إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

الذّاتية موقوفة على صفة مثلها؟ «انتهى» بل يفهم من شرح جمع الجوامع (١) للفناري الرّومي في مبحث القدرة : أنّ أكثر تلك المسائل التي تفرّد بها الأشعري قد أخذها من ألسنة القصاص والوعّاظ ، حيث قال : أمّا المستحيلات فلعدم قابليّتها للوجود لم تصلح أن تكون محلّا لتعلّق الإرادة لا لنقص في القدرة ، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم (٢). فقال في الملل والنّحل : إن الله عزوجل قادر على أن يتّخذ ولدا ، إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا ، وردّ ذلك بأن اتخاذه الولد محال لا يدخل تحت القدرة ، وعدم القدرة على الشّيء قد يكون لقصورها عنه وقد يكون لعدم قبوله لتأثيرها فيه ، لعدم إمكانه لوجوب أو امتناع ، والعجز هو الأوّل دون الثّاني. وذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني (٣) : أنّ أوّل من أخذ منه ذلك ، إدريس عليه‌السلام ، حيث جاءه إبليس في صورة إنسان وهو يخيط ويقول في كلّ دخلة (٤) وخرجة : سبحان

__________________

(١) الفنارى هو العلامة الشيخ محمد بن حمزة بن محمد الرومي الحنفي شمس الدين المتوفى سنة ٨٣٤ ، كان متقلدا منصب مشيخة الإسلام في دولة السلطان محمد خان من بلوك آل عثمان ، وله تآليف كثيرة منها عويصات الأفكار في اختبار اولى الأبصار وغيره ، ثم ان جمع الجوامع في اصول الفقه تأليف تاج الدين عبد الوهاب السبكى المتوفى سنة ٧٧١ شرحه جماعة منهم الفنارى المذكور.

(٢) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي القرطبي الظاهري النسابة المحدث الفقيه الأصولي المتكلم المتوفى سنة ٤٥٦ صاحب كتاب المحلى في الفقه والجمهرة في النسب والفصل في الأديان والاعتقادات ، وهو من نوابغ الظاهرية بل من أجلة علماء العامة وممن يرى انفتاح باب الاجتهاد وبطلان الرأى والقياس والاستحسان.

(٣) هو أبو إسحاق أحمد بن أبى طاهر الشافعي البغدادي ، أخذ عنه الخطيب البغدادي صاحب التاريخ الكبير وغيره توفى سنة ٤٠٦.

(٤) الدخلة : مرة من الدخول ، والخرجة : مرة من الخروج.

١٠١

الله والحمد لله ، فجاءه بقشرة وقال : هل الله تعالى يقدر أن يجعل الدّنيا في هذه القشرة فقال : الله قادر أن يجعل الدنيا في سمّ هذه الإبرة ونخس بالإبرة إحدى عينيه ، فصار أعور ، وهذا وإن لم يرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد اشتهر وظهر ظهورا لا ينكر قال : وقد أخذ الأشعري من جواب إدريس عليه‌السلام أجوبة في مسائل كثيرة من هذا الجنس «انتهى كلامه» وكفى بذلك شناعة وفضيحة لهم ولمذهبهم وقدوتهم في مذهبهم.

قال المصنف رفع الله درجته

البحث الثالث في وجوب الرّؤية عند حصول هذه الشّرائط. أجمع العقلاء كافة عدا الأشاعرة على ذلك للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلا لا يشكّ في حصول الرّؤية عند استجماع شرائطها وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك وارتكبوا السّفسطة فيه ، وجوّزوا أن يكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة من الأرض إلى عنان (١) السّماء محيطة بنا من جميع الجوانب ، ملاصقة لنا تملأ

__________________

(١) لعنان السماء إطلاقات في الهيئة وغيرها منها انه يطلق على أربعة عشر كوكبا ، اجتماعها على صورة رجل قائم خلف ممسك رأس الغول ، بين الثريا وبين كوكبة الدب الأكبر ، ونقل عن بطليموس ان كواكبه أربعة عشر ، وقيل أزيد ، ويؤيده كلام بعض المتأخرين من الغربيين.

قال عبد الرحمن الفلكي الشهير المتوفى سنة ٣٧٦ في كتاب الصور ص ٨٩ ان كواكبه الأربعة عشر هي هذه : الأنور الجنوبي الأنور الشمالي العيوق النير المنكبى الايمنى اى الذي على منكبه الأيمن المرفقى الايمنى اى الذي على مرفقه الأيمن الكوكب الذي في خلف مرفقه الأيمن المرفقى الايسرى اى الذي على مرفقه الأيسر المعصمى الايسرى اى الذي على معصمه الأيسر الكوكب الذي يميل الى الجنوب في وسط المجرة الكعبي الايسرى اى الكوكب الذي على كعبه الأيسر في الحافة الغربية من المجرة كوكب نير عظيم على كعبه الأيمن ايضا و

١٠٢

الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشّمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ولا نبصرها ولا شيئا منها البتّة. وكذا تكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض بحيث ينزعج منها كلّ أحد يسمعها أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة (غير مستقيمة) ولا حجاب بيننا وبينها ولا بعد البتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا ، وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محماة بالنّار حتى يقبض (ينقبض ظ) ولا يحسّ بحرارتها ، بل يرمى في تنور اذيب فيه الرّصاص أو الزّيت ، وهو لا يشاهد التّنور ولا الرّصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضائه ، وهو لا يحسّ بالألم في جسمه ، ولا شكّ أنّ هذا هو عين السفسطة. والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد

__________________

هو أعظم من الرابع المذكور الواقع على منكبه الأيمن كوكب منير واقع على اللفافة التي على ساق الرجل اليمنى الكوكب المنير المائل عن الواقع على اللفافة الى الشمال كوكب واقع تحت الرجل اليسرى.

ثم اعلم انه كثيرا ما يقال ممسك الاعنة لصورة الرجل الحاصلة من أربعة عشر كوكبا المذكورة فلا تظنن التعدد.

وليعلم ان ممسك رأس الغول الذي أشرنا اليه قريبا يسمى (برشاوش) أيضا ، والمراد منه صورة رجل قائم على رجله اليسرى وقد رفع رجله اليمنى ويده اليمنى فوق رأسه وبيده اليسرى رأس غول ، وكواكبها كلها فيما بين الثريا وبين ذات الكرسي ، وصورة الممسك حاصلة من ستة وعشرين كوكبا من الصورة وثلاثة حوالى الصورة وليست منها.

وقد يطلق عنان السماء على وسط نصف الدائرة الموهومة فوق الرأس ، إحدى طرفيها متصلة بالمشرق والأخرى بالمغرب.

وقد يطلق على وسط السماء وقد يطلق على مطلق الفوقية الى غير ذلك من الاستعمالات والإطلاقات في العرف الخاص أو العام.

١٠٣

أنكر أظهر المحسوسات «انتهى كلامه».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : مذهب الأشاعرة أنّ شرائط الرّؤية إذا تحقّقت لم تجب الرّؤية ، ومعنى نفى هذا الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرّؤية مع وجود الشّرائط وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرّؤية عند تحقق الأمور المذكورة ، ومن أنكر هذا وأحاله عقلا فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء ، فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب من الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة : أن النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار ، يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتّراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين غير نائمين ولا غافلين ، فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشّرائط بأن يمنع الله تعالى البصر بقدرته عن الرّؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله ، ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرّؤية عند استجماع الشّرائط : بأنّا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا ، وما ذلك إلا لأنّا نرى بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرّؤية عند اجتماع الشرائط. والتحقيق ما قدّمناه من أنّهم يريدون من عدم الوجوب جواز عدم الرّؤية عقلا وإمكان تعلّق القدرة به ، فأين إنكار المحسوسات؟ وأين هو من السّفسطة؟ ثم ما ذكر : من تجويز أن تكون (١)

__________________

(١) والجواب على طريق الحل أن يقال : ان أريد بقوله : وإلا جاز ، أنه لو لم تجب الرؤية عند اجتماع شرائطها لأمكن بحسب الذات أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها ، فمسلم وبطلانه ممنوع ، وان أريد أنه لو لم يجب لجاز عند العقل ذلك ولم يأب عنه فممنوع ، إذ التجويز العقلي انما يكون عند انتفاء العلم العادي بانتفائها ، وهو ممنوع ،

١٠٤

بحضرتنا جبال شاهقة مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات (١) الشّنيعة والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة التي تميل بها خواطر القلندريّة ، والعوام إلى مذهبه الباطل ورأيه الكاسد الفاسد ، فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة ، بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرّؤية في زمان وجب حصول الرّؤية ، وإلا جاز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة (٢) ونحن لا نراها ، هذا هو الاعتراض. وأجاب الأشاعرة عنه بأن هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العادية يجوز نقائضها (٣) مع جزمنا بعدم وقوعها ولا سفسطة هاهنا ، فكذا الحال في الجبال الشّاهقة التي لا نراها ، فانّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ، وذلك لأنّ الجواز (٤) لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها

__________________

بل الوجدان يقتضى تحقق هذا العلم العادي المنافى لأن يجوز العقل خلافه. من الفضل بن روزبهان في هامش بعض النسخ.

(١) تقعقع : اضطرب وتحرك وصوت عند التحرك.

(٢) والتحقيق أنه ان أزيد من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها ، الحكم بإمكانها الذاتي ، فهذا عين مذهب الاشاعرة ، وليس يظهر فيه فساد أصلا ، ولا سفسطة فيه قطعا ، وان أريد عدم اليقين بانتفائها وعدم إباء العقل من تحققها فهو ممنوع ، إذ عند الرجوع الى الوجدان نعلم تحقق العلم العادي بانتفائها ولا ينافيه الإمكان الذاتي من الفضل بن روزبهان أيضا في نسخة أخرى.

(٣) قوله : يجوز نقائضها ، اى يحكم بإمكانها الذاتي ، لا أن العقل لا يأبى من تحقق نقائضها في الواقع كيف؟ والعلم العادي لا يحتمل متعلقه النقيض. وقد صرح هاهنا أيضا بجزمنا بعدم وقوعها ، وكذا الكلام في قوله : فانا نجوز وجودها ، وقد عرفت تحقيق الكلام في الحاشيتين. من الفضل بن روزبهان.

(٤) أى الإمكان الذاتي لا التجويز العقلي ، لظهور أن الاول لا ينافي الجزم دون الثاني من الفضل بن روزبهان.

١٠٥

لا يكون سفسطة (١) وحاصل كلام الأشاعرة كما أشرنا إليه سابقا : أنّ الرّؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق. ثمّ ما ذكر من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها فكلّها من قعقعة الشّنآن بعد ما قدّمنا لك البيان «انتهى».

أقول : ما ذكره لإصلاح سفسطة الأشاعرة في هذه المسألة من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء سيّما ما اتّفقوا عليه من معجزة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الهجرة بمروره على الكفّار من غير أن يراه أحد منهم لا يصلح لما قصده من الإصلاح.

مصراع : وهل يصلح العطار ما أفسد الدّهر (٢) وذلك لأنّه لا يلزم أن يكون خرق العادة في المعجزة المذكورة بعدم الرّؤية مع وجود الشّرائط ، ولم لا يجوز أن يكون بإحداث حائل من غشاوة غيم أو دخان أو غبار (٣) دفعة ، كما أشار إليه الباري سبحانه في سورة البقرة بقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٤) وبقوله في سورة يس : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٥) ومعنى فأغشيناهم : جعلنا على أبصارهم غشاوة وحلنا بينهم وبينه ، كذا في أكثر

__________________

(١) أى القول بإمكانها الذاتي على ما عرفت غير مرة. من الفضل بن روزبهان.

(٢) ما قبلها :

عجوز تمنت ان تكون فتية

وقد يبس الجنبان واحد ودب الظهر

(٣) او حاجب معنوي غير محسوس كما هو المراد بقوله تعالى في كتابه العزيز : أخذ الله بسمعهم وأبصارهم الآية وكذا نحو المراد من الغشاوة المذكورة في الآية.

(٤) البقرة. الآية ٧.

(٥) يس. الآية ٩.

١٠٦

التّفاسير. وأما ما تكأكأ به (١) من بناء الأشاعرة ذلك على قاعدة جريان العادة ، وأنّ حاصل كلامهم هو أنّ الرّؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط «إلخ» فمع ما سبق من الكلام على هذه القاعدة الميشومة ، مردود : بأنّ عند تحقّق الشّرائط واجتماعها تكون العلّة التّامة للرّؤية متحقّقة ضرورة ، فلو أمكن معها عدم الرّؤية لزم إمكان تخلّف المعلول عن العلّة التّامة (٢) ، وهذا خلف. فظهر أنّ منشأ غلط الأشاعرة عدم الفرق بين ما نحن فيه من المحال (٣) العقلي والمحال العادي ، وأنّ النّاصب المقلّد جرت عادته باعادة كلامهم ، فإن التّخلّف العادي فيما نحن فيه من الرّؤية وأسبابها وشرائطها إنّما يتصوّر : بأن يعدم القادر المختار جميع أجزاء علّتها التّامّة أو بعضها ، ويوجد بدلها معلولا آخر مثلا ، كما قيل في انقلاب الحجر ذهبا ونحوه ، لا أن يوجد ذلك المعلول أعني الرّؤية بعينه بدون علّته التّامة وأما نفيهم للعلّية والمعلوليّة الحقيقيّة بين الحوادث فهو سفسطة أخرى ، أولى بالتّشنيع وأحرى فافهم. واما ما ذكره النّاصب في حاشية جرحه هذا : من أنّه إن أريد من تجويز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لم نرها ، الحكم بإمكانها الذاتي فهذا عين مذهب الأشاعرة ، وليس يظهر فيه فساد أصلا ، ولا سفسطة فيه قطعا ؛ وإن أريد عدم اليقين بانتفائها وعدم إباء العقل من تحقّقها فهو ممنوع ، إذ عند الرّجوع

__________________

(١) التكاكؤ : الاجتماع.

(٢) ان قلت : ان العلة الثابتة للحوادث عند الأشعري ، هو الواجب تعالى ، لأنه ينفى العلية والمعلولية من الحوادث مطلقا كما مر.

قلت : هذا أصل السفسطة كما مر بيانه. منه «قده».

(٣) لفظة محال من المثلثات ، فبالفتح عود ينصب على حافة البئر وتعلق به البكرة للاستقاء وبالكسر بمعنى القوة والشدة كما في قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) وبالضم مقابل الممكن والمحال من مادة الحوالة ايضا.

١٠٧

إلى الوجد ان نعلم تحقّق العلم العادي بانتفائها ، ولا ينافيه الإمكان الذّاتي «انتهى» فمردود : بأنّ المراد بالجواز هو الحكم بإمكان عدم تحقّق الرّؤية عند شرائطها التي هو نقيض ضرورة حكم العقل بأنّها واقعة عند شرائطها ، فلا يمكن أن يتحقّق مع الحكم بوجوب تحقّق الرّؤية عند شرائطها وقد قلت بخلافه [هذا خلف] والتّحقيق أنّ مبنى الدّليل وجوابه على مقدّمة اختلفت فيها الفرقتان ، وهي : أنّ المعلول عند تحقّق جميع ما يتوقف عليه بحسب العادة هل يجب تحقّقه أم لا؟ فمن قال : باستناد الأفعال إليه تعالى ، وهم الأشاعرة قال : بأنّه غير واجب (١) إلا أنّ عادته جارية بإيجاده عند تحقّق ما يتوقف عليه ، ومن قال : باستناد بعض الأفعال إلى غيره تعالى ، وهم الإماميّة والمعتزلة والحكماء ، قال : بوجوبه ، وهو الموافق للعقل ، والبديهة حاكمة به كما لا يخفى.

قال المصنّف رفع الله درجته

البحث الرابع في امتناع الإدراك عند فقد الشّرائط ، والأشاعرة خالفوا جميع العقلاء في ذلك وجوّزوا الإدراك مع فقد جميع الشرائط ، فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق أن يشاهد ويبصر النّملة الصغيرة السوداء على صخرة سوداء في طرف المغرب في اللّيل المظلم ، وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ، وبينهما

__________________

(١) ومما تضحك منها الثكلى ويبكى العريس ويتبسم الطير المشوى ، ما ذكره الامام الرازي في كتاب المحصل : انه يمكن تحقق العلة بأجزائها بالأسر وان لا يتحقق المعلول ، وذلك بارادة منه تعالى ، وعبر عنه «بالصرف» وعن وجود المعلول بعد العلة : «بالصدفة» وصرح بهذا في كتاب الأربعين قائلا : ان تحقق المعاليل بعد تحقق العلل من باب الصدفة الغالبة.

١٠٨

حجب جميع الجبال والحيطان ، ويسمع الأطروش (١) وهو في طرف المشرق ، أخفى صوت يسمع ، وهو في طرف المغرب ، وكفى من اعتقد ذلك نقصا ومكابرة للضّرورة ودخولا في السفسطة. هذا اعتقادهم ، وكيف يجوز لعاقل ، أن يقلّد من كان هذا اعتقاده؟! وما أعجب حالهم يمنعون من مشاهدة أعظم الأجسام قدرا وأشدّها لونا وإشراقا وأقربها إلينا مع ارتفاع الموانع وحصول الشّرائط ومن سماع الأصوات الهائلة القريبة ، ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشّديدة وبينهما غاية البعد ، وكذا في السّماع ، فهل بلغ أحد من السّوفسطائيّة في إنكارهم المحسوسات إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النّهاية؟! مع أن جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان حال خروجه أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم حال الغيبة ، وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السّفسطة من أولئك ، فلينظر العاقل المنصف المقلّد ، هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم أم لا؟! فإن جوّز ذلك لنفسه بعد تعقّل ذلك وتحصيله ، فقد خلص المقلّد من إثمه وباء (٢) هو بالإثم ، نعوذ بالله من مزال الأقدام وقال بعض الفضلاء ونعم ما قال : كلّ عاقل جرّب الأمور فإنّه لا يشكّ في إدراك السّليم حرارة النّار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضائه ، ومحال

__________________

(١) الأطروش : الأصم ، وقد يطلق على السميع ، فاللفظ من الاضداد ، والمراد هاهنا المعنى الاول.

(٢) وقال في النهاية : أبوء بنعمتك أى ألتزم وأرجع وأقر ، وأصل البواء اللزوم ، ومنه الحديث فقد باء به أحدهما أى التزمه ورجع به ، والعرب يقول : باء بذنبه إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه ، ومنه قوله عليه‌السلام في الدعاء المروي : وأبوء إليك من ذنبي.

١٠٩

أن يكون أهل بغداد على كثرتهم وصحّة حواسّهم ، يجوز عليهم جيش عظيم ويقتلون وتضرب فيهم البوقات (١) الكثيرة ويرتفع الرّيح وتشتدّ الأصوات ولا يشاهد ذلك أحد منهم ولا يسمعه ، ومحال أن يرفع أهل الأرض بأجمعهم أبصارهم إلى السّماء ولا يشاهدونها ، ومحال أن يكون في السّماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشّمس ولا يشاهدونها ، ومحال أن يكون لإنسان واحد مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرّأس الذي يشاهدونها ، ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة بمحضر ألف نفس كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله : بأنّ زيدا ما قام ويكون قد أخبر بالنّفى ، ولم يسمع الحاضرون حرف النّفى مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله ، بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّا حال [خ ل حين] خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني التي فيها ، أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة ، وأن ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن ، وأنّه لم يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثم انعدم عند فتحها ، مع أنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه ، وهو في نفسه ممكن ، وأنّ المولود الرّضيع الذي يولد في الحال إنما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة مع إمكانه في نفسه ، وبالنّظر إلى قدرة الله تعالى ، وقد نسبت السّوفسطائية إلى الغلط وكذبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشعرية التي تقتضي زوال الثّقة عن المشاهدات؟! ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم وأفضل متأخريهم فخر الدين الرازي (٢) في هذا الموضع حيث قال : يجوز أن يخلق الله

__________________

(١) جمع البوق وهي آلة ينفخ فيها.

(٢) هو العلامة فخر الدين محمد بن عمر الرازي الشافعي المشتهر بالإمام المتوفى سنة ٦٠٦ صاحب التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب وعدة كتب ، وما نقله مولانا القاضي

١١٠

تعالى في الحديدة المحماة بالنّار برودة عند خروجها من النّار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة واللّون الذي فيها ، والضّوء المشاهد فيها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد ، وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النّزاع ، لأن المتنازع فيه : أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة يلمسه الإنسان الصحيح البنية السّليم الحواسّ حال شدّة حرارته ولا يحسّ بتلك الحرارة فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟ «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل بعد وضع القعقعة (١) انّ الأشاعرة لا ينبرون وجود الشّرائط وعدمها في تحقّق الرّؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الإعتبار دخلوا في السّوفسطائية ، ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرّؤية لتعرف أنّ هذا الرّجل مع فضيلته ، (٢) قد أخذ سبل (٣) التّعصب عين

__________________

الشهيد هاهنا مذكور في كتاب محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء وهذا الرجل من النوابغ في الفنون ، وله يد طولى وباع غير قصير في إبداع الشكوك بالنسبة الى مسائل العلوم ، ومن ثم اشتهر بإمام المشككين ، وبالجملة الرجل من فطاحل العلم وفرسانه ، وفضله لا ينكر وان كانت له زلات في الأصول والفروع كتجويزه الرؤية والجبر في أفعال العباد وانسداد باب الاجتهاد وغيرها من المناكير عند المحققين ، ولا غرو أن يزل قدمه مع مقامه الشامخ حتى وصف بالإمام ، وذلك لبعده وحرمانه عن كلمات الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، المنتهية علومهم الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المتخذ من عالم الجبروت.

(١) القعقعة : صوت السلاح.

(٢) انظر كيف يعترف بفضيلة المصنف؟ وقد نفاها سابقا من شدة التعصب والعناد ، والفضل ما شهدت به الأعداء.

(٣) السبل : بفتح الاول والثاني غشاوة تعرض للعين ، أو عرق أحمر يحدث في سطح العين.

١١١

بصيرته ، فنقول : ذهب السّوفسطائية إلى نفى حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إن حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنّار ليست بالنّار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن يكون حقيقة الماء حقيقة النّار وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ، فيلزمهم أن تكون النّار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء ، أو غير ذلك ، وهذا هو السفسطة ، وينجرّ هذا إلى ارتفاع الثّقة من المحسوسات وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء وأما حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرّؤية وغيرها ممّا ذكره هذا الرّجل ، فهو أنّ الأشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة الفاعل المختار وقدرته التي هي العلّة التّامة لوجود الأشياء فإذا كانت القدرة هي العلّة التّامة فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود عند فقدان الأسباب والشرائط ، ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات : أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها (١) وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب ، فالشّيء الذي له شرائط في الوجود يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط وانتفائه عند انتفائها بحسب ما جرى من العادة ، وإن كان ذلك الشيء بالنسبة إلى القدرة غير واجب ، لا في صورة التحقّق لتحقّق الشرائط ولا في الانتفاء لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشّرائط وتخلف ذلك الشيء وكذا تحقّق ذلك الشيء مع انتفاء الشرائط إذ لم يلزم منه محال عقليّ ، وذلك بالنّسبة إلى قدرة المبدأ الذي هو الفاعل المختار مثلا الرّؤية التي نحن نباحث فيها لها شرائط وجب تحقّقها عند تحقّقها وامتنع وقوعها عند فقدان الشّرائط ، كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق

__________________

(١) ليس المراد بالشرط هنا ، هو المعنى الذي اصطلح عليه الفلاسفة ، بل المراد ما يقال له الشرط في العرف بحسب ما يشاهد من المصاحبة الدائمة او الاكثرية بينه وبين ما يعتبر أنه المشروط كالنار للإحراق ، والاكل للشبع. من الفضل بن روزبهان.

١١٢

بعض الموجودات بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة دون انتفائها ، فعدم تحقّق الرّؤية عند وجود الشرائط أو تحقّقها عند فقدان الشرائط محال عادة ، لأنّه جار على خلاف عادة الله وإن كان جائزا عقلا ، إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته ، علّة تامّة لوجود الأشياء ، هذا حاصل مذهب الأشاعرة ، فيا معشر الأذكياء أين هذا من السّفسطة؟! وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرّجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتّشنيعات. وأما جواب الإمام الرّازي : فهو واقع بإزاء الاستبعاد فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنّور يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا ، فذكر الإمام (١) وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ، فيكون جوابه صحيحا والله أعلم بالصّواب ، وأما قوله (إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة يلمسه الإنسان الصّحيح البنية السّليم الحواسّ حال شدّة حرارته ولا يحسّ بتلك الحرارة فإنّ أصحابه يجوزون ذلك) فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التّجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ولكن لا يلزم منه محال عقليّ (٢) كاجتماع الوجود والعدم ، فيجوز أنّ تتعلّق به القدرة الشّاملة الإلهيّة ، وتمنع

__________________

(١) حاصل الكلام ، أن جواب الامام الرازي ليس في موقع تصحيح ما ذهب اليه الاشاعرة ، من أنه يمكن بحسب الذات تحقق الأسباب الطبيعية مع انتفاء المسببات وان كان ذلك محالا عادة ، بل هو واقع بإزاء الاستبعاد ، والله أعلم. من الفضل بن روزبهان.

(٢) فان قيل : لا يلزم من انكار هذا انكار الآية ، لجواز أن تكون واقعة ابراهيم عليه‌السلام على طريقة أن الله تعالى سلب الحرارة من النار. قلت : الظاهر من لفظ على في قوله تعالى : (بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، أن النار مع اتصافها بالحرارة كانت لم تؤثر في ابراهيم ، لا أنها صارت باردة والا كان الأنسب الاكتفاء بالبرد فقط ، وهذا مما يعرفه الذوق الصحيح. من الفضل بن روزبهان.

١١٣

الحرارة من التّأثير ، ومن أنكر هذا فلينكر (١) كون النّار (بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) «انتهى كلامه»

أقول : وحاصل ما ذكره في جلّ (٢) هذا الفصل يرجع إلى التّشكيك في البديهي أو جعل النّزاع لفظيا كما حقّقناه سابقا ، ولنفصّل الكلام في تزييف ما نسجه من المقدّمات لئلا يظنّ بنا ظانّ أنّ اكتفاءنا بالإجمال للعجز عن إيضاح المقال ، فنقول أولا : لا نسلّم أنّ جميع السوفسطائيّة ذهبوا إلى نفى حقائق الأشياء فإنّ أفضل السّوفسطائية وهم اللاأدريّة (٣) على ما في المواقف ، قائلون : بالتوقّف في بطلان الحسّيّات لا بنفي حقائق الموجودات ، وهم اللّذون نسبوا إليهم جواز انقلاب الأواني في الدّار أناسا فضلاء ، وشبّهوا مقالة الأشاعرة بمقالتهم ، فما ذكره في بيان الفرق من أنّ السّوفسطائية ذهبوا إلى نفى حقائق الأشياء ليس على إطلاقه نعم ذلك النّفى منسوب إلى طائفة أخرى منهم يسمّون بالعناديّة ، (٤) ولا يلزم من

__________________

(١) وأنت خبير لو جوز تخلف الآثار عن مؤثراتها لم يبق حجر على حجر ولا محال عقلي ؛ والالتزام بذلك مما لا يلتزم به.

(٢) جل كل شيء بالضم : معظمه.

(٣) هم قوم ينكرون العلم بثبوت شيء وبلا ثبوته ويزعمون أنه شاك ، وشاك في انه شاك وهلم جرا ، هكذا أفاد الجرجاني في رسالة الحدود انتهى. وسيأتي منا أن اللاادرية فرقة من السوفسطائية في مقابل العنادية بالمعنى الأخص المذكور في الكلام وعلم آداب البحث والمناظرة. ثم قد عد من رؤساء اللاأدرية حارث البلخي حتى ينقل عنه أنه قال حين موته : ما تيقنت بشيء ولا شككت فيه ، وألزمه بعض الحاضرين بجزمه بعدم يقينه وعدم شكه اللذين هما من الكيفيات النفسانية.

(٤) العنادية لها إطلاقات في علوم الكلام والميزان والمناظرة.

ففي المنطق ، هي قضية يكون التنافي فيها لذاتي الجزئين مع قطع النظر عن الواقع ،

١١٤

عدم مناسبة قول الأشاعرة ، لقول الفرقة الثّانية ، عدم مناسبته ومشابهته للسّفسطة مطلقا ، وبالجملة ما تكلّفه في بيان الفرق بين مذهبي السّوفسطائية والأشاعرة لا يدفع اشتراكهما في أصل السّفسطة ، لأن السّوفسطائية على ما قرّره ينفون كون أصل الحقائق من الأسباب والمسبّباب موجودة ، والأشاعرة ينفون كون سببيّة تلك الأسباب ومسببيّة مسبّباتها موجودة ، فكلا النّفيين نفى للموجود مخالف (١) لبديهة العقل كما لا يخفى ، ثم لا يخفى ما ذكره في تقرير كلام السّوفسطائية (من تجويزهم أن تكون حقيقة الماء حقيقة النّار إلخ) لأنّ هذا التّجويز فرع القول بثبوت الحقيقة ، والمفروض أنّهم ينفون حقائق الأشياء تأمل (٢) [وايضا] ذكر في شرح المواقف : أنّه ليس يمكن أن يكون في العالم قوم عقلاء ينحلون ما نسب إلى جماعة سمّوهم بالسّوفسطائية ، بل كلّ غالط سوفسطائي (٣) في موضع غلطه «انتهى ،» فلم لا يحمل كلام المصنّف العلامة في قوله : وهل بلغ أحد من

__________________

كما بين الفرد والزوج ، والحجر والشجر.

وفي الكلام يطلق على فرقة من السوفسطائية وهم الذون أذعنوا بحقيقة الشيء البديهي قلبا وأنكروها ظاهرا في مقام العناد واللجاج.

وفي علم المناظرة وآداب البحث ، تطلق تارة ويراد منها المعنى المذكور ، وأخرى المعنى الأعم أى يطلق على كل معاند ولجوج في الأمور ، سواء كان المورد من الأمور الضرورية او النظرية والخصم شاكا او متيقنا ، وأنت إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك دريت أن اللاأدرية تقابل المعنى الكلامى وأحد معنيي المناظرة فلا تغفل.

(١) صفة للنفي المرفوع ، لا للموجود المجرور.

(٢) التأمل تدقيقى ، أو إشارة الى أنه على سبيل الفرض ، وان كان على خلاف مبنى أهل السفسطة.

(٣) وبعبارة أخرى : كل منكر للضرورة سوفسطائى.

١١٥

السّوفسطائية «إلخ» على هذا المعنى؟ حتّى لا يقع في الغلط. (وثانيا) إنّما ذكره في بيان حاصل كلام الأشاعرة من أنّ الأشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة الفاعل المختار وقدرته التي هي العلّة التّامّة لوجود الأشياء «إلخ» مدخول بأنّه كلام متناقض لأن حصره للعلّة التّامّة في القدرة آخرا مناف لقوله : إنّما يحصل ويوجد بإرادة الفاعل المختار ، بل ربّما يشعر بعدم مدخلية ذات الفاعل في ذلك ، وفيه ما فيه ، مع أنّ في كون الباري تعالى وقدرته القديمة علّة تامّة للحوادث كلام مذكور في علمي الحكمة والكلام ، وحاصله أنّه لو كان الواجب تعالى وقدرته القديمة علّة تامّة للحوادث لزم قدم الحادث أو حدوث الواجب تعالى ، واستوضح ذلك في الكتب المتداولة بما لا مزيد عليه ، فليطالع ثمة ، وباقي المقدّمات من تجويز الأمور المخالفة لبديهة العقل والحسّ إعادة لما ذكره في شرحه للمباحث السّابقة ، وقد ذكرنا ما فيه ثمّة فتذكر. (وثالثا) أنّ ما ذكره في تأويل جواب الرّازي غير منتهض على دفع الاستبعاد الذي قرّره هذا الشّارح ، فإن الاستبعاد إنّما وقع في تجويز عدم الإحساس بمسّ الجسم الحارّ حال حرارته لا مطلقا ، كما يدلّ عليه تصويره للصورة التي استبعدها الخصم ، وبما قرّرناه سابقا من عدم جدوى المعنى الذي ذكروه لتجويزهم ، ما وقع فيه الاستبعاد ، اندفع ما ذكره هاهنا بقوله : فقد عرفت آنفا ما ذكر من معنى هذا التّجويز «إلخ» ، (ورابعا) أنّ ما ذكره ، من أنّ من أنكر هذا فلينكر كون النّار (بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام ، مدفوع بما ذكره في حاشية شرحه من أنّه لا يلزم من إنكار هذا إنكار الآية ، لجواز أن تكون واقعة إبراهيم عليه‌السلام على طريقة : أن الله تعالى سلب الحرارة من النّار ، وما ذكره ثمّة في جوابه من أنّ الظاهر من لفظة على في قوله تعالى : (بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أنّ النّار مع اتصافها بالحرارة لم تؤثر في إبراهيم عليه‌السلام لا أنّها صارت باردة ، وإلا كان الأنسب الاكتفاء بالبرد فقط مردود بإجماع المفسّرين على

١١٦

خلاف ما حكم بأنسبيّته ، وكيف يكون كذلك؟ مع ظهور أنّ الاكتفاء بقوله : بردا يوهم كون البرد المتعدّي بعلى للمضرة ، وما قال من أنّ هذا يعرفه الذّوق الصحيح : إن أراد به مذاق نفسه فهو لا يصير حجّة على أحد ، فإنّ مذاقه الصّفراوي المبتلى بمرارة عداوة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، ربما يجد الأمر على خلاف ما هو عليه كما يجد الصفراوي العسل مرّا ، وإن أراد به ذوق غيره ، فعلى تقدير حجّيته لا نسلّم أنّهم يجدون معنى الآية على حسب ما وجده كما أوضحناه ، وهذا لم يكن مما يخفى على من به أدنى مسكة (١) ، لكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم بدعوى الذّوق والفهم السّقيم شعر :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم

قال المصنّف رفع الله درجته

البحث الخامس في أنّ الوجود ليس علة تامّة في الرّؤية. خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء هاهنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضّرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة تامّة في كون الشّيء مرئيّا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود (٢) ، سواء كان في حيّز أولا وسواء كان مقابلا أولا ، فجوّزوا إدراك الكيفيّات النّفسانيّة كالعلم والإرادة والقدرة والشّهوة واللّذة ، وغير النّفسانية ممّا لا يناله البصر ، كالرّوائح والطعوم والأصوات والحرارة والبرودة وغيرها (غيرهما خ ل) من الكيفيّات الملموسة ، ولا شك في أن هذا مكابرة للضّروريّات ، فإنّ كل عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك

__________________

(١) المسكة. بالضم العقل.

(٢) لا يخفى أن الإمكان الذاتي المصحح للقدرة العامة أمر لا يجزم العقل بانتفائه ، بل ربما يحققه ، فلا إشكال أصلا في تجويز شيء مما هو خلاف العادة.

١١٧

بالذّوق لا بالبصر ، والرّوائح إنّما تدرك بالشّم لا بالبصر ، والحرارة وغيرها من الكيفيّات الملموسة إنّما تدرك باللّمس لا بالبصر ، والصّوت إنما يدرك بالسّمع لا بالبصر ولهذا (١) فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ، ولو كانت مدركة بالبصر لاختل الإدراك باختلاله. وبالجملة فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التّشكيك وأنّ من شكّك فيه فهو سوفسطائي (٢) ، ومن أعجب الأشياء تجويزهم عدم رؤية الجبل الشّاهق في الهواء مع عدم السّاتر بيننا ، وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر ، وهل هذا إلا من تغفّل قائله؟ «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : اعلم أنّ الشّيخ أبا الحسن الأشعري (٣) استدلّ بالوجود على

__________________

(١) قوله : ولهذا فان فاقد البصر إلخ انما يتجه إذا كان مذهب الاشاعرة ادراك هذه الاعراض بالبصر فقط ، وليس فليس كما لا يخفى ، وهكذا قوله : ولو كانت مدركة بالبصر لاختل الإدراك. من الفضل بن روزبهان.

(٢) هذه العبارة مشعرة بما ذكره السيد «قده» في شرح المواقف من أن السوفسطائية ليس لهم نحلة فافهم. منه «قده».

(٣) هو الشيخ أبو الحسن على بن اسماعيل الأشعري قدوة الاشاعرة ومؤسس تلك الفرقة ؛ ينتهى نسبه الى أبى موسى الأشعري المشهور ومن ثم اشتهر بالاشعرى ، كان من تلاميذ أبى على الجبائي المعتزلي وللأشعري تآليف منها الابانة في اصول الديانة واللمع والموجز ، توفى ببغداد سنة ٣٢٤ او ٣٢٩ او ٣٣٠ وقيل غيرها والرجل ممن اتى بالغرائب في الإسلام ، فجوز الرؤية والظلم في حقه تعالى وأنكر الحسن والقبح العقليين ونحوها مما ستقف عليها في الكتاب وفي تعاليقنا.

١١٨

إثبات جواز رؤية الله تعالى وتقرير الدّليل كما ذكر في المواقف وشرحه : (١) أنّا

__________________

(١) لا يخفى على الناقد البصير أن بناء الدليل المذكور ، كما ذكره في شرح المواقف عند التعرض لهذا الدليل ، (ج ٢ ص ٣٧١) على تركب الجسم من الجواهر الفردة وأن الطول والعرض عين الجسم وليسا أمرين عرضيين عرضا عليه فان الطول والعرض ان كانا عرضين قائمين بواحد من تلك الجواهر الى آخر ما نقله الناصب أقول تركب الجسم من الجواهر الفردة هو قول ذيمقراطيس وهو قول مزيف ضعيف غاية الضعف ، والذي ذهب اليه أهل التحقيق منع انقسام الجسم الى أجزاء بالفعل وذكروا أن انقسام الجسم الى الاجزاء انما هو بالقوة لا بالفعل ، فانه لو اشتمل الجسم على أجزاء بالفعل للزم وقوع الاجزاء الغير المتناهية بين حاصرين ، فان كل جزء منها أيضا ينقسم الى أجزاء بالفعل حسب الفرض وكل جزء منها أيضا ينقسم الى أجزاء وهكذا ، فيلزم اشتمال كل جسم على أجزاء غير متناهية بالفعل وهو محال فانهدم بناء القول بكون الطول والعرض عين الجسم واندفع ما توهمه الأشعري محذورا لكون الطول والعرض من قبيل الاعراض فثبت أن التحقيق كما عليه قاطبة أهل التحقيق أن الطول والعرض من قبيل العرض من مقولة الكم وليسا جوهرين ، حتى يلزم من صحة رؤيتهما صحة رؤية الجواهر.

ثم انه على تقدير تسليم ما توهمه الأشعري من كون الطول والعرض جوهرا يرد على استدلاله به على جواز رؤية مطلق الوجود الشامل لوجود الباري عز اسمه ، أن بين وجود الجوهر ووجود العرض جامع لا يشتمل وجود الباري جلت عظمته ، وهو الوجود الامكانى الذي هو مرتبة من مراتب الوجود لا يشمل ما فوقها من المرتبة ، فلا تكون صحة رؤية وجود الجوهر ووجود العرض الا مستلزما لصحة رؤية المرتبة الجامعة بينهما من الوجود دون مطلق الوجود هذا وقد ذكر فخر الدين الرازي في الأربعين (ص ١٩٨ ـ ١٩١) اثنى عشر وجها في الاعتراض على الدليل المذكور ونحن نذكر خلاصتها ، وقد اعترف بالعجز عن جوابها بعين العبارة التي سيذكرها القاضي الشهيد «قده» (أولها) أن الصحة امر عدمي على ما تقرر في محله والأمر العدمي لا يفتقر الى العلة

١١٩

نرى الأعراض كالألوان والاضواء وغيرها من الحركة والسّكون والاجتماع

__________________

(ثانيها) أنه على تقدير كون الصحة امرا وجوديا لا يجب تعليله ، لما اتفق المتكلمون على أن من الاحكام ما لا يعلل كما أن صحة المعلومية والمذكورية والمخبرية لا تعلل لان هذه الاحكام ثابتة للمعدومات أيضا وهي لا تصلح للتعليل (ثالثها) أن صحة رؤية الجوهر مخالفة لصحة رؤية العرض فانه يمتنع قيام كل واحدة منهما مقام الآخر بدليل أن الجوهر يمتنع أن يرى سوادا والسواد يمتنع أن يرى جوهرا ، واختلافهما في النوع ولو مع اشتراك الجنس يوجب جواز تعليلهما بعلتين مختلفتين (رابعها) سلمنا أن صحة رؤية الجوهر وصحة رؤية العرض حكمان متماثلان ولكن يجوز تعليل المتماثلين بعلتين مختلفتين لوجوه تقرر في محله (خامسها) أن قولكم : لا مشترك بين الجوهر والعرض الا الوجود والحدوث لا نسلمه وعدم الدليل ليس دليل العدم (سادسها) أن قولكم : ان الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم فهو مركب من الوجود والعدم باطل فان المسبوقية وصف ثبوتى ثابت للوجود والوجود لا يتصف بالعدم لاستحالة اتصاف الشيء بنقيضه (سابعها) أن حقيقة الشيء عند أبى الحسن الأشعري هو وجوده ولما كانت الحقائق مختلفة فوجود الواجب مختلف لا محالة مع وجود الممكنات (ثامنها) أن حصول العلة غير كافية في حصول المعلول ، فانه قد تحصل العلة ولا يحصل المعلول لعدم حصول شرطه او اقترانه بالمانع ، كما أن الحياة علة لحصول الشهوة والألم واللذة وغير حاصلة في حقه تعالى مع أن الحياة ثابتة له (تاسعها) أن لازم القول : بصحة الرؤية القول : بصحة اللمس والذوق بعين ما ذكرتم في ذلك وهو مما لا تلتزمونه. (عاشرها) أن قولكم : الوجود علة لصحة الرؤية ان أردتم به صحة رؤية الوجود ، ففيه أن لازمه تعلق الرؤية في كل مبصر بالوجود المشترك بين جميع الموجودات وعدم تعلقه بالخصوصيات الخارجة عما به الاشتراك. (الحادي عشر) أنه يمكن الالتزام بصحة الرؤية في حقه تعالى ولا ينافي ذلك توقفها على شرط ممتنع ، فيمتنع تحقق الرؤية لأجل امتناع الشرط. (الثاني عشر) النقض بالمخلوقية فإنها أمر مشترك بين الجواهر والاعراض ولا يجوز حصولها في حقه تعالى.

١٢٠