بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

أن يجري عليه الولاة والموظفين ، مثل ما في رسالة الصادق ـ عليه‌السلام ـ إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز (راجع الوسائل : كتاب البيع ، الباب ٧٨).

٢٢١

٨ ـ عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

عرف آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ بحرصهم على بقاء مظاهر الإسلام ، والدعوة إلى عزّته ، ووحدة كلمة أهله ، وحفظ التآخي بينهم ، ورفع السخيمة من القلوب ، والأحقاد من النفوس.

ولا ينسى موقف أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ مع الخلفاء الذين سبقوه ، مع توجّده عليهم واعتقاده بغصبهم لحقّه ، فجاراهم وسالمهم بل حبس رأيه في أنّه المنصوص عليه بالخلافة ، حتّى أنّه لم يجهر في حشد عام بالنصّ إلّا بعد أن آل الأمر إليه فاستشهد بمن بقى من الصحابة عن نصّ (الغدير) في يوم (الرحبة) المعروف. وكان لا يتأخر عن الإشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للإسلام بالنفع والمصلحة وكم كان يقول عن ذلك العهد : «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما».

كما لم يصدر منه ما يؤثر على شوكة ملكهم أو يضعّف من سلطانهم أو يقلّل من هيبتهم ، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت ، بالرغم مما كان يشهده منهم. كلّ ذلك رعاية لمصلحة الإسلام العامّة ، ورعاية

٢٢٢

أن لا يرى في الإسلام ثلما أو هدما ، حتّى عرف ذلك منه ، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول : «لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» أو «لو لا عليّ لهلك عمر».

ولا ينسى موقف الحسن بن علي ـ عليه‌السلام ـ من الصلح مع معاوية بعد أن رأى أنّ الإصرار على الحرب سيديل من ثقل الله الأكبر ومن دولة العدل بل اسم الإسلام إلى آخر الدهر ، فتمحى الشريعة الإلهية ويقضى على البقية الباقية من آل البيت ، ففضّل المحافظة على ظواهر الإسلام واسم الدين ، وإن سالم معاوية العدوّ الألد للدين وأهله والخصم الحقود له ولشيعته ، مع ما يتوقع من الظلم والذلّ له ولأتباعه وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذة تأبى أن تغمد ، دون أن تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح ، ولكن مصلحة الإسلام العليا كانت عنده فوقع جميع هذه الاعتبارات. وأمّا الحسين الشهيد ـ عليه‌السلام ـ فلئن نهض فلأنّه رأى من بني امية إن دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم ، سيمحون ذكر الإسلام ويطيحون بمجده ، فأراد أن يثبت للتأريخ جورهم وعدوانهم ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول ، وكان ما أراد. ولو لا نهضته المباركة لذهب الإسلام في خبر كان يتلهى بذكره التأريخ كأنه دين باطل ، وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتى أساليبهم إنّما هو لإتمام رسالة نهضته في مكافحة الظلم والجور ولإحياء أمره امتثالا لأوامر الأئمة من بعده.

وينجلي لنا حرص آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ على بقاء عزّ الإسلام وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم ، في موقف الإمام زين العابدين

٢٢٣

ـ عليه‌السلام ـ من ملوك بني امية ، وهو الموتور لهم ، والمنتهكة في عهدهم حرمتهم وحرمه ، والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء ، فإنّه ـ مع كلّ ذلك ـ كان يدعو في سرّه لجيوش المسلمين بالنصر وللإسلام بالعزّ وللمسلمين بالدعوة والسلامة ، وقد تقدّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء ، فعلّم شيعته كيف يدعون للجيوش الإسلامية والمسلمين ، كدعائه المعروف ب (دعاء أهل الثغور) الذي يقول فيه : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وكثّر عددهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألّف جمعهم ودبّر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر» إلى أن يقول ـ بعد أن يدعو على الكافرين ـ : «اللهم وقوّ بذلك محالّ أهل الإسلام ، وحصّن به ديارهم ، وثمّر به أموالهم ، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتّى لا يعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفر لأحد منهم جبهة دونك» (١) وهكذا يمضي في دعائه البليغ ـ وهو من أطول أدعيته ـ في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الأخلاق وأخذ العدّة للأعداء ، وهو يجمع إلى التعاليم الحربيّة للجهاد الإسلامي بيان الغاية منه وفائدته ، كما ينبّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم وما يجب أن يتّخذوه في معاملتهم ومكافحتهم ، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله تعالى والانتهاء عن محارمه ، والإخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.

__________________

(١) ما أجمل هذا الدعاء. وأجدر بالمسلمين في هذه العصور أن يتلوا هذا الدعاء ليعتبروا به وليبتهلوا إلى الله تعالى في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم وتنوير عقولهم.

٢٢٤

وكذلك باقي الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ في مواقفهم مع ملوك عصرهم ، وإن لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكلّ قساوة وشدّة ، فإنّهم لمّا علموا أنّ دولة الحقّ لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم وتوجيه أتباعهم التوجيه الدينيّ العالي. وكلّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويّين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم ، بل كانت كلّها مخالفة صريحة لأوامرهم وتشديداتهم ، فإنّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الإسلامية من كلّ أحد حتّى من خلفاء بني العباس أنفسهم.

وكفى أن نقرأ وصية الإمام موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ لشيعته «لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم ، فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاه ، وإن كان جائرا فاسألوا الله إصلاحه ، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم ، وأنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبوا له ما تحبّون لأنفسكم ، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم» (١).

وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعيّة على سلامة السلطان أن يحبّوا له ما يحبّون لأنفسهم ، ويكرهوا له ما يكرهون لها.

وبعد هذا ، فما أعظم تجنّي بعض كتاب العصر إذ يصف الشيعة بأنّهم جمعية سريّة هدّامة. أو طائفة ثوروية ناقمة. صحيح أنّ من خلق الرجل المسلم المتّبع لتعاليم آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ بغض الظلم والظالمين والانكماش عن أهل الجور والفسوق ، والنظرة إلى أعوانهم

__________________

(١) الوسائل : في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١٧.

٢٢٥

وأنصارهم نظرة الاشمئزاز والاستنكار ، والاستيحاش والاستحقار ، وما زال هذا الخلق متغلغلا في نفوسهم يتوارثونه جيلا بعد جيل ، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل ، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الإسلام ، لا سرّا ولا علنا ، ولا يبيحون لأنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلم مهما كان مذهبه وطريقته ، أخذا بتعاليم أئمتهم ـ عليهم‌السلام ـ بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال محقون الدم ، محرم العرض «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» ، بل المسلم أخو المسلم عليه من حقوق الأخوّة لأخيه ما يكشف عنه البحث الآتي.

٢٢٦

٩ ـ عقيدتنا في حقّ المسلم على المسلم

إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. كما أنّ من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالأخذ بمقتضيات هذه الاخوّة الإسلاميّة.

لأنّ من أيسر مقتضياتها ـ كما سيجيء في كلمة الإمام الصادق عليه‌السلام ـ أن يحبّ لأخيه المسلم ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه.

أنعم النظر وفكّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فستجد أنّها من أشقّ ما يفرض طلبه من المسلمين اليوم ، وهم على مثل هذه الأخلاق الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الإسلام ، فكّر في هذه الخصلة لو قدّر للمسلمين أن ينصفوا أنفسهم ويعرفوا دينهم حقّا ويأخذوا بها فقط ـ أن يحبّ أحدهم لأخيه ما يحبّ لنفسه ـ لما شاهدت من أحد ظلما ولا اعتداء ، ولا سرقة ولا كذبا ، ولا غيبة ولا نميمة ، ولا تهمة بسوء ولا قدحا بباطل ، ولا إهانة ولا تجبرا.

بلى ، إنّ المسلمين لو وقفوا لإدراك أيسر خصال الاخوّة فيما بينهم

٢٢٧

وعملوا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض ، ولرأيت البشر إخوانا على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعيّة ولتحقّق حلم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة ، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحبّ والمودة إلى الحكومات والمحاكم ، ولا إلى الشرطة والسجون ، ولا إلى قانون للعقوبات وأحكام للحدود والقصاص ، ولما خضعوا لمستعمر ولا خنعوا لجبّار ، ولا استبدّ بهم الطغاة ، ولتبدلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنّة النعيم ودار السعادة.

أزيدك ، أنّ قانون المحبّة لو ساد بين البشر ـ كما يريده الدين بتعاليم الاخوّة ـ لانمحت من قاموس لغاتنا كلمة (العدل) ، بمعنى أنّا لم نعد نحتاج إلى العدل وقوانينه حتّى نحتاج إلى استعمال كلمته ، بل كفانا قانون الحبّ لنشر الخير والسلام ، والسعادة والهناء ، لأنّ الإنسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلّا إذا فقد الحبّ فيمن يجب أن يعدل معه ، أمّا فيمن يبادله الحبّ كالولد والأخ إنّما يحسن إليه ويتنازل له عن جملة من رغباته فبدافع من الحبّ والرغبة عن طيب خاطر ، لا بدافع العدل والمصلحة.

وسرّ ذلك أنّ الإنسان لا يحبّ إلّا نفسه وما يلائم نفسه ، ويستحيل أن يحبّ شيئا أو شخصا خارجا عن ذاته إلّا إذا ارتبط به وانطبعت في نفسه منه صورة ملائمة مرغوبة لديه. كما يستحيل أن يضحّي بمحض اختياره له ، في رغباته ومحبوباته لأجل شخص آخر لا يحبّه ولا يرغب فيه ، إلّا إذا تكوّنت عنده عقيدة أقوى من رغباته مثل عقيدة حسن العدل والإحسان ، وحينئذ إذ يضحي بإحدى رغباته إنّما يضحي لأجل

٢٢٨

رغبة اخرى أقوى كعقيدته بالعدل إذا حصلت التي تكون جزء من رغباته بل جزء من نفسه.

وهذه العقيدة المثالية لأجل أن تتكون في نفس الإنسان تتطلب منه أن يسمو بروحه على الاعتبارات الماديّة ، ليدرك المثال الأعلى في العدل والإحسان إلى الغير ، وذلك بعد أن يعجز أن يتكون في نفسه شعور الاخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.

فأوّل درجات المسلم التي يجب أن يتّصف بها أن يحصل عنده الشعور بالاخوّة مع الآخرين فإذا عجز عنها ـ وهو عاجز على الأكثر لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيّته ـ فعليه أن يكون في نفسه عقيدة في العدل والإحسان اتباعا للإرشادات الإسلامية ، فإذا عجز عن ذلك فلا يستحقّ أن يكون مسلما إلّا بالاسم وخرج عن ولاية الله ولم يكن لله فيه نصيب على حد التعبير الآتي للإمام. والإنسان على الأكثر تطغى عليه شهواته العارمة فيكون من أشقّ ما يعانيه أن يهيئ نفسه لقبول عقيدة العدل ، فضلا عن أن يحصل عليها عقيدة كاملة تفوق بقوّتها على شهواته.

فذلك كان القيام بحقوق الاخوّة من أشقّ تعاليم الدين إذا لم يكن عند الإنسان ذلك الشعور الصادق بالاخوّة. ومن أجل هذا أشفق الإمام أبو عبد الله الصادق ـ عليه‌السلام ـ أن يوضح لسائله وهو أحد أصحابه «المعلى بن خنيس» عن حقوق الإخوان أكثر مما ينبغي أن يوضح له خشية أن يتعلم ما لا يستطيع أن يعمل به. قال المعلى (١) :

__________________

(١) راجع الوسائل : كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب ١٢٢ ، الحديث ٧.

٢٢٩

«قلت له ما حقّ المسلم على المسلم؟

قال أبو عبد الله : له سبعة حقوق واجبات ، ما منهن حقّ إلّا وهو عليه واجب ، إن ضيّع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ، ولم يكن لله فيه نصيب.

قلت له : جعلت فداك! وما هي؟

قال : يا معلى ، إنّي عليك شفيق ، أخاف أن تضيع ولا تحفظ ، وتعلم ولا تعمل.

قلت : لا قوّة إلّا بالله.

وحينئذ ذكر الإمام الحقوق السبعة بعد أن قال عن الأوّل منها :

«أيسر حقّ منها أن تحب له ما تحب لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك».

يا سبحان الله! هذا هو الحق اليسير! فكيف نجد ـ نحن المسلمين اليوم ـ يسر هذا الحقّ علينا؟ شاهت وجوه تدعي الإسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق. والأعجب؟ أن يلصق بالإسلام هذا التأخر الذي أصاب المسلمين ، وما الذنب إلّا ذنب من يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، ولا يعلمون بأيسر ما يجب أن يعملوه من دينهم.

ولأجل التأريخ فقط ، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها ، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الإمام عليه‌السلام.

١ ـ أن تحبّ لأخيك المسلم ما تحبّ لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك.

٢ ـ أن تجتنب سخطه ، وتتبع مرضاته ، وتطيع أمره.

٢٣٠

٣ ـ أن تعينه بنفسك ، ومالك ، ولسانك ، ويدك ، ورجلك.

٤ ـ أن تكون عينه ، ودليله ، ومرآته.

٥ ـ أن لا تشبع ويجوع ، ولا تروى ويظمأ ، ولا تلبس ويعرى.

٦ ـ أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم ، فواجب أن تبعث خادمك ، فتغسل ثيابه ، وتصنع طعامه ، وتمهّد فراشه.

٧ ـ أن تبرّ قسمه ، وتجيب دعوته ، وتعود مريضه ، وتشهد جنازته.

وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها ، ولا تلجئه إلى أن يسألكها ، ولكن تبادره مبادرة».

ثم ختم كلامه ـ عليه‌السلام ـ بقوله :

«فإذا فعلت ذلك وصلت ولا يتك بولايته وولايته بولايتك».

وبمضمون هذا الحديث روايات مستفيضة عن ائمتنا جمع قسما كبيرا منها كتاب الوسائل في أبواب متفرقة.

وقد يتوهم المتوهم أنّ المقصود بالاخوّة في أحاديث أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصة» ، ولكنّ الرجوع إلى رواياتهم كلّها يطرد هذا الوهم ، إن كانوا من جهة اخرى يشدّدون النكير على من يخالف طريقتهم ولا يأخذ بهداهم ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب (١) قال :

«قلت له ـ أي الصادق عليه‌السلام ـ : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا ،

__________________

(١) اصول الكافي : كتاب العشرة ، الباب الاول.

٢٣١

فقال : تنظرون إلى ائمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون ، فو الله ، إنهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدّون الأمانة إليهم».

أمّا الاخوّة الإسلامية ، وقد سمعت بعض الأحاديث في فصل تعريف الشيعة. ويكفي أن تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادق ـ عليه‌السلام ـ من حديث أبان نفسه (١). قال أبان : كنت أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته ، فأشار إليّ ، فرآنا أبو عبد الله.

قال : يا أبان إياك يريد هذا؟

قلت : نعم! قال : هو على مثل ما أنت عليه؟

قلت : نعم.

قال : فاذهب إليه واقطع الطواف.

قلت : وان كان طواف الفريضة.

قال : نعم.

قال أبان : فذهبت ، ثم دخلت عليه بعد ، فسألته عن حقّ المؤمن ، فقال : دعه لا تردّه! فلم أزل أرد عليه حتّى قال : يا أبان تقاسمه شطر مالك ، ثم نظر إليّ فرأى ما داخلني ، فقال : يا أبان أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟ قلت : بلى! قال : إذا أنت قاسمته فلم تؤثره ،

__________________

(١) راجع الوسائل : كتاب الحج ، أبواب العشرة ، الباب ١٢٢ ، الحديث ١٦.

٢٣٢

إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر!

(أقول) : إنّ واقعنا المخجل لا يطمعنا أن نسمّي أنفسنا بالمؤمنين حقّا. فنحن بواد وتعاليم أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ في واد آخر. وما داخل نفس أبان يداخل نفس كل قارئ لهذا الحديث ، فيصرف بوجهه متناسيا له كأنّ المخاطب غيره ، ولا يحاسب نفسه حساب رجل مسئول.

٢٣٣
٢٣٤

الفصل الخامس

المعاد

١ ـ عقيدتنا في البعث والمعاد

٢ ـ عقيدتنا في المعاد الجسماني

٢٣٥
٢٣٦

١ ـ عقيدتنا في البعث والمعاد

نعتقد أنّ الله تعالى يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده فيثيب المطيعين ، ويعذّب العاصين وهذا أمر على جملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتفقت عليه الشرائع السماويّة والفلاسفة ، ولا محيص للمسلم من الاعتراف به ، عقيدة قرآنية ، جاء بها نبينا الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ من يعتقد بالله اعتقادا قاطعا ويعتقد كذلك بمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ رسولا منه أرسله بالهدى ودين الحقّ ، لا بدّ أن يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم ، من البعث والثواب والعقاب والجنّة والنعيم والنار والجحيم ، وقد صرّح القرآن بذلك ، ولمح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة وإذا تطرّق الشك في ذلك إلى شخص فليس إلّا لشكّ يخالجه في صاحب الرسالة أو وجود خالق الكائنات أو قدرته ، بل ليس إلّا لشكّ يعتريه في أصل الأديان كلّها ، وفي صحة الشرائع جميعها.

٢٣٧

٢ ـ عقيدتنا في المعاد الجسماني

وبعد هذا ، فالمعاد الجسماني بالخصوص ضرورة من ضروريات الدين الإسلامي ، دلّ صريح القرآن الكريم عليها : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ، القيامة : ٣ ، (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، الرعد : ٥ ، (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، ق : ١٤.

وما المعاد الجسماني على إجماله إلّا إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب ، وإرجاعه إلى هيئته الاولى بعد أن يصبح رميما. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن ، وأكثر مما يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنّة والنار والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنيّة.

«ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلّا صاحب النظر الدقيق ، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئاتها ، وأنّ الأرواح هل تعدم كالأجساد أو تبقى مستمرّة حتّى تتصل

٢٣٨

بالأبدان عند المعاد ، وأنّ المعاد هل يختصّ بالإنسان أو يجري على كافّة ضروب الحيوان ، وأن عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي. وإذا لزم الاعتقاد بالجنّة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ، ولا العلم بأنّهما في السماء أو الأرض أو يختلفان ، وكذا إذا وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية ، أو لها كفّتان ، ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنويّة ، والغرض أنّه لا يشترط في تحقق الإسلام معرفة أنّها من الأجسام ...» (١).

نعم ، إن تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الإسلامي ، فإذا أراد الإنسان أن يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر ممّا جاء في القرآن ليقنع نفسه دفعا للشبه التي يثيرها الباحثون والمشكّكون بالتماس البرهان العقلي ، أو التجربة الحسيّة ، فإنّه إنّما يجني على نفسه ، ويقطع في مشكلات ومنازعات ، لا نهاية لها. وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلمين والمتفلسفين ، ولا ضرورة دينية ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثا والتي استنفدت كثيرا من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشبه والشكوك التي تثار حول التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراك هذه الامور الغائبة عنّا ، والخارجة عن افقنا ، ومحيط وجودنا ، والمرتفعة فوق مستوانا الأرضي ، مع علمنا بأنّ الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.

__________________

(١) في هامش نسختنا : مقتبس من كتاب كشف الغطاء : ص ٥ للشيخ الكبير كاشف الغطاء.

٢٣٩

وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل أن تتناول شيئا لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختباره إلّا بعد موته وانتقاله من هذا العالم ـ عالم الحس والتجربة والبحث ـ فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته ، فضلا عن أن يتناول تفاصيله وخصوصيّاته إلّا إذا اعتمد على التكهن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب ، كما هو من طبيعة خيال الإنسان أن يستغرب كلّ ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسّه كالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). ولا سند لهذا الاستغراب إلّا أنّه لم ير ميّتا رميما قد اعيدت له الحياة من جديد ، ولكنّه ينسى هذا المستغرب كيف خلقت ذاته لأوّل مرّة ، ولقد كان عدما ، وأجزاء بدنه رميما تألّفت من الأرض وما حملت ومن الفضاء وما حوى من هنا وهنا حتّى صار بشرا سويا ذا عقل وبيان (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ).

يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلقه ، (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يقال له : إنّك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته ، وتعترف بالرسول وما أخبر به ، مع قصور علمك حتّى عن إدراك سرّ خلق ذاتك وسرّ تكوينك ، وكيف كان نموّك وانتقالك من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفا من ذرات متباعدة ، لبلغ بشرا سويّا عاقلا مدبرا ذا شعور وإحساس. يقال له : بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميما ، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قبل لتجاربك

٢٤٠