بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

من قبل الله الحكيم العليم ، بل أملى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ جميع الشرائع والأحكام على الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ وأمره بكتابته وحفظه ورده إلى الأئمة من ولده ـ عليهم‌السلام ـ فكتبه ـ عليه‌السلام ـ بخطّه وأداه إلى أهله.

والثاني : أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أملى هذا العلم على علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ فقط ، ولم يطلع عليه في عصره ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غيره أحد ، وأوصى إليه أن يكون هذا الكتاب بعده عند الأئمة الأحد عشر ، فيجب على الامة كلّهم أن يأخذوا علم الحلال والحرام ، وجميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من علي بن أبي طالب والأئمة من ولده ـ عليهم‌السلام ـ فإنّهم موضع سرّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخزّان علمه وحفّاظ دينه.

والثالث : أنّ الكتاب كان موجودا عند الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأراه الإمامان أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ـ عليهم‌السلام ـ جماعة من أصحابنا الإمامية وغيرهم من الجمهور ، لحصول الاطمئنان ، أو الاحتجاج على ما كانا يتفردان من الفتاوى عن سائر الفقهاء ، ويقسمان بالله أنّه إملاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخط علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ.

والرابع : كون الكتاب معروفا عند الخاصّة والعامّة في عهد الإمامين ـ عليهما‌السلام ـ لأنهما كثيرا ما يقولان في جواب استفتاآت الجمهور ـ كغياث بن إبراهيم وطلحة بن زيد والسكوني وسفيان بن عيينة والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وأمثالهم ـ أن في كتاب علي ـ عليه‌السلام ـ كذا وكذا في جواب مسائل الأصحاب كزرارة ومحمّد بن مسلم وعبد الله بن سنان وأبي حمزة وابن بكير وعنبسة بن بجاد العابد ونظائرهم.

٢١

والخامس : أنّ ما عند الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ وأخذوه من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فتحرم على الامة مخالفتهم في الحكم والفتوى اعتمادا على الرأي والقياس والاجتهاد ، ويجب عليهم الأخذ بأحاديثهم وفتاويهم ، ورد ما يرد عن مخالفيهم ؛ لأنّ ما عندهم أوثق مما عند غيرهم ، ومعلوم أنّ ما ورد في كون أحاديث الأئمة الاثني عشر وعلومهم ـ عليهم‌السلام ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من طرق العامّة والخاصّة قد تجاوزت حد التواتر ، بل لا يسعها المجلدات الضخام ولسنا بصدد استقصائها في هذا الكتاب (١) ، فما قاله أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ قاله النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيجب الاتباع عنهم كما يجب الاتباع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

المقام السادس : في كون الإمامة لطفا ورحمة ، ولا سترة فيه : بعد ما عرفت من شئون الإمامة فإنّ شئون الإمامة عين شئون نبوة نبينا عدا الوحي ، فكما أنّ النبوة لطف ورحمة كذلك الإمامة.

قال الحكيم المتألّه المولى محمّد مهدي النراقي : إنّ رتبة الإمامة قريب برتبة النبوة إلّا أن النبيّ مؤسس للتكاليف الشرعية بمعنى أنه جاء بالشريعة والأحكام والأوامر والنواهي من جانبه تعالى ابتداء ، والإمام يحفظها ويبقيها بعنوان النيابة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٢).

ثم إنّ في الإمامة كالنبوة مراتب من اللطف والرحمة الّتي تقتضيها رحيميته تعالى ، وكماله المطلق ، فأصل وجود الإمام لطف فإنّه إنسان كامل كما أن تصرفه في الناس بهدايتهم وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة ، وتدبير شئونهم ومصالحهم ، وإقامة العدل ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وتزكيتهم

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ١١ الطبع الثاني.

(٢) أنيس الموحدين : ص ١٢٧.

٢٢

وحفظ الشريعة عن التحريف والزيادة والنقصان ، وإزالة الشبهات ، وتفسير الكتاب ، وتبيين المشتبهات ، وغير ذلك ألطاف أخر ، التي يقتضيها كماله المطلق ورحيميته المطلقة ، ومن تلك المراتب الهداية الإيصالية.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ إنّ الإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله ، دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبيّ والرسول (١) ، ولذا قال في ذيل قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٢) : إنّ الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى إراءة الطريق ؛ لأنّ الله سبحانه جعل إبراهيم إماما بعد ما جعله نبيا كما أوضحناه في تفسير قوله (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فيما تقدم ولا تنفك النبوّة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق ، فلا يبقى للإمامة إلّا الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب ، وهي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. وإذا كانت تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالأمر الّذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري ، بل ما يفسره في قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) فهو الفيوضات المعنوية والمقامات الباطنية الّتي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة من ربهم وإذ كان الإمام يهدي بالأمر ـ والباء للسببية أو الآلة ـ فهو متلبس به أوّلا ومنه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم ، فالإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها ، كما أن النبيّ رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١ ص ٢٧٥ ، شيعه در اسلام : ص ٢٥٣ ـ ٢٦٠.

(٢) الأنبياء : ٧٣.

(٣) يس : ٨٢ ـ ٨٣.

٢٣

الظاهرية ، وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبيّ وتنتشر منه ، وبتوسطه إلى الناس وفيهم ، والامام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما ان النبيّ دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة (١). ثم إنّ ما ذكره العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ يكون في مقام الفرق بين الإمام والنبيّ فلا ينافي ما أشرنا إليه من اجتماع وظائف النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عدا تلقّي الوحي في الإمام مع وظائفه ، كما عرفت من أنّ أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ يقومون مقام النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في وظائفه وعليه فلا تنحصر وظائفهم في الهداية المعنوية كما لا يخفى.

وكيف كان فالإمامة كالنبوّة لطف مضاعف فإنّها لطف في لطف من دون فرق بين كونه ممكنا أو مقربا أو أصلح ، ومما ذكر يظهر ما في اقتصارهم على الزعامة السياسية في مقام بيان إثبات كون الإمامة لطفا كما في شرح تجريد الاعتقاد وشرح الباب الحادي عشر (٢) ، مع أنّها شأن من شئون الإمامة وشطر منها ، كما يظهر أيضا مما ذكر ، ما في اكتفاء بعض آخر على ذكر فائدة حفظ الشريعة الواصلة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن التحريف والتغير في مقام بيان فوائد وجود الإمام مع أنّه نوع من أنواع لطف وجود الإمام فلا تغفل المقام السابع : في لزوم الإمامة : وقد عرفت أنّ الإمامة بالمعنى الّذي لها عند الشيعة هي كالنبوّة فكما أنّ النبوّة لطف ورحمة ، كذلك الإمامة فإذا ظهر كونها لطفا ، والمفروض أنّه لا يقترن بمانع يمنع عنه ، فهو مقتضى علمه تعالى بالنظام الأحسن وإطلاق كماله وحكمته تعالى ، وعليه فيصدر عنه تعالى وإلّا لزم أن يكون جاهلا بالنظام الأحسن ، أو لزم عدم كونه تعالى كمالا مطلقا وحكيما ،

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ٣٣٣.

(٢) راجع شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٢ الطبع الحديث ، شرح الباب الحادي عشر : ص ٤٠ الطبع الحديث.

٢٤

وهو خلف في كونه عليما ورحيما وحكيما بالأدلة والبراهين القطعية ، وإليه يؤول ما يقال في تقريب لزوم الإمامة أنّها واجب في حكمته تعالى ؛ لأنّ المراد من الوجوب هو اللزوم والمقتضي كما مرّ مرارا ، لا الوجوب عليه فالأولى هو التعبير بالاقتضاء واللزوم كما عبر عنه الشيخ أبو علي سينا في الشفاء حيث قال في مقام إثبات النبوّة بعد ذكر المنافع الّتي لا دخل لها في بقاء النوع الإنساني ، كإثبات الشعر في الحاجب والأشفار : فلا يجوز أن يكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه الّتي هي اسها (١).

وهذا كلّه بناء على التقريب الفلسفي الّذي ذهب إليه المصنف في إثبات النبوّة والإمامة ، وحاصله : أنّ النبوّة والإمامة كليهما مما يقتضيهما كماله المطلق ورحيميته المطلقة وإلّا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا كما لا يخفي ، وأمّا بناء على التقريب الكلامي فتقريبه كالتقريب الّذي مضى في النبوّة وهو أن يقال :

إنّ ترك اللطف نقض الغرض ؛ لأنّ غرض الحكيم لا يتعلق إلّا بالراجح وهو وجود الإنسان الكامل وإعداد الناس وتقريبهم نحو الكمال ، وهو لا يحصل بدون الإمام ، فيجب عليه اللطف ؛ لأنّ ترك الراجح عن الحكيم المتعال قبيح بل محال ، إذ مرجع الترجيح من غير مرجح إلى الترجح من غير مرجح كما لا يخفى.

وكيف كان فلا بد في كلّ عصر من وجود إمام هو يكون إنسانا كاملا هاديا للناس والخواص ، مقيما للعدل والقسط ، رافعا للظلم والعدوان ، حافظا للكتاب والسنّة ، رافعا للاختلاف والشبهة ، اسوة يتخلق بالأخلاق الحسنة حجة على الجنّ والإنس ، وإلّا كما عرفت لزم الخلف في كمال ذاته وهو محال ، أو الإخلال بغرضه وهو قبيح عن الحكيم ، بل هو أيضا محال كما عرفت ، فإذا كان كلّ نوع من أنواع لطف وجود الإمام من أغراضه تعالى فلا وجه

__________________

(١) إلهيات الشفاء : ص ٥٥٧.

٢٥

لتخصيص نقض الغرض بنوع منها كما يظهر من بعض الكتب الكلامية ، مع أنّ كلّ نوع منها راجح من دون اقتران مانع ، فبترك كل واحد يوجب نقض الغرض ، ولعل الاكتفاء ببعض الأنواع من باب المثال فافهم. فالأولى هو عدم التخصيص ببعض تلك الأنواع ، ولعل إليه يؤول ما في متن تجريد الاعتقاد حيث قال : الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض (١).

ثم إنّ مقتضى كون وجود الإمام كالنبيّ لطفا مضاعفا ان كلّ واحد من أبعاد وجوده وفوائده يكون كافيا في لزوم وجوده ، فإن طرأ مانع عن تحقق بعضها كالتصرف الظاهري بين الناس يكفي الباقي في لزوم وجوده وبقائه.

وينقدح مما ذكر أنّ ظهور الإمام للناس لطف زائد على وجوده الّذي يقتضيه علمه تعالى بالنظام الأحسن وإطلاق كماله ، فإرشاده وتعليمه وتزكيته للناس لطف آخر ، وهكذا بقية الشئون الّتي تكون للإمام.

هذا مضافا إلى أنّ إرشاده وتعليمه وتزكيته للجن أيضا لطف في حقّهم فإنّهم مكلّفون ومحجوجون بالحجج الإلهية كما لا يخفى.

ثم بعد وضوح أن الإمامة كالنبوة اتضح لك أنّها أمر فوق قدرة البشر ، فلا تنالها يده ولا يمكن له تعيينها واختيارها ، بل هي فعل من أفعاله تعالى فيجعلها حيث يشاء وهو أعلم بمن يشاء ومنه يظهر أنّه لا مجال للبحث عن وجوب نصب الإمام على الناس وكيفيته ، فإنّ ذلك من فروع الإمارة الظاهرية مع عدم تعيين الخليفة الإلهية عن الله تعالى.

وأما مع تعيينها فلا مجال للبحث عنه إذ المعلوم أن الامارة له ، كما أنّه لا بحث مع وجود النبيّ المرسل عن وجوب نصب الأمير على الناس ؛ لأنّ الإمارة من شئون النبيّ المرسل كما لا يخفى.

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٢ الطبع الحديث.

٢٦

فاتضح أنّ الإمام لزم أن يكون متعينا بنصب إلهي ؛ ولذلك نصّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من جانب الله تعالى في مواضع متعددة على إمامة عليّ ـ عليه‌السلام ـ وأولاده الأحد عشر ـ عليهم‌السلام ـ كما نصّ كلّ إمام على من يليه من جانب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهذه النصوص متواترة جدا يشهد بوجودها الجوامع الروائية من العامّة والشيعة كإثبات الهداة للشيخ الحرّ العاملي والبحار واصول الكافي ومنتخب الأثر وغاية المرام وعبقات الأنوار وكتاب الغدير وغيرها.

وهاهنا سؤال : وهو أنّه لا ريب في كون وجود الإمام لطفا فيما إذا كان ظاهرا ومتصرفا في الامور ، وأما إذا لم يكن ظاهرا ولم يتمكن الناس من درك محضره ، كالإمام الثاني عشر ـ عليه‌السلام ـ في زمان الغيبة ، فمجرد وجوده كيف يكون لطفا في حق العباد؟

والجواب عنه ظاهر مما مرّ ، من أن وجود الإنسان الكامل في نظام العالم مما يقتضيه علمه تعالى بالنظام الأحسن ورحمته المطلقة وإطلاق كماله ولا مانع منه ، فيلزم وجوده وإلّا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا ، فوجود الإمام الذي هو إنسان كامل ـ لطف ، وتصرفه وظهوره لطف آخر ، فلا يضرّ فقد لطف من جهة المانع بوجود اللطف من جهة أو جهات اخر ؛ لأنّ المفروض عدم وجود مانع من جهة اخرى.

هذا مضافا إلى أنّ إرشاد الإمام وتصرفه لا يختص بالإنسان ، بل يعمّ الجنّ أيضا ؛ لأنّهم مكلّفون ومحجوجون بوجوده على أنّ بعض الخواصّ كانوا يسترشدون بإرشاده وعناياته في الغيبة الصغرى بل الكبرى أيضا ، كما تشهد له التشرّفات المكرّرة لبعض المكرّمين من العباد. هذا مع الغمض عمّا يتصرّف في النفوس من وراء الحجاب والستار.

قال الحكيم المتأله المولى محمّد مهدي النراقي في الجواب عن ذلك : إنّ ظهور

٢٧

الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ وتصرفه فائدة من فوائد وجوده ؛ لأنّ فوائد وجوده كثيرة وإن كان غائبا ،

الأوّل : أنّه قد ورد في الحديث القدسي عنه تعالى أنّه قال : «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف مخلقت الخلق لكي اعرف» (١) فيعلم منه أنّ الباعث على ايجاد الإنسان هو المعرفة بالله تعالى ، فليكن في كلّ وقت فرد بين آحاد الإنسان يعرفه كما هو حقّه ، ولا تحصل المعرفة كما هو حقه في غير النبيّ والإمام ، فلا بدّ من وجود الحجّة في الأرض حتّى تحصل المعرفة به كما هو حقه بين الناس.

والثاني : أن مجرّد وجوده لطف وفيض في حقّ الناس ولو لم يكن ظاهرا ؛ لأنّ وجوده باعث نزول البركات والخيرات ، ومقتض لدفع البليات والآفات ، وسبب لقلّة سلطة الشياطين من الجنّ والإنس على البلاد ، فإنّ آثار الشيطان كما وصلت إلى البشر دائما كذلك لزم أن تصل آثار رئيس الموحدين وهو الحجّة الإلهية إليهم ، فوجود الحجة في مقابل الشيطان للمقاومة مع جنوده ، فلو لم يكن للإمام وجود في الأرض صارت سلطة الشيطان أزيد من سلطة الأولياء ، فلا يمكن للإنسان المقاومة في مقابل جنود الشيطان.

والثالث : أن غيبة الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ تكون عن أكثر الناس ، لا عن جميعهم ؛ لوجود جمع يتشرّفون بخدمته ، ويأخذون جواب الغوامض من المسائل ويهتدون بهدايته ، وإن لم يعرفوه. انتهى ملخص كلامه (٢).

سؤال : وهو أنّ الإمام يجب وجوده لو لم يقم لطف آخر مقامه كعصمة جميع الناس.

والجواب عنه واضح ؛ لأنّ المفروض عدم إقامة هذا اللطف ، وإلّا فلا

__________________

(١) مصابيح الأنوار : ج ٢ ص ٤٠٥.

(٢) أنيس الموحدين : ص ١٣٢ ـ ١٣٤.

٢٨

موجب لبعث الرسل والأنبياء أيضا كما لا يخفى فوجود الإمام كوجود النبيّ واجب فيما إذا لم يكن الناس معصومين كما هو المفروض.

سؤال : وهو أن الإمام يجب وجوده فيما إذا علم بخلوّه عن المفسدة ، وحيث لا علم به فلا يكون وجود الإمام واجبا ، ولا فائدة في دعوى عدم العلم بالمفسدة ؛ لأنّ احتمالها قادح في وجوب نصب الامام كما لا يخفي.

وأجاب عنه المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ : بأنّ الامور المتعلقة بالإمام على قسمين : الدنيويّة والاخرويّة ومن المعلوم أنّ مفسدة وجود الإمام بالنسبة إلى الامور الدينية معلومة الانتفاء ، فإنّ المفاسد الشرعيّة في الامور الدينيّة معلومة شرعا ، ولا يترتب شيء منها على وجود الإمام ، وهذا ضروري عند العارف بالمفاسد الشرعيّة ، وحيث كان كل واحد منّا مكلفون بترك المفاسد الشرعية ، فلا يجوز أن لا تكون تلك المفاسد معلومة لنا ، وإلّا لزم التكليف بالمجهول وهو كما ترى.

وأيضا من الواضح أنّ نصب الإمام بالنسبة إلى الامور الدنيويّة لا مفسدة فيه إذ الامور الدنيويّة راجعة إلى مصالح العباد ومفاسدهم في حياتهم الدنيويّة وحفظ النوع والإخلال به ، وهي معلومة لكافة العقلاء ، ولا يترب من وجود الإمام شيء من المفاسد فيها ، بل العقل جازم بأن لا يمكن سد مفاسد أمور المعاش إلّا بوجود سلطان قاهر عادل.

فإذا عرفت ذلك فنقول بطريق الشكل الأوّل نصب الإمام عن الله تعالى لطف خال عن المفاسد ، وكلّ لطف خال عن المفاسد واجب على الله تعالى ، فنصب الإمام واجب عليه تعالى وهو المطلوب (١). وإلى ما ذكر من الشبهة والأجوبة عنها يشير قول المحقق الطوسي ـ في متن تجريد الاعتقاد ـ : والمفاسد

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ١٠٨ ، وشرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٢ الطبع الحديث.

٢٩

معلومة الانتفاء وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ، ووجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وعدمه منّا (١) وبالجملة لا شبهة في الصغرى في المقام ، كما لا شبهة في كبرى لزوم اللطف فيما إذا كان خاليا عن الموانع والمفاسد ، وأما ما يتراءى من بعض الشبهات حول قاعدة اللطف في بعض المقامات كاستكشاف رأي المعصوم عقلا بقاعدة اللطف من الاجماع كما ذهب إليه الشيخ الطوسيّ ـ قدس‌سره ـ فهو من ناحية الصغرى لا من ناحية الكبرى ، وقد أشار إليه المصنف ـ قدس‌سره ـ في اصول الفقه فراجع (٢).

هذا كلّه بحسب الأدلّة العقليّة وأمّا الأدلّة السمعيّة الّتي تدلّ على لزوم وجود الإمام للناس فكثيرة جدا ولا بأس بالاشارة إلى جملة منها.

فمن الآيات : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣) بتقريب : أنّ الخليفة حيث لم تكن مقيدة بالإضافة إلى مخلوق معين مما يؤكد أنّ الإنسان خليفة الجاعل لا غيره ، كما هو الظاهر من نظيره كقول رئيس الدولة : إنّي جاعل في هيئة الدولة خليفة ، فإنّ العرف يفهمون منه أن المقصود هو خليفة نفسه لا غيره.

هذا مضافا إلى أنّ المقام الّذي كان مطلوبا للملائكة هو مقام الخلافة الإلهية لا مقام خلافتهم عن الماضين من المخلوقات الأرضيّة فالمراد هو جعل الإنسان خليفة له تعالى.

وحيث لم يذكر جهة الخلافة ، كانت الخلافة ظاهرة في كون الإنسان خليفة له في مختلف الشئون وكافة الامور ، كما أنّ عدم ذكر ما استخلف عليه

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٢ الطبع الحديث.

(٢) اصول الفقه : ج ٢ ص ١٠٨.

(٣) البقرة : ٣٠.

٣٠

الخليفة يدلّ على عموم ذلك ، فيكون الإنسان خليفة له في جميع الشئون وكافة الامور على جميع ما استخلف عليه الخليفة ، فلا تختصّ خلافته ببعض دون بعض ، بل هو خليفة عليهم جميعا ، ولذلك لزم أن يكون خليفة الله تعالى عالما بجميع صفات المستخلف وشئون ما يستخلفه عليه ، كما يجب أن تكون له القدرة الضروريّة للتصرّف في الامور (١) ، وهو الإنسان الكامل الّذي يكون خليفة الله تعالى في خلقه.

ثم إنّ هذا الإنسان الّذي يكون كذلك لا يكون جميع آماده ، ضرورة أن هذه الخصائص ليست لجميعهم ، فالمراد منه بعض الآحاد منه وهو الأوحدي من هذا النوع ، ولكن مقتضى تعبيره بأنّي جاعل في الأرض خليفة ، ولم يقل سوف أجعل أو جعلت هو استمرار هذا الجعل في أمد الزمان من أول خلقة آدم إلى يوم القيامة فأوّل فرد من أفراد الإنسان يكون كذلك ، وإلّا لم يكن هو جاعلا في الأرض خليفة ويدوم ذلك كذلك إلى آخر الزمن ، كما يشهد له موثقة اسحاق بن عمّار المرويّة في الكافي حيث قال : قلت لأبي الحسن الأوّل : ألا تدلّني على من آخذ عنه ديني؟ فقال : هذا علي ، إنّ أبي أخذ بيدي فأدخلني إلى قبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا بنيّ إنّ الله عزوجل قال : إنّي جاعل في الأرض خليفة ، وأنّ الله عزوجل إذا قال قولا وفى به (٢). فوجود الإنسان الكامل الّذي يكون خليفة الله تعالى لا يختصّ بزمان دون زمان.

وقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) بتقريب : أنّ

__________________

(١) راجع الامامة والولاية : ص ١٣ ـ ١٩ ، امامت ورهبرى : ص ١٨٨ ، تفسير الميزان : ج ١ ص ١١٥ ـ ١٢٢.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٤٩ نقلا عن الكافي.

(٣) البقرة : ١٢٤.

٣١

الإمامة في إبراهيم غير النبوّة ، كما يشهد تأخر جعلها عنها فإنّ جعله إماما بعد الابتلاء بالكلمات ومن ابتلاء آته ذبح إسماعيل ، مع أنّه لم يولد له ولد إلّا في حال شيخوخيته وفي هذا الحال قد مضت من نبوّته سنوات متعددة ، فجعل الإمامة بعد جعل النبوة ثم سألها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لذريته فاجيب بأنّ هذا المقام لا يناله الظالمون منهم ، فالإمامة منزلة بلوغ الإنسان إلى غاية مقامات الانسانيّة بحيث يليق بأن يكون مقتدى لمن سواه من المخلوقين ، ويمكن له أن يهديهم بهدايته الايصالية نحو سعادتهم في الدارين. مضافا إلى هدايتهم بالهداية الإرشادية ، كما قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ من أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم وايرادهم درجات القرب من الله سبحانه ، وإنزال كلّ ذي عمل منزله الّذي يستدعيه عمله (١).

ثم إنّ سؤال إبراهيم هذا المقام لذرّيته شاهد على عظمة هذا المقام ، وجواب الله تعالى عن محرومية بعض ذريته عنه بكونها عهد الله ، وهو لا يناله الظالمين أيضا شاهد على عظمة تلك المنزلة ، كما أنّ هذا الجواب ظاهر في بقاء هذا المقام في ذرّيته حيث أخرج من ذريته جميع الظالمين فقط وبقي الباقي تحت الإجابة كما لا يخفى ، فالآية تدلّ على بقاء الامامة في نسله إجمالا ، كما يؤيده ما جاء في الرواية من أنّ المراد من قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٢) هو بقاء الإمامة في نسل إبراهيم إلى يوم الدين ، على ما حكي عن المجمع ، ويؤيده الروايات المتعددة الّتي وردت في بقاء الإمامة في نسل الحسين ـ عليه‌السلام ـ إلى يوم القيامة مستشهدا بالآية المذكورة.

منها ما عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٨ ص ١١١.

(٢) الزخرف : ٢٨.

٣٢

عزوجل : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (١) قال : هي : الإمامة جعلها الله عزوجل في عقب الحسين ـ عليه‌السلام ـ باقية إلى يوم القيامة» (٢). ذهب بعض المفسرين إلى أنّ الضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) راجع إلى معنى كلمة التوحيد المستفاد من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ولكن قال في تفسير الميزان : ان التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في قوله : (جَعَلَها) إلى الهداية المفهومة من قوله : (سَيَهْدِينِ) ، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم ، بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم وايرادهم درجات القرب من الله سبحانه وانزال كلّ ذي عمل منزله الّذي يستدعيه عمله ، وحقيقة الهداية من الله سبحانه ، وتنسب إليه بالتبع أو بالعرض ، وفعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ، ثم تفيض منه إلى غيره ، فله أتمّ الهداية ولغيره ما هي دونها ، وما ذكره إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظ الإمام منها ، فهي الإمامة وجعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.

وأمّا الروايات فمتواترة ، وهي على طوائف ، فمنها : ما يدلّ على أنّ الأئمة اثنا عشر إلى يوم القيامة ، كما عن صحيح مسلم عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن جابر قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول : لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش ، وعن

__________________

(١) الزخرف : ٢٨.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٩٧ نقلا عن معاني الأخبار.

(٣) تفسير الميزان : ج ١٨ ص ١١١.

٣٣

صحيح مسلم أيضا عن جابر أيضا أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، وعن صحيح مسلم أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان ، وعن مسند أحمد بن حنبل عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرأنا القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كم يملك هذه الامة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل ، ورواه ابن حجر في الصواعق وحسّنه. ورواه البحراني بطرق عديدة من العامّة والخاصّة (راجع الباب العاشر والحادي عشر من غاية المرام).

قال العلّامة الحلّي ـ قدس‌سره ـ : والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (١) ، وكيف كان فالمراد من هذه الروايات حصر الإمامة الشرعيّة في اثني عشر من قريش ما دام الناس لا السلطة الظاهريّة ، ضرورة حصولها لغير قريش في أكثر الأوقات ، فيكون قرينة على أنّ المراد منها حصر الخلفاء الشرعيين في اثني عشر إلى يوم القيامة ، كما أنّ الخبر الأخير دالّ على أنّهم خلفاء بالنصّ ؛ لقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٢) كعدة نقباء بني إسرائيل فإنّ نقباءهم خلفاء بالنصّ لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٣) وبالجملة هذه النصوص تدلّ على عدم خلوّ الامة الإسلامية عن الإمام إلى يوم القيامة ، وصرّح بأنّهم اثنا عشر.

ومنها : ما تدل على أنّه لا تخلو الأرض عن الحجّة كما رواه في الكافي عن

__________________

(١) راجع دلائل الصدق : ج ٢ ص ٣١٤ ـ ٣١٦.

(٢) راجع امامت ورهبرى : ص ١٦٣ ـ ١٦٩.

(٣) المائدة : ١٢.

٣٤

الحسين بن أبي العلاء قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال : لا ، قلت : يكون إمامان؟ قال : لا ، إلّا وأحدهما صامت ، وعن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم.

وعن أبي اسحاق عمّن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قال : اللهم إنّك لا تخلي أرضك من حجّة لك على خلقك.

وعن أبي حمزة عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قال : والله ما ترك الله أرضا منذ قبض آدم إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله وهو حجته على عباده ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة لله على عباده.

وعن أبي حمزة أيضا قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ، وعن حمزة بن الطيار قال :

سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة (١).

فهذه الروايات واضحة الدلالة على أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة الله على خلقه من لدن خلقه آدم إلى يوم القيامة.

ومنها : الروايات الدالّة على أنّ ائمتنا لو لا هم لما خلق الخلق ، كما رواه في غاية المرام عن طرق الخاصّة عن جعفر بن محمّد ـ عليهما‌السلام ـ في ضمن حديث : أنّ محمّدا وعليّا ـ صلوات الله عليهما ـ كانا نورا بين يدي الله عزوجل قبل خلق الخلق بألفي عام وأنّ الملائكة لمّا رأت ذلك النور ، رأت له أصلا قد

__________________

(١) راجع الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٧٨.

٣٥

تشعب منه شعاع لامع ، فقالت : إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله عزوجل إليهم هذا نور من نوري أصله نبوّة وفرعه إمامة ، أمّا النبوّة فلمحمّد عبدي ورسولي وأمّا الإمامة فلعلي حجتي ووليي ، ولولاهما ما خلقت خلقي.

ومنها : الروايات الدالّة على أنّ ائمتنا ـ عليهم‌السلام ـ لولاهم لما عرف الله ولما عبد ، كما رواه في غاية المرام عن طرق الخاصّة عن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ في ضمن حديث قال : إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمّد من نور اخترعه من نور عظمته وجلاله ـ إلى أن قال ـ : قسّم ذلك النور شطرين فخلق من الشطر الأوّل محمّدا ، ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب ، ولم يخلق من ذلك النور غيرهما ، ـ إلى أن قال ـ : ثم اقتبس من نور محمّد فاطمة ابنته ، كما اقتبس نور (١) من نوره واقتبس من نور فاطمة وعلي والحسن والحسين كاقتباس المصابيح ، هم خلقوا من الأنوار وانتقلوا من ظهر إلى ظهر ، ومن صلب إلى صلب ، ومن رحم إلى رحم ، في الطبقة العليا ، من غير نجاسة ، بل نقلا بعد نقل ـ إلى أن قال ـ : بل أنوار انتقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ؛ لأنّهم صفوة الصفوة ، اصطفاهم لنفسه ، وجعلهم خزان علمه ، وبلغاء عنه إلى خلقه ، أقامهم مقام نفسه ؛ لأنّه لا يرى ولا يدرك ، ولا تعرف كيفية انيته ، فهؤلاء الناطقون المبلّغون عنه المتصرّفون في أمره ونهيه ، فيهم يظهر قوّته ، ومنهم ترى آياته ومعجزاته ، وبهم ومنهم عرف عباده نفسه ، وبهم يطاع أمره ، ولولاهم ما عرف الله ولا يدرى كيف يعبد الرحمن ، فالله يجري أمره كيف يشاء فيما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

ومنها : الروايات الدالّة على ثبوت الأمرين المذكورين للأئمة ـ عليهم‌السلام ـ

__________________

(١) ولعل الصحيح نوره فالمراد هو اقتباس نور محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من نور عظمة الله سبحانه وتعالى.

٣٦

كما رواه في غاية المرام عن علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ عن آبائه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : ما خلق الله خلقا أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي. قال علي ـ عليه‌السلام ـ : فقلت : يا رسول الله ، فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال : يا علي ، إنّ الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علي وللائمة من بعدك ، فإنّ الملائكة من خدّامنا وخدّام محبينا يا علي (الّذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا) بولايتنا يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ولا حوّاء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ولا الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى معرفة ربّنا ، وتسبيحه وتهليله وتقديسه ؛ لأنّ أوّل ما خلق الله عزوجل أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده ، ثم خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق مخلوقون ، وأنّه منزه عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة تسبيحنا ، ونزهته عن صفاتنا ، فلمّا شاهدوا عظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله وأنّا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلّا الله ، فلمّا شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال وأنّه عظيم المحلّ ، فلمّا شاهدوا ما جعل الله لنا من العزّة والقوّة قلنا : لا حول ولا قوّة إلّا بالله «العليّ العظيم» ، لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، فلمّا شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : الحمد لله لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه ، فقالت الملائكة : الحمد لله فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله تعالى وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده ـ إلى أن قال ـ : لمّا عرج بي إلى السماء ـ إلى أن قال ـ : فنوديت : يا محمّد (إنّ) أوصياءك المكتوبون على ساق العرش فنظرت ـ وأنا بين يدي ربي جلّ جلاله ـ إلى ساق العرش فرأيت أثني عشر نورا في كل نور سطر

٣٧

أخضر عليه اسم وصيّ من أوصيائي أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهديّ أمّتي. فقلت يا ربّ أهؤلاء أوصيائي من بعدي؟ فنوديت : يا محمّد ، هؤلاء أوليائي وأحبائي وأصفيائي وحجّتي بعدك على بريتي وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك ، وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم ديني ، ولاعلينّ بهم كلمتي ، ولاطهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولاملكنّه مشارق الأرض ومغاربها ، ولاسخرنّ له الرياح ، ولأذللنّ له السحاب الصعاب ، ولارقينه في الأسباب ، ولأنصرنّه بجندي ، ولأمدنّه بملائكتي ، حتى تعلو دعوتي ، ويجمع الخلق على توحيدي ، ثم لاديمن ملكه ، ولاداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة (١).

وغير ذلك من طوائف الأخبار فراجع جوامع الأخبار.

__________________

(١) غاية المرام : ج ١ ص ٢٦ الطبع الثاني.

٣٨

٢ ـ عقيدتنا في عصمة الإمام

ونعتقد أنّ الإمام كالنبيّ يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولية إلى الموت عمدا وسهوا ، كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان ؛ لأنّ الأئمة حفظة الشرع ، والقوامون عليه ، حالهم في ذلك حال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق.

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أن طريقة المصنّف لإثبات عصمة الإمام أحسن طريقة ، بعد ما عرفت من حقيقة الإمامة وشئونها ، فإنّ الإمام كالنبيّ إلّا في تلقّي الوحي بعد اختصاصه بالنبي ، ومقتضى كونه كالنبيّ هو لزوم عصمته إذ بدونها لا يتمكن الإمام من القيام مقام النبي ، والعمل بوظائفه من هداية الناس إلى المصالح الواقعية ، وتزكية الناس ، وتربيتهم على الكمال اللائق بهم ، وحفظ الشرع عن التحريف والزيادة والنقصان واقعا وغير ذلك ، فالدليل الّذي يدلّ على لزوم وجود الإمام هو الّذي يدلّ على لزوم عصمته إذ بدونها لا يتمكن

٣٩

من العمل بوظائفه ويكون وجوده كالعدم.

ولقد أفاد وأجاد المحقق اللاهيجي حيث قال : والحقّ وجوب العصمة لأنّه كما أن وجود الإمام لطف كذلك تكون العصمة لطفا ، بل لطفيّة وجوده لا تتحقق بدون العصمة (١).

وهكذا المحقق القمّي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : والإمام عند الإمامية يجب أن يكون معصوما بالأدلة التي مرّت في عصمة النبيّ (٢) ، وعليه فلا حاجة في إثبات العصمة في الإمام إلى إطالة الكلام بمثل ما أشار إليه المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ حيث قال في تجريد الاعتقاد : وامتناع التسلسل يوجب عصمته ، ولأنّه حافظ للشرع ولوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه ولانحطاط درجته عن أقلّ العوام (٣).

هذا كله مع الغمض عن الأدلّة الخاصّة الدالّة على عصمة الائمة ـ عليهم‌السلام ـ كحديث الثقلين المتواتر عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا» الدالّ على مصونية الكتاب والعترة عن الخطأ (٤).

وكيف كان فالكلام في متعلق العصمة أيضا واضح بعد ما عرفت من وحدة الدليل في باب النبوّة والإمامة ، فكلّ ما كان النبيّ معصوما عنه كذلك يكون الإمام معصوما عنه ، فالإمام معصوم عن الذنوب صغيرة كانت أو كبيرة حال الإمامة وقبلها وعن السهو والنسيان والخطأ ، وعن الذمائم الأخلاقية ، بل

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ١١٤.

(٢) راجع اصول الدين : ص ٣٧ منشور چهلستون مسجد جامع بطهران.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٤ الطبع الجديد.

(٤) راجع كتاب حديث الثقلين من منشورات دار التقريب بمصر الذي نقل الحديث من مائتي كتاب من كتب العامة.

٤٠