بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وعلومك بكشفه؟ يقال له : لا سبيل حينئذ إلّا أن تذعن صاغرا للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مدبّر الكائنات العالم القدير ، وخالقك من العدم والرميم. وكلّ محاولة لكشف ما لا يمكن كشفه ، ولا يتناوله علمك ، فهي محاولة باطلة ، وضرب في التيه ، وفتح للعيون في الظلام الحالك أنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الأخيرة ، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة ، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدّث عنها في السنين الخوالي ، لعدّها من أوّل المستحيلات ومن مواضع التندّر والسخريّة ، إنّه مع كلّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سرّ الذرة ، بل حتّى حقيقة احدى خواصّها وأحد أوصافها ، فكيف يطمع أن يعرف سرّ الخلقة والتكوين ، ثم يترقّى فيريد أن يعرف سرّ المعاد والبعث.

نعم ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام أن يجتنب عن متابعة الهوى ، وأن يشغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه وفيما يرفع قدره عند الله وأن يتفكر فيما يستعين به على نفسه ، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلّام ، وأن يتّقي (يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١).

______________________________________________________

(١) ويقع البحث في مقامات :

الأوّل : في أنّ المعاد بفتح الميم في الاصطلاح هو زمان عود الروح إلى بدنه الذي تعلّق به في الحياة الدنيا ، فالمراد به هو يوم القيامة أو هو مكان عود الروح

٢٤١

إلى بدنه المذكور ، فالمراد به حينئذ هو الآخرة ، وقد يستعمل المعاد بمعناه المصدري من عاد يعود عودا ومعادا ، فالمراد به هو عودة الأرواح إلى أبدانها هذا كلّه بناء على بقاء الروح وانفكاكه عن البدن بالموت كما هو المختار ، وأمّا بناء على اتحاده مع البدن وفنائه بالموت ، فالمراد من المعاد حينئذ هو الوجود الثاني للأجسام والأبدان وإعادتها بعد موتها وتفرّقها ، وكيف كان فقد استعمل المعاد في القرآن الكريم ، ولكن لم يعلم أنّ المقصود منه هو المعاني الاصطلاحية المذكورة لاحتمال أن يكون المقصود منه محل عود النبي إليه وهو مكّة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (١) وأمّا كلمة الميعاد فهي مستعملة في يوم القيامة ، ولكنّه ليست من العود بل هي من الوعد (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢).

نعم شاع استعماله في كلمات المتشرعة ، بل في الآثار والأخبار ، ومنها ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «فاتقوا الله تقية من سمع فخشع ـ إلى أن قال ـ : وأطاب سريرة وعمّر معادا واستظهر زاد اليوم ليوم رحيله» (٣).

ومنها ما جاء في بعض الأدعية : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد أهل الذكر الذين امرت بمسألتهم وذوي القربى الذين امرت بمودّتهم وفرضت حقّهم وجعلت الجنة معاد من اقتصّ آثارهم» (٤).

الثاني : أنّ الإنسان الحي ليس بدنا محضا ولا روحا محضا ، بل هو مركب من الروح والبدن ، والروح وإن لم يعلم حقيقته ، ولكن يعلم أنّه غير البدن وقابل

__________________

(١) القصص : ٨٥.

(٢) آل عمران : ٩

(٣) نهج البلاغة فيض الاسلام : ج ١ ص ١٧٨ ، الخطبة ٨٢.

(٤) مفاتيح الجنان : أعمال يوم الغدير.

٢٤٢

للارتباط مع ما وراء الطبيعة وللإرسال والإحضار وباق بعد موت البدن ، ويشهد لذلك ـ مضافا إلى ما نجده من الفرق بينهما بالعلم الحضوري بالروح دون البدن ورؤية بعض الأرواح في بعض المنافات الصادقة بعد موت الأشخاص وغير ذلك ـ قوله تعالى في القرآن الكريم : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١) ، ولا يختصّ ذلك بالشهداء ، لقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢) ، لصراحة الآية الكريمة على بقاء آل فرعون إلى يوم القيامة وعذابهم صباحا ومساء فالشهداء والكفّار لا يفنون بفناء أبدانهم ، بل كلّ من يموت لا يفنى ، بل هو باق بنصّ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣) ؛ لصراحة (ارْجِعُونِ) في أنّهم رحلوا عن الدنيا ودخلوا في النشأة الاخرى ، وهي البرزخ ، فمع موت الأبدان والرحلة عن الدنيا تكون الأرواح باقية في البرزخ ولهم مطلوبات وتمنّيات ومكالمات ومخاطبات ، وأيضا تبقى كلّ نفس بنصّ قوله تعالى أيضا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٤) ؛ إذ المراد من التوفّي : هو الأخذ ، والمأخوذ هو شيء غير البدن أخذه الملك وحفظه وأرجعه إلى ربّه.

قال بعض المحققين : «هذه الآية دلّت على أنّ في الإنسان شيئا آخر غير البدن يأخذه ملك الموت وعلى أنّ الروح تبقى بعد الموت ، وعلى أنّ حقيقة الإنسان وشخصيته بذلك الروح الذي يكون عند ملك الموت» (٥) والأصرح من هذه الآية قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها

__________________

(١) البقرة : ١٥٤.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٤) السجدة : ١١.

(٥) راجع معارف القرآن : جلسة ٥٠ ص ٤٣٢.

٢٤٣

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١) ؛ إذ الإمساك والإرسال بعد الأخذ والتوفّي ممّا يصرّحان على وجود شيء آخر مع البدن وهو الروح ، وهو يبقى بعد الموت ويمسكه الله تعالى ، وغير ذلك من الأدلّة المتعددة المتظافرة القطعيّة (٢).

الثالث : أنّ بين الحياة الدنيويّة والحياة الاخروية حياة اخرى ، وهي الحياة البرزخية ، والآيات الدالّة على تلك الحياة متعددة ، وقد مرّ شطر منها ، وبقيت الاخرى ، منها : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ...) (٣) ؛ لأنّ البشارة بالذين لم يلحقوا بهم بعد القتل في سبيل الله والشهادة لا تكون إلّا في الحياة البرزخية.

ومنها : قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٤) ؛ إذ التمنّي بعد القتل والدخول في الجنة بالنسبة إلى قومه الذين قتلوه ولم يسمعوا إرشاده وكانوا أحياء لا يكون إلّا في الحياة البرزخية ، قال بعض الأعلام ـ بعد نقل جملة من الآيات الدالّة على الحياة البرزخية ـ : ظاهر الآيات الكريمة أنّ الإنسان المؤمن بعد الموت يدخل الجنّة كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

(٢) راجع الكتب التفسيرية ، والحديثية والفلسفية منها : درر الفوائد : ج ٢ ص ٣٥٥ ـ ٣٧٥ ، ونامه رهبران : ص ٤٤٤ ومعرفت نفس وگوهر مراد : ص ٩ و ٩٦ و ٤٣١.

(٣) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٤) يس : ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤٤

وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وقوله تعالى : (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وقوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) ؛ لأنّ الظاهر الأمر بدخول الجنّة بعد موتهم لا يوم القيامة ، بل قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) صريح في أنّه في البرزخ لقوله تعالى : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).

كما أنّ بعض الآيات الكريمة ظاهرة في المطلب ، وإن لم يذكر فيها لفظ الجنّة من أجل أنّ الرزق بكرة وعشيا ليس من صفات الجنّة الاصليّة ؛ لأن النعم فيها دائميّة ، ولا بكرة فيها ، ولا عشي ، لعدم الشمس وقتئذ كما يأتي إن شاء الله تعالى أنّ (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) و «أنّ أُكُلُها دائِمٌ» وأنّ فواكهها (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) و «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ و يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ» و (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) انتهى موضع الحاجة (١).

أقول : وقد دلّ بعض الآيات على أنّ الكفار كآل فرعون أيضا لهم حياة برزخية ، ويعذّبون فيها بكرة وعشيا ، فلا تختصّ الحياة البرزخية بالمؤمنين ، هذا مضافا إلى تواتر الأخبار بوجود الحياة البرزخية ، كالروايات الدالّة على السؤال في القبر وضغطة القبر والروايات الدالّة على أنّ القبر ، أمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران ، والروايات الدالّة على أنّ الأموات بعد قبض الروح يتلاقون ، ويتعارفون ويتساءلون ، كما عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إذا مات الميت اجتمعوا عنده فاسألوه عمّن مضى وعمّن بقي ، فإن كان مات ولم يرد عليهم ، قالوا : قد هوى هوى ، ويقول بعضهم : دعوه حتى يسكن ممّا مرّ عليه من الموت» (٢).

__________________

(١) رسالة في المعاد : ج ٢ ص ٢ للعلّامة الحاج الشيخ ميرزا علي الاحمدي مد ظله وهي مخطوطة.

(٢) رسالة في المعاد : ج ١ ص ٤٤ نقلا عن الوافي : ج ٣ ص ٩٨ أبواب ما بعد الموت باب ١١٠.

٢٤٥

والروايات الدالّة على أنّ الأموات يأنسون بمن زار قبورهم ، ويدّعون في حقّ الأحياء ، والروايات الدالّة على أنّ أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة في حجرات في الجنّة يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويتزاورون فيها ، ويقولون : ربّنا أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا ، والروايات الدالّة على أنّ أرواح الكفّار في حجرات النار يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويتزاورون فيها ، ويقولون : ربّنا لا تقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا.

والروايات الدالّة على أنّ أرواح المؤمنين حشرهم الله إلى وادي السلام في ظهر الكوفة ، وهم حلق حلق قعود يتحدثون.

والروايات الدالّة على مكالمة النبي أو الأئمة ـ عليهم صلوات الله ـ مع الأموات ، كما روي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «أنّه وقف على قليب بدر فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذ وقد ألقوا في القليب : لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فقال له عمر : يا رسول الله ما خطابك لهام قد صديت ، فقال له : مه يا ابن الخطاب فو الله ما أنت بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلّا أن اعرض بوجهي هكذا عنهم» (١) وغير ذلك من طوائف الأخبار.

ثم إنّ الظاهر من الأخبار أنّ الأرواح في عالم البرزخ يعيشون في قالب مثالي كأبدانهم ، كما ورد عن أبي ولّاد عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت له : جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم» (٢) وفي رواية اخرى : «فإذا قبضه الله عزوجل صيّر

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٦ ص ٢٥٤

(٢) بحار الانوار : ج ٦ ص ٢٦٨.

٢٤٦

تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصور التي كانت في الدنيا» (١) فالحياة البرزخية مسلمة لا مجال للتشكيك فيها.

الرابع : أنّ حقيقة الموت ليست هي الانعدام والفناء ، بل هي انقطاع ارتباط الأرواح مع الأبدان ، والانتقال من الحياة الدنيويّة إلى الحياة البرزخية ، وقد عرفت قيام الأخبار المتواترة جدا على بقاء الأرواح بعد الموت ، ووجود الحياة البرزخية ، وإليه يشير ما عن مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «أيّها الناس إنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء ، ولكنكم من دار تنقلون ، فتزودوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ، والسلام» (٢).

وما عن الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ حيث سئل : «ما الموت الذي جهلوه؟ أنّه قال : أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد» (٣).

وما عن علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ أنّه قال : «لما أشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب ، نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لأنّهم كلّما اشتد الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين ـ صلوات الله عليه ـ وبعض من معه من خصائصهم تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم ، فقال بعض لبعض : انظروا لا يبالي بالموت ، فقال لهم الحسين ـ عليه‌السلام ـ :

صبرا بني الكرام فما الموت إلّا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦ ص ٢٧٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٣ ص ٩٦.

(٣) بحار الأنوار : ج ٦ ص ١٥٤.

٢٤٧

الجنان الواسطة ، والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، أنّ أبي حدّثني عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، وما كذبت ولا كذبت» (١) ، وقال أيضا في خطبته المعروفة : «خطّ الموت على ابن آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة» إلى آخرها ، مع أنّ الزينة بدون المتزين لا إمكان لها. وقيل لمحمّد بن علي ـ عليهما‌السلام ـ : «ما الموت قال : هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة ، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره ، فكيف حال فرح في النوم ووجل فيه ، هذا هو الموت فاستعدوا له» (٢).

فالموت ليس إعداما للإنسان فإطلاق الإعدام والإفناء على بعض أنواع الموت لا يكون على سبيل الحقيقة ؛ إذ الأرواح باقية وتشخص الأشخاص بالأرواح ، فزيد باق ما دام روحه باقيا ؛ إذ البدن كالثوب فكما أنّ نزع الثوب لا يوجب سلب الزيدية عن زيد ، فكذلك نزع البدن لا يوجب ذلك ، ولذا كثيرا ما رأينا آباءنا أو امهاتنا أو أقرباءنا أو أصدقاءنا في المنام بعد مماتهم ونقول : رأيناهم ولا يكون إسناد الرؤية إليهم إسنادا مجازيّا ، وربّما يخبرونا بالواقعيات ، وبما يختصّ بهم ، ممّا لم يعلم به إلّا بهم ، فهذه آية وجودهم في الواقع من دون ريب وارتياب.

بل الموت وسيلة انتقال للإنسان وارتقائه وتخليصه عن الأوساخ والأقذار ، وسبب نجاته عن سجن الدنيا وكدوراتها ، وموجب لاستراحة المؤمن وإراحة الناس عن الكفّار والأشرار ، وهو حقّ يأتي كلّ إنسان «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦ ص ١٥٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦ ص ١٥٥.

٢٤٨

مَيِّتُونَ».

الخامس : أنّ إعادة الأرواح إلى الأبدان في القيامة لا تكون إعادة المعدوم ، لأنّ المفروض كما عرفت هو بقاء الأرواح في البرزخ ، فالأرواح لا تكون معدومة حتّى تكون إعادتها إعادة المعدوم ، كما لا يكون أيضا إعادة أجزاء البدن إعادة المعدوم ، لأنّ الأجزاء المتفرقة موجودة معلومة عند الله تعالى ، ولا يعزب شيء منها عن علمه تعالى مهما تبدّلت وتغيّرت.

هذا مضافا إلى عدم اشتراط بقاء أجزاء مادة البدن في عينية الإنسان المعاد واتحاده مع الإنسان الذي كان في الدنيا عقلا ؛ لما عرفت من أنّ تشخص الشخص بحقيقته ، وهي روحه ، ولذا لم يضر ببقائه تبدّل أجزائه في الحياة الدنيا بتمامها ، مع ما قيل من أنّ أجزاء الإنسان تتبدّل مرّات عديدة في طول سنوات عمره (١) ، ويشهد له حكم المحاكم بمجرمية من ارتكب جرما في أيام شبابه ، ثم هرب واخذ في أيام هرمه ، ولزوم عقوبته مع تبدّل أجزاء بدنه مرّات عديدة ، في طول حياته فلو خلق مثل بدن ميت في العقبى ، اعيد روحه إليه ، لكانت العينيّة محفوظة كما لا يخفى ، ولكن مقتضى الأدلّة الشرعيّة هو خلق البدن من الأجزاء المتفرّقة التي كانت بدنا له في أيام الدنيا ، كما يشهد له قوله تعالى : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٢) ، فإنّ الإخراج والخروج فرع بقائهم في الأرض ، ـ وإلّا فلا يصدق عنوان الإخراج والخروج وغير ذلك من الشواهد والأدلّة.

ولعلّ إليه يؤول ما ذكره المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ : «من أنّ المحققين يقولون : إنّ البدن بعد مفارقة الروح ، وإن انعدم بحسب الصورة ، ولكن يبقى بحسب المادة ففي وقت الإعادة افيض عليها مثل الصورة الأوّلية ، وتتعلّق الروح الباقية بالبدن المعاد (وتتحد الهوهوية) لأنّ تشخّص الإنسان بتشخّص النفس

__________________

(١) راجع معارف قرآن : جلسة ٤٩ ص ٤١٤ ـ ٤٢١.

(٢) الروم : ١٩.

٢٤٩

الناطقة ، التي هي الروح ، ولا دخل في تشخص النفس الناطقة إلّا مادة البدن مع صورة ما ، فالصورة المعينة لا مدخلية لها ، ألا ترى أن شخص الطفل بعينه هو شخص الكهل ، أو الشيخ ، مع أنّ بدن الكهل أو الشيخ ، ليس بدن الطفل بعينه ، فإذا كانت روح المثاب روح المطيع الباقي بعينه ، ومادة بدنه مادة بدنه بعينها ، فلا يلزم أن يكون المثاب غير المطيع ، كما لا يلزم أن يكون الكهل غير الطفل» (١) ، ولا يخفى عليك أنّه إن أراد من قوله : ولا دخل في تشخّص النفس الناطقة» إلخ ، دخالة مادة ما في تشخّص النفس الناطقة عقلا ، ففيه منع ، لما عرفت آنفا.

وإن أراد دخالتها شرعا فهو ، وإليه يرجع أيضا ما في متن تجريد الاعتقاد حيث قال : «ويتأوّل (أي العدم يتأول) في المكلّف (بفتح اللام) بالتفريق كما في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ» وقال الشارح العلّامة في شرح عبارة المحقق الطوسي ـ قدس‌سرهما ـ : «وأما المكلّف الذي يجب إعادته فقد أوّل المصنّف ـ رحمه‌الله ـ معنى إعدامه بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك ـ إلى أن قال ـ : فإذا فرّق أجزاءه كان هو العدم ، فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألّفها كما كانت ، فذلك هو المعاد» إلى آخر عبارته فراجع (٢).

ولا استغراب في هذا الجمع عن الحكيم القدير الخبير ، روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيّوب عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ نظر إلى جيفة ، على ساحل البحر تأكلها سباع البر ، وسباع البحر ثم يثب السباع بعضها على بعض ، فيأكل بعضها بعضا ، فتعجب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقال : «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ

__________________

(١) سرمايه الإيمان : ص ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٤٠٢ ، الطبع الجديد.

٢٥٠

الْمَوْتى» فقال الله له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فأخذ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ الطاوس والديك والحمام والغراب ، قال الله عزوجل : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطعهن ثم أخلط لحماتهن (لحمهن ـ خ ل) وفرّقها على كلّ عشرة جبال ، ثم خذ مناقيرهن وادعهن يأتينك سعيا ، ففعل إبراهيم ذلك وفرّقهن على عشرة جبال ثم دعاهن فقال : أجيبيني بإذن الله تعالى ، فكانت يجتمع ويتألف لحم كلّ واحد ، وعظمه إلى رأسه ، وطارت إلى إبراهيم ، فعند ذلك قال إبراهيم : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١) قال العلّامة المجلسي ـ قدس‌سره ـ : «تلك الأخبار تدلّ على أنّه تعالى يحفظ أجزاء المأكول في بدن الآكل ، ويعود في الحشر إلى بدن المأكول كما أخرج تلك الأجزاء المختلطة والأعضاء الممتزجة من تلك الطيور وميّز بينها» (٢).

وروي عن هشام بن الحكم أنّه قال الزنديق للصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أنّى للروح بالبعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت؟ فعضو في بلدة تأكلها سباعها ، وعضو باخرى تمزّقه هوامها ، وعضو قد صار ترابا ، بني به مع الطين حائط قال : إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه ، قال : أوضح لي ذلك ، قال : إنّ الروح مقيمة في مكانها : روح المحسنين في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا منه خلق (وفي المصدر : كما منه خلق) وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها ، فما أكلته ومزقته كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وأنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣٧

٢٥١

الأرض فتربو الأرض ، ثم تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب ، إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب (وفي المصدر : كلّ قالب إلى قالبه فينتقل) فينتقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» (١).

وروي في الكافي عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «سئل عن الميّت يبلى جسده ، قال : نعم ، حتّى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، تبقي في القبر مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة» (٢).

قال العلّامة المجلسي ـ قدس‌سره ـ : توضيح : «مستديرة أي بهيئة الاستدارة أو متبدلة متغيرة في أحوال مختلفة ككونها رميما وترابا ، وغير ذلك ، فهي محفوظة في كلّ الأحوال» (٣) انتهى موضع الحاجة.

وعليه فلا مانع من جمع المتفرّقات خصوصا إذا اكتفى بالطينة الأصلية كما هو مفاد بعض الأخبار.

السادس : في إمكان المعاد : ولا يخفى أنّ عود الأرواح إلى أبدانها ممكن ذاتا ولا استحالة فيه ، لما عرفت من أنّ عود الأرواح إلى أبدانها ليس إعادة المعدوم ، حتّى يقال باستحالتها ؛ لأنّ المعدوم لا شيئية له حتّى يعاد ، ففرض إعادة المعدوم لا يعقل إلّا إذا فرض المعدوم موجودا حتّى يكون قابلا للاعادة ، ومع هذا الفرض يجتمع العدم والوجود في شيء واحد وهو محال ، وأيضا عودة الأرواح ، وتجديد الحياة ، تكون بعد موت الأبدان ، لا في حال موت الأبدان حتّى يكون تناقضا ، فمع عودة الأرواح عادت الحياة ، ولا موت للأبدان ، فلا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣٧ ـ ٣٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٤٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٤٣.

٢٥٢

يجتمع موت الأبدان مع حياتها حتّى يناقضها ، وعليه فالمعاد ، هو إعادة الموجود إلى الموجود ، لبقاء الأرواح ولبقاء أجزاء الابدان ، أو مادتها ، وتجديد حياة الأبدان بعد موتها لا في حال موتها ، وهذا لا استحالة فيه ، بل أمر ممكن ذاتا هذا كلّه بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

وأمّا الإمكان الوقوعي فهو أيضا واضح ؛ إذ لا يستلزم المعاد محالا ، بل المقتضي لوجوده موجود ، ولا مانع منه ، أمّا المقتضى فهو لتماميّة شرط الفاعلية بسبب كونه موافقا للحكمة والعدالة ونحوهما كما سيأتي إن شاء الله بيانه ، وأمّا عدم المانع فلعدم وجه صحيح ليمتنع وقوعه ، بل أدلّ شيء على إمكان وقوعه ، هو وقوع مثل المعاد وهو الرجعة في الدنيا ؛ إذ الرجعة في الحقيقة عود الأرواح إلى أبدانها كالمعاد ، وإنّما الفرق بينهما في التوقيت وعدمه ، وقد عرفت آنفا إمكان الرجعة ، ووقوعها في الامّة السالفة بنصّ القرآن الكريم ، وعرفت أيضا قيام الأخبار المتواترة على وقوعها في الأمة الإسلامية بعد ظهور الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ فما تخيل أنّه مانع ليس بمانع ، وإنّما هو حاك عن قصور المتخيل في درك الحقائق كما لا يخفى ، فلا يبقى إلّا استبعادات من الكفّار والملحدين ، وهذه الاستبعادات ناشئة عن قياس قدرة الخالق وعلمه بقدرة المخلوق وعلمه ، وإلّا فمن آمن بالله تعالى وأوصافه على ما اقتضته الأدلّة والبراهين القطعيّة ، لا يستبعد صدور شيء منه تعالى ، وقد أشار إلى بعضها في القرآن الكريم مع الجواب عنه كقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١) ، والآية الكريمة أشارت إلى قدرته تعالى التي أوجبت إنشاء العظام وغيرها أوّل مرّة ، وإلى علمه الواسع الذي لا يعزب عنه شيء من المخلوقات

__________________

(١) يس : ٧٨.

٢٥٣

حتّى يرفع استبعادهم في عودة حياة العظام البالية ، وفي جمع الأجزاء المتفرّقة في أقطار الأرض وأكّد ذلك في ضمن آيات عديدة اخرى أيضا ، منها قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (١) ، ومنها قوله تعالى : «(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) ـ إلى أن قال عزّ شأنه ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)» (٢).

فمن شك في صدور المعاد عن قدرته تعالى فلينظر إلى ما صدر وما يصدر عنه تعالى في خلقة الإنسان مع عجائب ما فيه ، وفي خلقة الأشجار والأثمار والنباتات ، فهل يمكن أن يقدر الله تعالى على مثل هذه الامور ولا يقدر على إحياء الموتى بعد تفرّق أجزائهم ، فالتأمل حول قدرته تعالى والعلم بأنّها مطلقة ، وهكذا التأمل حول علمه تعالى وأنّه لا يعزب شيء عن حيطة علمه ، يوجب رفع الاستبعادات والظنون الواهية ؛ إذ لا موجب لها ، بل هذه الظنون والدعاوى الباطلة لا توافق حكمة الله تعالى ، وقد أشار إليه في كتابه العزيز بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٣) ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عند الإشارة إلى الأدلّة العقليّة لوقوع المعاد ووجوبه.

ثم إنّ هذه الظنون سواء كانت عن الذين آمنوا بالله ، أو عن الذين لم يؤمنوا به ، التي لا دليل عليها تنشأ عن ضعفهم في المعرفة بالله تعالى وقدرته وعلمه ، مضافا إلى مطابقتها لأهوائهم وأميالهم الفاسدة ، لأنّ الاعتقاد بالمعاد يصلح للرادعية ، والدعوة إلى ترك اللذات والشهوات الفاسدة ، فبإنكار المعاد يرفع

__________________

(١) يس : ٨١.

(٢) الحج : ٥.

(٣) ص : ٢٧.

٢٥٤

هذا الرادع عن أمامهم ولعلّ إليه يشير قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) (١) ، فإرادتهم للشهوات والأهواء من دون مانع تدعوهم إلى الإنكار ، كما يشهد قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (٢). على أنّ التجاوز والذنوب ألجأتهم إلى الإنكار. فينقدح ممّا ذكر أنّ المعاد الجسماني أمر ممكن ذاتا ووقوعا ، ولا دليل على خلافه.

السابع : في حتمية المعاد ، ولا ريب أنّ القرآن الكريم أخبر عن وقوع القيامة والمعاد أخبارا جزميّا قطعيّا مع التأكيدات المختلفة. وتعرّض لخصوصياته في ضمن آيات كثيرة التي تقرب من ألفين على ما ذكره بعض المحققين وإليك بعض الآيات : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣).

وفي هذه الآية أخبر عن وقوع القيامة والمعاد الجسماني بالجزم والقطع ، ونفى عنه مطلق الريب والشكّ مع التأكيدات وأكّد وقوعها في ضمن آيات اخر بالقسم كقوله عزّ شأنه :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٤) وفي هذه الآية ذكر أصناف التأكيدات من القسم ولام القسم ونون التأكيد ، وقرن هذه التأكيدات بمثل قوله : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) في ذيل الآية ، لبيان حتميّة البعث ، والنشر من القبور الذي أنكره الكفار ، وعبّر عن القيامة والبعث المذكور بالماضي ، لحتمية وقوعه كقوله عزّ شأنه : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٥) ، وقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (٦).

__________________

(١) القيامة : ١ ـ ٥.

(٢) المطففين : ١٠ ـ ١٢.

(٣) الحج : ٧.

(٤) التغابن : ٧.

(٥) الواقعة : ١.

(٦) الزلزال : ١.

٢٥٥

وجعل القيامة قريبة ممكنة خلافا لما تخيله الكفّار من كونها بعيدة ، وقال جلّ جلاله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) (١) ، وأرسل رسله للإنذار والتبشير بالآخرة والقيامة ، كما قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٢) ، وليس ذلك إلّا لحتمية وقوعها ، وأيضا جعل القيامة من ميعاده التي لا تخلف فيها ، لحتمية وقوعها ، كما قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣).

وغير ذلك من الآيات ، فإنّ كلّها تحكي عن حتميّة وقوع القيامة والبعث والنشور المذكور في القرآن بالمطابقة أو الملازمة ، فإنّ بيان أوصاف القيامة ، وبيان أوصاف المؤمنين والكافرين والمجرمين ، أو بيان أوصاف الجنّة والجحيم أو غير ذلك ، أيضا تدلّ على حتمية وقوع القيامة والبعث والنشور ، إذ البحث عن هذه الخصوصيّات يكون بعد الفراغ عن أصل وقوعها.

ثم إنّ مقتضى قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤) وغيره هو أنّ المعاد الذي آمن به إبراهيم وغيره في الأزمان السالفة قبل الإسلام هو المعاد الجسماني.

فالآيات القرآنية تدلّ بالصراحة على وقوع المعاد وحتميته ، وعلى كونه معادا جسمانيا ، وعلى كونه مما اعتقد وآمن به كلّ نبيّ وكلّ مرسل وكلّ مؤمن في كلّ عصر من الأعصار الماضية ، هذا مع قطع النظر عمن الأخبار والروايات المتواترات الواردة في المعاد الجسماني ، فلا مجال للريب في أصل وقوع المعاد ،

__________________

(١) المعارج : ٧.

(٢) الأنعام : ٤٨.

(٣) آل عمران : ٩.

(٤) البقرة : ٢٦٠.

٢٥٦

وفي كونه جسمانيّا ، بمعنى عودة الأرواح إلى أبدانها ولا في أدلّة المعاد لصراحتها وتواترها.

ولقد أفاد وأجاد العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «المعاد الجسماني معلوم بالضرورة من دين محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والقرآن دلّ عليه في آيات كثيرة بالنصّ ، مع أنّه ممكن فيجب المصير إليه ، وإنّما قلنا بأنّه ممكن ؛ لأنّ المراد من الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة وذلك جائز بالضرورة» (١) فقول بعض الفلاسفة من أتباع المشّائين باختصاص المعاد بالمعاد الروحاني على المحكي مخالف للضرورة من الدين ، كما أنّ قول جمع من المتكلّمين بعدم بقاء الروح وفنائه بموت الأبدان يخالف الآيات والروايات المتواترة الدالّة على بقاء النفس ، ووجود الحياة البرزخية ، فالحقّ هو بقاء الأرواح وأنّ معادها هو عودتها إلى أبدانها.

الثامن : في الأدلّة العقليّة : ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى الاستدلال بالأدلّة العقليّة ، على وقوع المعاد بعد قيام الأدلّة السمعيّة القطعيّة وضرورة الإسلام بل ضرورة الدين ، على إثبات المعاد ، ولكن حيث أشير في الأدلّة السمعيّة إلى الوجوه العقليّة فلا بأس بذكر بعضها :

١ ـ دليل الحكمة :

إنّ الحدّ الوسط في هذا الدليل هو حكمته تعالى ، والشكل القياسي في هذا الدليل ، يكون هكذا : أنّ الله تعالى حكيم ، والحكيم لا يفعل عبثا وسفها ، فهو تعالى لا يفعل عبثا وسفها.

ثم ينضم إليه القياس الاستثنائي ، وهو أنّه لو لم يكن للإنسان معاد لكان

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٤٠٦ ، الطبع الجديد.

٢٥٧

خلقه عبثا وباطلا ، ولكنّ الله تعالى لا يفعل عبثا وسفها ، فالمعاد للإنسان ثابت ، فحكمته تعالى تقتضي أن يكون للإنسان حياة دائمية ومعاد في القيامة وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان مقدمات.

الأولى : أنّ الله تعالى حكيم ، والحكيم لا يفعل العبث والسفه ؛ لأنّه قبيح لرجوعه إلى ترجيح المرجوح ، أو لأنّه محال ، لأوّله إلى الترجح من غير مرجح ، وقد مرّ البحث عنه في العدل ، ولا ينافي ذلك ما عرفته في المباحث المتقدّمة من أنّ الله تعالى لا غاية له وراء ذاته ؛ لأنّ المقام يثبت الغاية للفعل لا للفاعل وكم من فرق بينهما.

الثانية : أنّ العبث والسفه هو ما لا يترتب عليه غاية عقلائيّة ، مثل ما إذا صرف ذو ثروة ماله فيما لا منفعة له ، أو فيما يكون منفعته أقلّ ممّا صرفه ، ولا يكون الصرف ذا حكمة ، إلّا إذا ترتب عليه المنفعة الزائدة عمّا صرف ، فالفعل لا يخرج عن العبثية والسفاهة ، إلّا إذا ترتب عليه فائدة وغاية عقلائية.

وعليه فخلقة الإنسان مع ابتلائه بأنواع المشكلات ، وكون نهايته الفناء من دون ترتب فائدة على ذلك بالنسبة إلى الله تعالى لكونه كمالا محضا وغنيا مطلقا ، ولا بالنسبة إلى المخلوق بعد فرض كونه سيصير فانيا عبث وسفاهة ؛ لأنّه بمنزلة ذي صنعة يصنع شيئا مهمّا ثم يخرّبه قبل أن يستفيد منه نفسه أو غيره ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وعبادة الإنسان وإطاعته لله عزوجل لا تنفع في حقّه تعالى ، لكونه غنيا مطلقا ، ولا في حقّ المطيع بعد كون المفروض أنّه سيصير فانيا ، والاستكمال بالطاعة والعبادة لا مطلوبية له إلّا إذا كان المطيع باقيا ، فإنّ العبادة والطاعة حينئذ توجبان رفعة نفس المطيع إلى مقام يتلذذ منه ، كالقرب والدنوّ من ساحة ربّه المتعال ، وكلياقته للمجالسة مع الأولياء الكرام ، في جنّات النعيم وغير ذلك.

قال الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ : «إن كان خلف كلّ وجود

٢٥٨

عدم ، أو خلف كلّ عمران تخريب ، وإن كان كلّ نيل للتخلية فما يحكم على النظام العالمي إلّا التحرير والضلال ، وتكرار المكررات ، فيقوم وجود كلّ شيء على العدم والباطل» (١).

وقرّره الحكيم المتأله محمّد مهدي النراقي بوجه آخر ، وهو : «أنّا نرى في هذا العالم بعض الناس يطيعون ، وبعضا آخر يعصون ، وبعضهم يحسنون ، وبعضا آخر يسيئون ، وبعضهم يديمون في العبادة والطاعة ، وبعضا آخر يديمون المعاصي والسيئات ، ونرى جمعا في الخيرات والمبرّات ، وجمعا آخر في الظلم والخطيئات.

ونرى طائفة نالوا مقام رضاية الله تعالى ، وفرقة اخرى ذهبوا في الطغيان والضلال ، ونرى طبقة في الإحسان والنصح ، وزمرة في الملاهي والمناهي.

ونرى مع ذلك أنّ الموت يعرض على جميعهم ويفنيهم ، مع عدم نيل كلّ واحد منهم بجزاء عمله ، فلو لم يكن عالم آخر يجزى كلّ واحد بعمله ، لكان خلقة هذا النوع العظيم شأنه عبثا وسفها» (٢) ونحوه كلام الفاضل الشعراني ـ قدس‌سره ـ في ترجمة وشرح تجريد الاعتقاد (٣) فراجع.

وكيف كان فما يخرج خلقة الإنسان عن السفاهة والعبث ، هو وقوع المعاد ، لأن يصل الإنسان إلى نتيجة عمله الذي عمله في الدنيا ، من الاستكمال أو جزائه ، وإليه يؤول قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (٤).

فقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) إشارة إلى أنّ خلقة الإنسان بدون الرجوع والمعاد ليس إلّا عبثا وسفاهة وهي المقدمة الثانية.

وقوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) إشارة إلى عدم وقوع العبث منه

__________________

(١) زندگى جاويد

(٢) انيس الموحدين : ص ٢٣٢ ، الطبع الجديد.

(٣) ترجمة وشرح تجريد الاعتقاد : ص ٥٦٤.

(٤) المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦.

٢٥٩

تعالى لعلوّه عن ذلك وهو المقدمة الاولى ، ولعلّ قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) إشارة إلى عدم حاجته إلى خلقة الإنسان ومعاده ؛ لأنّه مالك الملك ، والذي يكون كذلك ، لا حاجة إلى غيره ، فنيل الإنسان إلى غايته وعدمه لا يؤثران في مالكيته للملك ، وإنّما الخلقة ومعادها تنشأ من علوّه ، وكماله ، وغناه ، فلا مورد لاستكمال الكامل المطلق بالخلقة والمعاد.

الثالثة : أنّ المستفاد من دليل الحكمة هو معاد الإنسان كما تشير إليه الآية الكريمة ، وأمّا معاد عالم المادة والحيوانات فقد ذهب بعض أساتيذنا إلى الاستدلال له بدليل الحكمة ، ولكنّه محلّ تأمّل ؛ لإمكان أن يقال : إنّ خلقة المادة والحيوانات لانتفاع الإنسان ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١) ، فمع وجود هذه الغاية في خلقة المادة والحيوانات ، وهي استفادة الإنسان منها بحيث يتمكن من الحياة الدنيويّة حتّى يعيش ويعمل ما يعمل ليست خلقتها عبثا وسفها ، ولو لم يكن لها معاد فإثبات المعاد لهما بهذا الدليل محلّ تأمّل ، بل منع ، نعم لو لم يكن للإنسان معاد فلا يكون خلقة كلّ ذلك إلّا عبثا وسفها وباطلا كما لا يخفى.

وكيف كان فإذا عرفت هذه المقدمات يكون خلقة الإنسان أحسن شاهد على وقوع المعاد ؛ إذ العبث لا يصدر منه تعالى ، فإذا كان الإنسان مخلوقا فلا يكون عبثا مع أنّه لا يخرج عن العبثية إلّا بوقوع المعاد ، فحكمته تعالى توجب البعث والمعاد ، كما صرّح به المحقّق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في متن تجريد الاعتقاد (٢).

وقال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في ذيل قوله تعالى : «وَما خَلَقْنَا

__________________

(١) الجاثية : ١٣.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٤٠٥ الطبع الجديد.

٢٦٠