أوّلا اولى من حصول هذين ، وخالفت الأشاعرة كافّة العقلاء في ذلك ، فلم يوجبوا حصول العلم عند حصول المقدّمتين ، وجعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيّا يمكن أن يحصل وأن لا يحصل ، ولا فرق بين حصول العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة عقيب قولنا : الواحد نصف الإثنين ، والاثنان نصف الأربعة ، وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث أو أنّ النّفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : الواحد نصف الإثنين ، والاثنان نصف الأربعة ، وبين حصول العلم بأنّ العالم محدث أو أنّ النّفس جوهر ، أو أنّ الإنسان حيوان أو أنّ العدل حسن ، عقيب قولنا : الواحد نصف الإثنين ، والاثنان نصف الأربعة ، وأىّ عاقل يرضى لنفسه

__________________

(١) الأعراف. الآية ١٤٣.

(٢) كما تدل عليه عدة روايات مودعة في كتب علماء الإسلام من الفريقين الخاصة والعامة

١٤٧

إعتقاد أنّ من علم أنّ الواحد نصف الإثنين والاثنان نصف الأربعة ، يحصل له علم أنّ العالم محدث ، وأنّ من علم أنّ العالم متغيّر ، وأنّ كلّ متغير محدث ، يحصل له العلم بأنّ الواحد نصف نصف الأربعة؟ ، وأنّ زيدا يأكل ولا يحصل له العلم بأنّ العالم محدث ، وهل هذا إلا عين السّفسطة «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الشّيخ أبي الحسن (١) الأشعري أن حصول العلم الذي هو النّتيجة عقيب النّظر الصّحيح بالعادة ، وإنّما ذهب إلى ذلك بناء على أنّ جميع الممكنات مستندة عنده إلى الله سبحانه ابتداء ، أى بلا واسطة ، وعلى أنّه تعالى قادر مختار ، فلا يجب عنه صدور شيء منها ، ولا يجب عليه ولا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقيب بعض كالإحراق عقيب مماسّة النّار والرّيّ بعد شرب الماء ، فليس للمماسّة والشّرب مدخل في وجود الإحراق والرّيّ ، بل الكلّ واقعة بقدرته واختياره تعالى ، فله أن يوجد المماسّة بدون الإحراق ، وأن يوجد الإحراق بدون المماسّة ، وكذا الحال في سائر الأفعال ، وإذا تكرّر صدور الفعل منه وكان دائما أو أكثريّا ، يقال : إنّه فعله بإجراء العادة ، وإذا لم يتكرّر أو تكرّر قليلا فهو خارق العادة أو نادر ، ولا شكّ أنّ العلم بعد النّظر ممكن حادث محتاج إلى المؤثّر ، ولا مؤثّر إلا الله ، فهو فعله الصّادر عنه بلا وجوب منه ، ولا عليه ، وهو دائم أو أكثرىّ فيكون عاديّا ، هذا مذهب الأشاعرة في هذه المسألة ، وقد بيّنا فيما سبق ، أنّ المراد من العادة ما ذا؟ فالخصم إمّا أن يقول : إنّ استلزام النّظر الصحيح

__________________

(١) قد مرت ترجمته على سبيل الاختصار. فليراجع ومن رام الوقوف على مقالاته في الأصول الاعتقادية فليراجع كتابه المسمى بالابانة فانه يجد ضالته المنشودة فيه.

١٤٨

للعلم واجب وتخلّفه عنه محال عقلا فهذا باطل ، لإمكان عدم التّفطن للنّتيجة مع حصول جميع الشّرائط عقلا ، فلا يكون التخلّف محالا عقلا ، وإن أراد الوجوب عادة بمعنى استحالة التخلّف عادة وإن جاز عقلا ، فهذا عين مذهب الأشاعرة كما بينّا وأما قوله : إنّ الأشاعرة جعلوا حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيّا ، فافتراء محض ، لأنّ من قال : بالاستلزام عادة على حسب ما ذكرناه من مراده ، لم يكن قائلا بكونه اتّفاقيا ، كما صوّره هو في الأمثلة على شاكلة طاماته وترهاته وكانّه لم يفرّق بين اللّزوم العادي وكون الشّيء اتّفاقيّا (١) أو يفرّق ولكن يتعامى ليتيسّر له التشنيع والتنفير والله أعلم «انتهى».

أقول : فيه نظر ظاهر ، أما أولا فلأنّ ما فرّعه على كونه تعالى قادرا مختارا من عدم وجوب صدور شيء ، ولا وجوب شيء عليه مردود ، بأنّه لا يلزم من كون الشيء قادرا مختارا أن لا يجب عليه شيء كما قالوا : إنّ الوجوب بالاختيار عين الإختيار ، فانّهم قالوا : إنّه يجب صدور الأشياء عن الله تعالى على مقتضى علمه ويمتنع عدم صدورها مع أنّه لا ينافي الإختيار ، واما ثانيا فلأنّ ما ذكره : من أنّ الخصم إمّا أن يقول : كذا ، وإمّا أن يريد : كذا ، مدفوع بأن الخصم لا يقول ولا يريد شيئا من ذلك ، بل يدّعى البداهة هنا لك مع تجشّم الأشعري تلفيق ألف ترديد وتشكيك مثل ذلك ، ويقول : إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ تخلّف النّتيجة عن النّظر الصّحيح المستجمع للشّرائط محال عقلا ، والمنكر مكابر لا يستحقّ الجواب ، وقد سبق ما يوضح هذا في أوائل الكتاب ، واما ثالثا فلأنّ ما ذكره من أنّ نسبة الأشاعرة إلى جعلهم حصول العلم عقيب المقدّمتين اتّفاقيّا افتراء محض

__________________

(١) لا يخفى على من نظر الى كلام مولانا العلامة ظهر له ان مراده «قده» من الاتفاق عدم الترتب القهرى لا الاتفاقية المقابلة للزوم العادي كما لا يخفى.

١٤٩

غلط محض ، (١) وما ذكره في بيان ذلك تلبيس بحت (٢) فإنّ القضيّة الاتّفاقيّة في مقابلة اللّزومية التي حكم فيها بلزوم أحد الطرفين للآخر لعلاقة بينهما من العلاقات المقرّرة في محلّه ، واللّزوم العادي ليس من العلاقات المعتبرة في القضيّة اللّزوميّة المقتضية لعدم التّخلّف عقلا ، بل قد اعترف هذا النّاصب هاهنا في بيان مذهب شيخه : بأنه لا علاقة بوجه بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة ، فتكون مصاحبة أمرين عادة مساوقة لوقوعهما اتّفاقا ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره ، بل إطلاق اللّزوم على ذلك مجاز من قبيل إطلاقه على اللّزوم العرفي الذي اعتبره أهل العربيّة في الدّلالة الالتزاميّة ، ومن القضايا الاتّفاقيّة أن هذا النّاصب حاول ببيان الفرق رفع التّشنيع عن أصحابه ، فانعكست القضيّة ، بل زيدت نغمة في طنبور (٣) البليّة زادهم الله مرضا ، وجعلهم لسهام البلايا غرضا (٤) بحق النّبيّ الأمين وعترته المعصومين.

قال المصنّف رفع الله درجته

المبحث الثاني في أنّ النّظر واجب بالعقل ، ألحق أنّ مدرك وجوب النّظر عقليّ لا سمعيّ وإن كان السّمع (٥) قد دلّ عليه أيضا بقوله تعالى ، (قُلِ انْظُرُوا) ، (٦)

__________________

(١) خبر قوله فلان.

(٢) البحت : الخالص.

(٣) الطنبور : بضم الطاء المهملة وسكون النون من آلات اللهو.

(٤) الغرض : الهدف.

(٥) لكنه إرشادي بالمعنى المصطلح بين المتأخرين لا الارشادى بالمعنى الذي افاده شيخ الطائفة في العدة فراجع.

(٦) يونس. الآية : ١١٠.

١٥٠

وقال الأشاعرة : قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء ، وظهور المعاندين عليهم وهم معذورون في تكذيبهم ، مع أنّ الله تعالى قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) ، فقالوا : إنّه واجب بالسّمع لا بالعقل وليس يجب بالعقل شيء البتّة ، فيلزمهم إفحام الأنبياء واندحاض (٢) حجّتهم لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جاء إلى المكلّف فأمر بتصديقه واتّباعه لم يجب ذلك عليه إلا بعد العلم بصدقه ، إذ بمجرّد الدّعوى لا يثبت صدقه ، ولا بمجرّد ظهور المعجزة على يده ما لم تنضمّ إليه مقدّمات ، منها أنّ هذه المعجزة من عند الله تعالى فعله لغرض التّصديق ، ومنها أنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النّظريّة لم يكن ضروريّا بل يكون نظريّا ، فللمكلّف أن يقول : لا أعرف صدقك إلا بالنّظر والنّظر لا أفعله إلا إذا وجب على وعرفت وجوبه ، ولا أعرف وجوبه إلا بقولك ، وقولك ليس بحجّة قبل العلم بصدقك ، فتنقطع حجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يبقى له جواب يخلص به ، فتنتفى فائدة بعثة الرّسل حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ويكون المخالف لهم معذورا ، وهذا هو عين الإلحاد والكفر نعوذ بالله منه ، فلينظر العاقل المنصف من نفسه هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبه إلى الكفر؟ وإنّما قلنا : بوجوب النّظر لأنّه دافع للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضّرورة «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : اعلم أنّ النّظر في معرفة الله تعالى واجب بالإجماع ، والإختلاف في طريق ثبوته ، فعند الأشاعرة طريق ثبوته السّمع ، لقوله تعالى : (فَانْظُروا) ، ولأنّ معرفة الله واجبة إجماعا ، وهي لا تتم إلا بالنّظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق

__________________

(١) النساء. الآية : ١٦٥.

(٢) الاندحاض : البطلان.

١٥١

إلا به فهو واجب ، ومدرك هذا الوجوب هو السّمع كما سنحقّق بعد هذا ، وأما المعتزلة ومن تبعهم من الإماميّة فهم أيضا يقولون : بوجوب النّظر ، لكن يجعلون مدركه العقل لا السّمع ، ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النّظر إلا بالشّرع لزم إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة ، كما ذكره من الدّليل ، والجواب من وجهين : الاول النّقض ، وهو أنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء مشترك بين الوجوب الشّرعي الذي هو مذهبنا ، والوجوب العقلي الذي هو مذهبكم ، فما هو جوابكم فهو جوابنا ، وإنّما كان مشتركا إذ لو وجب النّظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريّا ، بل بالنّظر فيه والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أنّ المعرفة واجبة وأنّها لا تتمّ إلا بالنّظر ، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ، فيقول المكلّف حينئذ : لا أنظر أصلا ما لم يجب ولا يجب ما لم أنظر ، فيتوقّف كلّ واحد من وجود النظر مطلقا ووجوبه على الآخر لا يقال انه يمكن أن يكون وجوب النّظر فطرىّ القياس ، فيضع النّبي للمكلّف مقدّمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلّف ، ويفيده العلم بذلك ، يعنى بوجوب النّظر ضرورة ، فيكون الحكم بوجوب النّظر ضروريّا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه ، (١) لأنا نقول : كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدّقيقة الأنظار باطل وعلى تقدير صحّته بأن يكون هناك دليل آخر فللمكلّف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد به تنبيهه ولا يأثم بترك النّظر أو الاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب الشّيء أصلا ، فلا يمكن الدّعوة وإثبات النّبوة ، وهو المراد بالإفحام ،

والجواب الثاني الحل : وهو أن يقال : النبيّ له أن يقول إذا قال المكلّف :

__________________

(١) ولا منافاة بين كون الشيء بديهيا ومحتاجا الى التنبيه لكثرة المشاغل والشواغل في نشاة الناسوت بحيث قد يكون الإنسان ذاهلا عن ما يعشقه ويتعلق به كما لا يخفى.

١٥٢

لا أعرف صدقك إلا بالنّظر ، والنّظر لا أفعله إلا إذا وجب علىّ وعرفت وجوبه ، إنّ الوجوب عليك محقّق بالشّرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب ، فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به ، قلنا : لا يتوقّف ، إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدّور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب ، (١) فان قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر ، قلنا : ما ذا تريد من الوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟ فان قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا ، قلنا : فقد أثبت الشّرع حيث قلت بالثّواب ، وإلا فبطل قولك : ووجوبه لا أعرف إلا بقولك ، فاندفع الإفحام وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب قبيحا لا يستحسنه العقلا ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل ، قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النّظر في معرفة خالقه مع بثّ النّعم قبيح وفيه مفسدة ، فبطل قوله : لم أنظر ما لم أعرف الوجوب واندفع الإفحام ، لا يقال : هذا الوجه الثّاني هو عين القول : بالحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم ، لأنا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح الذين وقع فيهما المنازعة أصلا ، لأنّ الحسن والقبح بمعنى تعلّق المدح (٢) والثواب والذّم و

__________________

(١) وهذا غير متوجه بناء على الالتزام بالمراتب في الحكم وجعل العلم بمرتبة شرطا لتحقق مرتبة أخرى منه كما لا يخفى والمراتب هي الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز اما لو نوقش في تعدد المراتب له كما ذهب اليه بعض اهل العصر نظرا الى ان مرتبة الاقتضاء ليست من الحكم إذ هي الداعية والداعي الى الشيء خارج عنه وان المراتب في الخارجيات والاحكام من سنخ الاعتباريات فلا مسرح للاعتراض المذكور.

(٢) وسيأتي ان الحسن والقبح بمعنى تعلق الثواب والعقاب مما اخترعه الناصب تبعا لبعض مشايخه الأشعريين وليس منه في كلمات من سبقه عين ولا اثر.

١٥٣

العقاب هو محلّ النّزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ وعند المعتزلة عقليّ ، وأما الحسن والقبح بمعنى ملائمة الغرض ومنافرته وترتب المصلحة والمفسدة عليهما فهما عقليّان بالاتّفاق ، وهذا من ذلك الباب ، وسنبيّن لك حقيقة هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن شاء الله. ثم اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام عن الأنبياء مسلكا لم يسلكه قبلنا أحد من السّلف ، وأكثر ما اطلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الإفحام كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم والله أعلم إذا عرفت هذا علمت أنّ الإفحام مندفع على تقدير القول : بالوجوب الشّرعيّ في هذا المبحث ، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟ ، ثمّ من غرائب طامّات هذا الرّجل أنّه أورد شبهة على كلام الأشاعرة ، وهي مندفعة بأدنى تأمّل ، ثم رتّب عليه التّكفير والتّفسيق ، وهذا غاية الجهل والتّعصب ، وهو رجل يريد ترويج طامّاته ليعتقده القلندريّة (١)

__________________

(١) القلندرية ، نسبة الى قلندر ، على وزن سمندر وسلندر ، يقال لجماعة من الدراويش الصوفية : قلندرية وهم الذين ، نشروا الشعور ، وأطالوا اللحى ، وفتلوا الشوارب ، وتركوا الأظافر بحالها ولم يقصوها ، ومشوا حفاة ، وشدوا حجر القناعة على بطونهم والمخلاة على أوساطهم ، وأخذوا الكشكول بأيديهم ، والطبرزين على عواتقهم والسبحة ذات الالف خرزة على أعناقهم ، وجلود السباع على أكتافهم ، وجعلوا الاستعطاء والسؤال وسيلة معاشهم ، وأراحوا نفوسهم من التكاليف العبادية ، واكثر مقالتهم لا مؤثر في الوجود الا هو هر چه هست از او است ، وحده لا الا هو است.

هو هو هو يا هو يا من هو ، لا موجود الا هو كل ما في الكون وهم او خيال او عكوس في مرايا او ظلال وهم الذين اعتقدوا بان كل ملة ومذهب وطريقة حق من جهة انها الطرق الى الله تعالى.

وهم الذين ذهبوا الى أنه لا شر ولا خير ولا سوء في النشأة الناسوتية بل الكل خير وهم الذين اعتادوا الأفيون ، والبنج ، والحشيش ، واقتناء الحياة ، والأفاعي ، والثعابين ،

١٥٤

والأوباش (١) ورعاع (٢) الجهلة من الرّفضة والمبتدعة «انتهى كلامه».

أقول : فيه نظر ، أمّا أوّلا فلأنّ ما ذكره في دفع الإيراد عن النقّض مردود ، بأنّ للعدليّ (٣) أن يقول : نحن نعلم بالبديهة أنّ النّظر يزيل الخوف مع قطع النّظر عن تلك المقدّمات ، ودفع الخوف واجب ، فينتقل الذّهن بهما إلى وجوب النّظر ويحصل العلم من غير تعب ومشقّة وملاحظة مقدّمات خارجة عنهما فإنّا نعلم أنّه إذا جاء رجل موصوف بالصّفات الكاملة ، فقال أنا نبىّ الله وعندي خوارق شاهدة على دعواي ، فمن له عقل وفهم يحصل له خوف ، ودفع الخوف

__________________

وهم الذين أطعموا (الديك جوش) وهو اللحم المطبوخ بطريق مخصوص ، وآداب وسنن ابتدعوها في طبخه وتقسيمه بين الفقراء على مصطلحهم.

وهم الذين دققوا النظر والأبصار في المرد الحسان الوجوه فمنهم من يقول : انى ناظر الى صنع الصانع القادر كيف خلق من ماء دافق وجها الطف من الورد وعينا سحارة وثغرا كالدر وغيرها من التشبيهات ثم يقول سبحان ما أبدعه في صنعه ومنهم من يعتذر في تلك النظرة المسمومة التي هي سهم من سهام إبليس ويقول : انى انظر الى مجلى الحبيب كيف تجلى تعالى شأنه في هذه المراة ويقول المجاز قنطرة الحقيقة عصمنا الله وإياكم من الزلل ، وجعلنا من المتمسكين بأذيال آل الرسول (ص) ، الذين من تمسك بهم فقد نجى ، آمين آمين.

(١) الأوباش جمع وبش بمعنى سفلة الناس ، واخلاطهم ، ويقال للكلام الردى وبش الكلام ، ويقال ما بهذه الأرض ألا أوباش من شجر او نبات ، وهو مأخوذ من رقط الجرب يتفشى في جلد البعير والنمنم الأبيض يكون على الظفر.

(٢) الرعاع. السفلة من الناس.

(٣) العدلية تطلق على الامامية والمعتزلة والزيدية والكيسانية والظاهرية وكل من يثبت صفة العدل له تعالى من طوائف المسلمين.

١٥٥

واجب (١) بالضّرورة كما ذكره المصنّف ، وأيضا ما ذكره من أنّه على تقدير صحّة كونه فطريّ القياس للمكلّف أن لا يستمع إليه ، غير مسموع ، إذ ليس له أن لا يستمع إليه إذا كان وجوبه عقليّا ، فإنّ إلزام العقل له حينئذ لا يقتضي الاستماع عن النّبي بل عن العقل ، وليس له أن لا يستمع من العقل ، لوجود مقدّمات عقليّة فطريّة مثبتة له أنّه يجب سماعه قفاء (٢) عليه ، والحاصل أنّه إذا كان شرعيّا فكلّ الواجبات بعد ثبوت الشّرع ، فللمكلّف أن يقول للنّبى ثبّت العرش ثمّ انقش (٣) ، وإذا كان عقليّا فالكلّ بعد العقل وهو ثابت له ، فهو ينقش النّقوش قفاء عليه ، وما له محيص عنه وعن حكمه ، وله محيص قبل ثبوت الشّرع عن الشرع وأحكامه ، فلا يكون الإلزام مشتركا ، على أنّه يمكن أن يقال في دفع النّقض عن أهل العدل بناء على أصلهم وهو وجوب اللّطف على الله تعالى : إنّه يجب عليه تعالى إراءتهم المعجزة فلا يلزم الإفحام ، وأيضا يمكن تقرير الدّليل على وجه لا يتوجّه إليه النّقض ، بأن يقال : لو كان الحسن والقبح عقليّين أمكن أن يتحقّق الإلزام في بعض من الأوقات بالنّسبة إلى من حصّل تلك المقدّمات ، وعرف بها عقلا أنّ النّظر في المعجزة واجب سواء كانت تلك المقدّمات ظاهرة أو خفيّة ، أو بالنّسبة إلى من يلقى النّبي إليه تلك المقدّمات الموصلة إلى وجوب النّظر ، وبواسطة تلك المقدّمات حصل له العلم بوجوب النّظر ، وأما لو كانا شرعيّين فلا يمكن أن يتحقّق الإلزام ، لأنّه لا وسيلة حينئذ إلى معرفة

__________________

(١) ويمكن أن ينبه عليه بأن السالك في الآجام قد احتمل عقله وجود السباع فيها إذا قال له رفيقه الماشي في أثره : إياك والأسد من يمينك ، فلم يلتفت الى يمينه دفعا للضرر الى أن افترسه الأسد نسبه الناس الى الحماقة والتقصير كما لا يخفى. منه «قده».

(٢) قفى على أثره قفاء اى تبع أثره.

(٣) مثل معروف يضرب به في من يثبت شيئا تحققه مبتن على آخر قبل ثبوت المبتنى ثم العرش خشبة السقف او هو نفسه.

١٥٦

وجوب النّظر إلا قول النّبي وإخباره الموقوف قبوله على معرفة صدقه الموقوفة على معرفة وجوب النّظر الموقوفة (١) على قوله ، والحاصل أنّهما لو كانا شرعيّين لزم عدم صحّة إلزام النّبي للمكلّف بالنّظر في بعض من الأوقات ، وكفى به محذورا ، وأما ثانيا فلأن ما ذكره في مقام الحلّ من كفاية تحقّق الوجوب في الشّرع في نفس الأمر إن أراد بنفس الأمر فيه مقتضى الضّرورة والبرهان ونحوه ممّا فسّروه به فهو راجع إلى الحسن والقبح العقليّين ، وإن أراد به ما في العقل الفعّال ونحوه من المعاني فيتوجّه عليه : أنّ نفس الأمر بهذا المعنى ممّا لا يطلع عليه إلا المعصومون فثبوت الوجوب في نفس الأمر لا يدفع الإفحام ، وإنّما يدفع بإثبات الوجوب على المكلّفين ، والحاصل أنّه لا نزاع لأحد في أنّ تحقّق الوجوب بحسب نفس الأمر بهذا المعنى لا يتوقّف (٢) على العلم بالوجوب ، وإنّما النّزاع في أنّ وجوب الامتثال لقول النبي حين أمر المكلّف بالنّظر في المعجزة إنّما يثبت إذا ثبت حجيّة قوله ، وهي لا تثبت عقلا على ذلك التقدير ، فيكون بالسّمع ، فمتى لم يثبت السّمع لم يثبت ذلك الوجوب ، والسّمع إنّما يثبت بالنّظر ، فله أن لا ينظر ولم يأثم ، لأنّه لم يترك ما هو الواجب عليه بعلمه ، كما إذا وجب علينا حكم ولم يظهر عندنا وجوبه فلم نأت به لم نأثم ، فيلزم الإفحام بخلاف ما إذا ثبت الوجوب العقليّ ، فانّه إذا قال : انظر ليظهر لك صدق مقالتي ليس له تركه لوجوبه عقلا لثبوت الحسن

__________________

(١) وقال بعض القدماء رب متنبى وليس بنبي (كمانى النقاش) و (منصور الحلاج) و (زرادشت) و (مسيلمة) وغيرهم. فلو كان صرف الدعوى مسوغا للقبول لكان متبعو هؤلاء المذكورين معذورين في اتباعهم.

(٢) وهذا مما لا غبار عليه سيما بعد تلطيف النظر فيما حققه المتأخرون من الاصحاب من الالتزام بالمراتب الأربعة في الاحكام وهي الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز كما مر بيان ذلك والمناقشة فيه. فتدبر.

١٥٧

العقليّ الحاكم بحسن التّكليف ، ومن المكلف به ما لا يستقلّ العقل للاهتداء إلى دركه ، فيجب الرّجوع في مثله إلى المؤيّد من عند الله تعالى ، وأما ثالثا ، فلأنّ ما خصّ به في هذا المقام من إفاداته المضحكة الباطلة مردود من وجوه : أما أولا فلأنّه لا يلزم من قول المكلّف : أريد بالوجوب الذي ألزمتك إثباته على ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا إثباته للشّرع وإذعانه به ، إذ يكفى في إلزامه للنّبي سماعه تلك العبارات من أهل الشّرع قديما أو حديثا من غير إذعانه [خ ل إذعان] له بحقائقها ، واما ثانيا ، فلأنّ قوله : فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النّظر في معرفة خالقه مع بثّ النّعم قبيح وفيه مفسدة «إلخ» ، مدخول بأنّ مجرّد العلم بنحو من القبيح [خ ل القبح] لا يوجب إقدام المكلّف إلى الفعل الحسن أو امتناعه عن الفعل القبيح ، بل الدّاعي له إلى ذلك إنّما يكون كون الفعل حسنا أو قبيحا عقلا بالمعنى المتنازع فيه أى كونه مستحقّا للثّواب ، أو العقاب ، أو جديرا بالذّم من الله تعالى أو المدح منه ، فإنّ المعاني الأخر التي لا نزاع في عقليّتها لا تؤدّي بمفهومها إلى خوف المكلف من مؤاخذة في العاجل أو الآجل حتّى يوجب له الإقدام إلى الفعل أو الاحجام (١) عنه ، فإنّ كثيرا ممّن يعتقد الخير والشّر وترتّب الثّواب والعقاب من الله تعالى على الفعل ، ولا يستحلّ فعل القبيح وترك الحسن ، ربّما يخل بالواجب لتورّطه في الشّهوات ، فكيف بالمكلّف الذي نشأ في أيّام الجاهليّة ولم يعتقد بعد شيئا من ذلك؟ لظهور أنّ مجرّد تعقّله لكون الفعل متضمنا لصفة كمال أو نقص أو مشتملا على مصلحة أو مفسدة من غير توقّع خوف عاجلا أو آجلا لا يوجب له ذلك ، نعم لو كان المراد من المصلحة والمفسدة الثّواب والعقاب دون ما يعتبر من ذلك في مجاري العادات ، لحصل الخوف ، لكن إذا فسّر

__________________

(١) الاحجام عن الشيء الكف عنه.

١٥٨

المصلحة والمفسدة بذلك يرجع إلى المعنى المتنازع فيه كما لا يخفى وأما ثالثا فلأنّ قوله : قلنا هذا ليس من الحسن والقبح الذين وقع فيهما المنازعة ، مدفوع بما أشرنا إليه : من أنّ إدراك حسن شيء أو قبحه بذلك المعنى لا يوجب كونه حسنا أو قبيحا عند الله مستحقا للثّواب أو العقاب منه ، فلا يوجب للمكلّف شيئا من الفعل أو التّرك ، وإنّما الموجب له علمه بأنّه حسن أو قبيح عند الله ، ومستلزم لنيل الثّواب أو العقاب ، وبما حقّقناه وقررناه ظهر أنّ ما سلكه في دفع لزوم الإفحام إنّما هو مسلك الشّيطان ، وحقيق بأن يضحك منه الصّبيان ، وأنّ انجرار أصحابه إلى الكفر والإلحاد متوجّه ، والتّعبير عن كلام المصنّف بالطامات غير متّجه ، وإنّما الطامات ما ذكره هو : من المقدّمات السخيفة والكلمات التي هي أوهن من استحسان أبي حنيفة ، فموّه بها العذب الفرات بالملح الأجاج (١) ، وتوقّع منها دفع مالا مدفع له من الإحتجاج ، ولعمري (٢) لا يروج ذلك المزيف المردود إلا على أهل نحلته الذين هم أشدّ غباوة من كوادن (٣) اليهود وأكثر غواية من عبدة العجل وقوم عاد وثمود.

قال المصنّف رفع الله درجته

المبحث الثالث في أنّ معرفة الله تعالى واجبة بالعقل ، الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان السّمع قد دلّ عليه ، لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٤) ، لأنّ شكر النّعمة واجب

__________________

(١) مقتبس من قوله تعالى في سورة الفرقان. الآية ٥٣.

(٢) العمر : بفتح العين المهملة (الحياة جمعه أعمار) والدين وفي القسم يقال : لعمري اى لديني ولعمر الله وهكذا.

(٣) الكودن البرذون الهجين ويطلق في العرف العام على الشخص البليد وجمعه كوادن.

(٤) سورة محمد. الآية ١٩.

١٥٩

بالضّرورة وآثار النّعمة علينا ظاهرة ، فيجب أن نشكر فاعلها ، وإنّما يحصل بمعرفته ، ولان معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل من الإختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضّرورة ، وقالت الأشعريّة : إن معرفة الله تعالى واجبة بالسّمع لا بالعقل ، فلزمهم ارتكاب الدّور المعلوم بالضّرورة وبطلانه ، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجب ، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات البتّة نعلم بالضّرورة أنّا لا نعرف أنّه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدّور المحال ، وأيضا لو كانت المعرفة إنّما تجب بالأمر لكان الأمر بها إمّا أن يتوجّه إلى العارف بالله تعالى ، أو إلى غير العارف ، والقسمان باطلان ، فتعليل الإيجاب بالأمر محال ، أما بطلان الأوّل فلأنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال ، واما بطلان الثاني فلأن غير العارف بالله يستحيل أن يعرف أنّ الله تعالى قد أمره وأنّ امتثال أمره واجب ، وإذا استحال أن يعرف أنّ الله قد أمره وأن امتثال أمره واجب ، استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : لا بدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النّزاع أولا ، فنقول : وجوب معرفة الله تعالى الذي اختلف فيه ، هل أنّه مستفاد من الشّرع أو العقل؟ إن أريد به الاستحسان وترتّب المصلحة فلا يبعد أن يقال : إنّه مستفاد من العقل لأنّ شكر المنعم موقوف على معرفته ، والشّكر واجب بهذا المعنى بالعقل ، ولا نزاع للأشاعرة في هذا ، وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثّواب والعقاب فلا شكّ أنّه مستفاد من الشّرع ، لأنّ العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثّواب عند الله ، والمعتزلة أيضا يوافقون أهل السّنة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان

١٦٠