بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

المنقصات المنفّرة ، ولو كانت خلقية (بكسر الخاء وسكون اللام) أو نسبية كدناءة الآباء وعهر الامهات ، ولكن المصنف ـ قدس‌سره ـ لم يشر إلى المنقصات المنفّرة ولعلّه أرادها أيضا.

٤١

٣ ـ عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه

ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق.

والدليل في النبيّ هو نفس الدليل في الإمام.

أمّا علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات ، من طريق النبيّ ، أو الإمام من قبله.

واذا استجدّ شيء لا بدّ أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوّة القدسيّة الّتي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجّه إلى شيء وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي لا يخطأ فيه ولا يشتبه ، ولا يحتاج في كلّ ذلك إلى البراهين العقليّة ، ولا إلى تلقينات المعلمين وإن كان علمه قابلا للزيادة والاشتداد ولذا قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في دعائه : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)

(أقول): لقد ثبت في الأبحاث النفسيّة أنّ كلّ إنسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء من طريق الحدس ، الّذي

٤٢

هو فرع من الإلهام بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوّة على ذلك.

وهذه القوّة تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقيصة في البشر ، باختلاف أفرادهم. فيطفر ذهن الإنسان في تلك الساعة إلى المعرفة من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين.

ويجد كلّ إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الإنسان من قوّته الالهامية أعلى الدرجات وأكملها ، وهذا أمر قرّره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون.

فلذلك نقول ـ وهو ممكن في حدّ ذاته ـ : إنّ قوّة الإلهام عند الإمام الّتي تسمّى بالقوّة القدسيّة تبلغ الكمال في أعلى درجاته ، فيكون في صفاء نفسه القدسيّة على استعداد لتلقّي المعلومات ، في كلّ وقت وفي كلّ حالة ، فمتى توجه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوّة القدسيّة الالهامية ، بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ، ولا تلقين معلم ، وتنجلي في نفسه المعلومات ، كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية لا غطش فيها ولا إبهام.

ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ كالنبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فإنّهم لم يتربوا ولم يتعلموا على يد معلم من مبدأ طفولتهم إلى سنّ الرشد ، حتى القراءة والكتابة ، ولم يثبت عن أحدهم أنّه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيء من الأشياء مع ما لهم من منزلة علميّة لا تجارى.

وما سئلوا عن شيء إلّا أجابوا عليه في وقته ، ولم تمر على ألسنتهم

٤٣

كلمة (لا أدري) ، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك ، في حين أنّك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلّا ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية والعلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكّه في كثير من المعلومات كعادة البشر في كل عصر ومصر (١).

______________________________________________________

(١) يقع البحث في مقامات :

الأوّل : أن مقتضى كون الإمام قائما مقام النبيّ في جميع شئونه إلّا تلقّي الوحي ، هو تخلقه بأخلاقه واتصافه بصفاته ، إذ بدون ذلك لا يتم الاستخلاف والنيابة ، ومعه لا يتم اللطف ، وهو نقض للغرض ، ومخالف لمقتضى عنايته الاولى ورحيميته ، ونقض الغرض ، والمخالف لمقتضى عنايته تعالى لا يقع ولا يصدر منه أصلا كما لا يخفى.

وتوضيح ذلك أنّه قد مرّ في باب النبوّة أنّ من أغراض البعثة هو استكمال النفوس ، فاللازم هو أن يكون النبيّ في الصفات أكمل ، وأفضل من المبعوثين إليهم حتّى يتمكن له أن يهديهم ويستكملهم وينقاد الناس له للتعلم والاستكمال ، فإن كان النبيّ مبعوثا إلى قوم خاصّين فاللازم هو أن يكون أفضل منهم في ذلك الزمان ، وإن كان مبعوثا إلى جميع الناس إلى يوم القيامة ، فاللازم هو أن يكون أفضل من جميعهم إذ لو لا ذلك لما تيسّرت الهداية والاستكمال بالنسبة إلى جميعهم ، مع أنّهم مستعدون لذلك ، وهو لا يساعد عنايته الاولى وإطلاق رحيميته ونقض لغرضه ، وهو لا يصدر منه تعالى.

فإذا ثبت ذلك في النبيّ لزم أن يكون الإمام أيضا أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة

٤٤

وعلم وحلم وخلق ؛ لأنّه قائم مقامه ونائب عنه في جميع الامور والشئون إلّا في تلقّي الوحي ، وهذه النيابة لا تتم إلّا بالاتصاف المذكور ، ولعلّ إليه أشار المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : لا بدّ أن يكون الإمام في غاية التفرد في استجماع أنواع الكمالات والفضائل حتّى تطيع وتنقاد له جميع الطبقات من الشرفاء والعلماء بحيث ليس لأحد منهم عار في الاتباع عنه والانقياد له (١).

هذا مضافا إلى ما في تجريد الاعتقاد وشرحه (٢) من أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته ؛ لأنّه إمّا أن يكون مساويا لهم ، أو أنقص منهم ، أو أفضل ، والثالث هو المطلوب والأوّل محال ؛ لأنّه مع التساوي يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة ، والثاني أيضا محال ؛ لأنّ المفضول يقبح عقلا تقديمه على الفاضل.

ويدلّ عليه أيضا قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣) ولذلك قال العلّامة ـ قدس‌سره ـ في نهج الحق : اتفق الإمامية على أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته ، وخالف الجمهور فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل ، وخالفوا مقتضى العقل ونصّ الكتاب (٤).

ويشهد لما ذكر ما سمعته عن علي بن موسى الرضا ـ عليهما‌السلام ـ في ضمن حديث من «أنّ الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ، ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهّاب ...» الحديث (٥).

وقال أيضا : «للإمام علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى

__________________

(١) سرمايه ايمان : ١١٥.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٦ الطبع الجديد.

(٣) يونس : ٣٥.

(٤) دلائل الصدق : ج ٢ ص ١٥.

(٥) الأصول من الكافي : ج ١ ص ٢٠١.

٤٥

الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس ، ويولد مختونا ، ويكون مطهرا ، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه» الحديث (١) الثاني : في كيفية تعلّم الإمام ، ولا يخفى أنّ علمهم علم إلهي وليس بمكتسب عن الناس ، كما أنّ علم النبيّ كذلك ، وتوضيح ذلك : أنّ هذا العلم الإلهي قد يصل إلى الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ من طريق النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كتعليمه ما علّم لعليّ ـ عليه‌السلام ـ وهو للحسن وهو للحسين وهو لعلي بن الحسين وهكذا إلى المهدي الحجة بن الحسن ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ.

ثم إنّ هذا التعليم وقع على أنحاء منها : التعليمات العاديّة كما قال الرسول الكريم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «وسمعه علي ـ عليه‌السلام ـ كما سمعه الناس ، وإنّما الفرق بينه وبينهم أنّه ـ عليه‌السلام ـ أسمعهم وأحفظهم وأفهمهم وأضبطهم».

ومنها التعليمات الغير العاديّة مثل ما انتقل إلى علي ـ عليه‌السلام ـ بالاشراق وتنوير الباطن ، ولعلّ من ذلك ما في كتب الفريقين كالكافي وينابيع المودّة من أنّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قال : رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ علّمني ألف باب وكلّ باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب حتّى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب (٢).

ولعلّ ذكر الألف من باب إفادة التكثير فلا خصوصية للألف.

أو مثل ما كتبه علي ـ عليه‌السلام ـ بإملاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وسمّي بالجامعة ، قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : فيها كلّ حلال وحرام وكلّ

__________________

(١) التنبيه للشيخ الحر العاملي : ص ٢٦ نقلا عن الفقيه.

(٢) ينابيع المودة : ج ١ ص ٧٥ ، ونحوه في الكافي : ج ١ ص ٢٣٩.

٤٦

شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش (١) أو مثل ما انتقل إليه من ميراث الأنبياء والوصيين ، وسمّي بالجفر ، قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «هو وعاء من آدم ، فيه علم النبيّين والوصيّين ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل (٢) ، وفيه زبور داود ، وتوراة موسى ، وانجيل عيسى ، وصحف إبراهيم» (٣). وفي رواية اخرى «إن لله علما لا يعلمه أحد غيره ، وعلما قد علمه ملائكته ورسله ، فنحن نعلمه» (٤).

وقد يصل العلم الإلهي إلى الإمام من طرق اخر كمصحف فاطمة وهو الّذي أخبرها به جبرئيل فأملته فاطمة ـ سلام الله عليها ـ لعلّي ـ عليه‌السلام ـ وكتبه بيده المباركة (٥) ، قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ، ما فيه من قرآنكم حرف واحد (٦). قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ أيضا : «ليس من ملك يملك (الأرض) إلّا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا» (٧).

وكتحديث الملائكة وقد ورد في روايات متعددة أنّ الأئمة محدّثون كما قال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «الأئمة علماء صادقون مفهّمون محدّثون» (٨).

وكإلهامات واقعية إلهية ، قال الحارث بن المغيرة : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : أخبرني عن علم عالمكم. قال : وراثة من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومن علي ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت : إنّا نتحدث أنه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال : أو ذاك (٩).

وكجعلهم مشرفين على الامور ، كمّا ورد في الروايات المتعددة أنّ الإمام

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٣٩.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٣٩.

(٣) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٤٠.

(٤) بصائر الدرجات : ص ١١٠.

(٥) بصائر الدرجات : ص ١٥٤.

(٦) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٣٩.

(٧) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٤٢.

(٨) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٩) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٦٤.

٤٧

إذا شاء أن يعلم علم (١) ، أو أنّ الإمام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وغير ذلك. وكيف كان فلا يخفى عليك أنّه لا وجه لعدم ذكر النوع الأخير في كلام المصنف.

الثالث : في مقدار علم الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأنّى لنا بهذا مع أنّ الأئمة فاقوا فيه الأوّلين والآخرين بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وبلغوا فيه إلى حدّ لا يحتاج أحد إلى شيء من امور دينه ودنياه وسعادته وآخرته إلّا كان علمه عندهم ولهم الجواب ، وهم الدعاة إلى سبيل الخير والسعادة الواقعية ، وقد أرشدوا الناس طيلة حياتهم إلى الحياة الطيبة ، ولم يعطلوا في قبال سؤال ولو لم يكن من الامور الدينيّة ، كما تشهد لذلك الأسئلة المختلفة الّتي جاءت إليهم من الموافقين والمخالفين والملحدين ، فأجابوها بأمتن الجواب وأحسنه.

ولهم الاشراف على الامور حتّى النيّات والأعمال ، وعلى ما وقع ، وعلى ما يقع ، وعلى منطق الطيور ، وعلى ما يحتاج إليه الجن وغيرهم. ولا بدّ أن أقول : كيف أقول في وصفكم وثنائكم أئمتي الأبرار ، مع ما في لساني الكالّ من اللكنة ، وما في ذهني الفاتر من القصور ، بل الأحسن أن اكتفي بما قلتم أنتم في وصفكم : (كلامكم نور وأمركم رشد ، ووصيتكم التقوى وفعلكم الخير ، وعادتكم الإحسان وسجيتكم الكرم ، وشأنكم الحقّ والصدق والرفق ، وقولكم حكم وحتم ، ورأيكم علم وحلم وحزم ، إن ذكر الخير كنتم أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه ، بأبي أنتم وامي ونفسي ، كيف أصف حسن ثنائكم ، واحصي جميل بلائكم؟ وبكم أخرجنا الله من الذلّ وفرّج عنا غمرات الكروب ، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار ، بأبي أنتم وامي ونفسي بموالاتكم علّمنا الله معالم ديننا ، وأصلح ما كان فسد من دنيانا ، وبموالاتكم

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٥٨.

٤٨

تمت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة ، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة ، ولكم المودة الواجبة والدرجات الرفيعة والمقام المحمود والمكان المعلوم عند الله ، والجاه العظيم والشأن الكبير والشفاعة المقبولة) (١).

وإليك بعض الأحاديث الدالّة على مقدار علومهم وفخامتها ، وإن كان الأمر واضحا كالنار على المنار.

عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال : «إنّ الله لا يجعل حجته في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري» (٢).

وعن سيف التمار قال : كنا مع أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ جماعة من الشيعة في الحجر فقال : علينا عين فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا ، فقلنا : ليس علينا عين ، فقال : وربّ الكعبة وربّ البنيّة ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ، لأنّ موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ اعطيا علم ما كان ، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّى تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وراثة (٣).

وعن أبي حمزة قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : «لا والله ، لا يكون عالم جاهلا أبدا ، عالما بشيء جاهلا بشيء ، ثم قال : الله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه ، ثم قال : لا يحجب ذلك عنه» (٤).

وعن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «أنّ الإمام مؤيد بروح القدس

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٢ ص ٦٠٩ طبع مكتبة الصدوق بطهران.

(٢) التنبيه : ص ٣٢ نقلا عن الكافي.

(٣) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٤) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٦٢.

٤٩

وبينه وبين الله عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلّما احتاج إليه لدلالة اطلع عليها ...» الحديث (١).

وعن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنة ، وأعلم ما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون ، قال :

ثم مكث هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال : علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ان الله يقول : فيه تبيان كلّ شيء» (٢).

وقد قال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «أما والله لقد تقمّصها فلان ، وأنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير» الحديث (٣).

وقال أيضا : «أيّها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» (٤).

وقال أيضا : «والله لو شئت أن اخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممن يؤمن ذلك منه. والّذي بعثه بالحق ، واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلّا صادقا ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ، وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ، ومال هذا الأمر. وما أبقى شيئا يمر على رأسي إلّا أفرغه في أذني وأفضى به إليّ» الحديث (٥). وغير ذلك من الأخبار والروايات في ذلك متواترة ، وحيث كان صدورها عن المعصومين قطعيا ، صار موجبا لحصول اليقين

__________________

(١) التنبيه : ص ٤٢ نقلا عن عيون الأخبار.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٦١.

(٣) نهج البلاغة الخطبة : ٣ ص ٤٨ لصبحي صالح.

(٤) نهج البلاغة الخطبة : ١٨٩ ص ٢٨٠ لصبحي صالح.

(٥) نهج البلاغة الخطبة : ١٧٥ ص ٢٥٠ لصبحي صالح.

٥٠

بمفادها كما لا يخفى.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «إنّ الإمام وقف على حقايق العالم ، كيف ما كان بإذنه تعالى سوء كانت محسوسة أو غير محسوسة ، كالموجودات السماويّة والحوادث الماضية والوقائع الآتية ، وتدلّ على ذلك الروايات المتواترات المضبوطة في الكافي وبصائر الدرجات وبحار الأنوار وغيرها» (١).

الرابع : أنّ ما أشار إليه المصنّف في قوله من أنّ الحدس الّذي ربّما يتفق في الإنسان غايته هو الإلهام على ما قرّره الفلاسفة المتقدمون لعلّه إشارة إلى ما قرّره صدر المتألهين في الأسفار في معنى الحدس والذكاء حيث قال : ومنها الحدس ولا شك في أنّ الفكر لا يتم إلّا بوجدان شيء متوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة ، وكذا ما يجري مجراه في باب الحدود للتصور ، لما تقرّر أنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الأطراف والحدود ، والنفس حال كونها جاهلة كأنّها واقعة في ظلمة ظلماء ، فلا بدّ من قائد يقودها أو روزنة يضيء لها موضع قدمها ، وذلك الموضع هو الحد المتوسط بين الطرفين ، وتلك الروزنة هو التحدس بذلك دفعة ، فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط بالتحدس هو الحدس ، ومنها الذكاء وهو شدة هذا الحدس وكماله وبلوغه وغايته القصوى هو القوّة القدسيّة الّتي وقع في وصفها قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وذلك لأنّ الذكاء هو الامضاء في الامور ، وسرعة القطع بالحق ، وأصله من ذكت النار وذكى الذبح وشاة مذكّاة أي يدرك ذبحها بحدة السكين (٢) ، ولا يخفي عليك أنّ أنواع الإلهام لا تنحصر في الحدس والذكاء لإمكان الإفاضات بدون ذلك كما أشرنا إليه ، وكيف كان فمما ذكر يظهر أنّ علومهم لا تنحصر في

__________________

(١) بحثى كوتاه درباره علم امام : ص ٣٤.

(٢) الاسفار : ج ٣ ص ٥١٦.

٥١

العلوم العاديّة ، كما ذهب إليه الجمهور من علماء العامّة ، بل لهم ما للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من العلوم الإلهية بأنواعها ، كما يقتضيه قيامهم مقام النبي في الإتيان بوظائفه ؛ لأن ذلك لا يتحقق من دون العلم الإلهي كما لا يخفي.

الخامس : في الميز بين علومهم والعلوم البشريّة ، ولا يخفي عليك أنّ العلوم البشريّة منقسمة إلى : البديهيات والنظريات. والإنسان من لدن وجوده أراد كشف المجهولات بالتفكير وترتيب المقدمات ، وفي هذا السبيل كثيرا ما كان يخطأ ، ولذا وضع علم الميزان ليمنعه عن ذلك ، ومعه لا يعصمه ، وإن أفاده لخطائه في تطبيق علم الميزان على محاوراته ، وعليه فالعلوم النظريّة مكتسبة من البديهيات بترتيب المقدمات ، وترتيب المقدمات يحتاج إلى التعلّم والتعليمات ، وحيث أنّ آحاد الإنسان في التفكير وترتيب المقدمات ليسوا بمتساوين يؤدي التفكير في جملة من المسائل إلى الاختلاف في النتائج في كشف الحقائق ، ولم يتمكنوا من الاتفاق فيها ، إذ ربّما يكون الترتيب بنظر واحد تماما وبنظر آخر ناقصا ، ولذا تكون النتيجة عند واحد واضحة ، وعند آخر غير واضحة ، بحيث يمكن عنده تجديد النظر ، ويحتمل خلافه كما ليسوا عند إظهار النظر على السواء ، إذ ربّما أظهر واحد نظره في مجهول بأنّ الأمر كذا أو كذا قطعا ، وأظهر ثان بأنّ الأمر كذا وكذا من دون التأكيد بالقطع ، وأظهر آخر بأنّ الظاهر أنّه كذا ، ورابع بأنّه محتمل ، وخامس بأنّه مشكل ، فيما إذا لا يؤدي نظره إلى شيء ، وعليه فيكون باب التأمل والاشكال وتجديد النظر في كثير من المعلومات منفتحا.

هذا مضافا إلى مجهولات كثيرة يكون كشفها خارجا عن حيطة قدرة علم الإنسان ، ولذا اعترف الأعاظم من العلماء بالقصور عن حلّ جميع المجهولات ، وإن ظفروا بالاصول والضوابط المتعددة الصحيحة من المقدمات البديهيّة كما لا يخفى ، وكيف كان فهذه هي العلوم الاكتسابية الّتي لا يمكن لأحد أن يرثها من أبيه أو آخر من دون تحمّل المشاق في تحصيلها.

٥٢

وفي قبالها علوم إلهية أفاضها الله تعالى إلى أنبيائه وأوليائه ، وهذه العلوم الإلهية لا تحتاج إلى الاكتساب وترتيب المقدمات للوصول إلى المجهولات النظرية ، بل نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ومعه يرى حقيقة كلّ شيء ولا تحجب عنه ، ولا يحتاج انتقاله من نبيّ إلى نبيّ ، أو من وليّ إلى وليّ إلى مئونة ، بل ينتقل إليه بالاشراق وتنوير الباطن في لحظة ، ولذا صار بعض الأنبياء أو الأئمة ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ نبيا وإماما في حال الصباوة من دون حاجة إلى مضي زمان.

ثم إنّ العلوم الإلهيّة لا اختلاف فيها ، بل كلّها واضحة ، ولا يكون فيها أجلى وأوضح ، ولذا لم يسمع من نبيّ ما تعارف بيننا من الأوضح والأظهر ، أو الظاهر فضلا عن لا أدري ولا أعلم ، والعلوم الإلهية كلّها حاضرة عندهم ، ولذا لم يقل أحد منهم في مقام الجواب عن مسألة ، المسألة تحتاج إلى المراجعة أو التأمل ، أو نحو ذلك ، بل كانوا داعين للناس إلى الأسئلة ، وأجابوا عنها من دون إحالة إلى المطالعة أو التأجيل.

ولا يعتري على العلوم الإلهية ما يحتاج معه إلى تجديد النظر ، بل هي على ما هي عليها من القوّة والظهور ، نعم تصير أجلى بمرور الأزمنة والدهور للسامعين.

ولا ينافي ذلك النسخ في الشرائع أو شريعتنا ، لأنّ معنى النسخ ليس إلّا ارتفاع أمد الحكم النافع ، بحيث لا اعتبار به بعد ارتفاع أمده وليس فيه ما يكشف عن عدم صحة الحكم في وقته وزمانه ، بل كلّ منسوخ حكم صحيح متين في زمانه ، ولذا يصدّق كلّ نبيّ ما نزل على النبيّ الآخر ولا يكذّبه.

ومما ذكر يظهر أن العلوم الإلهية حيث لا تحتاج إلى ترتيب المقدمات ، لا يكون فيها الاختلاف ، ولذا لا يكون الأنبياء والأئمة ـ عليهم الصلوات والسلام ـ مختلفين في أمر من الامور ، بل كلّهم مخبرون عن الحقائق الواحدة ، وإن كانت كلماتهم للناس بحسب اختلاف استعدادهم وتفاوت ظروفهم مختلفة.

٥٣

٤ ـ عقيدتنا في طاعة الأئمة

ونعتقد أنّ الأئمة هم أولو الأمر الّذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وأنّهم الشهداء على الناس ، وأنّهم أبواب الله والسبيل إليه ، والادلاء عليه ، وأنّهم عيبة علمه ، وتراجمة وحيه ، وأركان توحيده ، وخزّان معرفته ، ولذا كانوا أمانا لأهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء (على حد تعبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله). وكذلك ـ على حد قوله أيضا ـ إنّ مثلهم في هذه الامة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، وأنهم حسبما جاء في الكتاب المجيد (عباد الله المكرمون الّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) وأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

بل نعتقد أن أمرهم أمر الله تعالى ، ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليّهم وليّه ، وعدوّهم عدوّه ، ولا يجوز الردّ عليهم ، والرادّ عليهم كالرادّ على الرسول ، والرادّ على الرسول كالرادّ على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم.

ولهذا نعتقد أنّ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة لا تستقى إلّا من نمير

٥٤

مائهم ولا يصحّ أخذها إلّا منهم ولا تفرغ ذمّة المكلّف بالرجوع إلى غيرهم ، ولا يطمئن بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلّا من طريقهم. إنّهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات والادعاءات والمنازعات.

* * *

ولا يهمّنا من بحث الإمامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون ، وأهل السلطة الإلهيّة ، فإنّ ذلك أمر مضى في ذمّة التأريخ ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها.

وإنّما الّذي يهمّنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم ، في الأخذ بأحكام الله الشرعيّة وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الّذي جاء به. وأنّ في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الّذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم ابتعادا عن محجّة الصواب في الدين ، ولا يطمئن المكلّف من فراغ ذمّته من التكاليف المفروضة عليه من الله تعالى ؛ لأنّه مع فرض وجود الاختلاف في الآراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلق بالأحكام الشرعيّة اختلافا لا يرجى معه التوفيق ، لا يبقى للمكلّف مجال أن يتخير ويرجع إلى أيّ مذهب شاء ورأي اختار ، بل لا بدّ له أن يفحص ويبحث حتّى تحصل له الحجة القاطعة بينه وبين الله تعالى على تعيين مذهب خاص يتيقن أنه يتوصل به إلى أحكام الله وتفرغ به ذمته من التكاليف المفروضة ، فإنّه كما يقطع

٥٥

بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أن يقطع بفراغ ذمته منها ، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والدليل القطعيّ دالّ على وجوب الرجوع إلى آل البيت ، وأنّهم المرجع الأصلي بعد النبيّ لأحكام الله المنزلة ، وعلى الأقلّ قوله ـ عليه أفضل التحيات ـ : «إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ألا وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وهذا الحديث اتفقت الرواية عليه من طرق أهل السنّة والشيعة ، فدقق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه ، فما أبعد المرمى في قوله : (إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا) والّذي تركه فينا هما الثقلان معا إذ جعلهما كأمر واحد ، ولم يكتف بالتمسك بواحد منهما فقط ، فيهما معا لن تضل بعده أبدا.

وما أوضح المعنى في قوله : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» فلا يجد الهداية أبدا من فرّق بينهما ولم يتمسك بهما معا فلذلك كانوا «سفينة النجاة» و «أمانا لأهل الأرض» ومن تخلّف عنهم غرق في لجج الضلال ، ولم يأمن من الهلاك. وتفسير ذلك بحبهم فقط من دون الأخذ بأقوالهم واتباع طريقهم ، هروب من الحق لا يلجأ إليه إلّا التعصب والغفلة عن المنهج الصحيح في تفسير الكلام العربيّ المبين (١).

______________________________________________________

(١) ولا بأس بذكر امور :

الأوّل : أنّ الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ هم أولو الأمر الّذين يكون طاعتهم مطلقا

٥٦

مفروضة ، وذلك واضح بعد ما مرّ من كونهم قائمين مقام النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في جميع شئونه ، ومنها الولاية والحكومة على المسلمين ، ويشهد له مضافا إلى الروايات المتواترة قوله تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) ولا تشمل الآية المباركة غيرهم من الولاة والخلفاء ؛ لاختصاص الإطاعة المطلقة بالله تعالى والمعصومين من الرسول والأئمة المكرمين ، وإلّا لزم الأمر بالطاعة عن الفاسقين وهو قبيح ، فالآية حيث تدلّ على الطاعة المطلقة لله وللرسول واولي الأمر بسياق واحد ، تدلّ على أنّ المراد من الموضوع وهو أولو الأمر هم المعصومون ، كما فسرت الآية بهم في الروايات الكثيرة

منها : ما ورد من أن جابر بن عبد الله الأنصاري سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فمن أولو الأمر الّذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : هم خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين من بعدي ، أوّلهم علي بن أبي طالب ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر ، ستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمّد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم عليّ بن موسى ، ثم محمّد بن عليّ ، ثم علي بن محمّد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، حجة الله في أرضه ، وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الّذي يفتح الله ـ تعالى ذكره ـ على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الّذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله ، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : اي والّذي بعثني بالنبوّة أنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته ،

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٥٧

كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سرّ الله ومخزون علمه فاكتمه إلّا عن أهله (١).

ومنها : ما ورد في أمالي الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أنّ أبا محمّد الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ خطب الناس بعد البيعة له بالامر ، فقال : نحن حزب الله الغالبون وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين الّذين خلّفهما رسول الله في امته ـ إلى أن قال ـ : فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله عزوجل مقرونة ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الحديث (٢).

ومنها : ما رواه في الكافي عن الحسين بن أبي العلاء قال : ذكرت إلى أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قولنا في الأوصياء وأنّ طاعتهم مفترضة قال : فقال : نعم هم الّذين قال الله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم الذين قال الله عزوجل : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٣).

ومنها : ما رواه في الكافي أيضا عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «ايانا عني خاصة أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا» (٤).

وإلى غير ذلك من الروايات المرويّة في الأبواب المختلفة الّتي تدلّ على أنّ المراد من اولي الأمر هم الأئمة المعصومون ـ عليهم‌السلام ـ وعلى أنّ طاعتهم مفروضة ، وهو كما عرفت مطابق للاعتبار ، إذ السياق يفيد الإطاعة المطلقة ، وهي لا معنى لها إلّا في المعصومين ، ولعلّه لذلك قال في دلائل الصدق بعد نقل الآية المباركة : لا يمكن أنّ يشمل سائر الخلفاء سواء أراد بهم خصوص الأربعة ،

__________________

(١) غاية المرام : المقصد الأوّل ، الباب التاسع والخمسون ص ٢٦٧ ح العاشر الطبع القديم.

(٢) غاية المرام : المقصد الأوّل ، الباب التاسع والخمسون ص ٢٦٧ ح الثالث عشر.

(٣) غاية المرام : المقصد الأوّل ، الباب التاسع والخمسون ص ٢٦٥ ح الثاني.

(٤) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٧٦.

٥٨

أم الاعمّ منهم ومن معاوية ويزيد والوليد وأشباههم ؛ لدلالة الآية على عصمة أولي الأمر ، وهؤلاء ليسوا كذلك ، فيتعين أن يراد بأولي الأمر عليّ وأبناؤه الأطهار ؛ لانتفاء العصمة عن غيرهم بالضرورة والاجماع (١).

وقال المحقق اللاهيجي : إنّ المراد من اولي الأمر لا يكون إلّا المعصومين ؛ لأنّ تفويض امور المسلمين إلى غيرهم ترك لطف وهو قبيح (٢).

ومن ذلك يظهر وجه اختصاص اولي الأمر بالأئمة الّذي أشار إليه المصنف بقوله : «ونعتقد أنّ الأئمة هم أولو الأمر الّذين أمر الله تعالى بطاعتهم».

ثم لا يخفى عليك أنّ الفخر الرازي بعد اعترافه بدلالة الآية على عصمة الرسول واولي الأمر حمل اولي الأمر على الإجماع ، وقال : حمله عليه أولى ؛ لأنّه أدخل الرسول واولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فكان حمل اولي الأمر الّذي هو مقرون الرسول على المعصوم أولى من حمله على العاجز والفاسق الخ.

وفيه أنّ ذلك الحمل ردىء ؛ لأنّه خلاف الظاهر من الكلمة ، إذ لا مناسبة بين اولي الأمر والإجماع ، هذا مضافا إلى أنّ الإجماع على فرض وجوده ، وتحقق شرائطه حجّة بما أنه كاشف عن الحكم الشرعي ، وليس لنفس المجمعين حق الأمر والولاية ، هذا بخلاف اولي الأمر والرسول ، فإنّ لهم حقّ الأمر والحكم بين الناس ، وهذه الإطاعة غير طاعة الله ، ولذا كرّر الإطاعة فيهم ولم يكتف بذكرها في الله تعالى ، وقال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) هذا مع تفسير الآية في النصوص بالآحاد من الامة ، وهم الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ كما عرفت الإشارة إلى بعض هذه النصوص ، فتفسيرها بالإجماع خلاف النصوص المستفيضة الصحيحة أيضا كما لا يخفى.

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ١٩٢.

(٢) سرمايه ايمان : ص ١٢٤.

٥٩

والأضعف مما ذكر ما حكي عن صاحب المنار من أنّ المراد من اولي الأمر إجماع أهل الحلّ والعقد من المؤمنين ، إذا أجمعوا على أمر من مصالح الامة ، لما عرفت من أنّ حمله على إجماع الامة خلاف الظاهر وخلاف النصوص فضلا عن حمله على جماعة من الامة كأهل الحلّ والعقد هذا (١).

وأمّا شموله بالنسبة إلى الفقهاء ففيه تفصيل ، فإن اريد به شموله أصالة فقد مرّ وجه اختصاصه بالمعصومين ، فلا يشمل غيرهم.

وإن اريد به شموله لهم تبعا للأئمة المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ لأنّهم يكونون في طول الأئمة بعد كون مشروعية ولايتهم بنيابتهم عنهم ، فلا يبعد صحته إذ ولايتهم من شئون ولاية الأئمة. ولعلّ إليه يشير ما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ من أنّ المراد من اولي الأمر بالأصالة علي بن أبي طالب وغيره بالتبع (٢) ، وعليه فإطاعة الفقهاء واجبة ؛ لأنّها ترجع إلى إطاعة اولي الأمر باعتبار كونهم منصوبين عنهم.

اللهم إلّا أن يقال من المحتمل أن يكون الحصر في الأخبار المشار إليها حصرا إضافيا بالنسبة إلى حكام الجور المتصدين للحكومة في أعصار الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ فأرادوا ـ عليهم‌السلام ـ بيان أنّ الحق لهم ، وأنّ هؤلاء المتصدين ليسوا أهلا لهذا الأمر ، وإلّا فولاية الأمر إذا كانت عن حق ، بأن كانت بجعل الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ إياها لشخص أو عنوان ، فهو من قبيل تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلية ، ودوران الحكم مداره ، فعلة وجوب الإطاعة له هي كونه صاحب الأمر ، وأنّ له حقّ الأمر شرعا ، ولا محالة لا يشمل صورة أمره بمعصية الله إذ ليس له حق الأمر بالمعصية.

وبالجملة فإطاعته واجبة في حدود ولايته المشروعة ، ولا يطلق صاحب

__________________

(١) راجع الامامة والولاية : ص ٤٤ ـ ٥٠.

(٢) احقاق الحق : ج ٣ ص ٤٢٤.

٦٠