بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

السابع والثلاثين : «اللهم إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا ، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك وإن اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك ، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك ، وأعبدهم مقصّر عن طاعتك».

وبسبب عظم نعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى يعجز عن شكره ، فكيف إذا كان يعصيه مجترئا ، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفّر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء السادس عشر : «يا إلهي لو بكيت إليك حتّى تسقط أسفار عيني ، وانتحبت حتّى ينقطع صوتي ، وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي».

«الثالث» : التعريف بالثواب والعقاب والجنّة والنار وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضل ، وأنّ العبد يستحقّ العقاب منه بأدنى معصية يجتري بها ، والحجّة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السجّادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة ، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى والرجاء في ثوابه. وكلّها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبّر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.

مثل ما تقرأ في الدعاء السادس والأربعين : «حجّتك قائمة ، وسلطانك ثابت لا يزول ، فالويل الدائم لمن جنح عنك ، والخيبة الخاذلة

٢٠١

لمن خاب منك ، والشقاء الأشقى لمن اغتر بك. ما أكثر تصرّفه في عذابك ، وما أطول تردّده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أقنطه من سهولة المخرج! عدلا من قضائك لا تجور فيه ، وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه ، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار ...»

ومثل ما تقرأ في الدعاء الواحد والثلاثين : «اللهم فارحم وحدتي بين يديك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، واضطراب أركاني من هيبتك ، فقد أقامتني ـ يا ربّ ـ ذنوبي مقام الخزي بفنائك ، فإن سكت لم ينطق عنّي أحد ، وإن شفعت فلست بأهل الشفاعة».

ومثل ما تقرأ في الدعاء التاسع والثلاثين : «فإنّك إن تكافني بالحقّ تهلكني وإلّا تغمدني برحمتك توبقني ... وأستحملك من ذنوبي ما قد بهظني حمله وأستعين بك على ما قد فدحني ثقله ، فصلّ على محمّد وآله وهب لنفسي على ظلمها نفسي ، ووكّل رحمتك باحتمال إصري ...».

«الرابع» : سوق الداعي بهذه الأدعية إلى الترفّع عن مساوئ الأفعال وخسائس الصفات ، لتنقية ضميره وتطهير قلبه ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «اللهم وفّر بلطفك نيّتي وصحّح بما عندك يقيني ، واستصلح بقدرتك ما فسد منّي» «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ومتّعني بهدى صالح لا أستبدل به وطريقة حقّ لا أزيغ عنها ، ونيّة رشد لا أشك فيها».

«اللهم لا تدع خصلة تعاب منّي إلّا أصلحتها ، ولا عائبة أونب بها إلّا حسّنتها ، ولا أكرومة فيّ ناقصة إلّا أتممّتها».

«الخامس» الايحاء إلى الداعي بلزوم الترفّع عن الناس وعدم

٢٠٢

التذلّل لهم ، وألّا يضع حاجته عند أحد غير الله ، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسّ ما يتصف به الإنسان ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «ولا تفتنّي بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت ، ولا بالخشوع لسؤال غيرك إذا افتقرت ، ولا بالتضرع إلى من دونك إذا رهبت ، فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك».

ومثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والعشرين : «اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك ، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك ، ورأيت أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله».

ومثل ما تقرأ في الدعاء الثالث عشر : «فمن حاول سدّ خلّته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك ، فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها. ومن توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك ، أو جعله سبب نجاحها دونك ، فقد تعرّض للحرمان واستحقّ منك فوت الإحسان».

«السادس» : تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومعاونتهم والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض ، والايثار فيما بينهم. تحقيقا لمعنى الأخوّة الإسلامية. مثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والثلاثين : «اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدى إليّ فلم أشكره ، ومن مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره ، ومن ذي فاقة سألني فلم أؤثره ، ومن حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن فلم أوفره ، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره ...» إن هذا الاعتذار من أبدع ما ينبّه النفس

٢٠٣

إلى ما ينبغي عمله من هذه الأخلاق الإلهية العالية.

وفي الدعاء التاسع والثلاثين ما يزيد على ذلك ، فيعلّمك كيف يلزمك أن تعفو عمّن أساء إليك ويحذّرك من الانتقام منه ، ويسمو بنفسك إلى مقام القدّيسين : «اللهم وأيّما عبد نال منّي ما حظرت عليه وانتهك منّي ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميّتا أو حصلت لي قبله حيا ، فاغفر له ما ألم به منّي ، وأعف له عمّا أدبر به عنّي ، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ ، ولا تكشفه عمّا اكتسب بي ، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم وتبرّعت من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدّقين ، وأعلى صلات المتقرّبين ، وعوّضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم رحمتك ، حتّى يسعد كلّ واحد منّا بفضلك».

وما أبدع هذه الفقرة الأخيرة وما أجمل وقعها في النفوس الخيرة لتنبيهها على لزوم سلامة النيّة مع جميع الناس وطلب السعادة لكلّ أحد حتّى من يظلمه ويعتدي عليه. ومثل هذا كثير في الأدعية السجّادية ، وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماويّة المهذّبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.

٢٠٤

٣ ـ عقيدتنا في زيارة القبور

وممّا امتازت به الإمامية العناية بزيارة القبور «قبور النبيّ والائمة عليهم الصلاة والسلام» وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها ، ولأجلها يضحّون بكلّ غال ورخيص عن إيمان وطيب نفس.

ومردّ كلّ ذلك إلى وصايا الأئمة ، وحثّهم شيعتهم على الزيارة ، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى ، باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة ، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى. وجعلوها أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة ، «إذ أنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وأنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة» (١).

وفي زيارة القبور من الفوائد الدينيّة والاجتماعيّة ما تستحق العناية من أئمتنا ، فإنّها ـ في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبّة بين الأئمة

__________________

(١) من قول الإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ راجع كامل الزيارات لابن قولويه : ص ١٢٢.

٢٠٥

وأوليائهم ، وتجدّد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحقّ ـ تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرّقين على صعيد واحد ، ليتعارفوا ويتآلفوا ، ثم تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه وطاعة أوامره ، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسية الإسلام والرسالة المحمّديّة ، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبّر الكائنات وشكر آلائه ونعمه ، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدّم الكلام عليها ، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة «أمين الله» وهي الزيارة المرويّة عن الإمام «زين العابدين» ـ عليه‌السلام ـ حينما زار قبر جده «أمير المؤمنين» ـ عليه‌السلام.

كما تفهّم هذه الزيارات المأثورة مواقف الأئمة ـ عليهم‌السلام. وتضحياتهم في سبيل نصرة الحقّ وإعلاء كلمة الدين وتجرّدهم لطاعة الله تعالى ، وقد وردت باسلوب عربيّ جزل ، وفصاحة عالية ، وعبارات سهلة يفهمها الخاصّة والعامّة ، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه تعالى. فهي بحقّ من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم ؛ إذ اودعت فيها خلاصة معارف الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ فيما يتعلق بهذه الشئون الدينيّة والتهذيبيّة.

ثم إنّ في آداب أداء الزيارة أيضا من التعليم والإرشاد ما يؤكد من تحقيق تلك المعاني الدينيّة السامية : من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية

٢٠٦

روح العطف على الفقير ، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبب إلى مخالطة الناس. فإنّ من آدابها : ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في «المرقد المطهّر» وزيارته.

ومنها : ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة. ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها :

١ ـ من آدابها أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهّر ، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة ، وهي أن ينظف الإنسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء ، ولئلا يتأفّف من روائحه الناس (١) ، وأن يطهّر نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيه على تلكم الأهداف العالية فيقول : «اللهم اجعل لي نورا وطهورا وحرزا كافيا من كلّ داء وسقم ومن كلّ آفة وعاهة ، وطهّر به قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري ، ومخّي وعظمي وما أقلّت الأرض منّي ، واجعل لي شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي».

٢ ـ أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب ، فإنّ في الإناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يحبّب الناس بعضهم إلى بعض ويقرّب بينهم ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.

ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم ، بل يلبس أحسن ما يتمكن

__________________

(١) قال امير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «تنظفوا بالماء من الريح المنتنة وتعهدوا انفسكم ، فان الله يبغض من عباده القاذورة الذي يتأفف من جلس إليه» تحف العقول : ص ٢٤.

٢٠٧

عليه ؛ إذ ليس كلّ أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الإناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.

٣ ـ أن يتطيّب ما وسعه الطيب. وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.

٤ ـ أن يتصدق على الفقراء بما يعن له أن يتصدّق به. ومن المعلوم فائدة التصدّق في مثل هذه المواسم ، فإنّ فيه معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم.

٥ ـ أن يمشي على سكينة ووقار عاضّا من بصره. وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة وتعظيم للمزور وتوجه إلى الله تعالى وانقطاع إليه ، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض ٦ ـ أن يكبّر بقول : «الله أكبر» ويكرّر ذلك ما شاء. وقد تحدّد في بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنّه لا شيء أكبر منه. وأنّ الزيارة ليست إلّا لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.

٧ ـ وبعد الفراغ من الزيارة للنبيّ أو الإمام يصلي ركعتين على الأقل ، تطوّعا وعبادة لله تعالى ليشكره على توفيقه إياه ، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر ، أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده وأنّه لا يعبد سواه ، وليست الزيارة إلّا نوع التقرب إليه تعالى زلفى ؛ إذ يقول :

٢٠٨

«اللهم لك صليت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك ؛ لأنه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلّا لك ، لأنّك أنت الله لا إله إلّا أنت. اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وتقبّل منّي زيارتي واعطني سؤلي بمحمّد وآله الطاهرين».

وفي هذا النوع من الأدب ما يوضّح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعا لهم في زيارة القبور ، وما يلقم المتجاهلين حجرا حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرّب إليها والشرك بالله. وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينيّة في مواسم الزيارات ؛ إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمّد ، وإلّا فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها. حاشا اولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم وتجرّدوا له في عباداتهم ، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.

٨ ـ ومن آداب الزيارة «أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه وقلّة الكلام إلّا بخير ، وكثرة ذكر الله (١) ، والخشوع وكثرة الصلاة والصلاة على محمّد وآل محمّد ، وأن يغضّ من بصره ، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعا ، والمواساة لهم ، والورع عمّا نهى عنه

__________________

(١) ليس المراد من كثرة ذكر الله تكرار التسبيح والتكبير ونحوهما فقط ، بل المراد ما ذكره الصادق ـ عليه‌السلام ـ في بعض الحديث في تفسير ذكر الله كثيرا أنه قال : «أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله الّا الله والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

٢٠٩

وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان» (١).

ثم إنّه ليست حقيقة الزيارة إلّا السلام على النبيّ أو الإمام باعتبار أنّهم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فهم يسمعون الكلام ويردّون الجواب ، ويكفي أن يقول فيها مثلا : «السلام عليك يا رسول الله» غير أن الأولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت ؛ لما فيها ـ كما ذكرنا ـ من المقاصد العالية والفوائد الدينيّة ، مع بلاغتها وفصاحتها ، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتّجه بها الإنسان إلى الله تعالى وحده.

__________________

(١) راجع كامل الزيارات : ص ١٣١.

٢١٠

٤ ـ عقيدتنا في معنى التشيّع عند آل البيت

إنّ الائمة من آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ لم تكن لهم همّة ـ بعد أن انصرفوا عن أن يرجع أمر الامّة إليهم ـ إلّا تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم ، فكانوا مع كلّ من يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعية وتلقينه المعارف المحمّديّة ، ويعرّفونه ما له وما عليه.

ولا يعتبرون الرجل تابعا وشيعة لهم إلّا إذا كان مطيعا لأمر الله مجانبا لهواه آخذا بتعاليمهم وإرشاداتهم. ولا يعتبرون حبّهم وحده كافيا للنجاة كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات ويلتمس عذرا في التمرّد على طاعة الله سبحانه. إنّهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاة إلّا إذا اقترن بالأعمال الصالحة وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى.

«يا خيثمة! أبلغ موالينا أنّه لا نغني عنهم من الله شيئا إلّا بعمل ، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع ، وإنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة

٢١١

من وصف عدلا ثم خالفه إلى غيره» (١).

بل هم يريدون من أتباعهم أن يكونوا دعاة للحقّ وأدلّاء على الخير والرشاد ، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان : «كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع» (٢).

ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض أتباعهم ، لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس :

١ ـ محاورة أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ مع جابر الجعفي : (٣) «يا جابر! أيكتفى من ينتحل التشيع أن يقول بحبّنا أهل البيت! فو الله ما شيعتنا إلّا من أتقى الله وأطاعه».

«وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع ، والتخشع ، والأمانة ، وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبرّ بالوالدين ، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الألسن عن الناس إلّا من خير ، وكانوا أمناء عشائرهم في الاشياء».

«فاتقوا الله واعملوا لما عند الله! ليس بين الله وبين أحد قرابة ، أحبّ العباد إلى الله عزوجل أتقاهم وأعملهم بطاعته» (٤).

__________________

(١) اصول الكافي : كتاب الايمان ، باب زيارة الاخوان.

(٢) نفس المصدر : باب الورع.

(٣) نفس المصدر : باب الطاعة والتقوى.

(٤) وبهذا المعنى قال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة : «ان حكمه في أهل السماء وأهل الأرض واحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين».

٢١٢

«يا جابر والله ما نتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة ، وما معنا براءة من النار ، ولا على الله لأحد من حجّة. من كان لله مطيعا فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوّ. وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع».

٢ ـ محاورة أبي جعفر أيضا مع سعيد بن الحسن (١) : أبو جعفر : أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟

سعيد : ما أعرف ذلك فينا.

أبو جعفر : فلا شيء إذن.

سعيد : فالهلاك إذن.

أبو جعفر : إن القوم لم يعطوا احلامهم بعد.

٣ ـ محاورة أبي عبد الله الصادق ـ عليه‌السلام ـ مع أبي الصباح الكناني (٢) : الكناني لأبي عبد الله : ما نلقى من الناس فيك؟! أبو عبد الله : وما الذي تلقى من الناس؟

الكناني : لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام ، فيقول : جعفريّ خبيث.

أبو عبد الله : يعيّركم الناس بي؟! الكناني : نعم!

__________________

(١) اصول الكافي كتاب الايمان : باب حق المؤمن على أخيه.

(٢) نص المصدر : باب الورع.

٢١٣

أبو عبد الله : ما أقلّ والله من يتّبع جعفرا منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!

٤ ـ ولأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي : أ ـ «ليس منّا ـ ولا كرامة ـ من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه».

ب ـ «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمنا حتّى يكون لجميع أمرنا متّبعا ومريدا ألا وإن من اتّباع أمرنا وإرادته الورع ، فتزينوا به يرحمكم الله».

ج ـ «ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدّرات بورعه في خدورهن ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله أورع منه».

د ـ «إنّما شيعة «جعفر» من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه. فإذا رأيت اولئك فاولئك شيعة جعفر».

٢١٤

٥ ـ عقيدتنا في الجور والظلم

من أكبر ما كان يعظّمه الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على الإنسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس ، وذلك اتّباعا لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ).

وقد جاء في كلام أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه ، كقوله وهو الصادق المصدّق من كلامه في نهج البلاغة برقم ٢١٩ : «والله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت». وهذا غاية ما يمكن أن يتصوره الإنسان في التعفّف عن الظلم والحذر من الجور واستنكار عمله ، أنّه لا يظلم «نملة» في قشرة شعيرة وإن اعطي الأقاليم السبعة. فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟ وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟ إنّ هذا هو

٢١٥

الأدب الإلهي الرفيع الذي يتطلّبه الدين من البشر.

نعم ، إنّ الظلم من أعظم ما حرّم الله تعالى ، فلذا اخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.

وهذه سياستهم ـ عليهم‌السلام ـ وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم ويجترئ على مقامهم. وقصة الإمام الحسن ـ عليه‌السلام ـ معروفة في حلمه عن الشاميّ الذي اجترأ عليه وشتمه ، فلاطفه الإمام وعطف عليه ، حتّى أشعره بسوء فعلته. وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السموّ النفسيّ والإنسانيّة الكاملة ، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزا في الشريعة وكذا الدعاء عليه جائز مباح ، ولكنّ الجواز شيء والعفو الذي هو من مكارم الأخلاق شيء آخر ، بل عند الأئمة أنّ المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلما ، قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتّى يكون ظالما». أي حتّى يكون ظالما في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره. يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحدّ ظلما؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور ، ويعتدي على الناس ، أو ينهش أعراضهم ، أو ينهب أموالهم أو يمشي عليهم عند الظالمين ، أو يخدعهم فيورّطهم في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم ، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيت عليهم‌السلام؟ إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى ، وأشدّهم إثما وعقابا ، وأقبحهم أعمالا وأخلاقا.

٢١٦

٦ ـ عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أن نهى الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

هذا هو أدب القرآن الكريم وهو أدب آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ. وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين ، والاتصال بهم ومشاركتهم في أيّ عمل كان ، ومعاونتهم ولو بشقّ تمرة.

ولا شكّ أن أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور ، والتغاضي عن مساوئهم ، والتعامل معهم ، فضلا عن ممالاتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم ، وما جرّ الويلات على الجامعة الإسلامية إلّا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحقّ ، حتّى ضعف الدين بمرور الأيام ، فتلاشت قوّته ، ووصل إلى ما عليه اليوم ، فعاد غريبا ، وأصبح المسلمون أو ما يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون حتّى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم ، كاليهود الأذلّاء فضلا عن الصليبيّين الأقوياء.

٢١٧

لقد جاهد الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ في إبعاد من يتصل بهم عن التعاون مع الظالمين ، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالاتهم ، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب ، ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ إلى محمّد بن مسلم الزهري بعد أن حذّره عن إعانة الظلمة على ظلمهم : «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلّما إلى ضلالتهم ، داعيا إلى غيّهم ، سالكا سبيلهم. يدخلون بك الشكّ على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم. فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلّا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم ، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا عليك. فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول ...» (١).

ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجل مسئول» فإنّ الإنسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه ، بمعنى أنّه لا يجده مسئولا عن أعماله ، ويستحقر ما يأتي به من أفعال ، ويتخيّل أنّه ليس بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه ، أنّ هذا من أسرار النفس الإنسانيّة الأمّارة ، فاراد الإمام أن ينبّه الزهري على هذا السرّ النفساني في دخيلته الكامنة ، لئلا يغلب عليه الوهم فيفرّط في مسئوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان

__________________

(١) راجع تحف العقول : ص ٦٦

٢١٨

الجمّال مع الإمام موسى الكاظم ـ عليه‌السلام ـ وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثقين قال ـ حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان ـ : «دخلت عليه فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ، خلا شيئا واحدا.

قلت : جعلت فداك! أيّ شيء؟

قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل «يعني هارون».

قلت : والله ، ما أكريته أشرا ولا بطرا ، ولا للصيد ، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق «يعني طريق مكة» ولا أتولّاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني.

قال : يا صفوان أيقع كراك عليهم؟

قلت : نعم جعلت فداك.

قال : أتحبّ بقاهم حتّى يخرج كراك؟

قلت : نعم.

قال : فمن أحبّ بقاهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كان ورد النار.

قال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها».

فاذا كان نفس حبّ حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة ، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور ، وكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم؟!

٢١٩

٧ ـ عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشقّ تمرة بل حب بقائهم ، من أشدّ ما حذّر عنه الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم ، بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم «وذلك أنّ ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه ، وإحياء الباطل كلّه ، وإظهار الظلم والجور والفساد» كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام.

غير أنّه ورد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله ، والإحسان إلى المؤمنين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوّر الله به البرهان ومكّن له في البلاد ، فيدفع بهم عن أوليائه ويصلح بهم امور المسلمين ... اولئك هم المؤمنون حقّا. اولئك منار الله في أرضه اولئك نور الله في رعيته ...» كما جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضّح النهج الذي ينبغي

٢٢٠