بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

لزم الخلف في وجوب وجوده ، فالواجب مقتض لسلب الإمكان عنه وهذا السلب التوحيد مساوق لجميع سلوب النقائص عنه ، لأن كل نقص من ناحية الإمكان لا الوجوب ، فإذا لم يكن للإمكان فيه تعالى سبيل في أي جهة من الجهات فكل نقص مسلوب عنه تعالى بسلب الإمكان عنه ، فكماله الوجودي الذي لا يكون له نهاية وحد يصحح سلب جميع النقائص عنه تعالى (١).

ثم إن سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة ونحوها بسلب الإمكان عنه واضح. لأن هذه المذكورات من خواص التركيب وعوارضه ، إذ المادة والصورة والجنس والفصل لا تكون بدون التركيب ، كما أن الحركة والسكون والثقل والخفة من أحوال المحدود والجسم وعوارضه ، وحيث عرفت أن الواجب تعالى غير محدود بقيد وحد وشيء من الأشياء ، وغير محتاج إلى شيء ، بل هو صرف الوجود والكمال والغنى ، فلا يكون مركبا من الأجزاء الخارجية المعبر عنها بالمادة والصورة ، ولا من الأجزاء الذهنية المعبر عنها بالجنس والفصل ، وإلّا لزم الخلف في صرفيته ووجوبه ، ولزم الحاجة إلى الأجزاء ، ولزم توقف الواجب في وجوده على أجزائه ضرورة تقدم الجزء على الكل في الوجود ، وهو مع وجوب وجوده وضرورته له محال.

فهذه الصفات امور لا تمكن إلّا في المهيات الممكنة فإذا سلب الإمكان عنه تعالى سلبت هذه الصفات عنه تعالى بالضرورة ، إما لأن هذه الامور من لوازم بعض أصناف المهيات الممكنة بداهة انتفاء الأخص بانتفاء الأعم ، أو لأن كل نقص من النقائص المذكورة عين المهيات الإمكانية ، فطبيعي الممكن متحد مع هذه النقائص فإذا تعلق السلب به كان معناه سلب جميع أفراده ومنها هذه النواقص لا أنها منتفية بالملازمة كما أشار إليه المصنف بالإضراب حيث

__________________

(١) راجع الاسفار : ج ٦ ص ١٢٢.

٨١

الثبوتية الكمالية (٤) ، فترجع الصفات الجلالية «السلبية» آخر الأمر إلى الصفات الكمالية «الثبوتية». والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقته الواحد الصمد (٥).

______________________________________________________

قال : «بل معناه سلب الجسمية والصورة ... الخ».

(٤) إذ سلب الإمكان عنه بأي معنى كان سواء اريد به الإمكان الماهوي أو الإمكان الفقري والوجودي ، يرجع إلى أن الوجود ضروري الثبوت له بحيث لا يحتاج إلى شيء من الاشياء ، بل مستقل بنفسه وذاته ، كما أن سلب النقص والحاجة عنه بقولنا : إنه ليس بجاهل أو ليس بعاجز أو ليس بمركب ونحوها يرجع إلى إيجاب الكمال وإثباته ؛ لأن النقص والحاجة في قوة سلب الكمال ، فسلب النقص راجع إلى سلب سلب الكمال وهو ايجاب الكمال ، فمعنى أنه ليس بجاهل سلب سلب العلم ومعناه ايجاب العلم (١).

وبالجملة فهو تعالى حقيقة مطلقة مستقلة غير متناهية واجبة الذات من جميع الجهات ، بحيث لا يشذ عنه كمال من الكمالات ، بل هو واجدها بالفعل من دون حاجة إلى الغير ، ولا سبيل للإمكان والقوة ولوازمهما إليه فهو واجب بالذات لذاته.

(٥) إشارة إلى ما في سورة التوحيد ، والعجب كل العجب من إفادة السورة المباركة التوحيد بمراتبه المختلفة من التوحيد الذاتي والصفاتي ، بل الأفعالي بموجز كلامه مع حسن بيانه وإعجاز أسلوبه.

ولقد أفاد وأجاد العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «والآيتان تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعا فقوله : (اللهُ أَحَدٌ) يصفه بالأحدية

__________________

(١) بداية الحكمة : ص ١٣٧ ـ ١٣٨.

٨٢

التي هي عين الذات ، وقوله : (اللهُ الصَّمَدُ) يصفه بانتهاء كل شيء إليه وهو من صفات الفعل ، ـ إذ الصمد هو السيد المصمود إليه ، أي المقصود في الحوائج على الإطلاق ـ والآيتان الكريمتان الاخريان أعني : «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه ، فينفصل عنه شيء من سنخه بأي معنى اريد من الانفصال والاشتقاق ، كما يقول به النصارى في المسيح ـ عليه‌السلام ـ : إنه ابن الله ، وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم : إنهم أبناء الله سبحانه ، وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شيء آخر ومشتقا منه بأي معنى اريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية. ففي آلهتهم من هو إله أبو إله ، ومن هو آلهة أم إله ، ومن هو إله ابن إله ، وتنفيان ، أن يكون له كفوء يعدله في ذاته أو في فعله وهو الايجاد والتدبير (١).

ولقد زاد أيضا بأن الذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة ، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم ، أهملوا هذا البحث الشريف. فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح ولا بسلوك استدلالي ، ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ خاصة ، فإن كلامه هو الفاتح لبابها والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان ، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري ، وقد صرحوا بأنهم استفادوه من كلامه (٢).

ويشهد لما ذكره ما رواه في «نور الثقلين» عن الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن احمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن

__________________

(١) الميزان : ج ٢٠ ص ٥٤٥.

(٢) الميزان : ج ٦ ص ١٠٩.

٨٣

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية لما عزّ عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها ، فوقع بما هو أسوأ اذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص ، وجهة إمكان جعلها عين العدم ومحض السلب ـ أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الاقلام (٦).

______________________________________________________

حميد قال : سئل علي بن الحسين ـ صلوات الله عليه ـ عن التوحيد فقال : إن الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والآيات من أول سورة الحديد إلى قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك (١).

(٦) وجعل الذات عين العدم ومحضه فاسد وواضح البطلان ، إذ العدم ليس بشيء ولا شيء له حتى يعطي شيئا إلى غيره ، وحيث أن كل كمال أمر وجودي وينتهي إليه تعالى ، علم أنه محض الوجود وعينه ، إذ معطي الشيء لا يكون فاقدا له ، بل لا يخلطه العدم ولا يشوبه العدم ؛ لأنه كما عرفت في أدلة اثبات المبدأ صرف الوجود وكمال الوجود من دون أن يكون له حد وقيد وشرط. وهذا من خصيصة واجب الوجود ، إذ غيره أيّا ما كان ، محدود بحد وقيد. وبعبارة اخرى مركب من أيس وليس وايجاب وسلب كالإنسان ، فإنه إنسان وليس بملك وجن مثلا في حاق وجوده ، فإنه محدود في وجوده وليس بمطلق فيه ، وهكذا غيره من سائر الممكنات. ولذا قلنا مرارا : إن واجب الوجود

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٥ ص ٧٠٦ ح ٤٦.

٨٤

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء لواجب الوجود ، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك ، قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه‌السلام : «وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ...» نهج البلاغة ، الخطبة الاولى (٧).

______________________________________________________

لا يشذ عنه كمال من الكمالات ، فهو محض الكمال وعينه وصرف الكمال ولا سبيل للعدم إلى ذاته.

ولا ينافى ما ذكر ، حمل الصفات السلبية عليه تعالى ككونه ليس بجسم ؛ لما مر من أنها ترجع إلى سلب السلب ، وهو إيجاب الكمال ، إذ لا سبيل للسلب المحض ومفهوم العدم المطلق إلى ساحة قدسه ، فالسلب لا بد أن يكون إضافيا ، ومرجع السلب الإضافي إلى نفي النقائص ، والنقائص هي أمور وجودية مشوبة بحدود عدمية ، وسلب الحدود العدمية يرجع إلى إثبات الاطلاق الوجودي ، وهو عين الكمال ومحضه. وبقية الكلام في محله (١).

(٧) لقد أجاد في توضيح فقرات الخطبة ابن ميثم البحراني حيث قال : أما قوله : «لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف» وبالعكس فهو توطئة الاستدلال ببيان المغايرة بين الصفة والموصوف ، والمراد بالشهادة هاهنا شهادة الحال ، فإن حال الصفة تشهد بحاجتها إلى الموصوف وعدم قيامها بدونه ، وحال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفة والقيام بالذات بدونها ، فلا تكون الصفة

__________________

(١) راجع النهاية : ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤ وتعليقتها : ص ٤٣٨.

٨٥

نفس الموصوف. وأما قوله : «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه» فهو ظاهر ؛ لأنه لما قرر كون الصفة مغايرة للموصوف لزم أن تكون زائدة على الذات ، غير منفكة عنها ، فلزم من وصفه بها أن تكون مقارنة لها ، وإن كانت تلك المقارنة على وجه لا يستدعي زمانا ولا مكانا. وأما قوله : «ومن قرنه فقد ثنّاه» فلأن من قرنه بشيء من الصفات فقد اعتبر في مفهومه أمرين : أحدهما الذات ، والآخر الصفة. فكان واجب الوجود عبارة عن شيئين أو أشياء ، فكانت فيه كثرة ، وحينئذ ينتج هذا التركيب : إن من وصف الله سبحانه فقد ثنّاه. وأما قوله : «ومن ثنّاه فقد جزأه» فظاهر. أنه إذا كانت الذات عبارة عن مجموع امور كانت تلك الامور أجزاء لتلك الكثرة من حيث أنها تلك الكثرة وهي مبادئ لها ، وضم هذه المقدمة إلى نتيجة التركيب الأول ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جزأه. وأما قوله : «ومن جزأه فقد جهله» فلأن كل ذي جزء فهو يفتقر إلى جزء ، وجزئه غيره ، فكل ذي جزء فهو مفتقر إلى غيره ، والمفتقر إلى الغير ممكن فالمتصور في الحقيقة لأمر هو ممكن الوجود لا واجب الوجود بذاته ، فيكون إذن جاهلا به. وضم هذه المقدمة إلى نتيجة ما قبلها ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جهله ، وحينئذ يتبين المطلوب وهو أن كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ، إذ الاخلاص له والجهل به مما لا يجتمعان ، وإذا كان الاخلاص منافيا للجهل به الذي هو لازم لإثبات الصفة له ، كان إذن منافيا لإثبات الصفة له ؛ لأن معاندة اللازم تستلزم معاندة الملزوم وإذ بطل أن يكون الاخلاص في إثبات الصفة له ، تثبت أنه في نفي الصفة عنه ، إلى أن قال : وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقق الذي هو نهاية العرفان وغاية سعي العارف من كل حركة حسية وعقلية (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : ج ١ ص ١٢٣.

٨٦

ثم إن هاهنا سؤالا وهو أن مقتضى كلام الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ هو أنه تعالى لا يوصف بشيء من الصفات فكيف يجتمع هذا مع توصيفه بالأوصاف المشهورة كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وغيرها؟

يمكن الجواب عنه بأن مقتضى الجمع بين قوله المذكور وبين قوله ـ عليه‌السلام ـ في صدر هذه الخطبة في توصيفه تعالى : «الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا اجل محدود» هو أن له صفة غير محدود وحيث أن غير المحدود لا يتكرر ولا يتثنى ، فصفته متحدة مع ذاته التي تكون غير محدود ، وعليه يرجع إثبات الصفة إلى الصفة المتحدة مع الذات ، كما أن النفي يرجع إلى الصفات المحدودة الزائدة على الذات فلا منافاة (١). كما ارتفعت المنافاة بين ذيل تلك الخطبة وتوصيفه تعالى في الكتب الإلهية والسنن القطعية بالأوصاف المشهورة ولابن ميثم هنا جواب آخر أغمضنا عنه وأحلناه إلى مقام آخر فراجع.

دفع شبهات

إن الماديين ذهبوا إلى مقالة سخيفة وهي إنكار المبدأ المتعال مع أن هذه المقالة لا يساعدها دليل عقلي ولا دليل عقلائي ، بل يدلان على خلافها ولا بأس بالاشارة إليها والجواب عنها هنا (٢).

ولا يخفى عليك أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا ، إما فرارا من التكليف فإن الاعتقاد بالمبدإ والمعاد يحدد الحرية الحمقاء ، مع أن التحديد الإلهي يوجب

__________________

(١) راجع جهان بينى : ص ٥٦.

(٢) راجع كتاب «فلسفتنا» ، وكتاب «آموزش عقائد» وغيره من الكتب.

٨٧

الحرية الحقيقية ولكنهم يطلبون الراحة وعدم المسئولية وإشباع الأهواء والميول النفسانية ، ويزعمون أن الحرية في إطلاق النفس في هذه الامور. وإما اشمئزازا من عمل بعض الداعين إلى الدين كأرباب الكنيسة في عهد رنسانس ، مع أن العمل سيما عن بعض الداعين لا يلزم بطلان الدعوى. وأما من جهة أوهام وشبهات ، مع أنهم لو رجعوا فيها إلى علماء الدين لما بقي لهم فيها شبهة ، ولكنهم لم يرجعوا عنادا أو غرورا ، أو رجعوا إلى من لم يكن أهلا لذلك (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

وكيف كان فمن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون كيف يمكن أن نعتقد بما لا يكون قابلا للادراك الحسي ، مع أنه لا دليل على حصر الوجود في المحسوس بالادراكات الحسية كالسمع والبصر والشامة والذائقة واللامسة ؛ لوجود أشياء من الماديات فضلا عن المجردات لا تدرك بتلك الادراكات ، كبعض الأصوات التي لا تدرك إلّا بآثارها ، مثل الأمواج فوق الصوتية أو دونها التي لا نقدر على سماعها ، والأنوار التي لا تحسّ إلّا بآثارها كالأشعة غير المرئية مما يكون قبل اللون الاحمر ودونه ، أو بعد البنفسجي وفوقه ، هذا مضافا إلى النفس وأفعالها من الادراك والتصور وصفاتها وأحوالها من الخوف والرجاء والمحبة والعداوة والإرادة والترديد واليقين والظن والحزن والفرح والاقبال والادبار وغير ذلك مما نجدها في أنفسنا ، ولا يمكن ادراكها بالادراكات الحسية ولا نعلم بها في غير أنفسنا إلّا بآثارها.

وممّا يشهد على وجود النفس وراء البدن هو إحضار الأرواح وإرسالها وتجريدها والمنافات الصادقة وغيرها ، وبالجملة فالله تعالى حقيقة غير محسوسة بالحواس ، سئل مولانا علي بن موسى الرضا ـ عليهما‌السلام ـ «كيف هو وأين

__________________

(١) النحل : ٤٣.

٨٨

هو؟ قال : ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين وكيف الكيف بلا كيف ، فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونيّة ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء فقال السائل الملحد : فإذا أنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : ويلك لمّا عجزت حواسك عن ادراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنّا أنه ربنا بخلاف شيء من الاشياء» (١) ومن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون : أن الاعتقاد بالمبدإ ناش عن الوهم لا البرهان ، فإن الموحدين لما رأوا بعض الحوادث ولم يعرفوا عللها الطبيعية اعتقدوا بأنها من ناحية الله ، ولذا كلما كشفت العلل الطبيعية صار هذا الاعتقاد ضعيفا.

مع أنه فاسد ؛ لأن كثيرا من المعتقدين عبر التاريخ لا سيما في عصرنا هذا ، من العالمين بأسرار الطبيعة في الجملة ، ومع ذلك اعتقدوا بالمبدإ المتعال ، وازدادوا في الايمان والاعتقاد بازدياد كشف العلل المذكورة. فالاعتقاد بالمبدإ ليس ناشيا عن الجهل بالأسباب والعوامل ، بل ناش عن النظم المشاهد في العالم أو الإمكان الذي لا يشذ عنه شيء مما سوى الله ، سواء عرفت الأسباب أو لم تعرف ، بل كلما ازدادت المعرفة بها زادتهم ايمانا ، ولا وجه لنسبة استناد الايمان إلى الوهم في جميع المعتقدين والموحدين ، ولو سلم ذلك في شرذمة من المعتقدين فلا يضر بصحة الاعتقاد بالمبدإ بعد كونه مبتنيا على اصول أصلية عقلية ، أو عقلائية في جلهم.

ومن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون : إن مقتضى كلية أصل العلية هو أن يكون للمبدإ أيضا علة اخرى ، مع أن المعتقدين بالمبدإ يجعلونه العلة الاولى وينقضون بقولهم ذلك كلية الأصل المذكور ؛ لتوقف العلية عندهم على المبدأ ، ومع عدم

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٧٨.

٨٩

كلية الأصل المذكور لا مجال للالتزام بانتهاء العلل والمعلولات إلى الواجب ، لجواز توقف العلية على غيره أيضا بعد عدم كلية الأصل المذكور.

ولكنهم لم يتأملوا فيما ذكره الموحدون ، وإلّا لم يقعوا في هذه الشبهة ، فإن الموحدين لا يقولون : بأن كل شيء يحتاج إلى علة حتى يلزم ذلك ، بل يقولون :

إن كل معلول يحتاج إلى علة. ومن المعلوم ان المبدأ الواجب الوجود ليس بمعلول فهو غير مشمول للأصل المذكور ، فلا يلزم من القول بكون المبدأ المتعال هو العلة الاولى للأشياء ، نقض ، للأصل المذكور كما لا يخفى.

ومن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون : إن ما تنتهي إليه الكشفيات الجديدة في العلم الكيمياوي أن مقدار المادة ووزنها ثابتة ولا يزاد عليه في التبدلات والتحولات ولا ينقص ، فلا يوجد شيء من العدم ولا يعدم شيء رأسا بعد وجوده ، وعليه فلا حاجة إلى سبب خارجي مع أن الموحدين اعتقدوا بأن الأشياء مخلوقة من العدم.

واجيب عنه : بأن قانون بقاء المادة على فرض صحته (١) أصل علمي وتجربي ، فلا يعم بالنسبة إلى غير مورد التجربة من السابق واللاحق ، فلا يمكن به حل مسألة فلسفية ، وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا؟ بل يحتاج فيه إلى العلوم العقلية ، هذا مضافا إلى أن ثبات مقدار المادة والطاقة في التحولات والتغييرات لا يستلزم غناءها عن العلة بعد وجود ملاك الحاجة فيها وهو الإمكان وافتقارها الوجودي وهو أمر يدوم بدوامها ، فالمادة مخلوقة وباقية بإذنه تعالى فهي محتاجة إليه تعالى في حدوثها وبقائها.

هذا مضافا إلى تجدد الحياة والشعور ونحوهما في كل لحظة مع أنها ليست من قبيل المادة والطاقة حتى ينافي ازديادها أو نقصانها مع أصل بقاء المادة والطاقة.

__________________

(١) راجع دروس في اصول الدين : ص ٣٣ ـ ٣٧.

٩٠

ثم إن الخلق باعتقاد الموحدين ليس ناشئا عن العدم ، إذ العدم فقد ، والفاقد لا يعطي شيئا ، بل هو ناش من إيجاده تعالى وهو عين الوجود.

ومن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون على قاعدة تطور الأنواع وخروج بعضها من بعض : إن كل نوع متولد من نوع آخر ، فالإنسان متولد من الحيوان كما تشهد الآثار الحفرية على أنه متولد من القردة ، مع أن الإلهيين اعتقدوا بأن الله خلق كل واحد من الأنواع على حدة.

واجيب عنه : بأن فرضية التطور على فرض صحتها في مورد ، لا دليل على عمومها وشمولها ؛ لأن التجربة لا تقدر على إثبات القاعدة والقانون من دون ضميمة البراهين والعلوم العقلية ، فدعوى تطور كل نوع من نوع آخر بمجرد تجربة تولد نوع من نوع ، لا دليل عليها.

هذا مضافا إلى أن المكشوف بالآثار الحفرية هو التكامل والتطور في ناحية من النواحي كالأعضاء أو الصفات في نوع ، لا تولد نوع من نوع ؛ ولذلك قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «ولم يعثر هذا الفحص والبحث على غزارته وطول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرد نوع آخر على أن يقف على نفس التولد دون الفرد والفرد وما وجد منها شاهدا على التغيير التدريجي فإنما هو تغيير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة اخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته والمدعى خلاف ذلك» (١).

وقال في موضع آخر : «إن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان ، وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وإعراضها ـ إلى أن قال ـ : فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة

__________________

(١) الميزان : ج ١٦ ص ٢٧٢.

٩١

بشيء علمي» (١).

والأضعف منه هو دعوى منافاة قاعدة تطور الأنواع للاعتقاد بالمبدإ المتعال ، فإن التطور والتكامل على فرض صحته في الأنواع يكون بنفسه آية لوجود المبدأ المتعال ؛ لانه يحتوي نظما وانسجاما خاصا لا يمكن أن يتحقق بدون وجود ناظم حكيم ذي شعور.

هذا مضافا إلى أن النظام المتطور أيضا من الممكنات التي يستحيل أن تكون موجودة بدون الانتهاء إلى الواجب المتعال ، ويشهد له أن كثيرا من المعتقدين بفرضية تطور الأنواع كانوا من المعتقدين بالله تعالى.

ومن جملة شبهاتهم : أنهم يقولون : بأن المادة أزلية وأبدية وباصطلاح الموحدين هي واجب الوجود. فلا حاجة إلى سبب وعلة خارجية.

واجيب عن ذلك : أولا : بأن الدليل التجربي الذي لا يحكي إلّا عن موارد التجربة لا يقدر على حل المسألة الفلسفية وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا ؛ لأن السابق واللاحق خارجان عن دائرة التجربة وحيطتها.

وثانيا : أن الثابت في العلوم الطبيعية هو إمكان تبديل العناصر الأولية البسيطة باصطلاح القوم بعضها إلى بعض كتحويل اليورانيوم إلى عنصر الراديوم ومنه إلى الرصاص ، أو تبديل المادة إلى الطاقة والطاقة إلى المادة ، وثبت أيضا أن من الممكن أن يتحول بعض أجزاء الذرة إلى جزء آخر كتحويل بروتون أثناء عملية الذرة إلى نيوترون وبالعكس (٢) وهو أحسن شاهد على أن العناصر ، بل المادة والطاقة بما هي عناصر ومادة وطاقة لا تكون ذاتية ، وإلّا فلم تتخلف. فهذه بالنسبة إلى المادة عوارض وحيث أن لكل صفة عارضة ، علة

__________________

(١) الميزان : ج ٤ ص ١٥٤.

(٢) راجع فلسفتنا : ص ٣٢٠.

٩٢

خارجية ، فلهذه العناصر والمادة والطاقة علة خارجية ، فبان أن ذات المادة في كونها عناصر أو مادة أو طاقة تحتاج إلى سبب خارجي ، فحديث غنى المادة عن العلة كذب محض (١).

وثالثا : أن خواص واجب الوجود من كونه عين الفعلية ، فلا سبيل للقوة والاستعداد والإمكان إليه ، ومن كونه بسيطا مطلقا فلا مجال لتوهم الاجزاء الخارجية والذهنية كالجنس والفصل له ، ومن كونه غير مشوب بالعدم فلذا لا يمكن فرض عدمه لا في السابق ولا في اللاحق ، وغير ذلك من خواصه لا توجد في المادة حتى تكون باصطلاح الموحدين واجب الوجود ، فإن المادة إمكانات لا فعليات. ومن شواهده هو التبدل والتحول الدائم فيها فهي قبل التحول إلى شيء تكون بالنسبة إليه إمكانا استعداديا ، ولا تكون هي بالفعل ، وإنما صارت هي بعد اجتماع الشرائط والأسباب ، وحيث إن القوة هي فقدان الفعلية فلا تجتمع قوة الشيء مع فعليته في آن واحد ، فالمادة التي تكون قابلة للتحول لا تخلو عن القوة والاستعداد في حال من الاحوال.

وهكذا أن المادة مركبة ، سواء كانت العناصر الأولية أربعة كما عن الأقدمين من اليونانيين : الماء والهواء والتراب والنار ، أو سبعة بإضافة : الكبريت والزئبق والملح كما عن بعض آخر غيرهم ، أو أزيد إلى أن بلغت إلى اثنين وتسعين ذرة ـ أتم ـ كما انتهت إليه الفيزياء الحديثة في اليورانيوم وهو أثقل العناصر المستكشفة إلى الآن ، فرقمه الذري (٩٢) بمعنى أن نواته المركزية تشتمل على (٩٢) وحدة ، من وحدات الشحنة الموجبة ، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الإلكترونات ، أي من وحدات الشحنة السالبة (٢).

هذا مضافا إلى أن نفس الذرة ـ أتم ـ أيضا مركب ؛ لأنها لا تخلو عن الجهات

__________________

(١) راجع فلسفتنا : ص ١٠٠.

(٢) راجع فلسفتنا : ص ٣١٧ ـ ٣١٩.

٩٣

الست ، وما لا يخلو عن الجهات الست ، ذو أبعاد ومركب ، وإن لم يمكن تجزئتها بالآلات والأدوات المتعارفة ، وتسميتها بالجزء البسيط الذي لا يتجزأ ، أو الجوهر الفرد ، مسامحة في الحقيقة ولعلها باعتبار الأدوات الميسورة. فالمادة أيّما صغرت لا تخلو عن التركيب مطلقا ، ومن المعلوم أن كل مركب محتاج إلى أجزائه وإلى مؤلف تلك الأجزاء ، والواجب غني عن كل حاجة.

على أن كل جزء من أجزاء المركب مقدم عليه في الوجود ، إذ المركب يتوقف على أجزائه في الوجود توقف الكل عليها ، فالمركب يوجد بعد وجود أجزائه وليس له قبل وجود تلك الأجزاء وجود ، مع أن الواجب تعالى ليس بمركب ولا مسبوق بالعدم ، كما أنه ليس بمحدود. وبالجملة أوصاف المادة تتغاير مع أوصاف الواجب فلا تليق بأن تسمى واجب الوجود.

ورابعا : بأن المادة إذا كانت استعدادا لقبول التطورات وليست بفعليات ، فسبب صيرورة القوة إلى الفعلية : إما عدم ـ وهو كما ترى ـ إذ العدم الذي هو لا شيء لا يصلح للتأثير. وإما هو نفسها ، وهو أيضا فاسد ؛ لأنها في حال كونها قوة فاقدة الفعليات ، إذ يستحيل أن تجتمع قوة الأشياء مع فعليتها في حال واحد ، فانحصر الأمر إلى أن السبب هو غير المادة وهو الله تعالى.

وخامسا : أن ملاك الحاجة إلى العلة موجود في المادة أيضا ، فإنها ممكنة الزوال ، إذ لا يلزم من فرض عدمها محال ، وكل ما لا يلزم من فرض عدمه محال فهو ممكن الزوال ، ومن المعلوم أن الشيء الذي يمكن زواله ليس بواجب ، بل هو ممكن من الممكنات التي تحتاج في وجودها إلى الواجب تعالى.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١).

__________________

(١) الانعام : ١٠٢.

٩٤

ومما ذكر يظهر أيضا سخافة ما ذهبت إليه الماركسية ، فإن فرضياتهم مبتنية على اصول مخدوشة مرّ ضعف بعضها ، كأزلية المادة. ولقد أفاد وأجاد في بيان وهن تلك الاصول ، الشهيد الصدر ـ قدس‌سره ـ في فلسفتنا (٢) ، فلا دليل للماديين إلّا الوهم والخرص ، كما نص عليه في قوله عزوجل : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٣).

__________________

(٢) راجع أيضا إلى كتاب : نقدى فشرده بر اصول ماركسيسم ، وكتاب : پاسدارى از سنگرهاى ايدئولوژيك ، وغير ذلك.

(٣) الجاثية : ٢٤.

٩٥

٤ ـ عقيدتنا بالعدل

ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادل غير ظالم ، فلا يجور في قضائه ، ولا يحيف في حكمه ، يثيب المطيعين ، وله أن يجازي العاصين ولا يكلف عباده ما لا يطيقون ، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون ، ونعتقد انه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة ، ولا يفعل القبيح ؛ لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح ، مع فرض علمه بحسن الحسن ، وقبح القبيح ، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح ، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه ، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله.

وهو مع كل ذلك حكيم ، لا بد أن تكون فعله مطابقا للحكمة ، وعلى حسب النظام الأكمل ، فلو كان يفعل الظلم والقبح ـ تعالى عن ذلك ـ فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور :

١ ـ أن يكون جاهلا بالأمر فلا يدري أنه قبيح.

٢ ـ أن يكون عالما به ، ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه.

٣ ـ أن يكون عالما به وغير مجبور عليه ، ولكنه محتاج إلى فعله.

٩٦

٤ ـ أن يكون عالما به وغير مجبور عليه ، ولا يحتاج إليه ، فينحصر في أن يكون فعله له تشهيا وعبثا ولهوا ، وكل هذه الصور محال على الله تعالى ، وتستلزم النقص فيه ، وهو محض الكمال فيجب أن نحكم أنه منزه عن الظلم وفعل ما هو قبيح (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في مقامات :

الأول : في أن العدل صفة فعل أو صفة ذات ، والظاهر من عبارة المصنف أنه صفة ذاته تعالى ؛ لعدّة من الصفات الثبوتية في صدر الفصل الأول من الإلهيات ، ولتصريحه هنا أيضا بأنه من الصفات الثبوتية الكمالية.

ومن المعلوم أن الصفات الفعلية منتزعة عن مقام الفعل ، وخارجة عن الذات ، ومتأخرة عنه ، فلا يمكن أن تكون من الصفات الثبوتية الكمالية ، فلزم أن يكون العدل عنده وصفا للذات ، حتى يمكن أن يكون من الصفات الثبوتية الكمالية.

ولكنه ممنوع ؛ لأن العدل الذي هو ضد الظلم محل الكلام ، وهو صفة الفعل لا صفة الذات ، فإنه بمعنى «إعطاء كل ذي حق حقه» وأما العدل بمعنى تناسب الأجزاء واستوائها واعتدالها ، فهو مضافا إلى أنه خارج عن محل الكلام ، لا يليق بجنابه تعالى ، فإنه من أوصاف المركبات ، وعليه فاللازم جعل العدل من صفات الفعل كما ذهب إليه الأكابر ، منهم العلّامة ـ قدّس الله روحه ـ حيث قال : والمراد بالعدل هو تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح والاخلال بالواجب (١).

نعم يكون منشأه كماله الذاتي ، كسائر صفاته الفعلية ، وإليه يؤول ما حكي عن المحقق اللاهيجي من أن المراد من العدل هو اتصاف ذات الواجب

__________________

(١) شرح الباب الحادي عشر : مبحث العدل. ص ٢٨.

٩٧

تعالى بفعل حسن وجميل ، وتنزيهه عن الظلم والقبيح ، وبالجملة فكما أن التوحيد كمال الواجب في ذاته وصفاته ، كذلك العدل كمال الواجب في أفعاله (١).

ومما ذكر في العدل من أنه صفة فعله لا صفة ذاته تعالى ، يظهر أن الحكمة بناء على أنها بمعنى إتقان الفعل واستحكامه ، أيضا من

صفات الفعل ، باعتبار اشتماله على المصلحة ، فهو تعالى حكيم في أفعاله. نعم أنها من صفات الذات بناء على أن المراد منها هو العلم والمعرفة بالأشياء ومواضعها اللائقة بها (٢).

الثاني : في استحقاق المثوبة والعقاب : ولا يخفى أن الظاهر من المصنف هو أن الإثابة على الطاعات مقتضى العدل ، والإخلال بها ظلم ، بخلاف مجازاة العاصين فإنه عبر فيه بقوله : وله أن يجازي العاصين ، وذلك لما هو المسلم عندهم من أن ترك عقاب العاصي جائز ؛ لأنه من حق المعاقب والمجازي.

وفيه أولا : أن الإثابة على الطاعات من باب التفضل دون الاستحقاق ، إذ العبد وعمله كان لمولاه ، فلا يملك شيئا حتى يستحق به الثواب عليه تعالى ، هذا مضافا إلى أن حق المولى على عبده أن ينقاد له في أوامره ونواهيه ، فلا معنى لاستحقاق العبد عليه عوضا. اللهم إلّا أن يقال : بأن الله سبحانه وتعالى ، اعتبر من باب الفضل عمل العباد ملكا لهم ، ثم بعد فرض مالكيتهم لعملهم ، جعل ما يثيبهم في مقابل عملهم ، أجرا له ، والقرآن ملئ من تعبير الأجر على ما أعطاه الله تعالى في مقابل الأعمال الصالحة ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٣) ، فبعد التفضل المذكور واعتبار مالكيتهم يستحقون الثواب بالاطاعة ، وبقية الكلام في محله (٤).

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ٥٧ ـ ٥٩.

(٢) راجع أنوار الهدى : ص ١١٢ ـ شرح التجريد : ص ١٨٥.

(٣) التوبة : ١١١.

(٤) راجع تعليقة المحقق الاصفهاني على الكفاية : ج ١ ص ٣٣١.

٩٨

وثانيا : أن ترك عقاب العاصين في الجملة لا كلام فيه ؛ لأنه من باب الفضل والعفو ، وأمّا بالجملة فلا ، لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين ، وترتيب الجزاء على العمل (١) ، ولتضييع حقوق الناس بعضهم على بعض ، فتأمل.

الثالث : في معنى العدل : ولا يخفى عليك أن العدل في الامور ـ كما في المصباح المنير ـ هو القصد فيها وهو خلاف الجور ، ويقرب منه معناه المعروف من أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه ، وظاهره هو اختصاصه بما إذا كان في البين حق ، والّا فلا مورد له ، فإعطاء الفضل والنعم ، مع تفضيل بعض على بعض ، لا ينافي العدالة ولا يكون ظلما ، إذ الذين أنعم عليهم لا حق لهم في التسوية حتى يكون التبعيض بينهم منافيا للعدالة ، نعم لا بد أن يكون التفضيل والتبعيض لحكمة ومصلحة ، وهو أمر آخر ، فإذا كان ذلك لمصلحة فلا ينافي الحكمة أيضا ، فالتسوية بين الناس من دون استحقاق التسوية ليست بعدل ، كما أن التسوية في خلقة الموجودات ، من دون اشتمالها على المصلحة ليست بحكمة ، وبالجملة فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه ، والحكمة هو وضع الشيء في محله ، والنسبة بينهما هو العموم والخصوص مطلقا ، فإن الحكمة بالمعنى المذكور صادقة على كل مورد من موارد صدق العدل بخلاف العكس. إذ الموارد التي ليس فيها حق في البين ومع ذلك تشتمل على المصلحة ، تكون من موارد صدق الحكمة دون صدق العدل.

نعم قد يستعمل العدل بمعنى الحكمة فيكون مرادفا لها ولعل منه قول مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه» (٢).

الرابع : في مرجع العدل والحكمة ولا يذهب عليك أن مرجع العدل والحكمة

__________________

(١) راجع تفسير الميزان : ج ١٥ ص ٣٥٦.

(٢) نهج البلاغة لفيض الاسلام ، خطبة / ٢٠٧.

٩٩

إلى أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن. إذ تقبيح الحق وعدم إعطاء كل ذي حق حقه ظلم وقبيح ، كما أن وضع الشيء في غير محله عبث وقبيح ، فمن لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن ، يعدل في حقوق الناس ، ويكون حكيما في جميع أفعاله.

ثم الدليل على أنه لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن ، هو ما أشار إليه المصنف ـ قدس‌سره ـ من أنه تعالى محض الكمال وتمامه ، وحاصله أن القبيح لا يناسبه ولا يليق به ، وقاعدة السنخية بين العلة والمعلول ، تقتضي أن لا يصدر منه تعالى إلّا ما يناسب ذاته الكامل والجميل ، وإلّا لزم الخلف في كونه محض الكمال وهو محال ، وأيضا تحقق القبيح والظلم من دون داع وعلة محال ؛ لأن الداعي إلى فعل القبيح ، إما الحاجة أو الإجبار عليه والعجز عن تركه أو الجهل ، بالقبح ، أو العبث ، وكلها منتفية في ذاته تعالى ، بعد وضوح كونه كمالا مطلقا ، وغنيا عن كل شيء ، وقادرا على كل شيء ، وغير مريد إلّا المصلحة ، فتحقق القبيح بعد عدم وجود الداعي والعلة يرجع إلى وجود المعلول بدون العلة ، وهو واضح الاستحالة.

وعليه فلا حاجة في إثبات العدل والحكمة إلى قاعدة التحسين والتقبيح وإن كانت تلك القاعدة صحيحة محكمة ، ويترتب عليها المسائل المهمة الكلامية : كوجوب معرفة المنعم وشكره ، ولزوم البعثة ، وحسن الهداية ، وقبح الإضلال. والمسائل الاصولية : كقبح العقاب بلا بيان ، وقبح عقاب القاصرين ، وقبح تكليف ما لا يطاق وغير ذلك.

ولكن ذهب أكثر علماء الإمامية والمعتزلة إلى الاستدلال بتلك القاعدة لإثبات العدل ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تقريبها وما قيل أو يقال حولها.

وكيف كان فالاستدلال بما أشار إليه المصنف أولى من الاستدلال بتلك القاعدة ؛ للاختصار ، ولكونه أبعد عن الإشكال والنقض والإبرام ، هذا مضافا

١٠٠