بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٢٨١
الجزء ١ الجزء ٢

أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماما باختيارهم» الحديث (١).

ومنها : ما عن الصدوق عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «أترون الأمر إلينا نضعه حيث نشاء كلا والله ، إنّه لعهد معهود من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى رجل فرجل حتّى ينتهي إلى صاحبه» (٢) ، وغير ذلك من الروايات.

وبالجملة فهو من المسلّمات عند الشيعة في الإمام المعصوم ، ومن المعلوم أنّ مع التعيين والتشخيص من جانب الله لا مورد لاختيار الناس ، ثم لا يخفى أنّ التنصيص أحد الطرق التي يعرف الإمام بها لإمكان المعرفة بالإمامة من إقامة المعجزة مع دعوى الإمامة ، ولذا صرّح الميرزا القمّي ـ قدس‌سره ـ بذلك حيث قال : إنّ الإمام إذا ادعى الإمامة ، وأقام على طبقها المعجزة دلّ ذلك على حقّيته كما مرّ في النبوّة (٣) ، بل ظاهر الكلمات أنّ الإمام يعرف بالأفضلية في الصفات ، فإنّ تقديم المفضول على الأفضل قبيح ، فهو طريق ثالث للمعرفة بالإمام كما صرّح به المحقق القمّي أيضا فراجع ، والمحقق اللاهيجي في كتاب سرمايه إيمان (٤).

الثاني : في ثبوت النصوص على أنّ الإمام بعد النبيّ هو عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ وتدلّ عليه الروايات الصحاح والمتواترات وذلك واضح ، وقد أشار المصنف إلى بعض هذه الروايات وفي ما أشار إليه غنى وكفاية.

ثم إنّ المصنّف أشار إلى أن تعيينه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لعليّ ـ عليه‌السلام ـ في عدة مواطن وهو كذلك ، بل قد كرّر بعضها في مواطن متعددة ، وهذا التكرار يشهد على أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ اهتم بهذا الأمر

__________________

(١) الأصول من الكافي : ج ١ ص ١٩٨.

(٢) ولاية الفقيه : ج ١ ص ٣٩٢ ، نقلا عن بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٧٠.

(٣) اصول دين : ص ٣٧.

(٤) أصول دين : ص ١٢٥.

١٠١

كمال الاهتمام ولم يهمله ، بل من أوّل الأمر وشروعه في دعوة الناس إلى التوحيد توجّه إليه وأحكم أمر الإمامة بعده ، فنسبة الإهمال إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إفك وافتراء ، وعليه فلا مجال بعد نصب النبيّ عليّا من جانب الله تعالى للخلافة لهذه الأبحاث ، من أنّ نصب الإمام واجب على الناس؟ أم لا يكون واجبا؟ فإذا كان واجبا ، فهل هو واجب على جميع الامّة؟ أو على بعضها؟ وعلى الأخير هل المراد من البعض أصحاب الحلّ والعقد؟ أو المراد غيرهم ، فإنّ تلك الأبحاث من متفرعات الإمارة والخلافة الظاهريّة دون الخلافة الالهيّة المنصوصة ، فإنّ النصب فيه نصب إلهي كنصب النبيّ ، والمفروض هو وقوعه ، فتلك الأبحاث اجتهاد في قبال النصّ ، ثم من المعلوم أنّ النصب الإلهي خال عن الانحراف وأبعد عن الاختلاف فيه ، ولعلّه لذلك قال الشيخ أبو علي سينا : والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف (١).

ثم إنّ المصنّف لم يشر إلى البحث السندي عن هذه الروايات ، لأنّها من المتواترات ، وقد تصدّى لإثباته جمع من أعاظم الأصحاب كالعلّامة مير سيّد حامد حسين موسوي النيشابوريّ الهنديّ ـ قدس‌سره ـ في عبقات الأنوار ، وكالعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني ـ قدس‌سره ـ في الغدير ، قال العلّامة الأميني حول حديث الغدير : ولا أحسب أنّ أهل السنّة يتأخرون بكثير من الإمامية في إثبات هذا الحديث ، والبخوع لصحته ، والركون إليه ، والتصحيح له ، والإذعان بتواتره ، اللهم إلّا شذاذ تنكبت عن الطريقة ، وحدت بهم العصبية العمياء إلى رمي القول على عواهنه ، وهؤلاء لا يمثّلون من جامعة العلماء إلّا أنفسهم ، فإنّ المثبتين المحققين للشأن المتولعين في الفن لا تخالجهم أية شبهة

__________________

(١) إلهيات الشفاء : ص ٥٦٤.

١٠٢

في اعتبار أسانيدهم التي أنهوها متعاضدة متظافرة ، بل متواترة إلى جماهير من الصحابة والتابعين وإليك أسماء جملة وقفنا على الطرق المنتهية إليهم على حروف الهجاء ، ثم ذكر مائة وعشرة من أعاظم الصحابة ، وقال : هؤلاء من أعاظم الصحابة الذين وجدنا روايتهم لحديث الغدير ولعلّ فيما ذهب علينا أكثر من ذلك بكثير ، وطبع الحال يستدعي أن تكون رواة الحديث أضعاف المذكورين ؛ لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف أو يزيدون ، وبقضاء الطبيعة أنّهم حدّثوا به عند مرتجعهم إلى أوطانهم شأن كلّ مسافر ينبئ عن الأحداث الغريبة التي شاهدها في سفره ، نعم ، فعلوا ذلك إلّا شذاذا منهم صدّتهم الضغائن عن نقله ، والمحدثون منهم وهم الأكثرون فمنهم هؤلاء المذكورون ، ومنهم من طوت حديثه أجواز الفلى بموت السامعين في البراري والفلوات قبل أن ينهوه إلى غيرهم ، ومنهم من أرهبته الظروف والأحوال عن الإشادة بذلك الذكر الكريم.

وجملة من الحضور كانوا من أعراب البوادي لم يتلق منهم حديث ولا انتهى إليهم الإسناد ، ومع ذلك كلّه ففي من ذكرناه غنى لإثبات التواتر ، ثم ذكر أربعة وثمانين من التابعين ، ثم قال : ليست الصحابة والتابعين بالعناية بحديث الغدير بدعا من علماء القرون المتتابعة بعد قرنهم ، فإنّ الباحث يجد في كلّ قرن زرافات من الحفّاظ الأثبات ، يروون هذه الإثارة من علم الدين ، متلقين عن سلفهم ، ويلقونها إلى الخلف ، شأن ما يتحقق عندهم ، ويخضعون لصحته من الأحاديث ، فإليك يسيرا من أسمائهم في كلّ قرن شاهدا على الدعوى ، ونحيل الحيطة بجميعها إلى طول باع القارئ الكريم ، والوقوف على الأسانيد ومعرفة المشيخة.

ثم شرع من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر ، وذكر وعدّ ستين وثلاثمائة من الحفّاظ والناقلين لحديث الغدير مع أنّ جمعا من هؤلاء كانوا يروون ذلك

١٠٣

بطرق مختلفة ، كما قال في هامش ص ١٤ : إن أحمد بن حنبل رواه من أربعين طريقا وابن جرير الطبريّ من نيف وسبعين طريقا ، والجزريّ المقرئ من ثمانين طريقا وابن عقدة من مائة وخمس طرق ، وأبو سعيد السجستانيّ من مائة وعشرين طريقا ، وأبو بكر الجعابيّ من مائة وخمس وعشرين طريقا ، وفي تعليق هداية العقول ص ٣٠ عن الأمير محمّد اليمنيّ (أحد شعراء الغدير في القرن الثاني عشر) أنّ له مائة وخمسين طريقا ، ثم قال العلّامة الأميني ـ قدس‌سره ـ في متن الغدير : بلغ اهتمام العلماء بهذا الحديث إلى غاية غير قريبة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة خلال الكتب ، حتّى أفرده جماعة بالتأليف ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طريقه ، كلّ ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ، ثم أيّد تواتره بالمناشدة والاحتجاج ، حيث قال : لم يفتأ هذا الحديث منذ الصدر الأوّل ، وفي القرون الأولى ، حتّى القرن الحاضر من الاصول المسلّمة ، يؤمن به القريب ، ويرويه المناوئ ، من غير نكير في صدوره ، وكان ينقطع المجادل إذا خصمه مناظره بإنهاء القضية إليه ، ولذلك كثر الحجاج به ، وتوفرت مناشدته بين الصحابة والتابعين ، وعلى العهد العلويّ وقبله.

ثم ذكر الاثنين والعشرين ، من مواضع المناشدة والاحتجاج ، وبين أعلام الشهود فيها ، ثم ذكر جماعة من علماء العامّة الذين اعترفوا بصحّة الحديث وثبوته وتواتره ، وهم الثلاثة والأربعون ، وهذا هو المحصّل لما أفاده ـ قدس‌سره ـ في تحقيق سند حديث الغدير فراجع (١).

قال في إحقاق الحق : وقد شهد بتواتره فطاحل الآثار وحفظة الأخبار أودعوه في كتبهم على تنوّعها ، وأذعنوا بعد التأويلات الباردة بصراحته في

__________________

(١) راجع الغدير : ج ١ ص ١٤ ـ ٣١٤.

١٠٤

ما نقول نحن معاشر شيعة أهل البيت ، ثم نقل ذلك عن جمع منهم فراجع (١).

قال في دلائل الصدق : بل الحق أنّ هذا الحديث من المتواترات حتّى عند القوم ، فقد نقل السيد السعيد ـ رحمه‌الله ـ عن الجزريّ الشافعيّ أنّه أثبت في رسالته أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب تواتره من طرق كثيرة ، ونسب منكره إلى الجهل والعصبية إلخ (٢) هذا يكفيك بالنسبة إلى سند حديث الغدير.

وأمّا سند حديث المنزلة فهو أيضا في غاية القوّة ويكفيك فيه ما حقّقه آية الله السيد شرف الدين ـ قدس‌سره ـ في المراجعات حيث قال : «لم يختلج في صحّة سنده ريب حتّى الذهبيّ ـ على تعنّته ـ صرّح في تلخيص المستدرك بصحته ، وابن حجر الهيثميّ ـ على محاربته بصواعقه ـ ذكر الحديث في الشبهة ١٢ من الصواعق ، فنقل القول بصحته عن أئمة الحديث الّذين لا معوّل فيه إلّا عليهم فراجع ، ولو لا أنّ الحديث بمثابة من الثبوت ، ما أخرجه البخاري في كتابه ، فإنّ الرجل يغتصب نفسه عند خصائص عليّ وفضائل أهل البيت اغتصابا ، ومعاوية كان إمام الفئة الباغية ، ناصب أمير المؤمنين وحاربه ، ولعنه على منابر المسلمين ، وأمرهم بلعنه ، لكنّه ـ بالرغم من وقاحته في عدوانه ـ لم يجحد حديث المنزلة ، ولا كابر فيه سعد بن أبي وقاص حين قال له ـ فيما أخرجه مسلم ـ ما منعك أن تسب أبا تراب ، فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله فلن أسبه ؛ لإن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ... الحديث ، فأبلس معاوية ، وكفّ عن تكليف سعد.

__________________

(١) احقاق الحق : ج ٢ ص ٤٢٢.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٣.

١٠٥

أزيدك على هذا كلّه أنّ معاوية نفسه حدّث بحديث المنزلة ، قال ابن حجر في صواعقه : أخرج أحمد أنّ رجلا سأل معاوية عن مسألة ، فقال : سل عنها عليّا فهو أعلم ، قال : جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ ، قال : بئس ما قلت : لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغرّه بالعلم غرا ، ولقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه ... إلى آخر كلامه.

وبالجملة فإنّ حديث المنزلة مما لا ريب في ثبوته بإجماع المسلمين على اختلافهم في المذاهب والمشارب ، ثم أشار إلى جمع من كتب السير وجوامع الحديث التي نقل فيها حديث المنزلة كالجمع بين الصحاح الستة ، وصحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن ابن ماجة ، ومسند احمد بن حنبل ، والطبراني ، ثم قال : وكلّ من تعرّض لغزوة تبوك من المحدّثين وأهل السير والأخبار ، نقلوا هذا الحديث ، ونقله كلّ من ترجم عليّا من أهل المعاجم في الرجال من المتقدمين والمتأخرين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، ورواه كلّ من كتب في مناقب أهل البيت ، وفضائل الصحابة من الأئمة ، كأحمد بن حنبل ، وغيره ممن كان قبله أو جاء بعده ، وهو من الأحاديث المسلّمة في كلّ خلف من هذه الامّة (١) وخصّ صاحب عبقات الأنوار جلدا ضخما بحديث المنزلة جزاه الله عن الإسلام خيرا ، وروى في غاية المرام مائة حديث من طريق العامّة ، وسبعين حديثا من طرق الخاصّة حول حديث المنزلة فراجع ، هذا كلّه بالنسبة إلى حديث المنزلة.

وأمّا اعتبار نصّ الدار يوم الإنذار فيكفيك ما في المراجعات حيث قال : وحسبك منها (أي النصوص) ما كان في مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهور

__________________

(١) المراجعات : ص ١٢٩ ـ ١٣٢

١٠٦

الاسلام بمكة ، حين أنزل الله تعالى عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فدعاهم إلى دار عمه ـ أبي طالب ـ وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، والحديث في ذلك من صحاح السنن المأثورة ، ثم أشار إلى من أخرج هذا الحديث في كتابه ، وكان فيهم ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقيّ والطبريّ والثعلبيّ ، ثم قال : وأرسله ابن الأثير إرسال المسلمات ، وصحّحه غير واحد من أعلام المحققين كابن جرير والاسكافيّ والذهبيّ ، وصرّح في آخر كلامه بتواتره عند الشيعة فراجع (١).

هذه جملة من النصوص التي وردت لتعيين عليّ ـ عليه‌السلام ـ للولاية والإمامة وبقيتها تطلب من المطوّلات كما لا يخفى.

الثالث : في فقه الحديث ، ولا يخفى عليك أنّ المصنّف اكتفى بوضوح الدلالة ، ولم يبحث عنه ، ولكن الأولى هو أن يبحث عنه بعد ورود إشكالات من ناحية بعض إخواننا العامّة ، وإن كان جوابها واضحا ولذلك نقول : أمّا حديث الغدير : فالمراد منه هو إثبات كونه ـ عليه‌السلام ـ أولى بالتصرّف من دون فرق بين كون المولى كالوليّ ظاهرا فيه بحسب الوضع اللغويّ ، أو مشتركا لفظيّا بين المعاني ، أو مشتركا معنويا بينها ، لفهم من حضر ومن يحتجّ بقوله في اللغة من الادباء والشعراء ، فإنّه يوجب الوثوق والاطمئنان بالمعنى المراد ، وهو كاف في كلّ مقام كما لا يخفى.

قال العلّامة الأميني ـ قدس‌سره ، : وأمّا دلالته على إمامة مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فإنّا مهما شككنا في شيء فلا نشك في أنّ لفظة المولى سواء كانت نصّا في المعنى الذي نحاوله بالوضع اللغوي ، أو مجملة في مفادها

__________________

(١) المراجعات : ص ١١٨ ـ ١٢٤.

١٠٧

لاشتراكها بين معان جمّة ، وسواء كانت عريّة عن القرائن لإثبات ما ندعيه من معنى الإمامة ، أو محتفّة بها فإنّها في المقام لا تدلّ إلّا على ذلك لفهم من وعاه من الحضور في ذلك المحتشد العظيم ، ومن بلغه النبأ بعد حين ممن يحتج بقوله في اللغة من غير نكير بينهم ، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الأدب حتّى عصرنا الحاضر ، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد ، وفي الطليعة من هؤلاء : مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ حيث كتب إلى معاوية في جواب كتاب له من أبيات ستسمعها ما نصّه :

وأوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خمّ

ومنهم : حسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير ، وقد استأذن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله :

فقال له : قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

ومن أولئك : الصحابيّ العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ الذي يقول :

وعليّ إمامنا وإمام

لسوانا اتى به التنزيل

يوم قال النبيّ : من كنت مولاه

فهذا مولاه خطب جليل

ومن القوم : محمّد بن عبد الله الحميريّ القائل :

تناسوا نصبه في يوم خمّ

من البادي ومن خير الأنام

ومنهم : عمرو بن العاص الصحابيّ القائل :

وكم قد سمعنا من المصطفي

وصايا مختصة في عليّ

وفي يوم خمّ رقى منبرا

وبلّغ والصحب لم ترحل

فأمنحه إمرة المؤمنين

من الله مستخلف المنحل

وفي كفّه كفّه معلنا

ينادي بأمر العزيز العليّ

وقال : فمن كنت مولى له

عليّ له اليوم نعم الوليّ

١٠٨

ومن أولئك : كميت بن زيد الأسديّ الشهيد ١٢٦ ، حيث يقول :

ويوم الدوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو اطيعا

ولكنّ الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا مبيعا

ثم نقل عن الحميريّ والعبديّ الكوفيّ وغيره من شعراء القرن الثاني والثالث أشعارا ، ثم قال : وتبع هؤلاء جماعة من بواقع العلم والعربية الذي لا يعدون مواقع اللغة ، ولا يجهلون وضع الألفاظ ، ولا يتحرّون إلّا الصحة في تراكيبهم وشعرهم ، كدعبل الخزاعيّ ، والحمانيّ ، والأمير أبي فراس ، وعلم الهدى المرتضى ، والسيد الشريف الرضيّ ، والحسين بن الحجّاج ، وابن الروميّ ، وكشاجم ، والصنوبريّ ، والمفجع ، والصاحب بن عباد ، ثم ذكر عدة اخرى من الشعراء ـ إلى أن قال ـ : إلى غيرهم من اساطين الأدب وأعلام اللغة ، ولم يزل اثرهم مقتصّا في القرون المتتابعة إلى يومنا هذا ، وليس في وسع الباحث أن يحكم بخطإ هؤلاء جميعا ، وهم مصادره في اللغة ، ومراجع الامة في الأدب (١).

وأيضا يدلّ على هذا الفهم المذكور استشهادات الصحابة وغيرهم بهذا الحديث للخلافة ، قال في دلائل الصدق : وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعليّ ـ عليه‌السلام ـ لمّا نوزع أيام خلافته كما مرّ ، وسيأتي. ثم قال صاحب دلائل الصدق : أقول : وهذا صريح في دلالة الحديث على الخلافة (٢).

هذا مضافا إلى القرائن الداخلية والخارجية الدالة على تعيين المراد من كلمة المولى ، وهي كثيرة ، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها.

القرينة الاولى : هو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : ألست أولى بكم من

__________________

(١) راجع الغدير : ج ١ ص ٣٤٠ ـ ٣٤٢.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٢.

١٠٩

أنفسكم في صدر الحديث ، فإنّه يدلّ على اولويّة نفسه على الناس في الامور والأنفس ، فتفريع قوله : «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» على الصدر يدلّ على أنّ المقصود هو أن يثبت بذلك لعليّ ـ عليه‌السلام ـ مثل ما كان لنفسه من ولاية التصرف والاولويّة المذكورة ، فلو أريد من المولى غير الاولويّة ، فلا مناسبة لتصدير هذه المقدمة وتفريع قوله عليه كما لا يخفى.

ولذا قال العلّامة الحليّ ـ قدس‌سره ـ : ووجه الاستدلال به أنّ لفظة مولى تفيد الأولى ؛ لأنّ مقدمة الحديث تدلّ عليه (١) ، وتبعه الأعلام والفحول. قال العلّامة الأمينيّ ـ قدس‌سره ـ : وقد رواها (أي المقدمة المذكورة) الكثيرون من علماء الفريقين ، وذكر أربعة وستين منهم وفيهم أحمد بن حنبل والطبريّ والذهبيّ وابن الصبّاغ والحلبيّ وابن ماجة والترمذيّ والحاكم وابن عساكر والنسائي والكنجيّ وابن المغازليّ والخوارزميّ والتفتازانيّ والبيضاويّ وابن الأثير والمقريزيّ والسيوطيّ ، وغيرهم من الأعلام.

ثم قال : أضف إلى ذلك من رواها (أي المقدمة المذكورة) من علماء الشيعة الذين لا يحصى عددهم ـ إلى أن قال ـ : ويزيدك وضوحا وبيانا ما في «التذكرة» لسبط ابن الجوزي الحنفيّ : ص ٢٠ فإنّه بعد عدّ معان عشرة للمولى ، وجعل عاشرها الأولى ، قال : والمراد من الحديث : الطاعة المخصوصة ، فتعيّن الوجه العاشر وهو الأولى ، ومعناه : من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به ، وقد صرّح بهذا المعنى الحافظ أبو الفرج يحيى بن سعيد الثقفيّ الأصبهانيّ في كتابه المسمّى بمرج البحرين ، فإنّه روى هذا الحديث بإسناده إلى مشايخه وقال فيه : فأخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بيد عليّ فقال : من كنت وليّه وأولى به من نفسه فعليّ وليّه الخ (٢).

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٦٩ الطبع الحديث.

(٢) الغدير : ج ١ ص ٣٧٠ ـ ٣٧٢.

١١٠

وأيضا نقل في احقاق الحقّ القرينة الأولى من العلامة ابن بطريق الأسديّ الحلّي (١).

القرينة الثانية : هي قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في ذيل الحديث : هنئوني هنئوني ، إنّ الله تعالى خصّني بالنبوّة وخصّ أهل بيتي بالإمامة ، فلقى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين فقال : طوبى لك يا أبا الحسن ، اصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، رواه في الغدير عن شرف المصطفى فراجع (٢). قال العلّامة الأميني ـ قدس‌سره ـ : فصريح العبارة هو الإمامة المخصوصة بأهل بيته الذين سيدهم والمقدّم فيهم هو أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وكان هو المراد في الوقت الحاضر ، ثم نفس التهنئة والبيعة والمصافحة والاحتفال بها واتصالها ثلاثة أيام ، كما مرّت هذه كلّها ص ٢٦٩ ـ ٢٨٣ (وقد نقل في هذه الصفحات قصة تهنئة الشيخين عن الستين من أعاظم علماء أهل السنّة) لا تلائم غير معنى الخلافة والاولويّة ، ولذلك ترى الشيخين أبا بكر وعمر لقيا أمير المؤمنين فهنئاه بالولاية (٣).

القرينة الثالثة : هي التعبير عن يوم الغدير بيوم نصب عليّ علما وإماما ، كما روي في مودة القربى على ما حكاه في كتاب الغدير عن عمر بن الخطاب أنّه قال : نصّب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عليّا علما ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه الحديث (٤) وروى فرائد السمطين ، عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار ، أنّهم قالوا : نشهد لقد حفظنا قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو قائم على المنبر : «وأنت (والخطاب لعلي عليه‌السلام) إلى جنبه وهو يقول : أيّها الناس ، إن الله عزوجل أمر أن انصبّ

__________________

(١) احقاق الحق : ج ٢ ص ٤٦٩.

(٢) الغدير : ج ١ ص ٢٧٤.

(٣) الغدير : ج ١ ص ٣٧٥.

(٤) الغدير : ج ١ ص ٥٧.

١١١

لكم إمامكم ، والقائم فيكم بعدي ، ووصيي وخليفتي» الحديث (١). هذا صريح في أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتصرف لا سائر المعاني.

القرينة الرابعة : الأخبار المفسّرة منها : ما رواه في الغدير عن طريق العامّة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه لمّا سئل عن معنى قوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، قال : الله مولاي أولى بي من نفسي ، لا أمر لي معه وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي ، فعليّ مولاه أولى به من نفسه ، لا أمر له معه (٢).

ومنها : ما رواه شيخ الإسلام الحمويني في حديث احتجاج أمير المؤمنين أيام عثمان قوله ـ عليه‌السلام ـ : ثم خطب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : أيّها الناس أتعلمون أنّ الله عزوجل مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : قم يا علي فقمت ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. فقام سلمان فقال : يا رسول الله ولاء كما ذا؟ قال ولاء كولاي ، من كنت أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه (٣) ، وغير ذلك من الأخبار.

القرينة الخامسة : وهي كما في دلائل الصدق أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بيّن قرب موته كما في رواية الحاكم ورواية الصواعق وغيرهما ، حيث قال فيه : «أيّها الناس إنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلّا نصف عمر النبي الذي يليه من قبله وإنّي لأظن أنّي يوشك أن ادعى فاجيب وإني مسئول وإنكم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنّك بلّغت وجهدت ونصحت ، فجزاك الله خيرا» الحديث وهو مقتض للعهد بالخلافة ومناسب له ، فلا بدّ من

__________________

(١) الغدير : ج ١ ص ١٦٥.

(٢) الغدير : ج ١ ص ٣٨٦.

(٣) الغدير : ج ١ ص ٣٨٧.

١١٢

حمل قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» على العهد لأمير المؤمنين بالخلافة لا على بيان الحبّ والنصرة ، ولا سيّما مع قوله في رواية الحاكم : «إنّي تركت» إلى آخره الدالّ على الحاجة إلى عترته وكفايتهم مع الكتاب في ما تحتاج إليه الامة ، وقوله في رواية الصواعق : «إنّي سائلكم عنهما» وقوله : «لن يفترقا» بعد أمره بالتمسك بالكتاب ، فإنّ هذا يقتضي وجوب التمسك بهم واتباعهم ، فيسأل عنهم وذلك لا يناسب إلّا الإمامة (١).

القرينة السادسة : هي كما في دلائل الصدق قرائن الحال الدالة على أنّ ما أراد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بيانه هو أهم الامور وأعظمها كأمره بالصلاة جامعة في السفر بالمنزل الوعر بحرّ الحجاز وقت الظهيرة مع إقامة منبر من الاحداج له ، وقيامه خطيبا بين جماهير المسلمين ، الذين يبلغ عددهم مائة ألف أو يزيدون ، فلا بدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بيان إمامة أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ التي يلزم إيضاح حالها والاهتمام بشأنها وإعلام كلّ مسلم بها ، لا مجرد بيان أن عليّا محبّ لمن أحببته ، وناصر لمن نصرته ، وهو لا أمر ولا إمرة له ، وعلى هذا فبالنظر إلى خصوص كلّ واحدة من تلك القرائن الحالية والمقالية ، فضلا عن مجموعها ، لا ينبغي أن يشكّ ذو ادراك في إرادة النصّ على عليّ ـ عليه‌السلام ـ بالإمامة ، وإلّا فكيف تستفاد المعاني من الألفاظ ، وكيف يدلّ الكتاب العزيز أو غيره على معنى من المعاني ، وهل يمكن أن لا تراد الإمامة وقد طلب أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ من الصحابة بمجمع الناس بيان الحديث ، ودعا على من كتمه ؛ إذ لو اريد به مجرد الحبّ والنصرة لما كان محلا لهذا الاهتمام ، ولا كان مقتض لأن يبقى في أبي الطفيل منه شيء وهو أمر ظاهر ليس به عظيم فضل ، حتّى قال له زيد بن أرقم : ما

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٨.

١١٣

تنكر قد سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول ذلك له كما سبق (١).

ولا كان مستوجبا لتهنئة أبي بكر وعمر ، لأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ بقولهما «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» فإنّ التهنئة لأمير المؤمنين الذي لم يزل محلا لذكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالفضائل العظيمة والخصائص الجليلة ، إنّما تصحّ على أمر حادث تقصر عنه سائر الفضائل ، وتتقاصر له نفوس الأفاضل ، وتتشوق إليه القلوب ، وتتسوف له العيون ، فهل يمكن أن يكون هو غير الإمامة من النصرة ونحوها ممّا هو أيسر فضائله وأظهرها وأقدمها ، ولكن كما قال الغزالي في سر العالمين : «ثم بعد ذلك غاب الهوى وحبّ الرئاسة وعقود البنود وخفقان الرايات وازدحام الخيول وفتح الأمصار والأمر والنهي ، فحملهم على الخلاف ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون» وقد ذكر جماعة من القوم أنّ سرّ العالمين للغزالي كالذهبي في ميزان الاعتدال بترجمة الحسن بن الصباح الاسماعيلي هذا (٢).

وإلى غير ذلك من القرائن الكثيرة المذكورة في المطولات.

هذا مضافا إلى فهم أهل البيت الذين كانوا مصونين عن الخطأ والاشتباه بنصّ الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولذا أعظموا يوم الغدير ، وأوصوا وأكدوا بتعظيمه ، وجعله عيدا ؛ لكونه يوم نصب عليّ عليه‌السلام ـ للإمامة والخلافة

__________________

(١) ونقل فيما سبق عن أحمد عن حسين محمد وأبي نعيم قالا : «حدّثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع على الناس في الرحبة ، ثم قال لهم : أنشد الله كلّ امرئ مسلم سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما سمع لمّا قام. فقام ثلاثون من الناس وقال أبو نعيم ، فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس : أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال : فخرجت وكان في نفسي شيء فلقيت زيد بن أرقم ، فقلت له : إنّي سمعت عليا يقول كذا وكذا قال : فما تنكر قد سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول ذلك له» راجع دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٥.

(٢) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٨ ـ ٥٩.

١١٤

بحيث صار مفاد الحديث عند الشيعة قطعيّا ويقينيّا كما لا يخفى. فالحديث مع ما قد خفّ به من القرائن نصّ جليّ على خلافة عليّ ـ عليه‌السلام ـ وعلى وجوب الاتباع له ، كوجوب الاتباع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هذا كلّه بالنسبة إلى حديث الغدير وبقية الكلام تطلب من دلائل الصدق والغدير والمراجعات وغير ذلك.

وأمّا الكلام في حديث المنزلة فوجه الاستدلال به كما في العقائد الحقّة أنّ المستفاد من هذا الخبر ثبوت جميع منازل هارون من موسى ، واستثنى منزلة النبوّة ، ومن جملة المنازل الخلافة بعده (١).

بل يمكن أن يستفاد من حديث المنزلة خلافته وإمامته من زمان حياة الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

قال في دلائل الصدق ونعم ما قال : لا ريب أنّ الاستثناء دليل العموم ، فتثبت لعليّ ـ عليه‌السلام ـ جميع منازل هارون الثابتة له في الآية سوى النبوّة ، ومن منازل هارون الإمامة ؛ لأنّ المراد بالأمر في قوله تعالى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) هو الأعمّ من النبوّة التي هي التبليغ عن الله تعالى ومن الإمامة ، التي هي الرئاسة العامّة ، فإنّهما أمران مختلفان ، إلى أن قال ـ : ويشهد للحاظ الإمامة وإرادتها من الأمر في الآية الأخبار السابقة المتعلّقة بآخر الآيات ، التي ذكرناها في الخاتمة المصرّحة تلك الأخبار بأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ دعا فقال : «اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى ، أن تشرح لي صدري ، وأن تيسر لي أمري ، وتحلّ عقدة من لساني يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي اشدد به أزري ، وأشركه في أمري» فإنّ المراد هنا بالاشراك في أمره هو الإشراك بالإمامة لا الإشراك بالنبوّة كما هو ظاهر ، ولا المعاونة على تنفيذ

__________________

(١) العقائد الحقة : ص ٢٠.

١١٥

ما بعث فيه ؛ لأنّه قد دعا له أولا بأن يكون وزيرا له.

وبالجملة معنى الآية أشركه في أمانتي الشاملة لجهتي النبوّة والإمامة ؛ ولذا نقول : إنّ خلافة هارون لموسى لمّا ذهب إلى الطور ليست كخلافة سائر الناس ، ممن لا حكم ولا رئاسة له ذاتا ، بل هي خلافة شريك لشريك أقوى ؛ ولذا لا يتصرف بحضوره فكذا عليّ بحكم الحديث لدلالته على أنّ له جميع منازل هارون ، التي منها شركته لموسى في أمره سوى النبوّة ، فيكون عليّ إماما مع النبيّ في حياته ـ إلى أن قال ـ : فلا بدّ أن تستمر إمامته إلى ما بعد وفاته ولا سيّما أنّ النظر في الحديث إلى ما بعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيضا ، ولذا قال : إلّا أنه لا نبيّ بعدي. ولو تنزّلنا عن ذلك فلا إشكال بأنّ من منازل هارون أن يكون خليفة لموسى لو بقي بعده ؛ لأنّ الشريك أولى الناس بخلافة شريكه ، فكذا يكون عليّ ـ عليه‌السلام ـ إلى أن قال ـ : وقد علم على جميع الوجوه أنّه لا ينافي الاستدلال بالحديث على المدعى موت هارون قبل موسى ، كما علم بطلان أن يكون المراد مجرد استخلاف أمير المؤمنين في المدينة خاصّة ، فإنّ خصوص المورد لا يخصص العموم الوارد ، ولا سيّما أن الاستخلاف بالمدينة ليس مختصا بأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ لاستخلاف النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غيره بها في باقي الغزوات ، ومقتضى الحديث أن استخلاف منزلة خاصّة به كمنزلة هارون من موسى التي لم يستثن منها إلّا النبوّة. فلا بدّ أن يكون المراد بالحديث إثبات تلك المنزلة له العامّة له إلى ما بعد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى أن قال ـ : ويدلّ على عدم إرادة ذلك الاستخلاف الخاصّ (أيّ في غزوة تبوك) بخصوصه ورود الحديث في موارد لا دخل لها به. (فمنها) : ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ علّل تحليل المسجد لعليّ جنبا بأنّه منه بمنزلة هارون من موسى. (ومنها) : ما رواه في كنز العمال عن أمّ سليم أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال لها : يا أمّ سليم ، إنّ

١١٦

عليّا لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو منّي بمنزلة هارون من موسى. (ومنها) : ما رواه في الكنز أيضا عن ابن عباس أنّ عمر قال : «كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب فإنّي سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول في عليّ ثلاث خصال لان يكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس : كنت وأبو بكر وأبو عبيدة ونفر من أصحاب رسول الله والنبيّ متكئ على عليّ حتّى ضرب على منكبه ، ثم قال : انت يا عليّ أوّل المؤمنين ايمانا وأولهم اسلاما ، ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب من زعم أنّه يحبني ويبغضك» ـ إلى أن قال ـ : إلى غيرها من الموارد الكثيرة (١).

ثم إنّ الأحاديث المذكورة شطر من الأحاديث الكثيرة الدالة على إمامة عليّ وأولاده ـ عليهم‌السلام ـ فعليك بالكتب الكلامية ، وجوامع الحديث ، والسّير ، والتفاسير.

الرابع : في الآيات وهي كثيرة وقد اشير إليها في الكتب التفسيريّة والكلاميّة والمصنّف ـ قدس‌سره ـ اكتفى بآية واحدة ، وهي آية الولاية ، وهي من الآيات الباهرات ، وتقريب تلك الآية على ما في العقائد الحقّة وغيرها : أنّ وجه الاستدلال أنّ لفظة إنّما للحصر لاتفاق أهل العربية عليه ، والوليّ وإنّ ذكر له معان ، لكن لا يناسب مع الحصر المذكور معنى غير الأولى بالتصرّف ، كقولهم : السلطان وليّ من لا وليّ له ووليّ الدم ووليّ الميّت وقوله : أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، وقد ذكر المفسرون أنّ المراد بهذه الآية الشريفة علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ لأنّه لمّا تصدّق بخاتمه حال ركوعه نزلت هذه الآية (٢).

قال العلّامة الحليّ ـ قدس‌سره ـ : أجمعوا على نزولها في عليّ ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٤.

(٢) العقائد الحقة : ص ١٩ ـ ٢٠.

١١٧

وهو مذكور في الصحاح الستة لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة ، والوليّ هو المتصرف ، وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته ، وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين وولاية الله عامّة فكذا النبيّ والوليّ (١) فالمحصور فيه الولاية معلوم للصحابة على ما تشهد له الأخبار الواردة في الصحاح وهو عليّ عليه‌السلام.

وقال الاستاذ الشهيد آية الله المطهريّ ـ قدس‌سره ـ : لم يرد في الشرع أمر بأداء الزكاة في حال الركوع حتّى يكون ذلك قانونا كليا وله أفراد ، فالآية إشارة إلى قضية خارجية لم تقع إلّا مرّة واحدة ، والشيعة وأهل التسنن اتفقوا على أنّ هذه القضية هي التي وقعت من عليّ ـ عليه‌السلام ـ حال ركوعه في الصلاة ، فالآية نزلت في حقّه ، وعليه فالآية لا تدلّ إلّا على ولاية عليّ عليه‌السلام (٢).

وبالجملة فالحصر في المقام يدلّ على أنّ المراد من الولاية هو الأولى بالتصرف لا غير ، وإلّا فلا يصحّ الحصر إذ المحبّة والنصرة لا اختصاص لهما بقوم دون قوم ، هذا مضافا إلى وحدة السياق فإنّ المراد من الوليّ في الله تعالى ورسوله الأعظم هو الأولى بالتصرف ، وهكذا في الذين آمنوا ... الآية ، كما أنّ خارجية القضية تشهد بكون المراد منها هو ما وقعت من عليّ ـ عليه‌السلام ـ بمحضر الصحابة ، وهذا التقريب أسدّ وأخصر ممّا في دلائل الصدق حيث قال : لا يبعد أنّ الوليّ مشترك معنى موضوع للقائم بالأمر أي الذي له سلطان على المولى عليه ولو في الجملة ، فيكون مشتقا من الولاية بمعنى السلطان ، ومنه وليّ المرأة والصبي والرعية أي القائم بأمورهم ، وله سلطان عليهم في الجملة ، ومنه أيضا الوليّ بمعنى الصديق والمحبّ فإنّ للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على

__________________

(١) دلائل الصدق : ص ٤٤.

(٢) امامت ورهبرى : ص ٦٠ ـ ٦١.

١١٨

صديقه وقياما باموره ، وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره ، إلى غير ذلك ، فحينئذ يكون معنى الآية : إنّما القائم باموركم هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شك أنّ ولاية الله تعالى عامّة في ذاتها مع أنّ الآية مطلقة ، فتفيد العموم بقرينة الحكمة ، فكذا ولاية النبيّ والوصيّ فيكون عليّ ـ عليه‌السلام ـ هو القائم بامور المؤمنين ، والسلطان عليهم ، والإمام لهم.

ولو سلّم تعدد المعاني واشتراك الوليّ بينها لفظا فلا ريب أنّ المناسب لا نزال الله الآية في مقام التصدق أن يكون المراد بالوليّ هو القائم بالامور لا الناصر ، إذ أي عاقل يتصور أنّ إسراع الله سبحانه بذكر فضيلة التصدّق واهتمامه في بيانها بهذا البيان العجيب لا يفيد إلّا مجرد بيان أمر ضروري ، وهو نصرة علي ـ عليه‌السلام ـ للمؤمنين.

ولو سلّم أنّ المراد الناصر فحصر الناصر بالله ورسوله وعليّ لا يصحّ إلّا بلحاظ إحدى جهتين : (الاولى) : أنّ نصرتهم للمؤمنين مشتملة على القيام والتصرّف بامورهم ، وحينئذ يرجع إلى المعنى المطلوب.

(الثانية) أن تكون نصرة غيرهم للمؤمنين كلا نصرة بالنسبة إلى نصرتهم ، وحينئذ يتمّ المطلوب أيضا ؛ إذ من لوازم الإمامة النصرة الكاملة للمؤمنين ، ولا سيّما قد حكم الله عزوجل بأنّها في قرن نصرته ونصرة رسوله.

وبالجملة قد دلّت الآية الكريمة على انحصار الولاية بأيّ معنى فسّرت بالله ورسوله وأمير المؤمنين ، وأنّ ولايتهم من سنخ واحد ، فلا بدّ أن يكون أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ممتازا على الناس جميعا بما لا يحيط به وصف الواصفين ، فلا يليق إلّا أن يكون إماما لهم ونائبا من الله تعالى عليهم جميعا.

ويشهد لإرادة الإمامة من هذه الآية ، الآية التي قبلها الداخلة معها في خطاب واحد ، وهى قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

١١٩

فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ» الآية ، فإنّها ظاهرة في أنّ من يأتي بهم الله ، تعالى من أهل الولاية على الناس ، والقيام بامورهم ؛ لأن معناها يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مخصوصين معه بالمحبة بينه وبينهم ، أذلّة على المؤمنين ، أي متواضعين لهم تواضع ولاة عليهم ؛ للتعبير ب «على» التي تفيد العلوّ والارتفاع ، أعزّة على الكافرين أي ظاهري العزّة عليهم والعظمة عندهم ، ومن شأنهم الجهاد في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم ، ومن المعلوم أنّ هذه الأوصاف إنّما تناسب ذا الولاية والحكم والإمامة ، فيكون تعقبها بقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) الآية دليلا على أنّ المراد بوليّ المؤمنين إمامهم القائم بامورهم للارتباط بين الآيتين (١).

وهنا تقريب آخر مذكور في كتاب الإمامة والولاية حيث قال : إنّ هذا الخطاب الإلهي يتوجه إلى الامة الإسلامية ليحدّد لها أولياءها بالخصوص ، وأنّ من الواضح جدا هنا أن المولى غير المولى عليه فالذين آمنوا ـ في تعبير الآية ـ هم غير المخاطبين المولّى عليهم ، وسياق هذه الآية ليس كسياق الآية الشريفة (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) لأنّ الآية في مقام بيان الأولياء من الله تعالى والرسول الأعظم والذين آمنوا ، وهو أمر لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

وعليه ف (الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) هم أفراد معيّنون ، لهم شأن وامتياز عن الآخرين ، وذلك إمّا لأنّ هذه الصفات المذكورة تتجلّى بكلّ واقعها فيهم أو لأنّهم سبقوا غيرهم إليها ، كما أنّ من

__________________

(١) راجع دلائل الصدق : ج ٢ ص ٤٤ ـ ٤٦.

١٢٠