بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

وقال الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ في ذيل باب من رأى الإمام الثاني عشر ، وطرف من دلائله وبيّناته ، وأمثال هذه الأخبار في معنى ما ذكرناه كثيرة ، والذي اقتصرنا عليه منها كاف فيما قصدناه (١).

وقال أيضا في ذيل باب (دلائله ومعجزاته) : «والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي موجودة في الكتب المصنّفة المذكورة فيها أخبار القائم ـ عليه‌السلام ـ وإن ذهبت إلى إيراد جميعها طال بذلك الكتاب ، وفيما أثبته منها مقنع ولله الحمد والمنّة» (٢).

هذا مع رؤية جمع كثير إياه ـ عليه‌السلام ـ في حال غيبته الكبرى ، وقد تصدّى بعض الأعلام لذكر قصصهم ، ويكفيك النجم الثاقب ، ولنا طرق صحيحة لرؤية بعض الأعزة الكرام ، واتصالهم معه ، أرواحنا فداه ، وسنشير إليها عند المناسبة.

قال في منتخب الأثر في ذيل الفصل الخامس الباب الأوّل في معجزاته في غيبته الكبرى : «وقد ذكر في البحار حكايات كثيرة جدا في ذلك ، وهكذا ذكر المحدّث النوري في دار السلام ، وجنّة المأوى ، والنجم الثاقب ، والفاضل الميثمي العراقي في دار السلام ، وغيرهم من المحدّثين والعلماء معجزات كثيرة تتجاوز عن حدّ التواتر قطعا ، وأسناد كثير منها في غاية الصحّة والمتانة رواها الزهاد والأتقياء من العلماء. هذا مع ما نرى في كلّ يوم وليلة من بركات وجوده ، وثمرات التوسل والاستشفاع به ممّا جرّبناه مرارا» (٣) وقال أيضا في ذيل الفصل المذكور الباب الثاني فيمن رآه في غيبته الكبرى : «واعلم أنّ ما ذكرناه في هذا الفصل ليس إلّا قليلا من الحكايات والآثار المذكورة في

__________________

(١) إرشاد المفيد : ص ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) إرشاد المفيد : ص ٣٣٦.

(٣) منتخب الاثر : ص ٤١١.

١٤١

الكتب المعتبرة والاكتفاء به ؛ لعدم اتساع هذا الكتاب لأزيد منه مضافا إلى أنّ هذه الآثار والحكايات بلغت في الكثيرة حدا يمتنع إحصاؤها وقد ملئوا العلماء كتبهم عنها ، فراجع البحار والنجم الثاقب وجنّة المأوى ، ودار السلام المشتمل على ذكر من فاز بسلام الإمام ، والعبقريّ الحسان وغيرها ، حتّى تعرف مبلغا من كثرتها ، ومن تصفّح الكتب المدوّنة فيها هذه الحكايات التي لا ريب في صحّة كثير منها لقوّة إسناده ، وكون ناقليه من الخواصّ ، والرجال المعروفين بالصداقة والأمانة والعلم والتقوى يحصل له العلم القطعيّ الضروريّ بوجوده ـ عليه‌السلام ـ» (١).

خامسها : أنّ مسألة الغيبة للإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه مما نصّ عليه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والأئمة الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ قبل ولادته وغيبته وإليك بعض هذه الأخبار.

قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «المهديّ من ولدي يكون له غيبة وحيرة تضل فيهما الامم ، يأتي بذخيرة الأنبياء فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» (٢).

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيضا : «طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتمّ به في غيبته قبل قيامه ، ويتولّى أولياءه ، ويعادي أعداءه ذاك من رفقائي وذوي مودّتي ، وأكرم أمّتي يوم القيامة» (٣).

وقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «للقائم منّا غيبة أمدها طويل ، كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته ، يطلبون المرعى فلا يجدونه ، ألا فمن ثبت منهم على دينه لم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم

__________________

(١) منتخب الاثر : ص ٤٢٠.

(٢) اثبات الهداة : ج ٦ ص ٣٩٠.

(٣) بحار الانوار : ج ٥١ ص ٧٢.

١٤٢

القيامة» (١).

وقال الإمام الحسن بن عليّ ـ عليهما‌السلام ـ : «إذا خرج ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون أربعين سنة ، ذلك ليعلم أنّ الله على كل شيء قدير» (٢).

وقال الإمام الحسين بن عليّ ـ عليهما‌السلام ـ : «قائم هذه الامة هو التاسع من ولدي ، وهو صاحب الغيبة وهو الذي يقسّم ميراثه وهو حي» (٣).

روى المفضل عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «إنّ لصاحب هذا الأمر لغيبتين ، أحدهما أطول من الاخرى» الحديث.

قال الشيخ الطوسي بعد نقل هذا الحديث : «ويدلّ أيضا على إمامة ابن الحسن ـ عليه‌السلام ـ وصحّة غيبته ما ظهر واشتهر من الأخبار الشائعة الذائعة عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قبل هذه الأوقات بزمان طويل من أنّ لصاحب هذا الأمر غيبة وصفة غيبته ، وما يجري فيها من الاختلاف ، ويحدث فيها من الحوادث ، وأنّه يكون له غيبتان إحداهما أطول من الاخرى ، وأنّ الاولى تعرف فيها أخباره ، والثانية لا تعرف فيها أخباره ، فوافق ذلك على ما تضمنته الأخبار ، ولو لا صحّتها وصحّة إمامته ، لما وافق ذلك ، لأنّ ذلك لا يكون إلّا بإعلام الله على لسان نبيه» (٤).

وقال أمين الإسلام الطبرسيّ ـ قدس‌سره ـ : «ومن جملة ثقات المحدّثين والمصنّفين من الشيعة الحسن بن محبوب الزراد ، وقد صنّف كتاب المشيخة الذي هو في اصول الشيعة أشهر من كتاب المزني وأمثاله ، قبل زمان الغيبة

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥١ ص ١٠٩.

(٢) بحار الانوار : ج ٥١ ص ١٣٢.

(٣) بحار الانوار : ج ٥١ ص ١٣٢.

(٤) اثبات الهداة : ج ٧ ص ٣ ـ ٤.

١٤٣

بأكثر من مائة سنة تذكر فيه بعض ما أوردناه من أخبار الغيبة ، فوافق الخبر الخبر وحصل كلّ ما تضمنه الخبر بلا اختلاف» (١). فأخبار الغيبة متواترة ومسطورة في الكتب قبل ولادته ـ عليه‌السلام ـ قال المحقّق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ : إنّ وجوب غيبة الإمام الثاني عشر متواتر عن النبيّ ، وكلّ واحد من الأئمة عليهم الصلوات والسّلام (٢).

قال المحقّق القميّ ـ قدس‌سره ـ : «إنّ كثيرا من جوامع الشيعة الفت قبل ولادة جنابه ـ عليه‌السلام ـ فهذه الأخبار مضافا إلى كونها متواترة ومفيدة لليقين ، تكون مقرونة بالإعجاز ؛ لاشتمالها على الأخبار بتولّده ووقوع ما أخبروا به» (٣).

ثم إنّ الغيبة الصغرى وقعت من سنة ٢٦٠ الهجرية إلى سنة ٣٢٩ ، وهي تقرب من سبعين سنة ، والغيبة الكبرى وقعت من سنة ٣٢٩ ودامت إلى يومنا هذا سنة ١٤٠٩ الهجرية ، وتدوم إلى يوم الظهور عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وجعلنا من أعوانه وأنصاره بلطفه وكرمه ، ولعلّ الغيبة الصغرى وقعت على ما لها من نوع ارتباط خاصّ بين نوّابه الخاصّة وبين المؤمنين به تمهيدا لوقوع الغيبة الكبرى التي لا صلة بينه وبين المؤمنين ولو بعنوان النيابة الخاصّة ، وإنّما كانت وظيفة المؤمنين فيها هو الرجوع إلى النّواب العامّة.

قال الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدس‌سره ـ : «وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجأة حقّقت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الامة الإسلامية ؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كل عصر والتفاعل معه ، والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوعة ، فإذا غاب الإمام عن

__________________

(١) اعلام الورى : ص ٤١٦.

(٢) سرمايه ايمان : ص ١٤٦.

(٣) اصول دين : ص ٦٣.

١٤٤

شيعته فجأة ، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحيّة والفكريّة سبّبت هذه الغيبة المفاجأة ، الإحساس بفراغ دفعيّ هائل قد يعصف بالكيان كلّه ، ويشتّت شمله ، فكان لا بدّ من تمهيد لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج ، وتكيّف نفسها شيئا فشيئا على أساسها ، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى ، التي اختفى فيها الإمام المهديّ عن المسرح العام ، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوّابه ، والثقات من أصحابه ، الذين يشكّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الإمامي» (١).

ثم إنّ النوّاب الخاصة في الغيبة الصغرى أربعة ، وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (بفتح العين وسكون الميم) وأبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري وأبو القاسم حسين بن روح النوبختي وأبو الحسن علي بن محمّد السمري ، وهم الأجلاء الكرام والوجوه العظام.

قال الشيخ الطوسي ـ قدس‌سره ـ : «فأمّا السفراء الممدوحون في زمان الغيبة ، فأوّلهم من نصبه أبو الحسن علي بن محمّد العسكري ، وأبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد ابنه ـ عليه‌السلام ـ وهو الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وكان أسديا الى أن نقل في حقّه عن الإمام عليّ بن محمّد الهادي ـ صلوات الله عليه ـ أنّه قال : هذا أبو عمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعنّي يقوله ، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤديه ، وإلى أن نقل في حقّه وابنه عن أبي محمّد الحسن ـ عليه‌السلام ـ واشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وأنّ ابنه محمدا وكيل ابني مهديكم ـ إلى أن قال ـ : وكانت توقيعات صاحب الأمر ـ عليه‌السلام ـ تخرج على يديّ عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد بالأمر والنهي والأجوبة عمّا تسأل

__________________

(١) بحث حول المهدي : ص ٦٨.

١٤٥

الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخطّ الذي كان يخرج في حياة الحسن ـ عليه‌السلام ـ فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفي عثمان بن سعيد رحمه‌الله ، وغسّله ابنه أبو جعفر ، وتولى القيام به ، وحصل الأمر كلّه مردودا إليه ، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته ؛ لما تقدم له من النصّ عليه بالأمانة ، والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن وبعد موته في حياة أبيه عثمان ـ رحمه‌الله إلى أن قال ـ : خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري ـ قدّس الله روحه ـ في التعزية بأبيه ـ رضي‌الله‌عنه ـ وجاء في التوقيع المذكور : أجزل الله لك الثواب ، وأحسن لك العزاء ، رزئت ورزئنا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا ، فسرّه الله في منقلبه ، وكان من كمال سعادته أن رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده ، ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه ، وأقول الحمد لله ، فإنّ الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله عزوجل فيك وعندك ، أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفّقك وكان لك وليا وحافظا وراعيا.

ثم قال الشيخ ـ قدس‌سره : والتوقيعات تخرج على يده إلى الشيعة في المهمّات طول حياته بالخطّ الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ، ولا يرجع إلى أحد سواه ، وقد نقلت عنه دلائل كثيرة ومعجزات الإمام (التي) ظهرت على يده وامور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة ، وهي مشهورة عند الشيعة وقدّمنا طرفا منها ، فلا نطوّل بإعادتها ، إلى أن روي أنّه لمّا حضرت أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري الوفاة ، كان جعفر بن أحمد بن متيل جالسا عند رأسه وأبو القاسم بن روح جالسا عند رجليه ، فالتفت إلى جعفر بن أحمد بن متيل وقال : امرت أن اوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح ، فقام جعفر بن أحمد بن متيل من عند رأسه ، وأخذ بيد أبي القاسم وأجلسه في مكانه وتحوّل بنفسه إلى عند رجليه.

إلى أن قال : لمّا اشتدت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة ـ إلى أن

١٤٦

قال ـ : فدخلوا على أبي جعفر ـ رضي‌الله‌عنه ـ فقالوا له : إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم : هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ، القائم مقامي ، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر ، والوكيل له ، والثقة الأمين ، فارجعوا إليه في اموركم ، وعوّلوا عليه في مهمّاتكم فبذلك امرت ، وقد بلّغت.

إلى أن قال الشيخ : وكان أبو القاسم ـ رحمه‌الله ـ من أعقل الناس عند المخالف والموافق ـ إلى أن قال ـ : وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري ـ رضي‌الله‌عنه ـ فقام بما كان إلى أبي القاسم فلمّا حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده ، وسألته عن الموكّل بعده ، ولمن يقوم مقامه؟ فلم يظهر شيئا من ذلك وذكر أنّه لم يؤمر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن الى أن قال : فأخرج إلى الناس توقيعا قبل وفاته نسخته :

بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمّد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد ، فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم قال الشيخ : قال راوي الخبر : فنسخنا هذا التوقيع ، وخرجنا من عنده ، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيّك من بعدك؟ فقال : لله أمر هو بالغه وقضى ، فهذا آخر كلام. سمع منه رضي‌الله‌عنه وأرضاه» (١).

فالمستفاد من ملاحظة الكلمات المذكورة هو ظهور تسالم الشيعة على نيابتهم

__________________

(١) راجع البحار : ج ٥١ ص ٣٤٤ ـ ٣٦١.

١٤٧

الخاصّة ، ووجه ذلك : ما عرفت من ظهور الكرامات والمعجزات على أيديهم بحيث بكشف عن صلتهم مع الإمام الثاني عشر أرواحنا فداه.

هذا مضافا إلى ما ورد في وثاقتهم وجلالتهم ، وكيف كان فقد تمهّدت جامعة الشيعة بعد مضيّ زمان النوّاب الأربعة أن تصطبر لطيلة الغيبة الكبرى لإمامها الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ حتّى يظهر بإذن الله تعالى.

سادسها : أنّ السبب في الغيبة ليس من ناحية الله تعالى ولا من ناحية الإمام الثاني عشر ـ عليه‌السلام ـ لأنّ كمال لطفه تعالى يقتضي ظهور وليّه ، كما أنّ مقتضى عصمة الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ هو أن لا يغيب عن وظائفه وهداية الناس وإرشادهم ، ولذلك قال المحقّق الخواجه نصير الدين الطوسيّ ـ قدس‌سره ـ على ما حكي عنه : «ليست غيبة المهدي ـ عليه‌السلام ـ من الله سبحانه ، ولا منه ـ عليه‌السلام ـ بل من المكلّفين والناس ، وهي من غلبة الخوف وعدم تمكين الناس من إطاعة الإمام ، فإذا زال سبب الغيبة وقع الظهور» (١).

وأيضا قال الفاضل المقداد : «وأمّا سبب خفائه : فإما لمصلحة استأثر الله بعلمها ، أو لكثرة العدو ، وقلّة الناصر ؛ لأنّ حكمته تعالى وعصمته ـ عليه‌السلام ـ لا يجوز معهما منع اللطف ، فيكون من الغير المعادي ، وذلك هو المطلوب» (٢).

ويؤيد ذلك ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «واعلموا أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله ، ولكنّ الله سيعمي خلقه منها بظلمهم وجورهم ، وإسرافهم على أنفسهم» (٣).

فالغيبة ناشئة من تقصير الناس ، وقد يوجه ذلك بأنّ إقامة العدل العام العالميّ تتوقف على قبول نصاب من عامّة الناس في أقطار العالم لإقامة العدل

__________________

(١) راجع رسالة الامامة الفصل الثالث : ص ٢٥ نقلا عن كتاب نويد أمن وأمان.

(٢) شرح الباب الحادي عشر : ص ٥٢ الطبع الجديد.

(٣) مكيال المكارم : ج ١ ص ١٣٢ الطبع الحديث.

١٤٨

العالمي الإلهي من ناحية الرجل الإلهي ، ولمّا يحصل هذا النصاب وإن قرب الناس إلى قبوله ، لازدياد إحساس أنّ البشر من دون إمداد غيبي لا يتمكن من الإصلاح العالمي ولو أخذوا بالمؤتمرات والمجالس المعدّة للقيام بالعدل والإصلاح ، فإنّ هذه المؤتمرات والمجالس عجزت عن ذلك المقصد العالي ؛ لأنهم ليسوا أهلا له.

هذا مضافا إلى سلطة المفسدين من الدول القويّة عليهم ، ولذلك بسط الظلم والفساد في النظام العالمي ، وكلّما ازدادت الأيام زادت المفاسد والمظالم في أقطار الأرض ، ولا ترفع تلك إلّا بأن يرجع أهل العالم في أقطار الأرض عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم ، ويستعدّون لقبول العدل الإلهي العالمي حتّى يظهر الله تعالى وليّه الأعظم ـ أرواحنا فداه ـ لإقامة العدل وإزالة الجور ، وإليه يؤول ما أشار إليه المحقّق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : إذا كان الإمام المعصوم موجودا وغائبا فليس علينا بيان سبب غيبته بالتفصيل ، نعم يعلم إجمالا أنّ السبب في غيبته ليس من جانبه ؛ لأنّه معصوم ، ويمتنع ترك الواجب منه ، مع أنّ الظهور والقيام بأمر الإمامة وإقامة الشرائع من الواجبات ، فسبب غيبة الإمام من طرف رعيته لعدم نصرتهم إياه ، فإذا تحقّقت مظنة النصرة من قبل الرعيّة وجب ظهوره (١). ولقد أفاد وأجاد الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ لنجد أنّ عملية التغيير التي اعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذيّة كأيّ عملية تغيير اجتماعي اخرى ، بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقّت وفقا لذلك ، ومن المعلوم أنّ المهدي لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود ولا لعملية تغيير تقتصر على

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ١٥٢.

١٤٩

هذا الجزء من العالم أو ذاك ؛ لأنّ رسالته التي ادّخر لها من قبل الله سبحانه وتعالى ، هي تغيير العالم تغييرا شاملا واخراج البشرية كلّ البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل ، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرّد وصول الرسالة والقائد الصالح ، وإلّا لتمّت شروطها في عصر النبوّة بالذات ، وإنّما تتطلب مناخا عالميا مناسبا وجوّا عامّا مساعدا يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملا أساسيا في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل الجديدة ، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلا بسلبيات ما بنى مدركا حاجته إلى العون ملتفتا بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول» (١).

هنا سؤال وهو : إنّا نسلم أنّ القيام بالعدل العالمي يتوقف على قبول الناس لذلك وقبولهم يرتبط بشعور حاجتهم إلى الاستمداد من الغيب ، ولكن ذلك لا يوجّه غيبته عن الناس ، لإمكان أن يعيش بينهم ، ويصبر حتّى يجد الظرف الصالح لإقامة العدل الإلهي.

والجواب عنه : أنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ إن ظهر قبل الموعد فإن اتقى عن حكومة الجور فهو لا يناسبه ، وإن لم يتق فهم قتلوه ، فالغيبة مانعة عن قتله ، وهذا أمر تدلّ عليه الأخبار :

منها : ما عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا بدّ للغلام من غيبة ، فقيل له : ولم يا رسول الله؟ قال : يخاف القتل» (٢).

__________________

(١) بحث حول المهدي : ص ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٠.

١٥٠

ومنها : ما عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على (هذا) الخلق لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج» (١).

قال الشيخ الطوسي ـ قدس‌سره ـ : «لا علّة تمنع من ظهوره ـ عليه‌السلام ـ إلّا خوفه على نفسه من القتل ؛ لأنّه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار ، وكان يتحمّل المشاق والأذى ، فإنّ منازل الأئمة وكذلك الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنّما تعظم لتحمّلهم المشاقّ العظيمة في ذات الله تعالى.

فإن قيل : هلّا منع الله من قتله بما يحول بينه وبين من يريد قتله؟ قلنا : المنع الذي لا ينافي التكليف هو النهي عن خلافه والأمر بوجوب اتباعه ونصرته ، وإلزام الانقياد له ، وكلّ ذلك فعله تعالى ، وأمّا الحيلولة بينهم وبينه فإنّه ينافي التكليف وينقض الغرض ؛ لأنّ الغرض بالتكليف استحقاق الثواب ، والحيلولة تنافي ذلك ، وربّما كان في الحيلولة والمنع من قتله بالقهر مفسدة للخلق ، فلا يحسن من الله فعلها» (٢).

وأمّا كون الغيبة موجبة لامتحان الخلق وتمحيصهم كما افيد في بعض الأخبار عن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ : «إذا فقد الخامس من ولد السابع من الأئمة فالله في أديانكم ، لا يزيلنكم عنها أحد ، يا بني إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة ، حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به ، إنّما هي محنة من الله امتحن الله بها خلقه» (٣) وغيره فهو بيان فائدة الغيبة لا سببها ، ولذلك قال الشيخ ـ قدس‌سره ـ : «وأمّا ما روي من الأخبار من امتحان الشيعة في حال الغيبة وصعوبة الأمر عليهم واختبارهم للصبر عليه ، فالوجه فيها الأخبار عما يتفق من ذلك من الصعوبة والمشاق ـ إلى أن قال ـ : بل سبب الغيبة هو الخوف على

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٥.

(٢) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ١١٣.

١٥١

ما قلناه ، وأخبروا بما يتفق في هذه الحال ، وما للمؤمن من الثواب على الصبر على ذلك ، والتمسك بدينه إلى أن يفرّج الله (تعالى) عنهم» (١).

سابعها : أن جميع أبعاد وجود الإمام لطف فوجوده في نفسه مع قطع النظر عن سائر أبعاده لطف ؛ لأنّه وجود إنسان كامل في النظام الأحسن ، وهو مما يقتضيه علمه تعالى به ورحمته المطلقة وكماله المطلق ، هذا مضافا إلى أنّ مقتضى تماميّة الفاعل وقابلية القابل كما هو المفروض في وجود أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ هو لزوم وجودهم وإلّا لزم الخلف ، إمّا في تمامية الفاعل أو قابلية القابل ، والأوّل محال لعدم العجز والنقصان والبخل فيه تعالى ، والثاني خلاف المفروض فإنّ قابلية الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ لكمال الإنسانية واضحة وبديهية عند الشيعة الإمامية وفي لسان الأخبار فتدوم الخلافة الإلهية بوجودهم ، كما دلّ في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) على استمرار هذه الخلافة الإلهية ، ولذا استدل الإمام الصادق والإمام الكاظم ـ عليهما‌السلام ـ في موثقة اسحاق بن عمّار على استمرار الخلافة وعدم انقطاعها بقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقالا : وأنّ الله عزوجل إذا قال قولا وفي به (٢). ويؤيده ما ورد في الحديث القدسي عنه تعالى أنّه قال : «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق لكي اعرف» (٣) ؛ إذ يعلم منه أنّ الباعث على إيجاد الإنسان هو المعرفة الكاملة به تعالى ، فليكن في كلّ وقت فرد بين آحاد الإنسان يعرفه كما هو حقّه ، ولا يحصل ذلك في غير النبيّ والإمام ، فلا بدّ من وجود النبيّ أو الإمام بين الناس حتّى تحصل المعرفة الكاملة به تعالى كما هو حقه.

ولعلّ إليه ترجع الروايات الدالّة على أنّه لو لا محمّد وآله ـ عليهم‌السلام ـ لما

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ١٠٠.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٤٢ نقلا عن الكافي.

(٣) مصابيح الأنوار : ج ٢ ص ٤٠٥.

١٥٢

خلق الله الخلق ، كما قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ولا حوّاء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض» (١).

ويؤكّد ذلك ما استفيض من الأخبار الدالّة على أنّ الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ علّة غائية للخلقة كما ورد «نحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبنا ينزل الغيث وينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها» (٢) وورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان ... وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء (٣).

قال العلّامة المجلسي ـ قدس‌سره ـ : «ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم العلل الغائية لإيجاد الخلق ، فلو لا هم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم ، والتوسل إليهم ، يظهر العلوم والمعارف على الخلق ، ويكشف البلايا عنهم ، فلو لا هم لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم ، أنواع العذاب» (٤) وإلى غير ذلك من شواهد الأخبار وهذا كلّه بالنسبة إلى أصل وجوده ثم إنّ تصرّفه أيضا لطف سواء كان ظاهريا أو باطنيا وسواء كان في الإنس أو الجن ، أو غيرهما ، فإذا منع مانع عن ظهوره للناس بحيث يستر ويغيب فلا يضرّ بكونه لطفا من جهة أو جهات اخر ، فإنّ المانع يمنعه عن نوع من أنواع لطف أبعاد وجوده.

هذا مضافا إلى أنّ تصرّفه في الناس لا يتوقف جميع أنواعه على الظهور ، بل له أن يتصرف في بعض الامور مع غيبته عن الناس.

__________________

(١) غاية المرام : ج ١ ص ٢٦ الطبع الثاني.

(٢) فرائد السمطين : ج ١ ص ٤٥ بنقل وابستگى جهان به امام زمان : ص ٣٨.

(٣) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٢.

(٤) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٣.

١٥٣

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «إنّ وظيفة الإمام ومسئوليته لم تنحصر في بيان المعارف الإلهية بشكلها الصوري ولم يقتصر على إرشاد الناس من الناحية الظاهرية ، فالإمام فضلا عن تولّيه إرشاد الناس الظاهري يتصف بالولاية والإرشاد الباطني للأعمال أيضا ، وهو الذي ينظم الحياة المعنويّة للناس ، ويتقدم بحقائق الأعمال إلى الله جلّ شأنه ، وبديهي أنّ حضور أو غيبة الإمام الجسماني في هذا المضمار ليس له أي تأثير ، والإمام عن طريق الباطن يتصل بالنفوس ويشرف عليها وإن بعد عن الأنظار ، وخفي عن الأبصار ، فإنّ وجوده لازم دائما وإن تأخّر وقت ظهوره وإصلاحه للعالم (١). بل إتمام الحجّة به على المتمرّدين متوقف على وجوده بخلاف ما إذا لم يكن موجودا فإنّ تعذيب الناس حينئذ قبيح لعدم إتمام الحجة من الله عليهم (٢).

على أنّ غيبته عن الناس لا يستلزم غيبته عن جميع آحادهم ، بل له أن يظهر لبعضهم وإرشاده لهم ، كما ثبت ذلك بالتواتر من الحكايات الواردة في تشرّفهم بخدمته وحلّ مشاكلهم واهتدائهم بهدايته ، كما لا يستلزم غيبته عن الجنّ من الخلق ، مع أنّه إمام لهم فإنّهم أيضا محجوجون بوجوده ـ فبمثل ما ذكر يظهر أنّ لطف وجود الإمام لطف مضاعف ولطف على لطف ، كما هو نور على نور ، وعليه ففوائد وجوده في زمن الغيبة واضحة ، فلا وجه للقول بأنّه لا فائدة لوجوده بعد ما غاب عن الناس ، وهذا أمر اشير إليه في الأخبار أيضا وإليك بعضها :

روى الأعمش عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم

__________________

(١) الشيعة في الاسلام : ص ١٩٩ تعريب جعفر بهاء الدين.

(٢) راجع كتاب سرمايه ايمان : ص ١٥٢.

١٥٤

الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ، قال سليمان : فقلت للصادق ـ عليه‌السلام ـ : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» (١).

ثامنها : أنّ مسألة طول عمر الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ سهلة ، لمن اعتقد بالمعجزات وخوارق العادات ؛ إذ الامتناع العادي لا يمنع عن إمكانه كسائر المعجزات ، فإنّ العلل والأسباب لا دليل على انحصارها في الأسباب العادية الموجودة المألوفة.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «لكنّ الذي يطالع الأخبار الواردة عن الرسول الأعظم في خصوص الإمام الغائب ، وكذا سائر أئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ سيلا حظ أنّ نوع الحياة للإمام الغائب تتصف بالمعجزة خرقا للعادة ، وطبيعي أن خرق العادة ليس بالأمر المستحيل ، ولا يمكن نفي خرق العادة عن طريق العلم مطلقا.

لذا لا تنحصر العوامل والأسباب التي تعمل في الكون في حدود مشاهدتنا والتي تعرّفنا عليها ، ولا نستطيع نفي عوامل اخرى وهي بعيدة كلّ البعد عنّا ، ولا علم لنا بها ، أو أنّنا لا نرى آثارها وأعمالها ، أو نجهلها ، ومن هذا يتضح إمكان إيجاد عوامل في فرد أو أفراد من البشر ، بحيث تستطيع تلك العوامل أن تجعل الإنسان يتمتع بعمر طويل جدا قد يصل إلى الألف أو آلاف من السنوات ، فعلى هذا فإنّ عالم الطب لم ييأس حتّى الآن من كشف طرق لإطالة عمر الإنسان» (٢).

ولكن لا يذهب عليك أنّ عدم اليأس عن كشف طرق للإطالة ، لا يخرج طول عمر الإمام ، الثاني عشر عن كونه خارق العادة ؛ لأنّ طول العمر المذكور

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ٩٢.

(٢) الشيعة في الاسلام : ص ١٩٨.

١٥٥

بدون كشف طرق الإطالة غير طبيعي ، سيّما إذا بقي على صورة رجل له أقلّ من أربعين سنة كما في بعض الأخبار ، وعليه فطول عمره ـ عليه‌السلام ـ إعجاز أخبر به النبيّ والأئمة الأطهار ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ بالتواتر ، وأجمع الأصحاب على الإيمان به كسائر المعجزات بلا كلام.

ولقد أفاد وأجاد المصنّف ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدّة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له ، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماما للخلق ، وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى ، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى ، إذ كلّم الناس في المهد صبيّا وبعث في الناس نبيا» إلى آخر ما قال.

نعم يزيد مثل هذه المعجزة على سائر المعجزات التي ليست من قبيلها من جهة وجود الإمكان العلمي فيها الذي أشار إليه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ بقوله : «فعلى هذا فإنّ عالم الطب لم ييأس حتّى الآن من كشف طرق لإطالة عمر الإنسان» دون سائر المعجزات التي ليست من قبيلها فإنّ العلم التجربي لا يرجو فيها بكشف طرق للنيل إليها ، كإحياء الموتى أو جعل النار بردا وسلاما ، أو جعل صبي أو طفل عالما بجميع العلوم والمغيبات ، وإن كانت هذه الامور ممكنة بالإمكان العقلي ؛ إذ لا يلزم من وجودها تناقض ، ولا اجتماع الضدين ، ولا اجتماع المثلين ، ولقد أفاد وأجاد وأطال الشهيد السيد محمّد باقر الصدر في هذا المجال فراجع (١).

وكيف كان فازدياد الإمكان العلمي في مثل المقام ، وإن لم يوجب تفاوتا في قبول المؤمنين بالله تعالى وقدرته للمعجزات ، ولكن يمكن أن يوجب تفاوتا في تسليم غير المؤمنين من المادّيين ، الذين أشكلوا علينا بطول العمر زائد أعلى المألوف.

__________________

(١) بحث حول المهدي : ص ١٩ ـ ٣٨.

١٥٦

تاسعها : أنّ الارتباط مع الإمام الثاني عشر ـ عليه‌السلام ـ صار منقطا من زمن الغيبة الكبرى ؛ إذ لا يكون له محل معلوم حتى نرجع إليه ، أو نسأل عنه ، أو نتصل معه ونراه ، أو نكتب إليه ونأخذ الجواب ، ولكن المنقطع هو بعض الأنواع من الارتباط الذي كان مألوفا بينه وبين الشيعة ، وبقي أنواع اخر ، وهو أنّه ـ عليه‌السلام ـ يرانا ولا نراه إلّا إذا يرينا نفسه ويحضر بعض مجالسنا ، ويزور الحسين وسائر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ويحجّ ويحضر المواسم ، ويجيب بعض من يليق لجوابه ، وينظر إلى أعمال الشيعة وخواصّه ، ويسرّ من حسناتهم ، ويغضب من سيئاتهم ، ويعين وكلاءه العامّة بالدعاء والإرشاد والتصرّف في قلوبهم ، ويشرف على أحوال الشيعة ، فإذا اتصلوا إليه بالدعاء للفرج والتوسل والاستشفاع به أقبل عليهم ويدعو لهم ، ويطلب من الله تعالى أن يقضي حوائجهم ، وقد ورد في توقيعه ـ عليه‌السلام ـ إلى الشيخ المفيد : إنّا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء (١).

وهذه الارتباطات معلومة واضحة ، لمن أمعن النظر في جوامع الحديث والحكايات الواردة في هذه الاتصالات ، وليست هي بقليلة طيلة الغيبة الكبرى ؛ إذ كثير جدا من رآه ومن استشفى به فأشفاه ، ومن استجاب منه فأجاب ، وقد ثبت عندي مع قلة اطلاعي جملة من ذلك في عصري ، وما إليه قريب.

منها : أنّه ـ عليه‌السلام ـ حضر لإقامة صلاة الميت على أم بعض أصدقاء أبي ـ رحمهما‌الله ـ بعد تشييعها وتجهيزها في صحن ابن بابويه ـ قدس‌سره ـ في الري.

ومنها : أنّه حضر في مجلس دعاء الندبة الذي كان يقيمه الشيخ الزاهد

__________________

(١) مكيال المكارم : ج ١ ص ٤٤

١٥٧

العارف المتّقي المرتضى المجدّ ـ قدس‌سره ـ في طهران.

ومنها : أنّه حضر عند السيد محمّد الفشاركي شيخ مشايخنا في سرّ من رأى لحلّ مشكلته في المسائل العلمية.

ومنها : أنّه حضر في موسم الحج ، وقال لبعض الأخيار من أهل دزفول : إذا رجعت فأبلغ سلامي إلى الشيخ محمّد طاهر ، وقل له : اقرأ هذا الدعاء ، ثم غاب الإمام ونسى بعض الأخيار الدعاء فرجع إلى دزفول ، وذهب إلى بيت الشيخ محمّد طاهر لإبلاغ سلام الإمام المهدي ـ عليه‌السلام ـ فإذا فرغ من إبلاغ السلام تذكر الدعاء وقال : قال الإمام : اقرأ هذا الدعاء ، ثم نسى الدعاء بعد ما قاله للشيخ ولم يتذكره ، ولمّا استدعى من الشيخ أن يذكر له الدعاء ، قال الشيخ : هو سرّ من الأسرار فلم يتجاوزني ، وغير ذلك من التشرفات.

هذا مضافا إلى إرسال بعض الخواصّ لحلّ بعض مشاكل الشيعة أو إخبارهم ببعض الامور المهمّة ، وغير ذلك من الإمدادات التي هي كثيرة جدا بحيث لو التفت الإنسان إليها حصل له اطمئنان بأنّه لا يكون بعيدا عن سيده ومولاه ، بل يكون تحت ولايته وإمداده وعنايته ، وإنّما علينا التوجه والالتفات إليه والارتباط معه ، كما فسّر في بعض الصحاح قوله تعالى : (رابِطُوا) في الآية الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالارتباط مع الإمام الثاني عشر ـ عليه‌السلام ـ.

عاشرها : أنّ رؤية الإمام الثاني عشر ـ عليه‌السلام ـ وقعت في زمن الغيبة الكبرى لبعض الصالحين ، وقصصهم وحكاياتهم كثيرة جدا ، ومذكورة في الكتب ، منها : النجم الثاقب وجنة المأوى ، ومن أمعن النظر إليها اطمأنّ بوقوعها ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ مسألة الرؤية هل تنافي قوله ـ عليه‌السلام ـ في التوقيع الوارد على عليّ بن محمّد السمري ـ قدس‌سره ـ : «وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج

١٥٨

السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر» أم لا تنافي؟ والذي يمكن أن يقال : إنّ ملاحظة صدر هذا التوقيع تكفي لرفع المنافاة ؛ لأنّه يشهد على أنّ المراد نفي من ادعى البابية كبابية النّواب الأربعة ، ولا يظهر منه نفي مطلق الرؤية.

وإليك صدر التوقيع : بسم الله الرحمن الرحيم يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستة أيّام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ، الخ.

كما احتمله في البحار حيث قال : لعله محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه ـ عليه‌السلام ـ إلى الشيعة ، على مثال السفراء لئلا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه ـ عليه‌السلام ـ والله يعلم (١)

واستظهره السيد صدر الدين الصدر في كتابه «المهدي» حيث قال : «وهذه الكتب تخبرنا عن جماعة أنّهم شاهدوه وتشرّفوا بخدمته ، ولا ينافي ذلك ما ورد من تكذيب مدّعي الرؤية ، فإنّ المراد تكذيب مدّعي النيابة الخاصّة بقرينة صدر الرواية» (٢). وهنا أجوبة اخرى ذكرها العلّامة الحاج ميرزا حسين النوري في جنّة المأوى (٣).

هذا مضافا إلى أنّ مثل قوله وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة إلخ ، مع قطع النظر عن الصدر لا يفيد إلّا الظن والظن لا يقاوم مع القطع الحاصل من القضايا التي تدلّ على رؤيته ، ولعلّ إليه ينظر ما حكي عن فوائد العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «وقد يمنع أيضا امتناعه (أي امتناع

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ١٥١.

(٢) راجع كتاب المهدي ، ص ١٨٤ ، الطبع الحديث.

(٣) راجع جنة المأوى المطبوعة في خاتمة بحار الانوار : ج ٥٣ ص ٣١٨.

١٥٩

رؤيته) في شأن الخواصّ وإن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار ودلالة بعض الآثار» (١).

الحادي عشر : مسألة الانتظار وقد أكّد في الأخبار على انتظار الفرج وإليك بعضها :

عن ينابيع المودة عن مناقب الخوارزمي عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «أفضل العبادة انتظار الفرج» (٢).

عن الاحتجاج ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ قال : «تمتد الغيبة بوليّ الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والأئمة بعده ، يا أبا خالد ، إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته ، المنتظرون لظهوره أفضل أهل كلّ زمان ؛ لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والإفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة ، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالسيف ، اولئك المخلصون حقّا ، وشيعتنا صدقا والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا ، وقال ـ عليه‌السلام ـ انتظار الفرج من اعظم الفرج» (٣).

وعن الخصال الأربعمائة قال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله ، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله عزوجل انتظار الفرج» (٤).

وعن محاسن البرقي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «من مات منكم

__________________

(١) راجع جنة المأوى المطبوعة في خاتمة بحار الانوار : ج ٥٣ ص ٣٢٠.

(٢) المهدي : ص ٢١١ الطبع الحديث.

(٣) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ١٢٢.

(٤) بحار الانوار : ج ٥٢ ص ١٢٣.

١٦٠