بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

كتاب الإمامة والولاية في القرآن أنّ المودّة المحبّة المستتبعة للمراعاة والتعاهد ، ولعلّها لاشتمالها على ذلك لا يستعمل في محبّة العباد لله تعالى ، انتهى.

وفيه أنّه لم أجد ذلك في كتب اللغة ، ولعلّ هذا القيد مما يقتضيه حقيقة المحبّة ، إذ المحبة الواقعيّة أثرها هو المراعاة والتعاهد ، نعم ربّما يقال : إنّ المودّة هي الّتي لها الخارجية استنادا بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) بقرينة مقابلة الموادّة للمحادّة الّتي لها الخارجية ، ولكنّه غير تامّ لأنّ المودّة لا تختص بذلك ؛ لاستعمالها في الأمر القلبيّ أيضا لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٢) فالظاهر هو عدم الفرق بين المودّة والمحبّة.

الثاني : أنّ المحبّة والوداد في الله كالبغض في الله من الامور التي ندب الإسلام الاجتماع إليها ، وأكّد عليها ، وورد في ذلك روايات كثيرة ، منها قول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في الله ، فهو من أصفياء الله».

وسأل ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أصحابه : «أيّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم وقال بعضهم : الصلاة ، وقال بعضهم : الزكاة ، وقال بعضهم : الصيام ، وقال بعضهم : الحجّ والعمرة ، وقال بعضهم : الجهاد ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لكلّ ما قلتم فضل ، وليس به ، ولكن أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله وتوالي (تولّي) أولياء الله والتبري من أعداء الله» (٣).

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) مريم : ٩٦.

(٣) الاصول من الكافي : ج ٢ ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

٨١

قال الفاضل النراقي ـ قدس‌سره ـ في تفسير هذه المحبّة والوداد في الله ، أن يحبه لله وفي الله ، لا لينال منه علما أو عملا ، أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته ، وذلك بأن يحبه من حيث إنّه متعلق بالله ، ومنسوب إليه ، أمّا بالنسبة العامّة الّتي ينتسب بها كل مخلوق إلى الله ، أو لأجل خصوصية النسبة أيضا ، من تقرّبه إلى الله ، وشدّة حبّه وخدمته له تعالى. ولا ريب في أنّ من آثار غلبة الحبّ أن يتعدى من المحبوب إلى كلّ من يتعلق به ويناسبه ، ولو من بعد ، فمن أحبّ إنسانا حبّا شديدا ، أحبّ محبّ ذلك الإنسان ، وأحبّ محبوبه ، ومن يخدمه ومن يمدحه ، ويثني عليه أو يثني على محبوبه ، وأحبّ أن يتسارع إلى رضى محبوبه كما قيل :

أمرّ على الديار ديار ليلى

اقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

وأمّا البغض في الله : فهو أن يبغض إنسان إنسانا لأجل عصيانه لله ومخالفته له تعالى ، فإنّ من يحبّ في الله ، لا بدّ وأن يبغض في الله ، فإنّك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عنده ، فإن عصاه لا بدّ أن تبغضه ؛ لأنّه عاص له وممقوت عند الله ، قال عيسى ـ عليه‌السلام ـ : «تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالتباعد عنهم ، والتمسوا رضا الله بسخطهم» (١).

وهذا من مقتضيات الدين والإيمان ، وكلّما ازداد دين امرئ زيد حبّه في الله ، وبغضه في الله ، وكلّما ضعف إيمان امرئ نقصت فيه تلك المحبة والبغضة ، وإليه يشير ما رواه في الكافي بسند موثق عن فضيل بن يسار قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الحبّ والبغض ، أمن الإيمان هو؟ فقال : وهل الإيمان إلّا الحبّ والبغض ، ثم تلا هذه الآية : «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ

__________________

(١) راجع جامع السعادات : ج ٣ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

٨٢

وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» (١) وقال أيضا : «كلّ من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له» (٢).

نعم ربّما يجتمع في بعض آحاد المسلمين موجبات الحبّ في الله ، مع موجبات البغض في الامور الشخصيّة قصورا وتقصيرا ، فعلى المؤمن الخبير أن لا يبتلي بترك محبّته في الله ؛ لأنّ الإيمان يقوى على الامور الشخصيّة ، والمنافع الدنيويّة ، فمقتضى الإيمان هو كونه محبوبا من حيث إيمانه ، وعروة الإيمان لا تنقض بموجبات البغض ، في الامور الشخصيّة ، ومن المعلوم أن الاجتماع الإسلامي مبنيّ على هذا الأساس القويم.

الثالث : في وجوب المحبّة والوداد لأهل البيت ، وقد عرفت أن المحبّة والوداد بالنسبة إلى أهل الإيمان من مقتضيات الإيمان ، ومن الوظائف الأخلاقية لكل مؤمن ، وبالجملة فضيلة من الفضائل ، ولا وجوب لها ، ولكن محبّة أهل البيت وودادهم من أوجب الواجبات جعلها الله ورسوله أجر الرسالة (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣) ولذا سأل الأصحاب عن رسول الله عن تعيين القربى بعد الفراغ عن وجوب المودّة فيهم ، كما روي عن ابن عباس أنّه قال : «لمّا نزلت الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قلت : يا رسول الله من قرابتك الّذين افترض الله علينا مودتهم؟ قال : عليّ وفاطمة وولدهما ثلاث مرات يقولها» (٤)

وأكّد الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على وجوب المحبّة ، وإليك بعض التأكيدات ، قال محمّد بن مسلم : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ الرجل ربّما يحب الرجل ، ويبغض ولده ، فأبى الله عزوجل إلّا أن يجعل حبّنا مفترضا ،

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ٢ ص ١٢٥.

(٢) الاصول من الكافي : ج ٢ ص ١٢٧.

(٣) الشورى : ٢٣.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢٤١.

٨٣

أخذه من أخذه ، وتركه من تركه واجبا ، فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) ، وقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ في ذيل الآية المباركة : «هي والله فريضة من الله على العباد لمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في أهل بيته» (٢).

وقال الطبرسي ـ قدس‌سره ـ : «وصحّ عن الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ أنّه خطب الناس ، فقال في خطبته : أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم ، فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) واقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت» (٣).

وقال العلّامة ـ قدس‌سره ـ في كتاب كشف الحق : روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده ، والثعلبي في تفسيره ، عن ابن عباس رحمه‌الله قال : «لمّا نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا : يا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من قرابتك الّذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة وابناها» ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة (٤).

قال في دلائل الصدق بعد نقل الروايات عن طرق العامّة في تفسير الآية المباركة : ويؤيدها الأخبار المستفيضة الدالّة على وجوب حبّ أهل البيت وأنّه مسئول عنه يوم القيامة (٥).

قال في الغدير : وأمّا حديث أنّ الآية نزلت في علي وفاطمة وابنيهما ، وإيجاب مودّتهم بها ، فليس مختصا بآية الله العلّامة الحلي ولا بامّته من الشيعة ، بل اتفق المسلمون على ذلك إلّا شذاذ من حملة الروح الأمويّة نظراء ابن تيمية ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢٣٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢٣٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢٣٢.

(٤) راجع احقاق الحق : ج ٣ ص ٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٢٣٢.

(٥) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٧.

٨٤

وابن كثير ، ثم ذكر أسامي جملة من الحفّاظ والمفسّرين من أعلام القوم الّذين نقلوا نزول الآية فيهم ، وهم خمسة وأربعون ، وفيهم الإمام أحمد والحسكانيّ ، والثعلبيّ ، والنيسابوريّ والزمخشريّ ، والبيضاويّ ، والشبلنجيّ ، والطبريّ ، والرازيّ ، والنسائيّ ، والسيوطيّ ، إلى أن قال : وقول الإمام الشافعيّ في ذلك مشهور قال :

يا أهل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له

ذكرهما له ابن حجر في الصواعق صفحة : ٨٧ ، والزرقانيّ في شرح المواهب إلخ (١).

فوجوب حبّ أهل البيت ومودّتهم زائدا على وجوب التمسك بهم أمر واضح في الإسلام ، ويؤيّد وجوبه مضافا إلى ما ذكر من الأخبار والآيات ، ما أشار إليه المصنّف ـ قدس‌سره ـ في ضمن كلامه من أنّه قد تواتر عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّ حبّهم علامة الإيمان ، وأنّ بغضهم علامة النفاق ، وأنّ من أحبّهم أحبّ الله ورسوله ، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله ، وقد دلّت الأخبار على ذلك بعبارات مختلفة.

وقد تصدّى العلّامة آية الله الأميني ـ قدس‌سره ـ في كتابه الغدير لنقل جملة منها عن طرق العامّة ، ونقل عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأميّ إليّ : أنّه لا يحبني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق» وأشار إلى مصادر هذا الخبر ، وذكر ما يقرب الثلاثين من الكتب المعروفة للعامّة ، وفيها صحيح مسلم ، ومسند أحمد ، وسنن ابن ماجة ، ورياض الطبريّ واستيعاب ابن عبد البرّ ، وتذكرة سبط ابن الجوزيّ ، وفرائد

__________________

(١) راجع كتاب الغدير : ج ٣ ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

٨٥

الحموينيّ ، وصواعق ابن حجر الهيثميّ وفتح الباري لابن حجر العسقلانيّ ، وغير ذلك فراجع (١).

ثم نقل صورة ثانية عن أمير المؤمنين أنّه قال لعهد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إليّ لا يحبك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق. وأشار إلى مصادره الكثيرة ، ونقل تصريحهم بصحّة الحديث وثبوته ، وفي ضمن تلك التصريحات أنّ أبا نعيم ذكر في الحلية : ج ٤ ، ص ١٨٥ : أنّ هذا حديث صحيح متّفق عليه ، وأنّ ابن عبد البرّ قال في الاستيعاب : ج ٣ ، ص ٣٧ : روته طائفة من الصحابة ، وأنّ ابن أبي الحديد قال في شرحه : ج ١ ، ص ٣٦٤ : قد اتفقت الأخبار الصحيحة الّتي لا ريب فيها عند المحدثين ، على أنّ النبيّ قال له : لا يبغضك إلّا منافق ولا يحبّك إلّا مؤمن (٢).

ثم ذكر صوره الاخرى عنه وعن أمّ سلمة وأشار إلى مصادرها وهي كثيرة ، وقال في الختام : هذا ما عثرنا عليه من طرق هذا الحديث ، ولعلّ ما فاتنا منها أكثر ، ولعلّك بعد هذه كلّها لا تستريب في أنّه لو كان هناك حديث متواتر يقطع بصدوره عن مصدر الرسالة ، فهو هذا الحديث ، أو أنّه من أظهر مصاديقه كما أنّك لا تستريب بعد ذلك كلّه أنّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ بحكم هذا الحديث الصادر ، ميزان الإيمان ، ومقياس الهدى ، بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهذه صفة مخصوصة به ـ عليه‌السلام ـ ، وهي لا تبارحها الإمامة المطلقة ، فإنّ من المقطوع به أنّ أحدا من المؤمنين لم يتحلّ بهذه المكرمة ، فليس حبّ أي أحد منهم شارة إيمان ، ولا بغضه سمة نفاق ، وإنّما هو نقص في الأخلاق ، وإعواز في الكمال ، ما لم تكن البغضاء لإيمانه (٣) وفي هذا كفاية ، ولا

__________________

(١) راجع الغدير : ج ٣ ص ١٨٣.

(٢) راجع الغدير : ج ٣ ص ١٨٤.

(٣) راجع الغدير : ج ٣ ص ١٨٤ ـ ١٨٦.

٨٦

حاجة إلى نقل سائر الآيات والروايات ، الدالّة على لزوم محبّتهم ، وبذلك اتضحت دعوى المصنّف أنّ حبّ أهل البيت فرض من ضروريات الدين الإسلامي التي لا تقبل الجدل والشك ، وقد اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم.

ثم لا يذهب عليك أنّ المحبّة الواقعيّة لهم لا تجتمع مع المحبّة لأعدائهم ، لأنّ من أحبّ شخصا أحبّ أحباءه ، وأبغض أعداءه ، وإلّا فليس دعوى المحبّة إلّا لقلقة في اللسان.

الرابع : في المراد من القربى ، وقد عرفت تظافر الروايات وتواترها بأنّ المراد منه في الآية المباركة هم أهل البيت وأهل الكساء ، وبعد ذلك لا وجه لحمل القربى على أنّ المقصود هو قرابة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مع مشركي قريش ، وأنّ الخطاب لقريش ، والأجر المسئول هو مودّتهم للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لقرابته منهم ، معللا بأنّ قريش كانوا يكذبونه ويبغضونه لتعرضه لآلهتهم ، على ما في بعض الأخبار فأمر ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن يسألهم إن لم يؤمنوا به فليودوه لمكان قرابته منهم ، ولا يبغضوه ، ولا يؤذوه ، فالقربى مصدر بمعنى القرابة ، وفي للسببيّة ، وذلك لأنّه اجتهاد في مقابل النصّ ، هذا مضافا إلى ما أشار إليه في دلائل الصدق من أنّه لا معنى لسؤال الأجر على التبليغ ممن لم يعترف له بالرسالة ؛ لأنّ المقصود على هذا التفسير هو السؤال من الكافرين (١).

واوضح ذلك في الميزان حيث قال : إنّ معنى الأجر إنّما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر ، فيعطى العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه ، فسؤال الأجر من قريش ، وهم كانوا مكذبين له كافرين بدعوته ، إنّما كان يصحّ على تقدير إيمانهم به ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لأنّهم على تقدير تكذيبه والكفر

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٨.

٨٧

بدعوته لم يأخذوا منه شيئا حتّى يقابلوه بالأجر ، وعلى تقدير الإيمان به ، والنبوّة أحد الاصول الثلاثة في الدين لا يتصور بغض حتّى تجعل المودّة أجرا للرسالة ويسأل.

وبالجملة لا تحقق لمعنى الأجر على تقدير كفر المسئولين ، ولا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم حتّى يسألوا المودّة ، وهذا الإشكال وارد حتّى على تقدير أخذ الاستثناء منقطعا ، فإنّ سؤال الأجر منهم على أيّ حال إنّما يتصور على تقدير إيمانهم ، والاستدراك على الانقطاع إنّما هو عن الجملة بجميع قيودها فأجد التأمل فيه (١).

وإليه يشير قوله في دلائل الصدق في ردّ ذلك المعنى على تقدير انقطاع الاستثناء فإنّ المنقطع عبارة عن إخراج ما لو لا إخراجه ، لتوهم دخوله في حكم المستثنى منه نظير الاستدراك ، وأنت تعلم أنّ المستثنى الّذي ذكره الفضل أجنبي عمّا قبله بكلّ وجه ، فلا يتوهم دخوله في حكمه حتّى يستثنى منه (٢).

والأضعف ممّا ذكر هو حمل القربى على التقرّب من الله بطاعة ، فإنّه مضافا إلى كونه اجتهادا في مقابل النصّ ، لا تساعده اللغة ، إذ القربى لم تأت في اللغة بمعنى التقرّب ، قال في القاموس : القربى القرابة وهو قريبي وذو قرابتي ، وممّا ذكر يظهر ما في تفسير القرطبي حيث مال إليه ، واعتمد على الخبر الشاذ في مقابل الأخبار المتواترة.

ثم إنّ القربى مختص بأهل بيته بعد تعينه في الأخبار ، قال في دلائل الصدق : قول الفضل وظاهر الآية على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ باطل ... لأنّ المعلوم من حال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الاعتناء بعليّ وفاطمة والحسنين لا من ناوأه من أقربائه ، ولم يسلموا إلّا

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٨ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٨.

٨٨

بحدود السيوف والغلبة ، وللقرينة العقليّة إذ لا يتصور أن يكون ودّ من لم يواد الله ورسوله أجرا للتبليغ والرسالة ، فلا بدّ أن يكون المراد مودة من يكمل الإيمان بمودّته ، وتحصل السعادة الأبديّة بموالاته ، ولذا قال سبحانه في آية اخرى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) بل بلحاظ شأن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إنّما يعدّ قرابة له ، من هو منه ، لا من بان عنه معنى ومنزلة ، ولذا قال تعالى لنوح : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) انتهى موضع الحاجة (١).

وقيل : إنّ الآية مكيّة ؛ لأنّها في سورة الشورى مع أنّ الحسنين ولدا في المدينة وأجاب عنه في الإمامة والولاية : بأنّ هذا الإشكال ضعيف ، فإنّه قد أكّد غير واحد من أئمة هذا الفن نزول الآية في المدينة.

على اننا لو سلمنا كونها مكيّة ، فما المانع في ذلك؟ مع أنها نظير غيرها من الآيات الكريمة التي سيقت لبيان قضية حقيقية ، لا خارجية ، فهي تصبح فعلية اذا وجد من تنطبق عليه (٢).

وأجاب عنه في الغدير أيضا : بأنّ دعوى كون جميع سورة الشورى مكية ، تكذبها استثناؤهم قوله تعالى : «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ـ إلى قوله ـ : خَبِيرٌ بَصِيرٌ» ، وهي أربع آيات. واستثناء بعضهم قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ ـ إلى قوله ـ : مِنْ سَبِيلٍ» ، وهي عدة آيات فضلا عن آية المودّة.

ونصّ القرطبي في تفسيره : ج ١٦ ص ١ ، والنيسابوريّ في تفسيره ، والخازن في تفسيره : ج ٤ ص ٤٩ ، والشوكانيّ في «فتح القدير» : ج ٤ ص ٥١٠ ، وغيرهم عن ابن عباس وقتادة على أنّها مكيّة إلّا أربع آيات ، أوّلها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (٣) ـ إلى أن قال ـ : وأمّا إن تزويج علي بفاطمة ـ عليهما‌السلام ـ كان

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) الامامة والولاية : ص ١٦٧.

(٣) الغدير : ج ٣ ص ١٧٢ ـ ١٧٣.

٨٩

من حوادث العهد المدنيّ ، وقد ماشينا الرجل (المستشكل) على نزول الآية في مكّة ، فإنّه لا ملازمة بين إطباق الآية بهما وبأولادهما ، وبين تقدم تزويجهما على نزولها ، كما لا منافاة بينه وبين تأخر وجود أولادهما على فرضه ، فإنّ مما لا شبهة في كون كلّ منهما من قربى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالعمومة والنبوّة ، وأمّا أولادهما فكان من المقدّر في العلم الأزلي أن يخلقوا منهما ، كما أنّه قد قضي بعلقة التزويج بينهما ، وليس من شرط ثبوت الحكم بملاك عامّ يشمل الحاضر والغابر وجود موضوعه الفعلي ، بل إنّما يتسرب إليه الحكم مهما وجد ، ومتى وجد ، وأنّى وجد.

على أنّ من الممكن أن تكون قد نزلت بمكة في حجّة الوداع ، وعليّ قد تزوّج بفاطمة وولد الحسنان ، ولا ملازمة بين نزولها بمكّة ، وبين كونه قبل الهجرة. ويرى الذين اوتوا العلم الّذي انزل إليك من ربك هو الحق (١).

ثم القربى لا تنحصر في عليّ وفاطمة والحسنين ـ عليهم‌السلام ـ بل يشمل الأئمة كلّهم دون غيرهم ، كما نصّ عليه في الأحاديث ، ومنها : ما في الكافي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال : هم الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ.

ومنها ما في روضة الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : ما يقول أهل البصرة في هذه الآية : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قلت : جعلت فداك ، إنّهم يقولون : إنّها لأقارب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : كذبوا إنما نزلت فينا خاصّة أهل البيت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين وأصحاب الكساء عليهم‌السلام (٢).

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ص ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٧١ ـ ٥٧٣ نقلا عن الكافي وروضته.

٩٠

الخامس : في دلالة وجوب المحبّة على قرب القربى إلى الله وطهارتهم من الشرك والمعاصي ، ومن كلّ ما يبعد عن دار كرامته ، وساحة رضاه ، وذلك واضح ، لما في المنّ ، وقريب منه ما في دلائل الصدق حيث قال : وهي (أي الآية) تدلّ على أفضليّتهم وعصمتهم ، وأنّهم صفوة الله سبحانه ، إذ لو لم يكونوا كذلك لم تجب مودّتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودتهم بتلك المنزلة الّتي ما مثلها منزلة ، لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حق يشبهه ، ولذا لم يجعل الله المودّة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما (١).

السادس : أنّ ظاهر المصنّف أنّ بغض آل محمّد موجب للخروج عن الإيمان لاستلزامه لإنكار الضرورة الإسلامية ؛ لأنّ وجوب حبّهم من ضروريات الإسلام ، ولكن مقتضى ما ذكر هو عدم كونه كذلك لو لم يلتفت إلى كونه من الضروريات وأنكره ، مع أنّ ظواهر بعض الأخبار هو خروج المنكر المبغض عن الإيمان ، ولو لم يكن عن التفات إلى كونه من الضروريات ، ولعلّه من جهة أنّ البغض المذكور ملازم لعدم المعرفة بالأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وقد عرفت تصريح النصوص بأنّ عدم المعرفة بهم يوجب ميتة جاهلية.

وإليك بعض هذه الروايات الدالّة على خروج المبغض عن الإيمان منها : ما رواه الحافظ الحاكم الحسكانيّ عن أبي إمامة الباهلي قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّ الله خلق الأنبياء من أشجار شتّى ، وخلقت وعليّ (كذا) من شجرة واحدة فأنا أصلها ، وعليّ فرعها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ هوى ، ولو أنّ عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ، حتى يصير كالشنّ البالي ، ثم لم يدرك محبتنا أكبّه على منخريه في النار ، ثم قرأ «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٧٩.

٩١

عَلَيْهِ» الآية (١).

ومنها : ما رواه في تفسير القرطبيّ عن الثعلبيّ أنّه قد قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله زوّار قبره الملائكة والرحمة ، ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس اليوم من رحمة الله ، ومن مات على بغض آل محمّد لم يرح رائحة الجنّة ، ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي ، ثم قال القرطبيّ : قلت : وذكر هذا الخبر الزمخشريّ في تفسيره بأطول من هذا ، فقال : وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات في حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد ، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة (٢).

وإلى غير ذلك من الروايات الواردة في المقامات المختلفة مثل ما ورد في تفسير قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣).

السابع : أنّ المحبّة والوداد بالنسبة إليهم في هذه الآية لعلّها ليست إلّا لتحكيم الاتباع عنهم ، إذ الاتباع إذا قرن بالمحبّة كان أتمّ وأسهل ، ألا ترى أنّ

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ص ١٤١.

(٢) تفسير القرطبي : الجزء السادس عشر ص ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) الصافات : ٢٤.

٩٢

المحبّة العلويّة والحسينيّة جذبت كثيرا من الآحاد والنفوس نحو العبادة والتعبّد والجهد والجهاد والتضحية والفداء ، فالدعوة إلى المحبّة والوداد دعوة في الحقيقة إلى العمل والاتباع.

قال في كتاب الإمامة والولاية : إنّ هذا الأجر المطلوب في هذه الآية الكريمة ، هو في الواقع من أروع ما يعود على الامة بالخير ، ويرتبط بمسيرتها ومستقبلها وقيادتها ، حيث يشدّها الشدّ العاطفي الواعي إلى القيادة مقربا بذلك الشدّ العقائدي بها ، وإذا اقترنت العقيدة بالعاطفة المبنيّة على أساسها أمكن ضمان قيام القائد بمهماته التاريخيّة الكبرى الملقاة على عاتقه في مجال تربية الإنسانية ككل ، وهدايتها إلى شواطئ الكمال ، فهذا الأجر المسئول هو في الواقع تعليم اجتماعي رائح لصالح الامة نفسها وليس أجرا شخصيّا للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد أن كان أشدّ الناس إخلاصا للحقيقة ، وبعد أن كان القرآن يعلن : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (١) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (٢) وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى على لسان نبيه : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (٣) وكذا يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٤) (٥) ولذا أنكر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ من ترك الطاعة مغرورا بمحبّة أهل البيت ، كما نقل جابر عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قال لي : «يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبّنا أهل البيت ، فو الله ما شيعتنا إلّا من اتقى الله وأطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشع والأمانة ، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين ، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة

__________________

(١) يوسف : ١٠٤.

(٢) الشعراء : ١٤٥.

(٣) سبأ : ٤٧.

(٤) الفرقان : ٥٧.

(٥) الامامة والولاية : ص ١٦٤.

٩٣

والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الالسن عن الناس إلّا من خير ، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر : فقلت : يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحدا بهذه الصفة ، فقال : يا جابر لا تذهبن بك المذاهب ، حسب الرجل أن يقول : احبّ عليّا وأتولّاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالا ، فلو قال : إنّي احبّ رسول الله فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خير من عليّ ـ عليه‌السلام ـ ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئا ، فاتقوا الله ، واعملوا لما عند الله ، ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحبّ العباد الى الله عزوجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته ، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة ، وما معنا براءة من النار ، ولا على الله لأحد من حجّة ، من كان لله مطيعا فهو لنا وليّ ، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوّ ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع» (١)

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ٢ ص ٧٤.

٩٤

٦ ـ عقيدتنا في الأئمة

لا نعتقد في أئمتنا ما يعتقده الغلاة والحلوليون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم). بل عقيدتنا الخالصة أنّهم بشر مثلنا ، لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ، وإنّما هم عباد مكرمون اختصّهم الله تعالى بكرامته وحباهم بولايته ؛ إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم والتقوى والشجاعة والكرم والعفة ، وجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به. وبهذا استحقوا أن يكونوا أئمة وهداة ومرجعا بعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في كلّ ما يعود للناس من أحكام وحكم ، وما يرجع للدين من بيان وتشريع ، وما يختصّ بالقرآن من تفسير وتأويل.

قال إمامنا الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ما جاءكم عنّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردّوه إلينا ، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا» (١).

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك ـ بعد ما عرفت من أنّ ما سوى الله تعالى ليس إلّا

٩٥

ممكنا ـ أنّ اعتقاد الألوهية في الأئمة أو الأنبياء ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ باطل جدا ، ولذا أنكر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على الغالين أشد الإنكار. قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم ، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبيّة لعباد الله ، والله فإنّ الغلاة شرّ خلق اليهود والنصارى والمجوس ، والّذين أشركوا» الحديث (١) وقال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «اللهم إنّي بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى ، اللهم اخذلهم أبدا ، ولا تنصر منهم أحدا» (٢) ، وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا ترفعوني فوق حقّي فإنّ الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا» (٣) ، وقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إيّاكم والغلوّ فينا قولوا : إنّا عبيد مربوبون ، وقولوا في فضلنا ما شئتم» (٤) ، قال سدير : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ إنّ قوما يزعمون أنّكم آلهة يتلون بذلك علينا قرآنا ، وهو الّذي في السماء إله وفي الأرض إله ، فقال : «يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء ، وبرئ الله منهم ، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي ، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلّا وهو ساخط عليهم» (٥).

وهكذا بعد ما عرفت من أنّ كلّ شيء يحتاج إلى الله في أصل وجوده وحياته وقدرته وعلمه وغير ذلك لا يصح اعتقاد الاستقلال بالنسبة إليه في أمر من الامور ، ويكون غلوّا كما ورد في التوقيع عن صاحب الزمان ـ صلوات الله عليه ـ ردا على الغلاة : «يا محمّد بن علي ، تعالى الله عزوجل عمّا يصفون ، سبحانه وبحمده ، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته» (٦). قال العلّامة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٦.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٥.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٧٠.

(٥) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٦٩.

(٦) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٦.

٩٦

المجلسي ـ قدس‌سره ـ بيان : المراد من نفي علم الغيب عنهم أنّهم لا يعلمونه من غير وحي وإلهام ، وأمّا ما كان من ذلك فلا يمكن نفيه ؛ إذ كانت عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء ـ عليهم‌السلام ـ الإخبار عن المغيّبات ، وقد استثناهم الله تعالى في قوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١).

وأيضا بعد ما عرفت من أنّ النبوّة ختمت بوجود نبينا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلا مجال لاعتقاد النبوّة في الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة الله ، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة الله» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٩٦.

٩٧

٧ ـ عقيدتنا في أنّ الإمامة بالنصّ

نعتقد أن الإمامة كالنبوّة لا تكون إلّا بالنصّ من الله تعالى على لسان رسوله ، أو لسان الإمام المنصوب بالنصّ إذا أراد أن ينصّ على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوّة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكّموا في من يعيّنه الله هاديا ومرشدا لعامّة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه ؛ لأنّ الشخص الذي له من نفسه القدسيّة استعداد لتحمّل أعباء الإمامة العامّة ، وهداية البشر قاطبة ، يجب أن لا يعرف إلّا بتعريف الله ولا يعيّن إلّا بتعيينه.

ونعتقد أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ نصّ على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعيّن ابن عمه علي بن أبي طالب أميرا للمؤمنين ، وأمينا للوحي ، وإماما للخلق ، في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير ، فقال : «ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه كيف ما دار».

ومن أوّل مواطن النصّ على إمامته قوله حينما دعا أقرباءه الأدنين

٩٨

وعشيرته الأقربين فقال : «هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وهو يومئذ صبيّ لم يبلغ الحلم وكرّر قوله له في عدّة مرّات : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» إلى غير ذلك من روايات وآيات كريمة دلّت على ثبوت الولاية العامّة له كآية المائدة : ٥٥ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وقد نزلت فيه عند ما تصدّق بالخاتم وهو راكع ، ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كلّ ما ورد في إمامته من الآيات والروايات ، ولا بيان وجه دلالتها.

ثم إنّه ـ عليه‌السلام ـ نصّ على إمامة الحسن والحسين ، والحسين نصّ على إمامة ولده علي زين العابدين ، وهكذا إماما بعد إمام ينصّ المتقدّم منهم على المتأخر إلى آخرهم ، وهو أخيرهم على ما سيأتي (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في امور :

الأوّل : أنّه قد مضى البحث عن كون أمر تعيين النبيّ بيد الله أو بيد النبيّ الاخر الذي عيّنه الله فإنه لا يقول إلّا عن الله ، وحيث إنّ الإمامة كالنبوّة عندنا إلّا في تلقّي الوحي فالأمر فيه واضح ، فلا مجال لانتخاب الناس وتعيينهم ، كما لا يخفى ، ولذلك قال في العقائد الحقّة : فمن قال بلزوم بعث النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من جانب الله تبارك وتعالى ، لا بدّ له من القول بلزوم نصب الإمام من جانب الله تبارك وتعالى ، وليس هذا من قبيل نصب السلطان أو نصب السلطان وليّ العهد ؛ لأنّ نصب الناس أو نصب السلطان راجع إلى نصب من يلي أمر الناس من جهة معاشهم ، وما يكون مربوطا بدنياهم ولا ربط له بامور الآخرة ، فنصب الإمام من جانب الناس ، كنصب

٩٩

الناس من يكون طبيبا لهم يعالجهم من دون أن يكون عالما بعلم الطب (١).

وأشار إليه المحقق الطوسيّ ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «والعصمة تقتضي النصّ وسيرته عليه‌السلام» ، وقال العلّامة الحليّ ـ قدس‌سره ـ في شرحه : «أقول : ذهبت الإمامية خاصة إلى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه ، وقالت العبّاسية : إنّ الطريق إلى تعيين الإمام ، النصّ أو الميراث. وقالت الزيدية : تعيين الإمام بالنصّ أو الدعوة إلى نفسه. وقال باقي المسلمين : الطريق إنّما هو النصّ أو اختيار أهل الحلّ والعقد.

والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان ، الأوّل : أنّا قد بيّنا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوما ، والعصمة أمر خفي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى ؛ لأنّه العالم بالشرط دون غيره.

الثاني : أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتّى أنّه ـ عليه‌السلام ـ أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده ، كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى امور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع ، وكان ـ عليه‌السلام ـ إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين ، ومن هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمّته ، وعدم إرشادهم في أجلّ الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا ، وأكثرها فائدة وأشدّهم حاجة إليها وهو المتولي لامورهم بعده ، فوجب من سيرته ـ عليه‌السلام ـ نصب إمام بعده والنصّ عليه وتعريفهم إيّاه وهذا برهان لميّ (٢).

هذا كلّه ما يقضيه الدليل العقلي والاعتبار ، وتؤيده الأخبار والروايات منها : ما عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في ضمن حديث «أنّ الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم ،

__________________

(١) كتاب العقائد الحقّة : ص ١٨.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٦ الطبع الحديث.

١٠٠