بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية فإنّا نقول له :

«أولا» : إنّا متبعون لأئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ ونحن نهتدي بهداهم ، وهم أمرونا بها ، وفرضوها علينا وقت الحاجة ، وهي عندهم من الدين ، وقد سمعت قول الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «من لا تقية له لا دين له».

و «ثانيا» : قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى :

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، النحل : ١٠٦ ، وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفا من أعداء الإسلام وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) آل عمران : ٢٨.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) المؤمن : ٢٨ (١).

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أنّ التقيّة قد تكون خوفا من الضرر على نفس المتقي أو عرضه أو ماله أو ما يتعلق به أو على نفس غيره من المؤمنين ، أو على حوزة الإسلام ، لأجل تفريق كلمتهم ، وقد تكون التقيّة مداراة من دون خوف وضرر فعلي ، بأن يكون المقصود منها هو جلب مودة العامّة والتحبيب بيننا وبينهم ، ولعلّ المصنّف أشار إلى الأوّل حيث قال : «وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت ـ عليهم‌السلام ـ دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقنا لدمائهم» وأشار إلى الثاني حيث قال : «واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم ولمّا لشعثهم» ولكنّ الظاهر من ملاحظة تمام العبادة أنّه بصدد بيان القسم الأوّل فإنّ الاستدلال له بمثل أنّ الكتم والاتقاء في مواضع الخطر من فطرة العقول يشهد على أنّ مقصوده هو القسم الأوّل.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ ترك المداراة مع العامّة ، وهجرهم في المعاشرة في

١٨١

بلادهم وإن لم يكن مقارنا بالخوف والضرر الفعلي ، ولكن ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة للتضرر منهم ، وعليه فيشمل التقيّة المداراتية أيضا ، وكيف كان فما دلّ على التقية المداراتية ، خبر هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إيّاكم أن تعملوا عملا نعيّر به ، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا ، صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير ، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخباء قلت :

وما الخباء؟ قال التقيّة» (١) ؛ إذ الظاهر منها الترغيب إلى العمل موافقا لآرائهم ، وإلى الاتيان بالصلاة مع عشائرهم ، وكذا غيرها من الخيرات ، ومن المعلوم أنّ العمل معهم موافقا لهم مستلزم لترك بعض الأجزاء والشرائط ، وليس ذلك إلّا للتقية المداراتية.

ثم إنّ التقية محكومة بالأحكام الخمسة قال الشيخ الأعظم الأنصاري ـ قدس‌سره ـ : «أمّا الكلام في حكمها التكليفي فهو أنّ التقية تنقسم إلى الأحكام الخمسة ، فالواجب منها : ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا وأمثلته كثيرة.

والمستحب : ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر ، بأن يكون تركه مفضيا تدريجا إلى حصول الضرر كترك المداراة مع العامّة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فإنّه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة لتضرره منهم.

والمباح : ما كان التحرز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع ، كالتقيّة في إظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع من الأصحاب ويدلّ عليه الخبر الوارد في رجلين اخذا بالكوفة وامرا بسبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) الوسائل : ج ١١ ص ٤٧١ ح ٢.

١٨٢

والمكروه : ما كان تركها وتحمّل الضرر أولى من فعله ، كما ذكر بعضهم في إظهار كلمة الكفر ، وأنّ الأولى تركها ممّن يقتدي به الناس إعلاء لكلمة الإسلام ، والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل.

والمحرّم منه : ما كان في الدماء» (١) قال الشهيد الثاني ـ قدس‌سره ـ في القواعد : «والحرام التقية حيث يؤمن الضرر عاجلا وآجلا أو في قتل مسلم» (٢) ويشهد له ما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّما جعل التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية» (٣).

ثم إنّ الظاهر عدم انحصار موارد حرمة التقية بما ذكر ، بل تحرم التقيّة فيما إذا كانت التقية موجبة للفساد في الدين ، كما يشهد له موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في حديث ... وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز (٤).

هذا مضافا إلى ما أفاده السيّد المجاهد آية الله العظمى الإمام الخميني ـ قدس‌سره ـ من أن تشريع التقيّة لبقاء المذهب ، وحفظ الاصول ، وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين واصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، ولذا ذهب إلى عدم جواز التقية فيما إذا كان أصل من اصول الإسلام أو المذهب أو ضروريّ من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث ، والطلاق ، والصلاة ، والحج ، وغيرها ، من اصول الأحكام فضلا عن اصول الدين أو المذهب.

__________________

(١) رسالة في التقية : ص ٣٢٠ من المكاسب المطبوع في تبريز.

(٢) راجع رسالة في التقية للشيخ الاعظم : ص ٣٢٠.

(٣) الوسائل : ج ١١ ص ٤٨٣ ح ١.

(٤) الوسائل : ج ١١ ص ٤٦٩ ح ٦.

١٨٣

بل ذهب فيما إذا كان بعض المحرّمات والواجبات في نظر الشارع في غاية الأهميّة كهدم الكعبة والمشاهد المشرّفة بنحو يمحو الأثر ولا يرجى عوده ، وغيرها من عظائم المحرّمات ، إلى استبعاد التقية عن مذاق الشرع غاية الاستبعاد ، وقال : فهل ترى من نفسك إن عرض على مسلم تخريب بيت الله الحرام وقبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أو الحبس شهرا أو شهرين أو أخذ مائة أو مائتين منه ، يجوز له ذلك تمسّكا بدليل الحرج والضرر.

ثم استظهر الرجوع في أمثال تلك العظائم إلى تزاحم المقتضيات من غير توجّه إلى حكومة تلك الأدلّة على أدلتها ، والحقّ بذلك ما إذا كان المتّقي ممّن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية ، أو تركه لبعض الواجبات مما يعدّ موهنا للمذهب ، وهاتكا لحرمته ، كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فإنّ جواز التقية في مثله تشبثا بحكومة دليل الرفع ، وأدلّة التقية ، مشكل بل ممنوع (١). هذه جملة من الموارد التي استثنيت من أدلّة التقية ، وبقية الكلام في محله ، وكيف كان فالدليل على وجوب التقية فيما إذا كانت واجبة هو عمومات التقية التي أشار إليها المصنّف (٢).

هذا مضافا إلى أدلّة نفي الضرر ، وحديث رفع عن امتي تسعة أشياء ، ومنها : ما اضطروا إليه.

قال الشيخ الأعظم ـ قدس‌سره ـ : «ثم الواجب منها يبيح كلّ محظور من فعل الحرام أو ترك الواجب والأصل في ذلك أدلّة نفي الضرر وحديث رفع عن امتي تسعة أشياء ، ومنها : ما اضطروا إليه ، مضافا إلى عمومات التقية مثل قوله في الخبر : أن التقية واسعة ليس شيء من التقية إلّا وصاحبها مأجور ، وغير ذلك

__________________

(١) الرسائل : ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) راجع الوسائل : ج ١١ ، الباب ٢٥ من ابواب الامر والنهي ص ٤٦٨.

١٨٤

من الأخبار المتفرّقة في خصوص الموارد ، وجميع هذه الأدلّة حاكمة على أدلّة الواجبات والمحرّمات ، فلا يعارض بها شيء منها حتّى يلتمس الترجيح ويرجع إلى الاصول بعد فقده كما زعمه بعض في بعض موارد هذه المسألة» (١).

والدليل على التقية فيما إذا كانت مستحبّة هو ما عرفت من صحيحة هشام بن الحكم ، ولذا قال الشيخ الأعظم ـ قدس‌سره : «وأمّا المستحب من التقية فالظاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النصّ ، وقد ورد النصّ بالحث على المعاشرة مع العامّة وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم ، والصلاة في مساجدهم ، والأذان لهم ، فلا يجوز التعدّي عن ذلك إلى ما لم يرد النصّ من الأفعال المخالفة للحقّ ، كذمّ بعض رؤساء الشيعة ، للتحبيب إليهم» (٢) ولكن مرّ عن الشهيد في قواعده من أنّه جعل المستحب من التقية فيما إذا كان لا يخاف ضررا عاجلا ، ويتوهم ضررا آجلا أو ضررا سهلا ، أو كان تقيته في المستحب كالترتيب في تسبيح الزهراء ـ صلوات الله عليها ـ وترك بعض فصول الأذان ، ومقتضاه هو عدم الاقتصار فيه على مورد النص فافهم.

وأمّا المباح والمكروه ، فقد قال الشيخ الأعظم ـ قدس‌سره ـ : «إن الكراهة أو الإباحة خلاف عمومات التقية فيحتاج إلى الدليل الخاص» (٣) وقد أطلعت الكلام ، ومع ذلك بقي الكلام وعليك بالمراجعة إلى المطولات ، كالرسالة في التقية للشيخ الأعظم ـ قدس‌سره ـ والرسائل للسيّد المجاهد آية الله العظمى الإمام الخميني ـ قدس‌سره ـ ولله الحمد.

__________________

(١) رسالة في التقية : ص ٣٢٠ من المكاسب المطبوعة في تبريز.

(٢) رسالة في التقية : ص ٣٢٠ من المكاسب المطبوعة في تبريز.

(٣) رسالة في التقية : ص ٣٢٠ من المكاسب المطبوعة في تبريز.

١٨٥
١٨٦

الفصل الرابع

ما أدّب به آل البيت شيعتهم

١ ـ عقيدتنا في الدعاء

٢ ـ أدعية الصحيفة السجادية

٣ ـ عقيدتنا في زيارة القبور

٤ ـ عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت

٥ ـ عقيدتنا في الجور والظلم

٦ ـ عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

٧ ـ عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

٨ ـ عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

٩ ـ عقيدتنا في حقّ المسلم على المسلم

١٨٧
١٨٨

تمهيد (١) :

إنّ الأئمة من آل البيت ـ عليهم‌السلام ـ علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم ، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدة.

فكان من الطبيعي ـ من جهة ـ أن يتخذوا التكتم «التقية» دينا وديدنا لهم ولأتباعهم ، ما دامت التقية تحقن من دمائهم ولا تسيء إلى الآخرين ولا إلى الدين ، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم ـ من جهة اخرى ـ أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلى توجيههم توجيها دينيا صالحا ، وإلى أن يسلكوا بهم مسلكا اجتماعيا مفيدا ، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

__________________

(١) ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ هذا الفصل يكون لبيان ما أدّب به آل البيت شيعتهم وحيث لا مساس له باصول العقائد لم اعلّق عليه في هذا المجال وإن كان بعض ما ذكر في هذا الفصل منظورا فيه ولعلّ الله أن يرزقني ذلك في مجال آخر.

١٨٩

وطريقة آل البيت في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة ، وكتب الحديث الضخمة متكفلة بما نشروه من تلك المعارف الدينيّة ، غير أنّه لا بأس أن نشير هنا إلى بعض ما يشبه أن يدخل في باب العقائد فيما يتعلق بتأديبهم لشيعتهم ، بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد ، وتقرّبهم زلفى إلى الله تعالى ، وتطهّر صدورهم من درن الآثام والرذائل ، وتجعل منهم عدولا صادقين. وقد تقدّم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعيا لهم ، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعن لنا من هذه الآداب.

١٩٠

١ ـ عقيدتنا في الدعاء

قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السّماوات والأرض» ، وكذلك هو ، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها ، وقد ألفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطولة ومختصرة. وقد اودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبيّ وآل بيته ـ صلّى الله عليهم وسلّم ـ من الحثّ على الدعاء والترغيب فيه. حتّى جاء عنهم «أفضل العبادة الدعاء» و «أحبّ الأعمال إلى الله عزوجل في الأرض الدعاء» بل ورد عنهم «أنّ الدعاء يردّ القضاء والبلاء» و «أنّه شفاء من كلّ داء».

وقد ورد أنّ «أمير المؤمنين» صلوات الله عليه كان رجلا «دعّاء» ، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيد الموحدين وإمام الإلهيين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور ، وقد تضمّنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينيّة ما يصلح أن تكون منهجا رفيعا للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة أنّ الأدعية الواردة عن النبيّ وآل بيته ـ عليهم الصلاة

١٩١

والسّلام ـ خير منهج للمسلم ـ إذا تدبّرها ـ تبعث في نفسه قوّة الإيمان ، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق ، وتعرّفه سرّ العبادة ، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه ، وتلقّنه ما يجب على الإنسان أن يعلمه لدينه وما يقرّبه إلى الله تعالى زلفى ، ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد اودعت فيها خلاصة المعارف الدينيّة من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس ، ومن ناحية العقيدة الإسلامية ، بل هي من أهمّ مصادر الآراء الفلسفية والمباحث العلميّة في الالهيات والأخلاقيات.

ولو استطاع الناس ـ وما كلّهم بمستطيعين ـ أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية ، لما كنت تجد من هذه المفاسد المثقلة بها الأرض أثرا ، ولحلّقت هذه النفوس المكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرّة طليقة ، ولكن أنّي للبشر أن يصغى إلى كلمة المصلحين والدعاة الى الحق ، وقد كشف عنهم قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

نعم إن ركيزة السوء في الإنسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعا فيما أتخذ من عمل : فيظلم ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويطاوع شهواته ما شاء له هواه ، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم يفعل إلّا ما ينبغي أن يفعل ، أو يغضّ بصره متعمّدا عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمد من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختاء بنفسه والتجرّد إلى الله تعالى ، لتلقّنه الاعتراف بالخطإ وأنّه المذنب الذي يجب عليه

١٩٢

الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة ، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه ، مثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد :

«إلهي ومولاي أجريت عليّ حكما اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي ، فغرّني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء ، فتجاوزت بما جرى عليّ من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض أو امرك».

ولا شكّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الإنسان من الاعتراف علانية مع الناس ، وإن كان من أشقّ أحوال النفس أيضا. وإن كان بينه وبين نفسه في خلواته ولو تمّ ذلك للإنسان فله شأن كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يريد تهذيب نفسه لا بدّ أن يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرّية لمحاسبتها ، وخير طريق لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس ، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ :

«أي رب ، جلّلني بسترك ، واعف عن توبيخي بكرم وجهك».

فتأمّل كلمة «جلّلني» فإنّ فيها ما يثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوئ ، ليتنبّه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك :

«فلو أطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما

١٩٣

عنده من المساوئ يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى ، لئلا يفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله ، فيلتذّ الإنسان ساعتئذ بمناجاة السر ، وينقطع إلى الله تعالى ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه ؛ إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدم :

«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك».

ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عمّا فرط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه تعالى ، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربّه ، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول :

«ويحملني ويجزئني على معصيتك حلمك عنّي ، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ. ويسرعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السرّ ، لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع. وما أكثرها.

ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة باسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة ، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد :

«وليت شعري يا سيدي ومولاي أتسلط النار على وجوه خرت لعظمتك ساجدة ، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محقّقة ، وعلى ضمائر حوت من

١٩٤

العلم بك حتّى صارت خاشعة ، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة ، ما هكذا الظن بك ولا اخبرنا بفضلك».

كرّر قراءة هذه الفقرات ، وتامّل في لطف هذا الاحتجاج وبلاغته وسحر بيانه ، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها ، يلقّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه ، ثم يكلّم النفس بابن عمّ الكلام ومن طرف خفي لتلقينها ، واجباتها العليا ؛ إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة ، ثم يعلّمها أنّ الإنسان بعمل هذه الواجبات يستحق التفضل من الله بالمغفرة ، وهذا ما يشوق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤد تلك الواجبات.

ثم تقرأ اسلوبا آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء : «فهبني يا إلهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟! وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟!».

وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته ، حبّا له وشوقا إلى ما عنده ، وبأنّ هذا الالتذاذ ينبغي أن يبلغ من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحرّ النار ، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّن من أن يصبر على حرّ النار فإنّه لا يتمكن من الصبر على هذا الترك ، كما تفهّمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحبّ والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه. ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملّق إلى

١٩٥

الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

ولا بأس في أن نختم بحثنا هذا بايراد دعاء مختصر جامع لمكارم الأخلاق ولما ينبغي لكلّ عضو من الإنسان وكلّ صنف منه أن يكون عليه من الصفات المحمودة : «اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية ، وصدق النيّة وعرفان الحرمة».

«وأكرمنا بالهدى والاستقامة ، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة ، وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة ، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة ، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة ، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة».

«وتفضل على علمائنا بالزهد والنصيحة ، وعلى المتعلّمين بالجهد والرغبة ، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة».

«وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة ، وعلى موتانا بالرأفة والرحمة».

«وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة ، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة ، وعلى النساء بالحياء والعفّة ، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة ، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة».

«وعلى الغزاة بالنصر والغلبة ، وعلى الاسراء بالخلاص والراحة ، وعلى الامراء بالعدل والشفقة ، وعلى الرعية بالإنصاف وحسن السيرة».

«وبارك للحجاج والزوار في الزاد والنفقة ، واقض ما أوجبت عليهم من الحجّ والعمرة».

١٩٦

«بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».

وإني لموص إخواني القرّاء ألّا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية ، بشرط التدبّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والإقبال ، والتوجه إلى الله بخشوع وخضوع ، وقراءتها كأنّها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه ، مع اتباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت ، فإنّ قراءتها بلا توجه من القلب صرف لقلقة في اللسان ، لا تزيد الإنسان معرفة ، ولا تقرّبه زلفى ، ولا تكشف له مكروبا ، ولا يستجاب معه له دعاء.

«إنّ الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة» (١).

__________________

(١) باب الاقبال على الدعاء من كتاب الدعاء من اصول الكافي عن الامام الصادق ـ عليه‌السلام.

١٩٧

٢ ـ أدعية الصحيفة السجادية

بعد واقعة الطف المحزنة ، وتملّك بني امية ناصية أمر الامّة الإسلاميّة ، فأوغلوا في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في تعاليم الدين ، بقي الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين ـ عليه‌السلام ـ جليس داره محزونا ثاكلا ، وجليس بيته لا يقرّبه أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.

فاضطر أن يتخذ من اسلوب الدعاء «الذي قلنا أنّه أحد الطرق التعليميّة لتهذيب النفوس» ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت ، ولتلقين الناس روحيّة الدين والزهد ، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له ، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم ، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة ، وقد جمعت بعضها «الصحيفة السجادية» التي سمّيت ب «زبور آل محمّد». وجاءت في اسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقّ أسرار التوحيد والنبوّة ، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمديّة والآداب الإسلامية ،

١٩٨

وكانت في مختلف الموضوعات التربويّة الدينيّة ، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء ، أو دعاء في اسلوب تعليم للدين والأخلاق. وهي بحقّ بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفيّة في الإلهيات والأخلاقيات :

فمنها : ما يعلمك كيف تمجّد الله وتقدّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه. ومنها : ما يعلمك كيف تناجيه وتخلو به بسرّك وتنقطع إليه. ومنها : ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها. ومنها : ما يفهّمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك. ومنها : ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الارحام أو حقوق المسلمين عامّة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس. ومنها : ما ينبّهك على ما يجب ازاء الديون للناس عليك وما ينبغي أن تعمله في الشئون الاقتصادية والمالية ، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافة الناس ، ومن تستعملهم في مصالحك. ومنها : ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجا كاملا لعلم الأخلاق. ومنها : ما يعلّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض والصحة. ومنها : ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلاميّة وواجبات الناس معهم ... إلى غير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المحمّديّة والشريعة الإلهية ، وكلّ ذلك بأسلوب الدعاء وحده.

والظاهرة التي تطغو على أدعية الإمام عدة امور : «الأوّل» : التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته وبيان توحيده وتنزيهه بأدق التعبيرات العلمية ، وذلك يتكرر في كلّ دعاء بمختلف

١٩٩

الأساليب ، مثل ما تقرأ في الدعاء الأوّل : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا واخترعهم على مشيته اختراعا» فتقرأ دقيق معنى الأوّل والآخر وتنزه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم ، ودقيق معنى الخلق والتكوين. ثم تقرأ اسلوبا آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء السادس : «الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوّته وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكلّ منهما حدّا محدودا ، يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويولج صاحبه فيه ، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه ، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب ، وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومقامه فيكون ذلك لهم جماما وقوّة لينالوا به لذّة وشهوة» إلى آخر ما يذكر من فوائد خلق النهار والليل وما ينبغي أن يشكره الإنسان من هذه النعم.

وتقرأ اسلوبا آخر في بيان أنّ جميع الامور بيده تعالى في الدعاء السابع : «يا من تحلّ به عقد المكاره ، ويا من يفثأ به حدّ الشدائد ، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج ، ذلّت لقدرتك الصعاب ، وتسببت بلطفك الأسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ، ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

«الثاني» : بيان فضل الله تعالى على العبد وعجز العبد عن أداء حقّه مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى ، كما تقرأ في الدعاء

٢٠٠